الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما قدَّم الشعيرة على البُرَّة؛ لأنَّها أكبر جرمًا منها، وأخَّر الذرة؛ لصغرها، فهو من باب الترقِّي في الحكم وإنْ كان من باب التنزُّل في الصورة.
وقوله: (من خير) المراد به: الثمرات، وكذا في روايةِ:(من إيمان)؛ أي: أنَّ ثمرات الإيمان لا نزاع في أنَّها تزيد وتنقص، والمراد بالثمرات: مراتب العلوم الحاصلة المستلزمة للتصديق لكلِّ واحد من جزئيات الشرع، وأمَّا حقيقة التصديق؛ فشيء واحد لا يقبل الزيادة ولا النقصان.
قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن كان المراد من الإيمان: التصديق؛ فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن كان الطاعات؛ فيقبلهما، والأصل هو التصديق والقول بلا إله إلا الله؛ لإجراء الأحكام في الدنيا، والناس إنَّما يتفاضلون في التصديق التفصيلي، لا في مطلق التصديق، وقوله تعالى:{وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] حكاية عن إبراهيم، وكيف يمكن أن يقال في حقه: زاد تصديقه بالمعاينة؟ لأنَّ القول بهذا يستلزم القول بنقصان تصديقه قبل ذلك؛ وذا لا يجوز في حقه عليه السلام، وإنما مراده من هذا: أن يضم إلى علمه الضروري العلمَ الاستدلالي؛ ليزيد سكونًا؛ لأنَّ تضافر
(1)
الأدلة أسكن للقلب؛ فليحفظ.
ويستفاد من الحديث: أنَّ صاحب الكبيرة من الموحِّدِين لا يَكفر بفعلها ولا يخلد بالنار، وفيه دخول عصاة الموحِّدين النار وأنَّ مآلهم إلى الجنة، وأنَّه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون الكلمة ولا الكلمة من غير اعتقاد، والله تعالى أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بنبينا محمد عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم؛ أن ترزقني علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبَّلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه.
(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلِّف، وفي رواية: بإسقاطها: (قال أَبَان)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة: ابن يزيد العطار البصري، ووزنه:(فَعَال) كـ (غَزَال)، منصرفٌ، والهمزة فاء الكلمة أصليةٌ، والألف زائدة، وهو المشهور وقول الأكثرين والصحيح، وقيل: إنه غير منصرف؛ لأنَّه على وزن (أَفْعَل) منقول من (أبان يبين)، ولو لم يكن منقولًا؛ لوجب أن يقال فيه:(أَبْيَن) بالتصحيح، وهو قول ابن مالك؛ فافهم.
(حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة قال: (حدثنا أنس) هو ابن مالك، (عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم:«من إيمان» مكان «خير» ) وفي رواية: (من خير)، وهذا من تعليقات المؤلِّف، وقد وصله الحاكم، وإنما ذكره المؤلِّف؛ للتنبيه على تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس؛ لأنَّ قتادة مدلس لا يحتج بعنعنته إلَّا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، وعلى تفسير المتن بقوله:(من إيمان) بدل قوله: (من خير).
[حديث: أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم]
45 -
وبه قال: (حدثنا الحسن بن الصَّبَّاح)؛ بتشديد الموحدة: ابن محمد، وللأصيلي:(البزار) بالزاي بعدها راء، الواسطي، المتوفى ببغداد سنة ستين ومئتين: أنه (سمع جعفر بن عون) بن أبي جعفر المخزومي، المتوفى بالكوفة سنة سبع ومئتين قال:(حدثنا أبو العُميْس)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، آخره سين مهملة، الهذلي المسعودي الكوفي، المتوفى سنة خمسين
(2)
ومئة (قال: أخبرنا قيس بن مُسلِم)؛ بضم الميم وكسر اللام مخفَّفًا، الكوفي العابد، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن طارق بن شهاب)؛ أي: ابن عبد شمس الصحابي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين
(3)
، (عن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه:(أنَّ رجلًا من اليهود)؛ هو كعب الأحبار قبل أن يُسلم، كما قاله الطبراني، واليهودُ: علم [على] قوم موسى؛ من (هادوا)؛ أي: مالوا، أو من (هاد)؛ إذا رجع؛ لأنَّهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة وغير ذلك، كما بسطه في «عمدة القاري» .
