الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بينهما واو ساكنة، قبلها حاء مهملة ساكنة، أوله ميم مفتوحة؛ هو أبو عبد الله البصري، قيل: محبوب لقب، واسمه الحسن، مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الواحد) : هو ابن زياد- بكسر الزاي- البصري (قال: حدثنا الأعمش) : هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، آخره دال مهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف (مولى ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن ابن عباس) : هو عبد الله رضي الله عنهما (قال: قالت مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما:(وضعت للنبيِّ) الأعظم، وفي رواية:(لرسول الله) صلى الله عليه وسلم وقد تقدم هذا المتن من رواية موسى بن إسماعيل عنه في باب (الغسل مرة واحدة)، غير أنَّ في بعض ألفاظها اختلافًا، كما ترى (ماء يغتسل به) وهناك:(ماء للغُسل)؛ أي: من الجنابة، (فأفرغ على يديه، فغسلهما)، وهناك:(فغسل يديه)(مرتين) بلا تكرار (مرتين)، وفي رواية بتكرار (مرتين)، (أو ثلاثًا) الظاهر أنَّ الشك من ميمونة، ويحتمل غيرها، (ثم أفرغ)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (بيمينه على شماله) وهناك: (ثم أفرغ على شماله)، (فغسل مذاكيره)؛ أي: القبل والدبر، وما حولهما، (ثم دلك يده بالأرض) وهناك:(ثم سمح يده بالأرض)؛ أي: لما لزق فيها من المني للزاجته، (ثم تَمضمض)؛ بالمثناة الفوقية أوله، وفي رواية بحذفها (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (ثم غسل وجهه)؛ أي: ولحيته الشريفة، (ويديه) الشريفتين، (وغسل) وهناك:(ثم غسل)(رأسه)؛ أي: وشعره إلى أن بلغ الماء أصوله (ثلاثًا) الظاهر: رجوعه إلى هذه الجملة الأخيرة فقط؛ لأنَّ القاعدة الأصولية في مذهب الأئمَّة الحنفية أنَّ القيد إذا تأخر عن جمل؛ يختص بالمتأخر منها، ويحتمل على بُعْدٍ رجوعُه لجميع الأفعال السابقة؛ بناء على ما زعمه الشافعية من أنَّ القيد إذا تأخر عن جمل؛ يعود على الكل وإن كان خلاف الظاهر، وإن استظهره الكرماني وغيره ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم؛ فليحفظ، (ثم أفرغ) عليه السلام من الإفراغ؛ أي: صب الماء (على جسده) وهناك: (ثم أفاض على جسده)؛ أي: كله مرة واحدة، كما هو الظاهر، (ثم تنحَّى)؛ بالمثناة الفوقية، بعدها نون، بعدها حاء مهملة؛ أي: تباعد (من مَقامه)؛ بفتح الميم أولى: اسم مكان، وأصله مكان القيام، فيحتمل أنَّه عليه السلام اغتسل قائمًا، ويحتمل قاعدًا؛ لأنَّه اشتهر بعرف الاستعمال أنَّه لمطلق المكان قائمًا كان أو قاعدًا فيه، والظاهر الأول؛ فليحفظ، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه، وهناك:(ثم تحول عن مكانه)؛ أي: إلى مكان آخر فغسلهما فيه؛ تحرزًا عن الماء المستعمل.
ومطابقة الحديث للترجمة في تفريق غسل أعضائه بإفراغ الماء على جسده والتنحي عن مقامه.
فإن قلت: هذا تفريق الغُسل، فأين ما يدل على تفريق الوضوء؟
قلت: دل على تفريقه ذكر ميمونة صفة وضوئه عليه السلام بكلمة (ثم) التي تدل على التراخي مطلقًا، انتهى؛ أي: أنَّ التنحي يعم القريب والبعيد، والمراد به هنا: البعيد؛ لدلالة (ثم) على التراخي؛ فليحفظ.
وفي الحديث: أنَّ المضمضة والاستنشاق في الغسل فرضان، وأنَّ الماء المستعمل نجس، وفيه: الإفراغ باليمين على الشمال وعكسه، وفيه: خدمة الأزواج، وفيه: استحباب تهيئة ماء الاغتسال، وفيه: عدم وجوب الموالاة في الوضوء والغسل، وبقية المباحث تقدمت هناك.
(11)
[باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغُسل]
هذا (باب) حكم (من) أي: الشخص الذي (أفرغ)؛ أي: الماء من الإفراغ؛ أي: صبه (بيمينه على شماله في الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: غسل الجنابة عند الاستنجاء، وهذا الباب مقدم على الباب الذي قبله عند ابن عساكر والأَصيلي، وعلى كل تقدير؛ فالمناسبة بينهما ظاهرة من حيث إنَّ كلًّا منهما يتعلق بالوضوء، وإفراغ الماء بيمينه على شماله في الاستنجاء في الغسل، وأمَّا في غسل الأطراف؛ فإن كان الإناء الذي يتوضأ منه إناء واسعًا؛ يضعه عن يمينه، ويأخذ منه الماء بيمينه، وإن كان ضيقًا؛ كالقماقم؛ يضعه عن يساره، ويصب الماء منه على يمينه، كذا قرره في «عمدة القاري» ؛ فليحفظ.
