الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كفر)؛ أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق مع حكم النبي الأعظم عليه السلام على من سب المسلم بالفسق ومن قاتله بالكفر، وقد عُلِم بهذا خطؤهم ومطابقة جواب أبي وائل لسؤال زُبَيد عنهم، وليس المراد بالكفر هنا حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر؛ مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرَّر في القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، أو أطلقه عليه؛ لشبهه به؛ لأنَّ قتال المسلم من شأن الكافر، أو المراد: الكفر اللغوي؛ وهو الستر؛ لأنَّه بقتاله له ستر ما له عليه من حق الإعانة والنصرة وكف الأذى، ولا نعني بهذا إلا هذا، فقد قال أئمتنا الأعلام: لا يُفتى بتكفير مسلم مهما أمكن، ولو وُجِدَ مئة قول بتكفيره وقولٌ واحد بعدم تكفيره؛ فالمفتى به عدم التكفير؛ لأنَّ تكفير المسلم أمر صعب، وهذا في غاية الاحتياط؛ فليحفظ.
[حديث: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر]
49 -
وبه قال: (أخبرنا قتيبة بن سعيد) السابق، وفي رواية: بإسقاط (ابن سعيد)، وفي أخرى:(هو ابن سعيد) قال: (حدثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني، وقد مر، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: ابن أبي حُميد، واسم أبي حُميد تِيْر؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، آخره راء مهملة؛ أي: السهم، الخزاعي البصري، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس) وفي رواية:(ابن مالك)، وفي أخرى:(حدثنا أنس)، وفي أخرى:(حدثني أنس)، وبهذا يحصل الأمن من تدليس حُميد (قال: أخبرني) بالإفراد (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج)؛ أي: من الحجرة، والجملة خبر (أنَّ)(يخبر) جملة مستأنفة، والأولى أن يكون حالًا مقدرة؛ لأنَّ الخبر بعد الخروج على حدِّ:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 7]؛ أي: مقدرين الخلود؛ كما حققه في «عمدة القاري» ، (بليلة القدر) أي: بتعينها (فتلاحَى)؛ بفتح الحاء المهملة: من التلاحِي؛ بكسرها؛ أي: تنازع (رجلان من المسلمين)؛ هما عبد الله بن أبي حَدْرَد؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، آخره دال أخرى، وكعب بن مالك؛ كان على عبد الله دين لكعب يطلبه، فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد (فقال) عليه السلام:(إني خرجت لأخبرَكم) بنصب الراء بـ (أن) المقدرة بعد لام التعليل، وهذا مقول القول، والضمير مفعول (أخبر) أول، وقوله:(بليلة القدر) سد مسد الثاني والثالث؛ لأنَّ التقدير: أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية، (وإنه)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأْن (تلاحى) تنازع (فلان) ابن أبي حدرد (وفلان) كعب بن مالك في المسجد وشهر رمضان، وزادت منازعتهما على القدر المباح في المسجد، فكانت لغوًا، وهو ليس بمحلٍّ للغو، مع ما كان في الزيادة من رفع الصوت بحضرة النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.
(فرُفعت)؛ أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي؛ بمعنى: نسيتها، يدل عليه ما في رواية مسلم من حديث أبي سعيد:«فجاء رجلان يحتقَّان -بتشديد القاف؛ أي: يدعي كل منهما أنه محق- معهما الشيطان، فنسيتها» ، فيعلم من هذا الحديث: أن سبب الرفع: النسيان، ومن حديث الباب: التلاحي، ويَحتمل أن يكون من كل منهما، والله أعلم، (وعسى أن يكون) رفعها (خيرًا لكم)؛ لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها، وشذَّ قوم فقالوا برفعها، وهو غلط، ويدل عليه قوله:(التمسوها)؛ أي: اطلبوها؛ لأنَّ لو كان المراد رفع وجودها؛ لم يأمرهم بالتماسها، وفي رواية:(فالتمسوها)(في) ليلة (السبع) -بتقديم السين على الموحدة- والعشرين من رمضان، (والتسع) -بتقديم المثناة فوق على السين المهملة- والعشرين منه، (والخمس) والعشرين منه، والتقييد بالعشرين وبرمضان استفيد من الأحاديث الأُخَر الدالة عليهما، لا يقال: كيف يأمر
(1)
بطلب ما رفع علمه؟ لأنَّا نقول: المراد طلب التعبد في مظانها، وربما يقع العمل مصادفًا لها؛ لا أنَّه مأمور بطلب العلم بعينها، وفيه ذم الملاحاة والخصومة، وأنها سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، والحث على طلب ليلة القدر.