(قال له) أي: لعمر: (يا أمير المؤمنين) فيه دلالة على أن ذلك كان بعد موت الصديق الأكبر؛ (آيةٌ) مبتدأٌ، وساغ مع كونه نكرة؛ لتخصصه بالصفة؛ وهي (في كتابكم) القرآن (تقرؤونها) جملة محلها رفع صفةٍ أخرى، والخبرُ قولُه:(لو علينا معشر اليهود نزلت)؛ أي: لو نزلت علينا؛ لأنَّ (لو) لا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل؛ لدلالة الفعل المذكور عليه، كذا قاله الشرَّاح، ويمكن أن يجعل الجارُّ والمجرور متعلقًا بالفعل المذكور، وتكون (لو) فقط كأنها داخلة عليه، ويتوفر عليها صفتها من اختصاصها بالفعل، والظاهر الاقتصار عليه، قاله الشيخ إسماعيل العجلوني؛ فتأمل، و (معشر) منصوب على الاختصاص، أو أعني معشر اليهود، والمعشر: الجماعة الذين شأنهم واحد، ويجمع على معاشر؛ (لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا) أصله:(عودًا) من العود، سُمي به؛ لأنَّه في كل عام يعود، والمعنى: نعظِّمه في كل سنة ونُسَرُّ فيه؛ لعظم ما حصل فيه من كمال الشريعة المطهرة، (قال) أي: عمر: (أي آية) هي؟ فالخبر محذوف (قال) أي: كعب: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}) قال البيضاوي: بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ({وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}) بالهداية والتوفيق، أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية، ({وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ})؛ أي: اخترته لكم ({دِيناً} [المائدة: 3]) من بين الأديان؛ وهو الدين عند الله تعالى.
(قال) وفي رواية: (فقال)(عمر) رضي الله عنه: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان) وكان ذلك في حجة الوداع، وعاش بعدها عليه السلام ثلاثة أشهر، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه (الذي نزلت) وفي رواية:(أنزلت)(فيه على النبي) الأعظم، وفي رواية:(على رسول الله) صلى الله عليه وسلم، وهو قائم)؛ أي: والحال أنَّه قائم (بعرفةَ) الباء: ظرفية، غير منصرف؛ للعلميَّة والتأنيث، والباء متعلقة بـ (قائم) أو بـ (نزلت) (يومَ جمعةٍ) وفي رواية:(يومَ الجمعة)، وإنَّما لم تمنع من الصرف؛ لأنَّها صفة أو غير صفة وليست علمًا، ولو كانت علمًا؛ لامتنع صرفها؛ وهي بفتح الميم، وضمها، وإسكانها، فالساكن بمعنى المفعول، والمتحرك بمعنى الفاعل، وهذه قاعدة كلية، والمعنى: إما جامع للناس أو مجموع له، وإنما لم يقل عمر: جعلناه عيدًا؛ ليطابق جوابه السؤال؛ لأنَّه جاء في «الصحيح» : أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلَّا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبَلة، ولا شك أن اليوم التالي ليوم عرفة عيد للمسلمين، فكأنه قال: جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه.
ويظهر من هذه الرواية ورواية إسحاق ولفظه: (يوم جمعة يوم عرفة)، وللطبراني:(وهما لنا عيد) : أنَّ الجواب تضمَّن أنَّهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا؛ وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنَّه ليلة العيد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه [الله] تعالى.
