الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روي عنه بمثله) انتهى.
الرابع: فيه استحباب حمل السجادة للصلاة حتى في المساجد، لا سيما في زماننا؛ لما يشاهد من التهاون في أمر الطهارة في سجاجيد المساجد وحصرها، بل لو قيل بفرضية حملها غير بعيد.
الخامس: فيه جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنه، وزعم الكرماني أن فيه أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المرأة، وتبعه ابن حجر، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قصدهما بذلك الغمز في مذهب الحنفية في أن محاذاة المرأة المصلي مفسدة لصلاة الرجل، ولكن هيهات لما قالا؛ لأنَّ المحاذاة المفسدة عندهم أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداء وتحريمة وغير ذلك، وهم أيضًا يقولون: إن محاذاة المرأة المذكورة في هذا الحديث غير مفسدة، فحينئذٍ إطلاقهما الحكم فيه غير صحيح، وهو من ضربان عرق العصبية) انتهى.
قلت: ولا شك في ذلك، فإن عرق العصبية لا يفتر عنهما خصوصًا ابن حجر، وكلاهما غير مصيب، فأين لهما من الاعتراض على مذهب الحنفية الذي هو الحق الصواب وما عداه خطأ؟! لا سيما أنَّهما ليس لهما معرفة في مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين حتى قالا هذا القول، فإن محاذاة المرأة إنَّما يكون مفسدًا بشروط؛ منها: أن تكون الصلاة واحدة أداء وتحريمة، وغير ذلك، كما هو مقرر في كتب الفروع، والمرأة التي في هذا الحديث ليست كذلك، بل هي ليست بطاهرة، فهذا كلام من لم يشم شيئًا من العلم، والولد الصغير لا يستنبط هذا الاستنباط، ولكن مرادهم القدح، والعناد، والتعصب، والتعنت، وغير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، ألم يعلموا أن الإمام الأعظم حين استنبط الأحكام كان إمامهم محمد بن إدريس منيًا في ظهر أبيه، ثم بعد أن نشأ وقرأ على الإمام محمد بن الحسن قال: الناس عيال للإمام الأعظم؟ وقال: من أراد التفقه؛ فعليه بكتب محمد بن الحسن، فهذا أدب إمامهما، وكان عليهما التأدب أيضًا؛ فإن إمامهما قد تأدب مع إمامنا، وصح أنه صلى الفجر عنده ولم يقنت، وهذا يدل على أنه مقلد لا مطلق، وسيأتي بقية الكلام إن شاء الله تعالى.
(20)
[باب الصلاة على الحصير]
هذا (باب) بيان حكم (الصلاة على الحَصِير)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وفي «المحكم» : أنها سفيفة تصنع من بردي وأَسل، سميت بذلك؛ لأنَّها تفرش على وجه الأرض، وكذلك يسمى وجه الأرض حصيرًا، والسَّفيْفة؛ بفتح السين المهملة، وبالفاءين، بينهما تحتية ساكنة: شيء يعمل من الخوص؛ كالزنبيل، والأَسل؛ بفتح الهمزة، والسين المهملة، آخره لام: نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها، وفي «الجمهرة» :(الحصير عربي، سمي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض)، وقال الجوهري:(الحصير: الباريَّة)، كذا في «عمدة القاري» .
ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله من حيث إن كلًّا منهما ذكر في حكم الصلاة، ففي الأول: السجود على الخمرة؛ وهي السجادة التي توضع على الأرض، وهنا السجود على الحصير التي توضع أيضًا على الأرض، وقدمنا تمام الكلام في باب (عقد الإزار على القفا)؛ فافهم.