[حديث: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسلًا وسترته فصب على يده]
266 -
وبالسَّند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) : هو التبوذكي (قال: حدثنا أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة، وتخفيف الواو: هو اسمه الوضاح- بالمهملة آخره- اليشكري (قال: حدثنا الأعمش) : هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون المهملة، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف (مولى ابن عباس، عن ابن عباس) رضي الله عنهما (عن) خالته (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية (بنت الحارث) : الهلالية زوج النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وسقط (بنت الحارث) في رواية، وهذا الحديث تقدم من رواية موسى بن إسماعيل المذكور أيضًا في باب (الغسل مرة)، لكن شيخه هناك عبد الواحد، وهنا أبو عَوانة، وفي ألفاظهما اختلاف كما ترى؛ فافهم، (قالت: وضعت لرسول الله) وهناك: (للنبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ هو ما يغتسل به، وبالفتح مصدر، وبالكسر اسم ما يغتسل به؛ كالسدر ونحوه، والمراد الأول، ويحتمل أنَّها ضمت إليه الثالث؛ لأجل التنظيف من الجنابة، (وسترته)؛ بضمير المتكلم، وهذا معطوف على قولها (وضعت)، كما هو ظاهر، زاد ابن فضيل عن الأعمش:(بثوب)؛ أي: غطيت رأسه، كذا قاله صاحب «عمدة القاري» ، وتبعه الشراح، فالضمير في (سترته) يعود على الماء بمعنى الإناء الذي فيه الماء، وإنَّما أرجعوه إليه؛ لقرب المرجع، كما هو القاعدة، والحامل لها على ستره خوف وقوع قذر أو غيره في الماء من ريح أو غيره فينجس الماء أو يستقذر، ويحتمل أن يعود الضمير على النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: وضعت بيني وبينه ثوبًا ساترًا؛ مخافة أن ترى عورته، وأيد هذا الاحتمال العجلوني بما سيأتي في باب (نفض اليدين في الغسل)، فإنَّه قد صرح بالنبيِّ عليه السلام.
قلت: وهذا ليس يؤيد هذا الاحتمال؛ لأنَّ القصة مختلفة على أنَّ الحاجة لوضع الثوب ستر العورة، والنبيُّ عليه السلام كان في حجرتها، وليس عنده غيرها، فاحتمال أن ترى عورته بعيد، بل الاحتياج إلى ستر الماء أشد لاحتمال وقوع فأرة فيه ونحوها مما يفسد الماء.
وزعم ابن حجر أنَّ الواو في (وسترته) حالية، ورده صاحب «عمدة القاري» بأنَّه ليس كذلك، بل هي عاطفة، فهو معطوف على (وضعت) انتهى.
وزعم العجلوني: أنَّه لا يتعين العطف، بل يجوز الوجهان.
قلت: بل يتعيَّن أن تكون الواو عاطفة؛ لصحة المعنى، وظهوره بخلاف الحالية، فإنَّها بعيدة المعنى مع خفائه؛ فليحفظ.
(فصب) معطوف على محذوف؛ أي: فأراد النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم الغسل، فكشف رأسه، فأخذه فصب (على يده)؛ بالإفراد، وفي رواية بالتثنية، والمراد من اليد الجنس، فصح إرادة كلتيهما منه.
وزعم ابن حجر أنَّ (فصب) عطف على (وضعت)؛ المعنى: وضعت له ماء فشرع في الغسل، ورده صاحب «عمدة القاري» :(بأنَّ هذا تصرف من ليس له ذوق من معاني التركيب، وكيف يكون الصب معقبًا بالوضع وبينهما أفعال أخرى؟ ولا يجوز تفسير «صب» بمعنى شرع) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن لا وجه لإنكاره ما قاله، فإنَّه إذا فرض أنَّ الإدارة والكشف وقعا قبل الوضع؛ جاز كون الصب معقبًا عليه من غير واسطة أفعال أخرى، ولا مانع من تفسير (صب) بمعنى شرع؛ لأنَّ من شرع في إفراغ ماء مثلًا؛ جاز أن يقال فيه: صبه، نعم؛ في قول ابن حجر:(والكشف يمكن كونه وقع قبل الوضع) مؤاخذة؛ لأنَّ المراد به كشف رأس الإناء، وكأنَّ ابن حجر ظن أنَّه رأس النبيِّ عليه السلام، وكذا في قوله:(والأخذ عين الصب) فيه ما فيه؛ لأنَّ الصب ينشأ عن الأخذ لا عينه، ولا داعي إلى التجوُّز بجعله عينه؛ فتأمل.