(34)
[باب الزكاة من الإسلام]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (الزكاة من الإسلام)؛ أي: من شعبه؛ مبتدأ وخبر، ويجوز بالإضافة إلى الجملة بعده، (وقولُِه) بالرفع والجر، وللأصيلي: عز وجل ولابن عساكر: (سبحانه) : ({وَمَا أُمِرُوا})؛ أي: وما أُمِر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل ({إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ})؛ أي: ليوحِّدوه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيه جميع الناس ({مُخْلِصِينَ}) حال من ضمير (يعبدوا)({لَهُ الدِّينَ}) منصوب به، والإخلاص: ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب، والرياء: آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات، ({حُنَفَاءَ}) حال ثانية؛ جمع حنيف؛ وهو المائل عن الضلال إلى الهدى، ({وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}) عطف خاص على عام؛ أي: يؤدوها على وجهها ({وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ})؛ أي: يعطوها إلى مصارفها، ولكنهم خالفوا حكمه، فقال بعضهم:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [التوبة: 30]، وقال بعضهم: عيسى ابن الله، وقال بعضهم: عيسى هو الله، وقال بعضهم:{ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وعامَّة اليهود مشبِّهة، انتهى؛ فليحفظ، ({وَذَلِكَ})؛ المذكور من هذه الأشياء هو ({دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5])؛ أي: دين الملة القيمة؛ أي: المستقيمة التي لا اعوجاج فيها.
[حديث: خمس صلوات في اليوم والليلة]
46 -
وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس الأصبحي المدني، ابن أخت مالك الإمام، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وللأصيلي:(حدثنا)(مالك بن أنس) الإمام، وسقط في روايةٍ قوله:(بن أنس)، (عن عمه أبي سُهيل)؛ بضم السين نافع (بن مالك) بن أبي عامر المدني، (عن أبيه) مالك بن أبي عامر، المتوفى سنة اثنتي عشرة ومئة:(أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بن عثمان القرشي التيمي، أحد العشرة المبشرة بالجنة، المقتول يوم الجمل لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة بعد أن استُخرج طريًّا كما مات من قنطرة القرة بأمر ابنته بعد ثلاثين سنة؛ بسبب رؤيتها له في المنام، وأنه يشكو إليها النداوة رضي الله عنه (يقول: جاء رجل) هو ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْد)؛ بفتح النون وسكون الجيم، قال الجوهري: نجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق؛ فهو نجد، وهو مذكَّر، كذا في «عمدة القاري» وتمامه فيه، وفي رواية:(جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثائر) بالمثلثة؛ أي: منتفش ومنتشر شعر (الرأس) من عدم الرفاهية، أطلق اسم الرأس على الشعر؛ لأنَّ الشعر منه ينبت، كما يطلق اسم السماء على المطر؛ لأنَّه من السماء ينزل، أو لأنَّه جعل نفس الأمر ذا ثوران على طريق المبالغة، وفي (ثائر) يجوز الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى أنه صفة لـ (رجل)، والنصب على أنه حال، ولا يضر إضافته؛ لأنَّها لفظية؛ فليحفظ.
(نسمع) بنون الجمع (دَوِيَّ صوتِه)؛ بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء، منصوبٌ مفعولًا به (ولا نفقه)؛ أي: لا نفهم، بنون الجمع كذلك (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، في محل نصب على المفعولية، وفي رواية:(يُسمَع ولا يُفقَه)؛ بضم المثناة التحتية فيهما؛ مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، و (دوي) و (ما يقول) نائبان
(1)
في الأصل: (تظاهر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
(3)
في الأصل: (ثلاث وعشرين ومئة)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
عنه، والأولى هي المشهورة وعليها الاعتماد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: الدَّوِيُّ: بُعْدُ الصوت في الهواء وعلوه، ومعناه: صوت شديد لا يفهم منه شيء كدَوِيِّ النحل، انتهى.
(حتى دنا) أي: إلى أن قرُب فهمناه؛ (فإذا) للمفاجأة (هو) مبتدأ (يسأل عن الإسلام) خبره؛ أي: عن أركانه وشرائعه بعد التوحيد والتصديق، أو عن حقيقته؛ واستبعده في «عمدة القاري»؛ من حيث إنَّ الجواب يكون غير مطابق للسؤال وهو قوله:(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو (خمسُ صلوات في اليوم والليلة)، أو خذْ خمسَ صلوات، ويجوز الجرُّ بدلًا من (الإسلام)، وفيه حذف أيضًا؛ تقديره: إقامة خمس صلوات؛ لأنَّ عين الصلوات الخمس ليست عين الإسلام، بل إقامتها من شرائع الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة؛ لأنَّه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنَّما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها فلم ينقلها الراوي؛ لشهرتها، وذكر هذا الأخير الكرماني، ومشى عليه القسطلاني، واستبعده الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ لأنَّه يلزم نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول وقد نَدب النبيُّ الأعظم عليه السلام إلى ضبط كلامه، وحفظه، وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ.