(وصلى جابر) ولأبي ذر وأبي الوقت: (وصلى جابر بن عبد الله) : هو الأنصاري رضي الله عنه (وأبو سعيد) : هو سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه (في السفينة) : وهي الفلك؛ لأنَّها تسفن وجه الماء؛ يعني: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين (قيامًا) : جمع قائم، وأراد به التثنية؛ أي: قائمين، وهو نصب على الحال، وفي بعض النسخ:(قائمًا)؛ بالإفراد بتأويل كل منهما قائمًا، وهذا التعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي عتبة مولى أنس، قال:(سافرت مع أبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله -وأناس قد سماهم، قال-: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، يقال: أرسى السفينة؛ بالسين المهملة، وأرفى؛ بالفاء: إذا وقف بها على الشط، والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين وهما جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ووجه مناسبة إدخال هذا الأثر في هذا الباب هو أنَّ هذا الباب في (الصلاة على الحصير)، وفي الباب الذي قبله:(وكان يصلي على الخمرة)، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: سجادة، والسفينة أيضًا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض) انتهى.
وزعم ابن المنير في وجه المناسبة بينهما هو أنَّهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض؛ لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من قوله عليه السلام لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» انتهى.
ورده إمام الشَّارحين: بأنه لا يخلو عن حزازة، والوجه القوي ما ذكرناه، انتهى.
قلت: ولا مناسبة لحديث معاذ هنا؛ لأنَّه ورد في (التيمم).
وقوله: (لئلا يتخيل
…
) إلخ: ممنوع، فإن الصلاة جائزة على الأرض حقيقةً وحكمًا، فالمصلي في السفينة مصلٍّ على الأرض حكمًا، فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من هذا الأثر: هو أن الصلاة في السفينة إنَّما تجوز إذا كان المصلي قائمًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: تجوز الصلاة فيها قائمًا وقاعدًا، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك، وأبو قلابة، وطاووس، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة، وروى أيضًا عن مجاهد: أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزو معه، لكنا نصلي في السفينة قعودًا، ولأن الغالب فيها دوران الرأس؛ فصار كالمتحقق، والأولى أن يخرج منها إن استطاع الخروج منها، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تجوز الصلاة في السفينة قاعدًا إلا من عذر؛ لأنَّ القيام ركن، فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة في لجة البحر؛ لم تجز الصلاة قاعدًا إجماعًا، وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء، ويلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنَّها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة) انتهى.
قلت: فإن راكب الدابة يصلي مومئًا على الدابة إلى أي جهة توجهت به دابته، وهذا إذا كان خارج المصر عند الإمام الأعظم والإمام محمد بن الحسن، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز أيضًا إذا كان في المصر، وهذا الأثر المذكور عن جابر وأبي سعيد يدل لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ معناه: أن الصلاة تجوز في السفينة قائمًا وقاعدًا من غير عذر؛ لأنَّهما صليا
(1)
فيها وهي راسية؛ لقوله: (ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، فإذا كانت كذلك؛ فلا تجوز الصلاة قاعدًا، فلهذا صلى إمامهم قائمًا، وهذا ظاهر؛ فافهم.
(1)
في الأصل: (صلا)، والمثبت هو الصواب.
(وقال الحسن) : هو البصري، مما وصله ابن أبي شيبة كما سيأتي (تصلي) : خطابًا لمن سأله عن الصلاة في السفينة: هل يصلي قائمًا أو قاعدًا؟ فأجابه بقوله له: تصلي (قائمًا)؛ أي: حال كونك قائمًا تركع وتسجد (ما لم تشق)؛ بالفوقية والتحتية (على أصحابك)؛ أي: بالقيام، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية، معناها المدة؛ والمعنى: تصلي قائمًا مدة دوام عدم شق أصحابك (تدور معها)؛ أي: مع السفينة حيثما دارت، فأفاد بهذا أنه يلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا لمن زعم عدم لزوم الدوران، (وإلا) أي: وإن لم يشق على أصحابك القيام؛ (فقاعدًا)؛ أي: فصل حال كونك قاعدًا؛ لأنَّ الحرج مدفوع، وأجاز إمامنا رئيس المجتهدين الصلاة في السفينة قاعدًا مع القدرة على القيام، سواء كان بعذر أم لا، وظاهر كلام الحسن البصري هذا: أنَّ القيام ليس شرطًا؛ لأنَّه جعله لأجل الموافقة للأصحاب، وهو دليل الاستحباب؛ كالصوم في السفر إذا كان يشق على الأصحاب؛ فالمستحب الفطر، وإلا؛ فالمستحب الصوم، فكلام الحسن موافق لما ذهب إليه الإمام الأعظم، ولئن قيل غير ذلك؛ فهم رجال ونحن رجال، فإن الأثر عن التابعي لا يعارض مذهب تابعي آخر، بل الصواب ما عليه إمامنا، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني:(يصلي)؛ بالمثناة التحتية، وكذلك:(يشق على أصحابه)؛ بضمير الغائب، و (يدور)؛ بالتحتية كذلك، وفي غير رواية أبي ذر:(تصلي)، و (تشق)، و (تدور)؛ بالمثناة الفوقية في الثلاثة، وهي أوفق في المعنى، قيل: وفي متن «الفرع» : (وقال الحسن: قائمًا
…
) إلى آخره، فأسقط لفظة:(يصلي).