قلت: تأملت قوله: (أن لا وجه لإنكاره)، فرأيته له وجه وجيه.
وقوله: (فإنَّه إذا فرض
…
) إلخ هذا كلام من لم يشمَّ شيئًا من رائحة العلم، فإنَّ المعاني والأحكام لا تبنى على الفرض والتقدير، كيف وقد ثبت في الحديث وجود الواسطة بين الوضع والصب، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ولا ينكر هذا إلا كل متعنت خال الفهم؟
وقوله: (ولا مانع من تفسير
…
) إلخ، بل المانع
فيه ظاهر، وهو عدم صحة المعنى؛ لأنَّ الشروع في إفراغ الماء لأجل الغسل كما هنا، أو غيره التهيُّؤ لذلك من خلع الثياب ونحوها، والصب: كفاء الماء من الإناء، فلا يجوز لمن شرع في إفراغ الماء أن يقال فيه: صبه؛ لاختلاف المعنى، وهذا ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: (نعم؛ في قول ابن حجر....) إلخ هذا اعتراض من العجلوني عليه؛ لأنَّ هذه العبارة المفقودة الغائرة ذكرها في شرحه، لكنها غير صحيحة، وكيف يكون وقع الكشف قبل الوضع مؤاخذة مع أنَّه صرحت في الحديث أنَّ الوضع قبل الكشف، فكلامه مصادم للحديث، ولا وجه له أصلًا وعلى كلامه، فالكشف على من وقع وأين الماء الموضوع؟ وما هو إلا لقلقة لسان.
وقوله: (وكأنَّ ابن حجر
…
) إلخ؛ فإنَّه قد اعترض على الكرماني، واختلط عليه الكلام في عود الضمير إمَّا على الماء، أو على النبيِّ عليه السلام مع أنَّه في أول كلامه جزم بأنَّه يعود على الماء، فخبط هذا الخبط.
وقوله: (وكذا قوله والأخذ
…
) إلخ هذا كلام من لم يدر شيئًا من معاني التركيب، فكيف يكون الأخذ عين الصب وبينهما فرق ظاهر لا يخفى؟ وما هذا إلا معنًى فاسد.
وقوله: (لأنَّ الصب
…
) إلخ، فإنَّه إذا أراد الصب؛ أخذ الإناء وكفئه، فالصب غير الأخذ لا عينه لا محالة.
وقوله: (لا داعي
…
) إلخ، بل هو ممنوع؛ لأنَّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا غير متعذر، فيتعين الكلام على الحقيقة، وهذا دأب ابن حجر وضع الكلام في شرحه بلا معنًى ولا فائدة، وقد بين ذلك في «إيضاح المرام» ، ولو ذكرناه؛ لطال المقام؛ فيراجع.
وقوله: (مرة أو مرتين) متعلق بـ (غسلها)، والشك فيه من أبي عوانة، وهو القائل:(قال سليمان) هو ابن مهران الأعمش: (لا أدري أذكر)؛ أي: سالم بن أبي الجَعْد شيخ الأعمش (الثالثة)؛ أي: الغسلة الثالثة (أم لا؟)، وقد مر في رواية عبد الواحد، عن الأعمش:(فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا)، ولابن فضيل عن الأعمش:(فصب على يديه ثلاثًا) ولم يشكَّ، أخرجه أبو عَوانة في «مستخرجه» ، فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم ذكر فجزم؛ لأنَّ سماع ابن فضيل منه متأخر، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري» ، (ثم أفرغ) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم الماء (بيمينه على شماله) ففيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى، (فغسل فرجه) المراد به: القبل والدبر، (ثم دلك يده)؛ بالإفراد، وهي التي استنجى بها (بالأرض أو بالحائط) الظاهر: أنَّ الشك فيه من ميمونة، ويحتمل غيرها، وهناك:(فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض) من غير شك، وذلك لأذًى من مني ونحوه عليها، وهناك:(ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء؛ ليكون الغسل أطهر وأنقى؛ لأنَّ المني لزج، فيحتمل لصوق شيء منه، (ثم تمضمض)؛ بفوقية أوله لغير الأَصيلي، وله بحذفها، كما هناك (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (وغسل وجهه) وأصول لحيته، (ويديه)؛ أي: الذراعين، (وغسل رأسه) وأصول شعره، وأتى بـ (الواو) للإشارة إلى عدم وجوب الترتيب؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع عند أهل اللغة، فهذا يعم التقديم والتأخير، وفيه: دليل واضح إلى أنَّ الترتيب في الوضوء غير شرط، وهو مذهب الجمهور خلافًا لطائفة، (ثم صب) أي: الماء (على جسده)؛ أي: كله وقدم أعضاء الوضوء؛ ليتفقد ما فيها مما يمنع وصول الماء إلى الجسد خصوصًا المضمضة والاستنشاق، ولشرفها، وهناك:(ثم أفاض على جسده)، (ثم تَنَحَّى)؛ بفوقية أوله، بعدها نون مفتوحتين، آخره مهملة، وهناك:(ثم تحول من مكانه)؛ أي: تباعد عن المكان الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (فغسل)؛ بالفاء للأكثر، ولأبي ذر بالواو (قدميه)؛ أي: رجليه؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، قالت ميمونة:(فناولته خِرقة)؛ بكسر الخاء المعجمة، واحدة الخروق، وذلك لأجل أن يتنشف بها، (فقال) أي: أشار من إطلاق القول على الفعل، كما قدمناه (بيده)؛ بالإفراد (هكذا)؛ أي: لا أتناولها؛ لما رأى عليها من وسخ، أو لاستعجاله إلى القيام إلى الصَّلاة، أو لأجل بقاء أثر العبادة أو غير ذلك، فقولها:(ولم يُرِدْها)؛ بضمِّ المثناة التحتية، من الإرادة لا من الرد، فهو تأكيد وهو مجزوم بالسكون، وحذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين لا مجزوم بحذف الياء، كما توهمه القسطلاني.