(37)
[بابُ سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة]
هذا (بابُ) بدون تنوين؛ لإضافته إلى قوله: (سؤالِ جبريلَ النبيَّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان) بإضافة (سؤال) لـ (جبريل) من إضافة المصدر إلى فاعله، و (جبريل) لا ينصرف؛ للعلمية والعجمة، و (النبي) منصوب مفعول المصدر، و (عن الإيمان) متعلق بالسؤال، (و) عن (علمِ) وقت (الساعة) قُدِّر بالوقت؛ لأنَّ السؤال لم يقع عن نفس الساعة، بل عن وقتها بقرينة ذِكْر:(متى الساعة؟)(وبيانِ) بالجر عطفًا على (سؤال جبريل)(النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم له)؛ أي: لجبريل أكثر المسؤول عنه؛ لأنَّه لم يبين وقت الساعة؛ لأنَّ حكم معظم الشيء حكم كله، أو أن قوله عن الساعة:«لا يعلمها إلا الله» بيانٌ له؛ كما حققه في «عمدة القاري» .
(ثم قال) عليه السلام، وعطف الفعلية على الاسمية؛ لأنَّ الأسلوب يتغير بتغير المقصود؛ فإنَّ المقصود من الكلام الأول: الترجمة، ومن الثاني: كيفية الاستدلال، فلتغايرهما تغاير الأسلوبان، وفيه خلاف عند النحاة:(جاء جبريل) عليه السلام (يعلمكم دينكم، فجعل) عليه السلام (ذلك كله دينًا)، ويدخل فيه اعتقاد وجود الساعة وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى؛ لأنَّهما من الدين، (وما بيَّن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان)؛ أي: مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام؛ حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام، (وقوله تعالى) وفي رواية:(وقول الله تعالى)، وفي أخرى: عز وجل : ({وَمَن يَبْتَغِ}) أي: يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً}) من الأديان ({فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ})[آل عمران: 85]؛ أي: مع ما دلت عليه هذه الآية أن الإسلام هو الدين؛ لأنَّه لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهو اختيار المؤلف وجماعة من المحدثين، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وهو المنصوص عن الشافعي، وقال أحمد ابن حنبل بتغايرهما؛ وقدمنا الكلام فيه.
[حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله]
50 -
وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم المشهور بابن عُلَيَّة؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية؛ وهي أمه (قال: أخبرنا أبو حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية، يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي)؛ نسبة إلى تيم الرباب، الكوفي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، و (حيان)؛ إما مشتق من الحياة فلا ينصرف، أو من الحين فينصرف؛ كما مر، (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: كان النبي) الأعظم، وفي رواية:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم بارزًا) أي: ظاهرًا (يومًا للناس) غير محتجب عنهم، و (يومًا) نصب على الظرفية، وفي رواية أبي داود عن أبي فروة:(كان عليه السلام يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله عليه السلام أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانًا من طين يجلس عليه، وكنا نجلس بجنبيه)(فأتاه رجل)؛ أي: مَلَك في صورة رجل، وفي رواية:(جبريل)، وفي «النسائي» : عن أبي فروة: (فإنا لجلوس عنده؛ إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابه لم يمسها دنس)، وفي رواية مسلم من حديث عمر: (بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر -وفي رواية ابن حبان
(2)
: شديد سواد اللحية- لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي عليه السلام، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، ولسليمان التيمي:(ليس عليه سحناء؛ أي: هيئة سفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي عليه السلام كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي عليه السلام (فقال) بعد أن سلم: (يا محمد)، كما في «مسلم» ، وإنما ناداه باسمه كما يناديه الأعراب؛ تعمية بحاله، أو لأنَّ له حالة المعلم، وللمؤلف في (التفسير) :(فقال: يا رسول الله)؛ (ما الإيمان؟)؛ أي: ما متعلقاته؟ وقد وقع السؤال بـ (ما) ولا يُسأل بها إلَّا عن الماهية، (قال) عليه السلام:(الإيمان) كرره؛ للاعتناء بشأنه (أن تؤمن بالله)؛ أي: تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة له تعالى والمستحيلة عليه تعالى، والظاهر أنه عليه السلام علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلَّا فكان الجواب: الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك؛ لأنَّ المراد من المحدود: الإيمان الشرعي، ومن الحد: اللغوي، حتى لا يلزم تفسير الشيء بنفسه.
فإن قلت: لو كان حدًّا؛ لم يقل جبريل في جوابه: (صدقت)؛ كما في «مسلم» ؛ لأنَّ الحد لا يقبل التصديق، أجيب: بأن قوله: (صدقت) تسليم، والحد يقبل التسليم ولا يقبل المنع؛ لأنَّ المنع طلب الدليل، والدليل إنَّما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر، وتمامه في «القسطلاني» .
(وملائكته) جمع ملك، وأصله: ملائك (مفعل) من الألوكة؛ بمعنى: الرسالة، زيدت فيه التاء؛ لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وهم أجسام علوية نورانية مشكَّلة بما شاءت من الأشكال، والإيمان بهم: هو التصديق بوجودهم تفصيلًا فيما عُلم تعيينه كجبريل، أو إجمالًا فيما لم يعلم؛ كالأنبياء عليهم السلام، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]؛ أي: وأن تؤمن بملائكته، (و) أن تؤمن (بلقائه)؛ أي: برؤيته تعالى في الآخرة، قاله الخطابي، واعترضه
(1)
في الأصل: (يؤمر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (حيان)، وهو تصحيف.
النووي: بأن أحدًا لا يقطع لنفسه بها إنَّما هي مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، وأجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن المراد أنها حق في نفس الأمر، أو المراد: الانتقال من دار الدنيا، انتهى.
(و) أن تؤمن (برسله) عليهم السلام، وفي رواية:(ورسله) بإسقاط الموحدة؛ أي: التصديق بأنهم صادقون فيما أَخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر؛ لتأخير إيجادهم لا لأفضلية الملائكة، وفي رواية زيادة:(وكتبه)؛ أي: تصدق بأنها كلام الله، وأنَّ ما اشتملت عليه حقٌّ، (و) أن (تؤمن)؛ أي: تصدق (بالبعث) من القبور وما بعده؛ كالصراط، والميزان، والجنة، والنار، أو المراد بعثة الأنبياء، قال في «عمدة القاري» : والأول أظهر، وقيل: إن قوله: (بلقائه) مكرر؛ لأنَّها داخلة في الإيمان بالبعث، وتغاير تفسيرهما يحقق أنَّها ليست مكررة، وإنما أعاد (تؤمن)؛ لأنَّه إيمان بما سيوجد، وما سبق إيمان بالموجود في الحال؛ فهما نوعان.