قلت: والظاهر: أنها سقطت سهوًا أو غفلة من الناسخ؛ لأنَّه لا بد منها لصحة المعنى؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا حفص عن
(1)
عاصم، عن الشعبي، والحسن، وابن سيرين: أنَّهم قالوا: حل في السفينة قائمًا، وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي رواية الربيع بن صالح: أن الحسن ومحمدًا قالا: يصلون فيها قيامًا جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت، والبخاري اقتصر على الذكر عن الحسن) انتهى.
قلت: ولعل اقتصاره عليه كونه ذكر التفصيل، وهو إذا شق على أصحابه؛ يصلي قاعدًا، وإلا؛ فقائمًا، والظاهر: أن المؤلف اختار قوله فاقتصر عليه، والظاهر: أن القيام ليس بشرط على قول الحسن وكذلك على قول ابن سيرين لأن الشق على الأصحاب لعدم موافقتهم مستحبٌّ لا واجبٌ، كما يستفاد من كلامهما، وهو ظاهر اللفظ، فصار الحاصل: أن القيام فيها غير شرط، بل مستحب؛ لأجل موافقة أصحابه، وهذا كالصوم في السفر كما ذكرنا، والله تعالى أعلم؛ فافهم ذلك.
[حديث: قوموا فلأصل لكم]
380 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) : هو التنيسي، وفي رواية:(عبد الله) فقط (قال: حدثنا مالك) : هو ابن أنس الأصبحي، وزعم القسطلاني هو إمام الأئمة.
قلت: لفظة: (إمام الأئمة) لا تطلق إلا على إمامنا الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنَّه إمامهم ورئيسهم، إلا أن يقال: المراد إمام أئمة مذهبه، وكذلك لفظة:(الإمام الأعظم) لا تطلق إلا على أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لكونه أقدم الأئمة وإمامهم ورئيسهم؛ حيث إن الأئمة الثلاثة من أتباعه، فإن مالك من تلامذته في الفقه، والشافعي من تلاميذ محمد بن الحسن ووكيع، وهما من تلاميذ الإمام الأعظم، وأحمد من تلاميذ الشافعي؛ فافهم.
(عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحمُّوي:(عن إسحاق ابن أبي طلحة)؛ بنسبته إلى جده، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، المتوفى سنة اثنتين
(2)
وثلاثين ومئة، وكان مالك لا يقدم على إسحاق أحدًا في الحديث، (عن أنس بن مالك) : هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أن جدته)؛ أي: جدة إسحاق لأبيه، وبه جزم القاضي عياض، وابن عبد البر، وعبد الحق، وصححه النووي، واسمها:(مُلَيْكة)؛ بضم الميم، وفتح اللام، وسكون التحتية: هي بنت مالك بن عدي، وهي جدة أنس بن مالك؛ لأنَّ أمه أم سليم، وأمها مُلَيْكة المذكورة، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك: (أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم
…
)؛ الحديث، وأم سليم: هي أم أنس، وأمها مُلَيْكة المذكورة، واختلف في اسم أم سليم، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رمية، وقيل: الرميصاء، وقيل: الغميصاء، وقيل: أنيفة؛ بالنون، والفاء مصغرة، وتزوج أم سليم مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، فولدت له عبد الله وأبا عمير، وعبد الله هو والد إسحاق راوي هذا الحديث عن عمه -أخي أبيه لأمه- أنس بن مالك، وقال جماعة: الضمير في (أن جدته) يعود على أنس نفسه، وبه جزم ابن سعد، وابن منده، وابن الحصار، وهو مقتضى ما في «النهاية» ، ويؤيده ما ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في «فوائد العراقيين» من حديث إسحاق ابن أبي طلحة، عن أنس قال: (أرسلتني جدتي إلى النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، واسمها مليكة
…
)؛ الحديث، ولا تنافي بين كون مليكة جدة أنس، وبين كونها جدة إسحاق، كذا قرره إمام الشَّارحين رحمه الله تعالى.
(دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام) أي: لأجل طعام (صنعته)؛ أي: ركبته، والجملة فعلية في محل الجر؛ لأنَّها صفة (لطعام)؛ أي: مليكة جدة أنس، أو إسحاق، أو ابنتها أم سليم والدة أنس بن مالك (له)؛ أي: لأجله عليه السلام، (فأكل منه) : وعند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم طعامًا، فقالت: إني أحب أن تأكل منه في بيتي، وتصلي فيه، قال: فأتاه، وفي البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بجانب منه، فكنس ورش، فصلى وصلينا معه).
وعند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها فيصلي في بيتها فتتخذه مصلًّى، فأتاها، فعمدت إلى حصير فنضحته، فصلى عليه، وصلوا معه).
وفي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: «قم فتوضأ، ومر العجوز فلتتوضأ، ومر هذا اليتيم فليتوضأ، فلأصلي لكم»، قال: فعمدت إلى حصير عندنا).
(1)
في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
وفي «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق، فتتبع العرق من النطع تجعله في القوارير مع الطيب وكان يصلي على الخمرة) كذا في «عمدة القاري» .
قلت: وإفادة هذه الروايات: أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان مجيئه لأجل الصلاة، وكان غرض مليكة الصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، خلافًا لمن زعم أن مجيئه كان لأجل الطعام، فإن هذه الروايات تردُّ عليه كما هو ظاهر، وسيأتي بقية الكلام عليه.
(ثُمَّ قَالَ) عليه السلام لهم: (قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ) بكسر اللام، وضم الهمزة، وفتح المثناة التحتية، ووجهه أن اللام فيه لام (كي)، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) المقدرة؛ تقديره: فلأن أصلي لكم، والياء زائدة، والفاء جواب الأمر، ومدخول الفاء محذوف؛ تقديره: قوموا فقيامكم لأصلي لكم، فاللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن تكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، واللام متعلقة بـ (قوموا)، وفي رواية:(فلأصليْ) بكسر اللام على أنها لام (كي) وسكون الياء، ووجهه: أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف، وفي مثل هذا لغة مشهورة، ويجوز أن تكون اللام لام الأمر، وتثبت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح.
وفي رواية الأربعة (فلَأصليْ) بفتح اللام وسكون الياء، ووجهه: أن تكون اللام لام الابتداء؛ للتأكيد، أو تكون اللام لام الأمر، وفتحت على لغة بني سليم، وثبتت الياء في الجزم؛ إجراء للمعتل مجرى الصحيح؛ كقراءة قنبل {مَن يَتَّقي وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، أو تكون اللام جواب قسم محذوف، والفاء جواب شرط محذوف؛ تقديره: إن قمتم؛ فوالله لأصلي لكم.
واعترض هذا الوجه ابن السِّيد فزعم (وغلط من توهم أنه قسم؛ لأنَّه لا وجه للقسم، ولو أريد ذلك؛ لقال: لأصلين؛ بالنون) انتهى.