قال إمام الشارحين: (وحكى «المطالع» : أن «لم يردَّها» بالتشديد رواية ابن السكن، ثم قال: وهو وهم؛ لأنَّ المعنى يفسد حينئذ، وقد رواه الإمام أحمد عن عفان، عن أبي عَوانة بهذا الإسناد، وقال في آخره: «فقال هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها»، وفي رواية أبي حمزة، عن الأعمش: «فناولته ثوبًا، فلم يأخذه») انتهى كلام «عمدة القاري» .
قلت: وفي الحديث: دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، وفيه: دليل على أنَّ الماء المستعمل نجس، وفيه: جواز خدمة الزوجات للأزواج، وفيه: استحباب تغطية الماء، وفيه: تقديم الاستنجاء، وفيه: رد المنديل لمانع مما سبق، فقد ورد عن قَيْس بن سعد:(أنَّ النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم اغتسل، فأتيناه بملحفة، فالتحف بها).
قلت: والظاهر: أنَّ الملحفة هو الحرام الذي يلتحف به لا المنديل؛ فافهم، والله أعلم.
(12)
[باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا جامع)؛ أي: المجامع امرأته أو أمته، كما للكشميهني، (ثم عاد) أي: إلى جماعها مرة أخرى، وجواب (إذا) محذوف؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى من تقدير: جاز؛ لأنَّ عادة المؤلف أنَّه يطلق الترجمة، ويحيل الحكم على الأحاديث التي
(1)
تُذكر تحت الترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، وفي رواية الكشميهني:(عاود)؛ من المعاودة؛ أي: جامع مرة أخرى، (ومن دار) عطف على قوله:(إذا جامع)؛ أي: باب من دار؛ بالدالة المهملة: من الدوران (على نسائه في غُسل) بضمِّ الغين المعجمة (واحد) وجواب (من) محذوف أيضًا؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى، وقد رجع العجلوني هنا إليه بعد أن ادَّعى في الأولى أنَّ الجواز أولى، وليس كذلك، كما علمت؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ (عاد) أعم من أن يكون في ليلة أو غيرها، ورده صاحب «عمدة القاري» بأن الجماع في غير ليلة جامع فيها لا يسمى عودًا لا لغة ولا عرفًا، والمراد ههنا: أن يكون الابتداء والعود في ليلة واحدة أو يوم واحد، والدليل عليه حديث رواه أبو داود والنسائي عن أبي رافع:(أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله؛ ألا تجعله غُسلًا واحدًا، قال: «هذا أزكى وأطيب»)، زاد في رواية:(وأطهر) انتهى.
وقد رمرم العجلوني على زعمه عبارة ابن حجر بما لا يخفى فساده، وزعم أنَّ في كلام «عمدة القاري» نظر، ولم يبيِّن وجهه، بل أحال ما ادَّعاه على اللغة والعرف، وزعم أنَّ الحديث واقعة حال فعلية لا تقتضي قصر الحكم عليها.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الحديث ظاهر فيما قاله صاحب «عمدة القاري» ، وهو عام يدل على أنَّ ذلك عادته عليه السلام، فهو يقتضي أنَّ جميع فعله هكذا، يدل لهذا قوله في الحديث:«هذا أزكى، وأطيب، وأطهر» ، ومبنى هذا الفعل على السرور والصفا، كما لا يخفى على أهل الوفا، فما زعمه هذا الزاعم تعصب مردود؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: ظاهر هذا الحديث- أي: حديث أبي رافع- يدل على أنَّ الاغتسال بين الجماعين واجب؟ قلت: أجمع العلماء على أنَّه لا يجب بينهما، وإنَّما هو مستحب حتى إنَّ بعضهم استدل بهذا على استحباب الحديث؛ أي: بين الجماعين، على أنَّ أبا داود لمَّا روى هذا الحديث؛ قال: حديث أنس أصح من هذا، وحديث أنس رضي الله عنه رواه أبو داود أيضًا عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في غسل واحد)، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: حديث صحيح، وضعف ابن القطان حديث أبي رافع، وصححه ابن حزم، وعبارة أبي داود أيضًا تدل على صحته.
