الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّلاة والتيمم على غيرها أولى؛ لاحتمال أنَّها أرض غضب
(1)
الله عليها، أو على أهلها، أو كانت مسكن أهل الشرك والطغيان، أو كانت مسكن قوم عاد، أو غيره ممن أهلكهم الله تعالى، فإن كانت كذلك؛ فالصَّلاة والتيمم عليها مكروهة، كما نص عليه علماؤنا الأعلام، وإن كانت غير ذلك؛ فلا كراهة فيها، وحكمها حكم بقية الأرض؛ فافهم.
قال إمام الشارحين: (ومطابقة هذا للترجمة من حيث إن معنى الطيِّب الطاهر والسبخة طاهرة، فتدخل تحت الطيِّب، ويدل عليه ما رواه ابن خزيمة من حديث عائشة رضي الله عنها في شأن الهجرة أنَّه عليه السلام قال: أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل)؛ يعني: المدينة، قال: وقد سمَّى النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم المدينة طيِّبة، فدل على أن السبخة داخلة في الطيِّب، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء إلا إسحاق بن راهويه، انتهى.
[حديث: كنا في سفر مع النبي وإنا أسرينا]
344 -
وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) زاد في رواية: (ابن مسرهد)(قال: حدثنا) وفي رواية: (حدثني)؛ بالإفراد: (يحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة: هو القطان، قال بندار:(ما أظن أنَّه عصى الله قط)(قال: حدثنا عوف) هو الأعرابي، يقال له: عوف الصَّدوق، (قال: حدثنا أبو رَجاء)؛ بفتح الرَّاء، وتخفيف الجيم، وبالمد: هو العطاردي، واسمه عمران بن مِلحان؛ بكسر الميم، وبالحاء المهملة، قال البخاري:(الأصح أنَّه ابن تيم أدرك زمانَ النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلَم بعد الفتحِ، وأتى عليه مئة وعشرون سنة، مات في سنة بضع ومئة)(عن عِمْران) بكسر العين المهملة، وسكون الميم، آخره نون: هو ابن حُصين؛ بضمِّ الحاء المهملة، أسلم عام خيبر، بعثه عمر بن الخطابِ رضي الله عنه إلى البصرة؛ ليفقههم في الدين، وكانت الملائكة تُسلِّمُ عليه، وكان قاضيًا بالبصرة، ومات بها سنة اثنتين
(2)
وخمسين (قال) أي: عمران: (كنَّا) أي: أنا والصحابة، وكانوا سبعةَ رهطٍ، كما في رواية مسلم (في سَفَر)؛ بفتح السِّين المهملة، والفاء: اسم للسير من مكان إلى آخر، بخلاف السِّفْر؛ بسكون الفاء؛ فإنه اسم للكتاب، قال تعالى:{كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ؛ يعني: كتبًا، وإنما سمي السَّفر سفرًا؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق صاحبه؛ يعني: يكشفها (مع النَّبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم واختلفوا في تعيين هذا السَّفر:
ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة: (أنه وقع عند رجوعهم من غزوة خيبر).
وفي حديث ابن مسعود رواه أبو داود: (أقبل النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية ليلًا، فنزل فقال: «من يكلؤنا؟»، فقال بلال: أنا).
وفي حديث زيد بن أسلم مرسلًا أخرجه مالك في «الموطأ» : (عَرَّسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلًا بطريق مكة، ووكل بلالًا).
وفي حديث عطاء بن يسار مرسلًا رواه عبد الرزاق: (أن ذلك كان بطريق تبوك)، وكذا في حديث عُقْبَة بن عامر رواه البيهقي في «الدَّلائل» .
وفي رواية لأبي داود: (كان ذلك في غزوة جيش الأمراء)، قاله إمام الشَّارحين.
قلتُ: ورواية أبي داود هذه من حديث خالد بن سمين، عن عبد الله بن رباح: حدثنا أبو قتادة؛ فذكره، قال أبو عمر بن عبد البر: وقول خالد: (جيش الأمراء) وهمٌ عند الجميع؛ لأنَّ جيش الأمراء كان في موته عليه السلام، وهي سرية لم يشهدها النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقال ابن حزم:(وقد خالف خالد من هو أحفظ منه)؛ فتأمل.
(وإنَّا أُسرينا) بفتح الهمزة أوله، بعدها سينٌ مهملة (حتى كنَّا في آخرِ الليلِ) وزعم الكرَمَانيُّ أنَّ في بعض النسخ:(سرينا)؛ يعني: بدون الهمزة.
قال إمام الشَّارحين: (يقال: سرى وأسرى؛ لغتان).
وقال الجوهري: (سريت وأسريت؛ بمعنى: إذا سِرتَ ليلًا).
وفي «المحكم» : (السرى: سيرُ عامةِ اللَّيل).