ثم (قال) أي: جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإسلام؟ قال) عليه السلام: (الإسلام) أعاده تفخيمًا لأمره: (أن تعبدَ الله)؛ أي: تطيعه فيما أمر ونهى، أو تنطق بالشهادتين، قلت: والأول أظهر، (ولا تشركَ به)؛ بالفتح، وفي رواية: بالضم، زاد الأصيلي:(شيئًا)، (و) أن (تقيم) أي: تديم أداء (الصلاة) المكتوبة؛ كما صرح به مسلم، أو تأتي بها على ما ينبغي، وهو وتاليه من عطف الخاص على العام، (و) أن (تؤدي) أي: تعطي (الزكاة المفروضة) قيَّد بها؛ احترازًا من صدقة النافلة؛ فإنَّها زكاة لغوية، أو من المعجَّلة، أو لأنَّ العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود، فنبَّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد، (و) أن (تصوم رمضان) ولم يذكر الحج، إما ذهولًا أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس:(وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)، وقيل: لأنَّه لم يكن فرض، ورُدَّ بأن في رواية ابن منده بسندٍ على شرط مسلم: أن الرجل جاء في آخر عمره عليه السلام، ولم يذكر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة، ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد سليمان التيمي بعد ذكر الجميع: الحج، والاعتمار، والاغتسال من الجنابة، وإتمام الوضوء، وقد حصل هنا الفرق بين الإسلام والإيمان، فجعل الإسلام عمل الجوارح، والإيمان عمل القلب.
فالإيمان لغة: التصديق مطلقًا، وفي الشرع: التصديق والنطق معًا، فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق؛ فإنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق؛ فهو وحده نفاق، فتفسيره في الحديث: الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، إنَّما فسر به إيمان القلب والإسلام في الظاهر، لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي، والمؤلف يرى أنهما والدين عبارات عن واحد، والمتَّضح: أن محلَّ الخلاف إذا أُفرد لفظ أحدهما، فإن اجتمعا؛ تغايرا كما وقع هنا، كذا قرره القسطلاني، قلت: فيه نظر؛ فإنَّ الإسلام هو الخضوع والانقياد؛ بمعنى: قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق، ويؤيده قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36].
وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على واحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، والمراد بعدم تغايرهما: أنَّه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لما في ذكره في الكفاية من [أنَّ] الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيَّتِه، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فلا يتغايران، ومن أثبت حدَّ التغاير يقال له: ما حُكْم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا؛ فهو ليس بثابت للآخر، والأظهر بطلان قوله؛ وقدمنا بقية الكلام؛ فافهم.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإحسان؟)(ما) استفهامية مبتدأ، والإحسان خبره، و (أل) فيه للعهد؛ أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن المترتب عليه الثواب؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: الإحسان (أن تعبد الله)؛ أي: عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك له (كأنك تراه)؛ أي: مثل حال كونك رائيًا له، (فإن لم تكن تراه) سبحانه؛ فاستمر على إحسان العبادة، (فإنه) تعالى (يراك) دائمًا، والإحسان: الإخلاص أو إجادة العمل، وهذا من جوامع كلمه عليه السلام؛ لأنَّه شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (متى) تقوم (الساعة؟)(أل) للعهد، والمراد يوم القيامة (قال) عليه السلام:(ما) أي: ليس (المسؤول) زاد في رواية: (عنها)(بأعلم من السائل)؛ بزيادة الموحدة في (أعلم)؛ لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأنَّ علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم إلا أن المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها؛ لقوله بعدُ:«خمسٌ لا يعلمهنَّ إلَّا الله» ، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرون كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]، فلما وقع الجواب بأنه لا يعلمها إلَّا الله؛ كفُّوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل؛ كما في «نوادر الحميدي» عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، (وسأخبرك عن أَشراطها)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط؛ بالتحريك؛ أي: علامتها السابقة عليها أو مقدماتها، لا المقارنة لها؛ وهي (إذا ولدت الأمة) أي: وقت ولادة الأمة (ربَّها)؛ أي: مالكها وسيدها، وهو هنا كناية عن كثرة أولاد السراري حتى تصير الأم كأنها أمة لابنها؛ من حيث إنَّها ملك لأبيه، أو أن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعايا، والملك سيد رعيته، أو كناية عن فساد الحال؛ لكثرة بيع أمهات الأولاد، فيتداولهن المُلَّاك، فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر، أو كناية عن كثرة العقوق بأن يعامل الولد أمه معاملة السيدِ أمتَه في الإعانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه (ربها)؛ مجازًا لذلك.