وأمَّا الوضوء بين الجماعين؛ فقد اختلفوا فيه؛ فعند الجمهور ليس بواجب، وقال ابن حبيب المالكي وداود الظاهري: إنَّه واجب.
قال ابن حزم: وهو قول عطاء، وإبراهيم، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، واحتجوا بحديث أبي سَعِيْد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود؛ فليتوضأ بينهما وضوء» ، أخرجه مسلم من طريق حفص، عن عاصم، عن أبي المتوكل عنه، وحمل الجمهور الأمر بالوضوء على الندب
(1)
في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
والاستحباب لا الوجوب بما رواه الحافظ الطحاوي من طريق موسى بن عُقْبَة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ).
وقال أبو عمر: ما أعلم أحدًا من أهل العلم أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر.
قلت: روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول: (إذا أراد أن يعود؛ توضأ)، وروي عن عمر بن الوليد قال: سمعت ابن محمَّد يقول: (إذا أراد أن يعود؛ توضأ)، وروي أيضًا عن عطاء مثله.
وما نسب ابن حزم الوضوء إلى الحسن وابن سيرين؛ فيرده ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن الحسن: أنَّه كان لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ.
قال: وكان ابن سيرين يقول: لا أعلم بذلك بأسًا إنَّما قيل ذلك؛ لأنَّه أحرى أن يعود، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: يحتمل أنَّه رُوِيَ عنهما روايتان.
قلت: هذا الاحتمال بعيد؛ لقول ابن سيرين: لا أعلم بذلك بأسًا، وإنَّما قيل ذلك؛ لأنَّه أحرى أن يعود؛ أي: فهو لأجل نشاط النفس وتطيبها، ويدل لهذا حديث أبي رافع؛ لأنَّ فيه أنَّه (أزكى وأطيب)؛ أي: للنفس، فإنَّه إذا فعل ذلك يكون أقبل للنفس، فهو دليل على أنَّه مستحب لا واجب، كما لا يخفى، ثم قال في «عمدة القاري» : (ونقل عن إسحاق ابن راهويه أنَّه حمل الوضوء المذكور على الوضوء اللغوي؛ حيث نقل عنه ابن المُنْذِر أنَّه قال: لا بد من غسل الفرج إذا أراد العود.
قلت: يرد هذا ما رواه ابن خزيمة من طريق ابن عيينة، عن عاصم في الحديث المذكور:«فليتوضأ وضوءه للصلاة» ، وفي لفظ عنده:«فهو أنشط للعود» ، وصحح الحاكم لفظ «وضوءه للصلاة» ، ثم قال: هذه لفظة تَفرَّد بها عن شعبة، عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عند الشيخين.
فإن قلت: يعارض هذه الأخبار حديث ابن عباس قال عليه السلام: «إنَّما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصَّلاة» ، قاله أبو عَوانة في «صحيحه» .
قلت: لا يعارض؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي قال: العمل على حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها.
وقال المقدسي والثقفي: هذا كله مشروع جائز، من شاء؛ أخذ بهذا، ومن شاء؛ أخذ بالآخر) انتهى كلام «عمدة القاري» .
قلت: على أنَّ حديث ابن عباس وإن كان صحيحًا يحمل الأمر فيه على الفرضية للصلاة وهو يرد على من يقول بوجوب الوضوء قبل أن يعود؛ فافهم، والله أعلم.
[حديث: يرحم الله أبا عبد الرحمن كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف]
267 -
وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن بَشار)؛ بفتح الموحدة، والشين المعجمة، المعروف ببُندار (قال: حدثنا ابن أبي عدي) : هو محمَّد بن إبراهيم، مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومئة (ويحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة، بعدها تحتية: هو القطان؛ كلاهما يروي (عن شعبة) : هو ابن الحجاج، قال في «عمدة القاري» :(وفيه بين قوله: (ويحيى بن سَعِيْد) وبين (شعبة) لفظة (كلاهما) مقدرة؛ لأنَّ كلًّا من ابن أبي عدي ويحيى روى عن شعبة هذا الحديث، وحذفت من الكتابة؛ للاصطلاح ولكن عند القراءة ينبغي أن تثبت) انتهى؛ فافهم، (عن إبراهيم بن محمَّد بن المُنْتَشِر)؛ بضمِّ الميم، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، وكسر الشين المعجمة، (عن أبيه) : هو محمَّد المذكور بن أبي مسروق الكوفي الوداعي (قال: ذكرته)؛ أي: ذكرت قول ابن عمر (لعائشة) رضي الله عنها، ولفظه في حديثه الآخر الذي يأتي:(سألت عائشة رضي الله عنها، وذكر لها قول ابن عمر: (ما أحب أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا)، فقالت عائشة: (أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
)؛ الحديث.