وقيل: سير اللَّيل كله، والحديث يخالف هذا القول، والسَّرى يذكر ويؤنث، ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث، وقد سرى وسرى، أو سرية وسرية؛ فهو سار.
وذكر ابن سيده: (وقد سرى به، وأسرى به، وأسراه).
وفي «الجامع» : (سرى يسري سريًا؛ إذا سارَ ليلًا، وكلُّ سائرٍ ليلًا؛ فهو سريًا) انتهى ما قاله رحمه رب العالمين.
(وقعنا وقعة) أي: نمنا نومة؛ كأنهم سقطوا عن الحركة، وعند مسلم من حديث أبي هريرةَ: (أنه عليه السلام حين قفل من غزوة خيبر؛ سارَ ليلةً حتى إذا أدركه الكرى؛ عرَّسَ، وقال لبلال: «اكلأ لنا
(3)
الليل» فلما تقارب الفجر؛ استند إلى راحلته، فغلبته عيناه
…
)؛ الحديث، (ولا وقعة) كلمة (لا) لنفي الجنس، و (وقعة) اسمها (عند المسافر)، خصَّه بالذِّكر؛ لأنَّ الكلام فيه، ولأن المسافر هو الذي يجد المشقة والنَّصب من قلة النوم، وقوله:(أحلى) صفة للـ (وقعة)، وخبر (لا) محذوف، ويجوز أن يكون (أحلى) خبرًا (منها)؛ أي: من الوقعة آخر الليل، وهو كما قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . .
…
وأحلى الكرى عند الصَّباحِ يطيبُ
(فما أيقظنا إلا حرُّ الشَّمس)، وفي رواية مسلم:(فلم يستيقظ بلالٌ ولا أحدٌ من الصَّحابة حتَّى ضربتهم الشَّمس)، وفي «الدلائل» للبيهقي عن عُقْبَة بن عامر: (فاستيقظ حين كانت الشمس قدر رمح
…
)؛ الحديث، (وكان) وفي رواية:
(1)
في الأصل: (عضب)، وهو تصحيف.
(2)
في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(فكان)(أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان) وقال الزركشي: (من) نكرة موصوفة، فيكون (أول) أيضًا نكرة؛ لإضافته إلى النكرة؛ أي: أول رجل استيقظ)، وردَّه الدماميني بأنَّه لا يتعين؛ لجواز كونها موصولة؛ أي: وكان أول الذين استيقظوا، وأعاد الضمير بالإفراد؛ رعاية للفظ (من) انتهى.
قال في «المصابيح» : (والأولى أن يجعل هذا من عطف الجمل؛ أي: ثم استيقظ فلان؛ لأنَّ ترتيبهم في الاستيقاظ يدفع اجتماعهم جميعهم في الأولويَّة، ولا يمتنع أن يكون من عطف المفردات، ويكونَ الاجتماعُ في الأولويَّةِ باعتبار البعض، لا الكلِّ؛ أي: إنَّ جماعة استيقظوا على الترتيبِ، وسبقوا غيرهم في الاستيقاظ، لكنَّ هذا لا يتأتَّى على قول الزركشي؛ لأنَّه قال: (أي: أول رجل)، فإذا جعل هذا من قبيل عطف المفردات؛ لزم الإخبار عن جماعة بأنهم أولُ رجلٍ استيقظَ، وهو باطل).
وكلمة (كان) هنا يجوز أن تكونَ تامة وناقصة، فإن كانت ناقصة؛ فقوله:(أول)؛ بالنصب خبرها مقدمًا، واسمها هو قوله:(فلان)، وإذا كانت تامة بمعنى: وجد؛ فـ (فلان) بدل من (أول)، فلا تحتاج إلى خبر (يسميهم) أي: المتيقظين (أبو رجاء) العطاردي، وليس بإضمار قبل الذِّكر؛ لأنَّ قوله:(استيقظ) يدل عليه، وموضع هذه الجملة من الإعراب النَّصب على الحال، وهو الأقرب، وهذه الجملة والتي بعدها؛ وهي قوله:(فنسي عوف) ليس من كلام عمران بن حُصين، وإنَّما هي من كلام الرَّاوي، و (عوف) : هو الأعرابي المذكور في الإسناد، قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وقد سمَّى البخاري في (علامات النُّبوة) أول من استيقظ، ولفظه:
(فكان أول من استيقظ أبو بكر رضي الله عنه، وبقي اثنان من الذين عدهم أبو رجاء، ونسيهم عوف الأعرابي، وزعم ابن حجر يشبه أن يكون الثاني: عمران راوي القصة، والثالث: من شارك عمران في رواية هذه القصة، وهو ذو مخبر، فإنَّه قال في حديث عمرو بن أمية رواه الطبراني: (فما أيقظني إلا حرُّ الشَّمس)، ورده إمام الشَّارحين، فقال:(هذا تعيين بالاحتمال وهو تصرف بالخدش والتخمين) انتهى.