قلت: بل الزاعم أنه لا وجه للقسم هو الغالط الواهم؛ فإن وجه القسم ظاهر وهو مراد، ولا يلزم أن يقول: لأصلين؛ بالنون؛ لأنَّ هذا في القسم الصريح، أما المقدر؛ فلا، وهنا جواب القسم محذوف كما علمت.
وفي رواية الأصيلي: (فلأصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بحذفها.
وفي رواية حكاها ابن قرقول: (فلنصلِّ) بكسر اللام وبنون الجمع، ووجهه: أن تكون اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بها، وعلامة الجزم سقوط الياء وكسر اللام لغة معروفة.
وفي رواية الكشميهني: (فأصليْ) بحذف اللام وسكون الياء على صيغة الإخبار عن نفسه، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأنا أصلي، والجملة جواب الأمر، وهذه رواية الكشميهني، كما ذكرنا.
وزعم ابن حجر أنه لم يقف عليها في نسخة صحيحة.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لايلزم من عدم وقوفه عليها ألا تكون ثابتة؛ فإنه ليس هو ممن يحيط بجميع الروايات على أنه ما ذكرناه مثبت، وكلامه ناف، والمثبت مقدم على النافي عند المحققين؛ فافهم.
فهذه ستُّ روايات مع ذكر أوجه إعرابها، وقد سردها إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.
(لَكُمْ)؛ أي لأجلكم، فاللام للعلة من حيث إن صلاته كانت لأجل اقتدائهم به عليه السلام، فلا يقال: إن الظاهر أن يقول: بكم؛ بالموحدة؛ لأنَّهم قد يصلون معه في المسجد، فأراد عليه السلام الصلاة عندهم واقتداءهم به، فهو متضمن لشيئين.
على أنه قد تكون اللام بمعنى الباء؛ لأنَّ حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، ويدل لهذا: ما في «سنن البيهقي» من حديث أبي قلابة عن أنس: (أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يأتي أم سليم يقيل عندها
…
)؛ الحديث، وعند ابن أبي شيبة عن أنس فقال:(إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه) إلى أن قال: (فصلى وصلينا معه) كما تقدم، ولهذا قال السهيلي: إن الأمر في قوله: (قوموا) بمعنى الخبر، كقوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، أو هو أمر لهم بالائتمام، لكن أضافه لنفسه؛ لارتباط تعليمهم بفعله، انتهى.
وزعم ابن حجر أن مجيئه عليه السلام كان لأجل الطعام لا ليصلي بهم؛ ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم كما في قصة عتبان بن مالك الآتية، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دعي له، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قلت: لا مانع في الجمع بين الدعاء للطعام وبين الدعاء للصلاة، ولهذا صلَّى عليه السلام في هذا الحديث، والظاهر أن قصد مليكة من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها.
وقوله: (وهذا هو السر
…
) إلى آخره: فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل أن الطعام كان قد حضر وتهيأ في دعوة مليكة، والطعام إذا حضر؛ لا يؤخر، فيقدم على الصلاة، وبدأ بالصلاة في قصة عتبان؛ لعدم حضور الطعام، انتهى.
قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح ما عند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها فيصلي في بيتها، فتتخذه مصلًّى
…
)؛ الحديث، فهذا يدل على أن مجيئه عليه السلام كان لأجل الصلاة بهم، وليتخذوا مكان صلاته مصلًّى لهم، لا لأجل الطعام كما زعمه ابن حجر، وكأنه لم يطلع
(1)
على هذه الرواية، ويدل أيضًا لما قاله إمام الشَّارحين ما عند ابن أبي شيبة عن أنس قال: (صنع بعض عمومتي للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم طعامًا فقالت: إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه
…
)؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام كان قد صُنع وتهيَّأ وحضر في دعوتها، فبدأ عليه السلام بالصلاة ثم بالأكل؛ لأنَّه إذا حضر الطعام؛ لا تُقدم الصلاة عليه، ويدل لهذا أيضًا مافي «الغرائب» للدارقطني عن أنس قال: (صنعت مليكة طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ
…
)؛ الحديث، فهذا يدل على أن الطعام قد صنع وتهيَّأ وحضر، وأن قصدها من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها، ولما أنَّه قد حضر الطعام؛ فبدأ عليه السلام به قبل الصلاة، وفي ذلك روايات أُخَر تدل لما قاله إمام الشارحين، وتردُّ على ما زعمه ابن حجر، فلله در إمامنا الشَّارح ما أعظم فكره وأدق نظره! وحقيق بأن يلقب بإمام الشَّارحين؛ فافهم واحفظ.