وقد بيَّن مسلم أيضًا في روايته عن محمَّد بن المنكدر قال: (سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرمًا
…
)؛ فذكره، وزاد: قال ابن عمر: (لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك)، وكذا ساقه الإسماعيلي بتمامه عن الحسن بن سفيان، عن محمَّد بن بشار، كذا قاله في «عمدة القاري» .
وزعم الكرماني وتبعه ابن حجر أنَّ قوله: (ذكرته) - أي: قول ابن عمر: ما أحب أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا- وكنى بالضمير عنه؛ لأنَّه معلوم عند أهل هذا الشأن.
ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» قال: قلت: هذا كلام عجيب، فالوقوف على مثل هذا مختص بأهل هذا الشأن، فإذا وقف أحد من غير أهل هذا الشأن على هذا الحديث؛ يتحير، فلا يدري أي شيء يرجع إليه الضمير في قوله:(وذكرته)، وكان ينبغي للبخاري بل كان المتعين عليه أن يقدم رواية أبي النعمان هذا الحديث على رواية محمَّد بن بشار؛ لأنَّ رواية أبي النعمان ظاهرة، والذي يقف على رواية ابن بشار بعد وقوفه على رواية أبي النعمان لا يتوقف في مرجع الضمير، ويعلم أنَّه يرجع إلى قول ابن عمر رضي الله عنهما.
وزعم ابن حجر والكرماني أيضًا (فكأنَّ المصنف اختصره؛ لكون المحذوف معلومًا عند أهل الحديث في هذه القضية).
ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: فعلى هذا؛ كان يتعين ذكره بعد ذكر رواية أبي النعمان، كما ذكرنا) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (المراد في هذا على أهل هذا الشأن، فإنَّهم المرجوع إليهم في مثله في كل أوان؛ فليندفع جميع ما أورده وكثيرًا ما يحيل العلماء في كل فن على توقيف أربابه).
قلت: وهذا مردود، فإنَّه ليس كما قال، فإنَّ أهل هذا الشأن يجب عليهم بيان المعاني والضمائر لهذه المتون وأين مرجعها ومعاني اللغة وغير ذلك، ولهذا وضع العلماء الشروح على المتون، ووضعوا عليها حواشي وعلى الحواشي حواشي، وما هذا إلا لأجل فهم المعاني ومرجع الضمائر وغير ذلك، فلو لم يكن ذلك؛ لوقع الناس والطلبة والعلماء أيضًا في الحيرة والخبط والخلط، فكيف يقول هذا القائل:(المراد في هذا على أهل هذا الشأن) وما هذا إلا كلام من ليس له ذوق في علم التعليم؟
وقوله: (فإنهم المرجوع إليهم
…
) إلخ ليس كذلك؛ لأنَّ علم الحديث ليس هو علم فتوى، ولا علم فرائض، ولا غيره حتى يرجع إلى أهله، وإنَّما المرجوع إليهم أهل الفقه والفرائض؛ لأجل بيان أحكام الله عز وجل، ألا ترى أنَّه لو سئل سائل عن حكم؛ لا يجوز لأحد من الناس أن يستنبط من الحديث هذا الحكم ويجيبه فيه؛ لأنَّ هذا مخصوص بالمجتهد، وهو مفقود في هذه الأزمان، بل الموجود الأحكام التي استنبطها المجتهد الموافقة للصواب.
وقوله: (فليندفع جميع ما أورده) ليس كذلك، بل جميع ما أورده هذا الإمام هو الصواب.
وقوله: (وكثيرًا ما يحيل
…
) إلخ ليس كذلك، فإنَّ القليل من العلماء لا يحيل أصلًا، بل يبين المعاني بأتم مرام، فكيف الكثير؟ فإنَّهم أحق بالبيان، بل الواجب عليهم ذلك، وإذا سكت عن معنًى ولم يسأل عنه ومات على ذلك؛ فيدخل تحت الوعيد المذكور في الحديث، كما لا يخفى؛ فافهم.
(فقالت) أي: عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: (يرحم الله أبا عبد الرحمن)؛ تعني: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وترحمت له؛ إشعارًا بأنَّه سهى فيما قاله من عدم محبته أن يصبح ينضخ طيبًا، وقد غفل عن فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لو استحضره؛ لما قال ما قال، ومقول فقالت:(كنت أطيب النبيَّ) الأعظم، وفي أكثر الروايات:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لأجل الإحرام أو للنساء كما يأتي، وجملة (يرحم الله أبا عبد الرحمن) معترضة، ويحتمل أن تكون مقولة لها أيضًا (فقالت) وتركت العاطف في الثاني؛ لإرادة التعداد أو لتقديره، (فيطوف) أي: فيدور النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (على نسائه) الطاهرات؛ أي: يقضي معهن حاجته من جماعهن جميعًا بغسل واحد، ولهذا قال في «عمدة القاري» :(القرينة دلت على أنَّ المراد هو الجماع، والدليل عليه قوله في حديث أنس الذي يأتي: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار) انتهى.