وعورض بأنَّه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلَّا أن يقال: إنَّه أقرب إلى العقوق، وعند المؤلف في (التفسير) :(ربَّتها) بتاء التأنيث على معنى النسمة؛ ليشمل الذكر والأنثى، وقيل: كراهة أن يقول: (ربَّها)؛ تعظيمًا للفظ (الرب)، وعبر بـ (إذا) الدالة على الجزم؛ لأنَّ الشرط محقَّق الوقوع، ولم يعبر بـ (إنْ)؛ لأنَّه لا يصح أن يقال: إنْ قامت القيامة؛ كان كذا، بل يرتكب قائله محظورًا؛ لأنَّه يشعر بالشك فيه؛ كذا حققه في «عمدة القاري» ، وتمامه فيه.
قلت: وهذه الاحتمالات كلها واقعة الآن في زماننا، نعوذ بالله من الجهل والغفلة، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، والتوفيق لما تحبه وترضاه.
(و) من أشراط الساعة (إذا تطاول رُعاةُ الإبل) بضم الراء جمع راع (البُهمُ)؛ بالرفع؛ صفة للرعاة، وبالجر؛ صفة للإبل، ففيه روايتان، وهو بضم الباء الموحدة، جمع (بهيم) على الأولى، وجمع (بهماء) على الثانية، وفي رواية: بفتح الباء الموحدة، فلا وجه له هنا، جمع (بهيمة)؛ صغار الضأن والمعز، والمراد بالبهم: الأسود الذي لا يخالطه لون غيره؛ وهو شر الإبل.
والمعنى؛ أي: وقت تفاخر أهل البادية بإطالة البنيان وتكاثرهم باستيلائهم على الأمر، وتملكهم البلاد بالقهر المقتضي لتبسطهم بالدنيا، فهو عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد والسفلة من الجمَّالين والزراعين وغيرهم، وقد عَدَّ في الحديث من الأشراط علامتين، والجمع يقتضي ثلاثة، فإما أن يكون على أنَّ أقل الجمع اثنان، أو أنَّه اكتفى باثنين لحصول المقصود بهما في علم أشراط الساعة.
وعلمُ وقتها داخل (في) جملة (خمس) من الغيب (لا يعلمهنَّ إلَّا الله، ثم تلا النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34])؛ أي: علم وقتها، وفي رواية:({وَيُنَزِّلُ} .. الآيةَ)؛ بالنصب بتقدير: اقرأ، وبالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الآيةُ مقروءةٌ إلى آخر السورة، ولمسلم:(إلى قوله: {خَبِيرٌ})، والجار والمجرور متعلق بمحذوف كما قدرناه، فهو على حد قوله تعالى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]؛ أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وتمام الآية:{وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ} ؛ أي: في أيامه المقدَّر له والمحل المعيَّن له، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أذكرًا أم أنثى؟ تامًا أم ناقصًا؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} ؟ من خير أو شر، وربما يعزم على شيء ويفعل خلافه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؟ أي: كما لا تدري في أي وقت تموت؟
قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة؛ لهذا الحديث، فمن ادَّعى علم شيء منها غير مستند إلى الرسول عليه السلام؛ كان كاذبًا في دعواه، انتهى.
(ثم أدبر) من الإدبار؛ أي: رجع الرجل السائل، (فقال) عليه السلام:(ردوه)، وفي رواية:(فأخذوا ليردوه)(فلم يروا شيئًا) لا عينه ولا أثره، ولعل قوله:(ردوه) على إيقاظ للصحابة؛ ليتفطنوا إلى أنه ملَك لا بشر، (فقال) عليه السلام:(هذا) ولكريمة: (إن هذا)(جبريل) عليه السلام (جاء يُعلِّم الناس دينهم)؛