(قَالَ أَنَسٌ) هو ابن مالك رضي الله عنه: (فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا)؛ بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهي الباريَّة المتخذة من سعف النخل وشبهه
(2)
قدر طول الرجل بمرتين أو أكثر أو أقل، وعند مسلم:(فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقوم خلفه، وكان بساطهم من جريد النخل) انتهى.
(قَدِ اسْوَدَّ) وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خَلق) بفتح الخاء المعجمة (مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ)؛ بضم اللام وكسر الباء الموحدة؛ أي: من كثرة الاستعمال، و (لبس) ههنا ليس من: (لبست
(1)
في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (وشهبه)، وهو تحريف.
الثوب)، وإنما من قولهم: لبست امرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، فحينئذ يكون معناه: قد اسود من كثرة ما تمتع به في طول الزمان، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم: وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قاله الحنفية من جواز افتراش الحرير وتوسده، ولكن الذي يدرك المعاني الدقيقة ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويقرُّ أن الحنفية لا يذهبون إلى شيء سدًى، انتهى.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر، وما زعمه باطل، ومن دأبه التعصب والعناد، وفهم المعاني على خلاف معانيها العربية فإن مراد النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن لبس الحرير: لبسه المعتاد على الجسد، وأما افتراش الحرير وتوسده؛ فليس فيه لبس؛ فهو خارج عن النهي، بل هو جائز، وقد فعله كثير من الصحابة والخلفاء رضي الله عنه، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه.
وأما (لبس) في الحديث؛ فمعناه: التمتع، من قولهم: لبست المرأة؛ أي: تمتعت بها زمانًا، بدليل قوله في الحديث:(قد اسود) يعني: من كثرة الاستعمال، فإنه لو لم يستعمل؛ لم يسود، فهذا يدل على بطلان قوله: إنَّ معناه الافتراش؛ فافهم، فكيف يزعم ابن حجر هذا الزعم وما هو إلا من تحرك عرق العصبية والعناد؟ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين.
(فَتَنضَحه) من النضح، وهو الرش؛ أي: ترشه (بِمَاءٍ) وفي رواية مسلم: (فيكنس، ثم ينضح) وذلك لأجل تليين الحصير أو لإزالة الأوساخ منه فتنظفه، وهذا يدل على أنها فعلت ذلك من نفسها، وفي رواية مسلم أنه عليه السلام أمرها بذلك؛ لأنَّه قال: (فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح
…
)؛ الحديث، والظاهر: أنها فعلته بأمره عليه السلام، ويدل له رواية ابن أبي شيبة:(فأمر بجانب منه، فكنس ورشَّ)، وفي «الغرائب» للدارقطني: ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي -أي: لأنس-: «قم فتوضأ، ومُرِ العجوز فلتتوضأ، ومُرْ هذا اليتيم فليتوضأ
…
»؛ الحديث، (فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: على الحصير لأجل الصلاة، ففيه جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع إلا من شذَّ بحديث أنه لم يصل عليه، وهو لا يصح، كذا ذكره صاحب «التوضيح» .
قال إمام الشَّارحين: وأراد بقوله: (لا يصح)؛ أي: الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن المقدام عن أبيه عن شريح بن هانئ: أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، وقالوا: هذا الحديث غير صحيح؛ لضعف يزيد بن المقدام، ولهذا بوب البخاري باب (الصلاة على الحصير)، فإنَّ هذا الحديث لم يثبت عنده، وأورده؛ لمعارضة ما أقوى منه، والذي شذَّ فيه هو عمر بن عبد العزيز، فإنه كان يسجد على التر اب، ولكن يحمل فعله هذا على التواضع، انتهى.