ثم قال: ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «فيطوف على نسائه» ، وقال الإسماعيلي: يحتمل أن يراد به الجماع، ويحتمل أن يراد به تجديد العهد بهن.
قال في «عمدة القاري» : قلت: الاحتمال الثاني بعيد، والمراد به: الجماع،
يدل عليه الحديث الثاني الذي يليه، فإنه ذكر فيه أنه أعطي قوة ثلاثين، واعلم أن نسخ البخاري مختلفة في تقديم حديث أنس على حديث عائشة وعكسه، ومشى الداودي على تقديم حديث عائشة، وكذا ابن بطال في «شرحه» ، انتهى.
قلت: ومشى على هذا إمام الشارحين بدر الدين شيخ الإسلام في «عمدة القاري» ، وتبعه ابن حجر والقسطلاني والعجلوني، وتبعهم العبد الضعيف جامع هذه الأوراق.
(ثم يصبح محرمًا يَنْضَخ)؛ بفتح التحتية أوله، بعدها نون ساكنة، وفتح الضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة؛ أي: يفور، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]، وهذا هو المشهور، وضبطه بعضهم بالحاء المهملة، قال الإسماعيلي: وكذا ضبطه عامة من حدثنا وهما متقاربان في المعنى، وقال ابن الأثير: وقد اختلف في أيهما أكثر، والأكثر بالمعجمة، والأقل بالمهملة، وقيل: المعجمة: الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة: الفعل نفسه، وقيل: بالمعجمة: ما قيل متعمدًا، وبالمهملة من غير تعمُّد، وذكر صاحب «المطالع» عن ابن كيسان أنَّه بالمهملة: لما رق؛ كالماء، وبالمعجمة: ما ثخن؛ كالطيب.
وقال النووي: هو بالمعجمة أكثر من المهملة، وقيل: عكسه.
وقال ابن بطال: من رواه بالخاء المعجمة؛ كالنضخ عند العرب؛ كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل، وفي كتاب «الأفعال» : (نضخت العين بالماء نضخًا -بالمعجمة-؛ إذا فارت، واحتج بقوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان} ، ومن رواه بالحاء المهملة؛ فقال صاحب «العين» : نَضحتِ العينُ بالماء؛ إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة إذا رأيتها معروفة، كذا في «عمدة القاري» ، وقيل: النضخ؛ بالإعجام: الرش، مثل النضح؛ بالإهمال.
قلت: وهو قليل نادر في اللغة، ولهذا قال الأصمعي:(النضخ: بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة؛ فافهم)، والله أعلم.
وقوله: (طيبًا)؛ بالنصب على التمييز؛ ومعناه: يفور طيبًا، قال في «عمدة القاري» : ففيه: دلالة على استحباب الطيب عند الإحرام، وأنه لا بأس به إذا استدام بعد الإحرام، وإنما يحرم ابتداره في الإحرام، وهذا مذهب الإمام أبي يوسف، والثوري، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وداود، وغيرهم، وبه قال جماعة من الصحابة، والتابعين، وجماهير المحدثين، والفقهاء، فمن الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين، وقال آخرون بمنعه؛ منهم: الإمام محمَّد بن الحسن، والزُّهري، ومالك، وحكي عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وادَّعى بعضهم أن هذا التطيُّب كان للنساء لا للإحرام، وادعى أن في هذه الرواية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: فيطوف على نسائه ينضح طيبًا؛ ثم يصبح محرمًا، وجاء ذلك في بعض الروايات، والطيب يزول بالغسل لا سيما أنه ورد أنه كان يغتسل عند كل واحدة منهن، وكان هذا الطيب ذريرة، كما أخرجه البخاري في (اللباس)، وهو ما يذهبه الغسل، ويقويه رواية البخاري الآتية قريبًا:(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا)، وروايته الآتية:(كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه وهو محرم)، وفي بعض الروايات:(بعد ثلاث)، وقال القرطبي: هذا الطيب كان دهنًا، له أثر فيه مسك، فزال وبقيت رائحته، وادَّعى بعضهم خصوصيته ذلك بالشارع، فإنه أمر صاحب الجبة بغسله.
قلت: وأجيب بأن الأصل عدم الخصوصية، ولعله أمره لمن ذكر بالغسل؛ مخافة أن ينزعها، ثم يلبسها، أو لأنَّه لا يسن له تطيب الثوب والبدن قبل الإحرام، كما سيأتي في محله.
وقال المهلب: السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان عليه السلام أملك لإربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب على الإحرام، ونهانا عنه؛ لتعففنا عن ملك الشهوات؛ إذ الطيب من أسباب الجماع.