(فقال) الرجل المذكور، وفي رواية:(قال) : (هل عليَّ غيرُها؟) بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (عليَّ)، (قال) عليه السلام:(لا) شيء عليك غيرها.
وفيه دليل على أن الوتر سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد الشيباني، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن الوتر واجب؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]، و {الوُسْطَى} هي: الوتر، ولقوله عليه السلام:«اجعلوا آخر صلاتكم وترًا» رواه الشيخان، ولقوله عليه السلام:«إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ، وعن عبد الله بنبريدة عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني» ، قاله ثلاثًا، وقال عليه السلام: «من نام عن وتر أو نسيه؛ فليقضه
(1)
إذا ذكره» رواها أبو داود وغيره، والحاكم وصححها، والأمرُ وكلمةُ (عَلَى) و (حق) للوجوب، ووجوب القضاء فرعُ وجوب الأداء.
وفي الحديث أيضًا دلالة على أن صلاة العيدين سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم: إنَّها واجبة؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، والمراد بها: صلاة العيد، كما قاله المفسرون، ولقوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقد واظب عليها النبي الأعظم عليه السلام من غير ترك؛ وهذا دليل الوجوب، بل والفرضية، ولهذا قال الإمام أبو موسى الضرير: إنَّها فرض كفاية، وهو قول الإصطخري من الشافعية، وقول حماد بن زيد من أصحاب إمامنا الأعظم أيضًا.
والجواب عن الحديث: أنه إنَّما لم يذكر الوتر للأعرابي؛ لأنَّه لم يكن واجبًا يومئذٍ بدليل أنه لم يذكر الحج؛ لأنَّه لم يُفرض، فالوتر مثلُه، فلا حجة في الحديث، وإنما لم يذكر له صلاة العيدين؛ لأنَّه كان من أهل البادية، وهي لا تجب عليهم ولا على أهل القرى، فلا حجة فيه أيضًا.
(إلا أن تطوع) استثناء متصل، وهو الأصل في الاستثناء، فيُستَدل به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل؛ وجب عليه إتمامه، وبقوله تعالى:{ولا تبطلوا أعمالكم} ، وإبطال العمل: نقض العهد، وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع فيه صحيحًا كان الحج أم فاسدًا، فلا يمتاز عن غيره.
والمعنى: أي: إلَّا أن تَشرع في التطوع؛ فيصير واجبًا كما يصير واجبًا بالنذر، فإذا أفسده؛ وجب عليه قضاؤه، وقد روى أحمد في «مسنده» عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأُهديت لنا شاة؛ فأكلنا، فدخل علينا النبي عليه السلام، فأخبرناه، فقال:«صوما يومًا مكانه» ، وفي لفظ آخر:«أبدلا يومًا مكانه» ، وروى الدارقطني عن أم سلمة: أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبي عليه السلام أن تقضيَ يومًا مكانه، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، ولولا الإطالة لأوردناها، وبالجملة: فالأمر بالقضاء أمرٌ للوجوب، فدل على أن الشروع ملزِم، وأن القضاء بالإفساد واجب، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.
وقال الشافعي: لا تلزم النوافل بالشروع فيها، بل يستحب إتمامها؛ لما روى النسائي: أن النبي الأعظم عليه السلام كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي «البخاري» : أنه أمر جويرية
(2)
بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل بظاهره على أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النص في الصوم، والباقي بالقياس.
قلنا معشر الحنفية: لا دلالة له على ما ذكر؛ فإن حديث النسائي لا يدل على أنه عليه السلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره كان عن عذر، وحديث جويرية إنَّما أمرها بالفطر؛ لما تحقق عنده من العذر الموجب للإفطار؛ كضعف بنيتها أو لأجل الضيافة أو غير ذلك، وأنه أمرها بالقضاء، والأمر بالقضاء مستفاد من غير هذا الحديث كالذي شاهده لنا من حمل المطلق على المقيد، وإذا وقع تعارض بين الأخبار؛ فالترجيح معنا لثلاثة أوجه؛ أحدها: إجماع الصحابة، والثاني: أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثه نافية، والقاعدة: أن المُثبِت مقدَّم على النافي، والثالث: أنه الاحتياط في العبادة لله تعالى؛ حيث قال: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فإن إبطال العمل نقض العهد واستهزاء وسخرية، ألا ترى أن المخلوق لو أمرك بأمر وشرعت فيه ولم تتمه؛ هل يرضى منك أم يسخط؟ فإذا تممته ثم أفسدته وضيعت ماله؛ هل يفرح أم يغضب؟ هذا في المخلوق، فما بالك في الخالق جل وعلا سبحانه.