قلت: وقد صح أنه عليه السلام قد صلى على الحصير، وهو أشد تواضعًا وأكثر خضوعًا، والظاهر: أن فعله لبيان الأفضل؛ لأنَّ الأفضل السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض، فإن الحصير وإن كان مما تنبته الأرض لكن التراب أرض حقيقة، وإذا وجد؛ فهو أفضل مما تنبته، والله أعلم.
(فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحمُّوي:(وصففت واليتيم) بإسقاط لفظة (أنا)، وبدل الفاء: واو، وقال إمام الشَّارحين: ومثل هذا فيه خلاف بين الكوفيين والبصريين؛ فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده بضمير منفصل؛ ليحسن العطف على المرفوع المتصل بارزًا كان أو مستترًا؛ كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وعند الكوفيين يجوز ذلك بدون التأكيد.
و (اليتيمَُ) : يجوز فيه الرفع والنصب؛ أما الرفع؛ فلأنه معطوف على الضمير المرفوع، وأما النصب؛ فلأنه يكون الواو فيه واو المصاحبة؛ والتقدير: فصففت أنا مع اليتيم، انتهى.
قلت: فرواية الأكثرين جارية على مذهب البصريين، ورواية المستملي والحمُّوي جارية على مذهب الكوفيين في جواز عدم التأكيد، و (اليتيمُ)؛ بالرفع رواية أبي ذر، وبالنصب رواية «الفرع» مصححًا عليه.
وزعم الكرماني أن رواية الرفع وجهها: أن يكون مبتدأ، و (وراءه) خبره، والجملة حال، ورده إمام الشَّارحين وتبعه الشراح بأنه غير موجَّه، بل الرفع على العطف على الضمير المرفوع كما ذكرنا؛ فافهم.
وقوله (وَرَاءَهُ)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، قال إمام الشَّارحين: واليتيم هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قاله الذهبي في «تجريد الصحابة» ، ثم قال: ولأبيه صحبة، وقال في «الكنى» :(أبو ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من حِمْير، اسمه سعد)، وكذا قال البخاري: إن اسمه سعد الحميري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعد الحميري وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، انتهى.
ويقال: اسم أبي ضميرة روح بن سدر، وقيل: روح بن شيرزاد، وضُمَيْرَة؛ بضم الضاد المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء، انتهى كلام إمام الشَّارحين رحمه الله.
(وَالْعَجُوزُ) هي مليكة المذكورة أولًا (من ورائنا)؛ أي: خلفهم، والجملة اسمية وقعت حالًا، وفي حالة الرفع يكون معطوفًا؛ فافهم، قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: وفي الحديث: جواز قيام الطفل مع الرجال في صف واحد، وفيه أيضًا: تأخير النساء عن الرجال، انتهى.
قلت: فإن تأخُّرهنَّ عن الرجال واجب؛ لئلا تفسد صلاة الرجال المحاذين لهنَّ.
فهذا الحديث دليل لما قاله الأئمة الحنفية من أن محاذاة المرأة للرجل في صلاة واحدة يفسد صلاة الرجل وغيره المحاذين لها، وهو حجة على من زعم أنه غير مفسد.
وكذا فيه حجة على من زعم أن محاذاة الطفل للرجل في الصلاة مفسد لصلاة الرجل؛ فإنَّ هذا الحديث صريح في أنها غير مفسدة
(1)
؛ لقيام اليتيم مع أنس خلف النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ فليحفظ.
(فَصَلَّى لَنَا) أي: لأجلنا (رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ) وهي نافلة النهار، لكن الأفضل في النهار أربع، كما في أحاديث غيرها، لكنه عليه السلام
(1)
في الأصل: (مفسد)، وليس بصحيح.