وفيه: الاحتجاج لمن لا يوجب الدلك في الغُسل؛ لأنَّه لو كان ذلك لم ينضخ منه الطيب، ورده في «عمدة القاري» فقال: قلت: يجوز أن يكون دلكه، لكنه بقي وبيصه، والطيب إذا كان كثيرًا ربما غسله، فيذهب، ويبقى وبيصه.
وفيه: عدم كراهة كثرة الجماع عند النظافة، وفيه: عدم كراهة التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع.
وفيه: أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصَّلاة، وهذا بالإجماع، والسبب في وجوب الغسل: الجنابة مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، كما أن سبب الوضوء: الحدث مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، وليس الجنابة وحدها، كما زعمه بعض الشافعية، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل عقيب الجماع، والحديث ينافي هذا، ولا مجرد إرادة الصَّلاة، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل بدون الجنابة
(1)
، انتهى، والله تعالى أعلم.
[حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة]
268 -
وبه قال: (حدثنا محمَّد بن بشار) : هو المتقدم قريبًا (قال: حدثنا مُعُاذ) بضمِّ الميم، وفتح المهملة، آخره معجمة (بن هشام) : هو الدستوائي (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) : هو هشام المذكور، والدُّسْتُوَائي؛ بالدال المهملة المضمومة، وسكون السين المهملة، وضم المثناة الفوقية، وفتح الواو، آخره همزة، (عن قَتَادَة) بفتحات: هو الأكمه السدوسي صاحب التفسير (قال: حدثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه، وسقط (ابن مالك) لابن عساكر، وفيه أن رواته كلهم بصريون، كما قاله في «عمدة القاري» (قال) أي: أنس: (كان النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم وأفاد بلفظ (كان) الدوام والاستمرار (يدور على نسائه) الطاهرات، قال في «عمدة القاري» : (ودورانه عليه السلام في ذلك يحتمل وجوهًا:
الأول: أن يكون ذلك عند إقباله من السفر؛ حيث لا قسم يلزم؛ لأنَّه كان إذا سافر؛ أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج اسمها؛ سافر بها، فإذا انصرف؛ استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهنَّ أولى من صاحبتها بالبداءة، فلما استوت حقوقهن؛ جمعهن كلَّهن في وقت، ثم استأنف القسم بعد ذلك.
الثاني: أن ذلك كان بإذنهن ورضاهن، أو بإذن صاحبة النوبة ورضاها؛ كنحو استئذانه منهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، قاله أبو عبيد.
الثالث: قاله المهلب: إنَّ ذلك كان في يوم فراغه من القسم بينهن، فيقرع في هذا اليوم لهن أجمع، ثم يستأنف بعد ذلك.
قلت: هذا التأويل عند من يقول بوجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم في الدوام، كما يجب علينا وهم الأكثرون، وأما من لا يوجب؛ فلا يحتاج إلى تأويل.
وقال ابن العربي: «إن الله خص نبيه عليه السلام بأشياء؛ أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق حتى يدخل فيها على جميع أزواجه، فيفعل ما يريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدور لها» ، وفي كتاب «مسلم» : عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر) انتهى كلام «عمدة القاري» .
واعترض ابن حجر على ابن العربي بعد ما نقل عبارته فقال: (ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلًا) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن كلامه مبني على قول من لا يوجب القسم عليه صلى الله عليه وسلم، والأشياء التي أعطيها كثيرة لا يمكن تفصيلها، ومنها: القوة على ذلك، فإن ذلك غريب عادة طبعًا وطبًّا، فهي قوة خصوصية له عليه السلام، وهي ثابتة في هذا الحديث وغيره، والخصائص التي اختص بها لها كتب عديدة مفصلة فيها بدليل من الأحاديث العديدة، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ فليحفظ، وقد ألف الشيخ الإمام خاتمة المحدثين شيخ مشايخنا الشهاب أحمد المنيني شارح «البخاري» كتابًا في الخصائص نظمًا، وشرحه شرحًا مفيدًا، وقد قرأته ولله الحمد على بعض شيوخي في رمضان سنة خمس وسبعين ومئتين وألف، وللسيوطي أيضًا كتاب في الخصائص وغيره، والله أعلم؛ فافهم.
(في الساعة الواحدة)؛ المراد بها: الحصة، وهي قدر من الزمان لا الساعة الرملية التي هي خمس عشرة درجة (من الليل والنهار)، (الواو) فيه بمعنى (أو)، كذا قاله في «عمدة القاري» ؛ كالكرماني.
وزعم ابن حجر: (أنه يحتمل أن تكون على بابها بأن تكون تلك الساعة جزءًا من آخر أحدهما، وجزءًا من أول الآخر) انتهى.
قلت: هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ قول ابن عمر السابق: (ثم يصبح محرمًا)
(1)
في الأصل: (الغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.