واعلم أن الواجب عندنا دون الفرض وأعلى من السنة، والفرق بينها ظاهر في كتب الفروع، وعند الشافعي: الفرض والواجب سيان إلا في الحج؛ فوافقنا فجعل فيه فرضًا وواجبًا وسنة؛ فافهم.
(قال) وفي رواية: (فقال)(رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان) كلام إضافي مرفوع عطفًا على قوله: (خمس صلوات)، وفي رواية:(وصوم)، (قال) الرجل:(هل عليَّ غيره؟ قال) عليه السلام: (لا)؛ أي: ليس عليك غيره (إلا أن تطوع)؛ أي: إلا إذا تطوعت؛ فيلزمك إتمامه، وإذا أفسدته؛ يلزمك قضاؤه، وما قيل: إن في استدلالنا نظر؛ لأنَّا لا نقول بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأن الاستثناء عندنا من النفي ليس للإثبات، بل مسكوت عنه؛ ممنوع؛ لما علمت من ثبوت النص في الصوم أنه يجب قضاؤه بالإفساد، وإتمامه بالشروع، والباقي بالقياس عليه، على أن الاستثناء هنا متصل لا منقطع، فإنَّ الواجب عندنا فرض أيضًا، لكن يفرق بينهما من حيث الاعتقاد والتكفير، فإنَّ الوتر واجب وهو فرض عملي لا اعتقادي ولا يكفر جاحده، وإنَّ الصبح فرض علمي اعتقادي يكفر جاحده، فصار بينهما موافقة لا مباينة، فكان الاستثناء متصلًا، كما لا يخفى.
وأما قوله: فالاستثناء من النفي مسكوت عنه؛ فمعناه هنا: أنَّه لما ذكر النبيُّ للرجل الصلاة والصوم، وكان لم يصل ولم يصم، وفي عقله أنهما ثابتان، فما سيق له لنفي ما عداهما؛ فيلزمه الصلاة والصوم، وهذا بطريق الإشارة، أو أنهما يثبتان بطريق الضرورة؛ لأنَّ وجودهما لما كانا ثابتين في عقله يلزم من نفيهما ثبوتهما ضرورة، والتقدير: لا صلاة ولا صوم غير الخمس ورمضان ثابت، فيكون كالتخصيص بالوصف، وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا، فلا دلالة للكلام على ثبوتهما منطوقًا ولا مفهومًا، بل بالإشارة أو بالضرورة لا بالعبارة عندنا، وتمامه في كتب الأصول؛ فليحفظ.
(قال) الراوي طلحة بن عبيد الله: (وذكر له)؛ أي: للرجل (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزكاة)، وإنما قال ذلك الراوي؛ لأنَّه إمَّا نسي نص النبي عليه السلام أو التبس عليه، وفي رواية:(الصدقة)، والمراد بها: الزكاة، (قال) وفي رواية:(فقال)؛ أي: الرجل المذكور: (هل عليَّ غيرها؟) خبر ومبتدأ (قال) عليه السلام: (لا) ليس عليك غيرها (إلا أن تطوع)، ولم يذكر الحج، وقدمنا في الجواب: أنه لم يكن فُرِض، أو أنه علم حاله أنه لم يجب عليه الحج؛ لعدم استطاعته، (قال) الراوي:(فأدبر الرجل) الأعرابي، من الإدبار؛ أي: تولى (وهو يقول)؛ أي: والحال أنه يقول: (والله لا أزيد) في التصديق والقبول (على هذا) المذكور (ولا أنقص) منه
(1)
في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (جويرة)، وكذا في الموضع اللاحق.