قلتُ: ويعارض ما ذكره المؤلف ما عند مسلم من حديث ابن شهاب، عن سَعِيْد، عن أبي هريرة، وفيه:(فكان رسول الله صلى الله عليهم وسلم أولهم استيقاظًا، فقال: «أي بلال»، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)، وعنده أيضًا من حديث أبي قتادة: (كنَّا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سبعةُ رهطٍ، فمال عن الطَّريق، فوضع رأسه، ثمَّ قال:«احفظوا علينا صلاتنا» ، فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، وقمنا فزعين
…
)؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ أول من استيقظَ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، والثالث أبو بكر، والثَّاني بلال، هذا هو الظاهر؛ فافهم.
ويحمل ما رواه المؤلف هناك على أنَّ أوَّل من استيقظَ بعد النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وبعد بلال أبو بكر رضي الله عنهما؛ فكلام ابن حجر غير صحيح؛ لما علمتَ، وبهذا تنتفي المعارضة؛ فافهم.
(ثم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه الرابع) بالرفع صفة لـ (عمر)؛ لأنَّ (عمر) مرفوع؛ لأنَّه معطوف على مرفوع، وهو قوله:(ثم فلان)، وزعم ابن حجر أنَّه يجوز نصبه على خبر (كان).
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال:(لم يبين هذا القائل أي «كان» هذه، والأقرب أن تكون مقدرة؛ تقديره: ثم كان عمر بن الخطاب الرابع؛ يعني: من المستيقظين) انتهى.
قلتُ: وهذا ليس بالوجه لاحتياجه إلى تقدير، وعدم التَّقدير أولى على أنَّه لم تصح الرِّواية فيه بالنصب، بل الرِّواية بالرفع على الصِّفة، وقال الكرماني:(وفي بعض النُّسخ هو الرابع، فهذا يعين الرفع)؛ فافهم.
(وكان النَّبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم من عادته أنَّه (إذا نام؛ لم نوقظه) بنون المتكلم، والضمير المنصوب يرجع إلى النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:(لم يُوقَظ) على صيغة المجهول المفرد؛ وذلك لاحتمال أن يكون هذا منه لأمر يريده الله عز وجل من إثباتِ حُكمٍ، أو إظهارِ شَرعٍ؛ لأنَّ نومه عليه السلام؛ كنوم البشر في بعض الأوقات، ولكن لا يجوز عليه الأضغاث؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وأما نومه عليه السلام في الوادي، وقد قال:«إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي» ؛ فهو حكم قلبه عند نومه وعينه في غالب الأوقات، وقد يندرُ منه غير ذلك، كما يندر من غيره بخلاف عادته، والدَّليل على صحة ذلك: ما ورد في الحديث نفسه: «إن الله قبض أرواحنا» ، وفي الحديث الآخر:«لو شاء؛ لأيقظنا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم» وقول بلال: (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)، أو المراد: أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه؛ لما روي أنه كان محروسًا، وأنَّه كان ينام حتى ينفخ وحتى يسمع غطيطه، ثم يصلي ولا يتوضأ.
وأما ما وَرد في حديث ابنِ عباسٍ من وضوئه عند قيامه من النوم؛ فالنوم فيه نومه مع أهله، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم؛ لأنَّ أصلَ ذلكَ ملامسة الأهل، أو لحدث آخر، ألا ترى في آخر الحديث:(نام حتى سمعت خطيطه، ثم أقيمت الصَّلاة فصلَّى ولم يتوضأ)، وقيل: لا ينام قلبه من أجل الوحي، وأنَّه يوحى إليه في النوم، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشَّمس، وليس هذا من فعل القلب، وقد قال عليه السلام:«إن الله قبض أرواحنا ولو شاء؛ لردَّها إلينا» في خبر غير هذا، والتعبير بـ (كان) الدالة: على الدَّوام والاستمرار يدل على أنَّ عادته عليه السلام أنَّه إذا نام؛ لم يوقظه أحد، فإذا علم من حاله أنه يستغرق في النَّوم؛ وَكَّل أحدًا باستيقاظه، يدل على صحة هذا ما في مسلم: قال لبلال: «اكلأ لنا
(1)
الليل»، وفي رواية له:«احفظوا علينا صلاتنا» .
وفي «السنن» لأبي مسلم الكجي: (قال عليه السلام: «من يحرسنا؟» قال عبد الله: أنا
…
)؛ الحديث.
والدليل على أنه يستغرق ما عند أحمد: (فلما كان آخر الليل؛ عَرَسَ
…
)؛ الحديث.
وعند مسلم: (حتى إذا أدركه الكرى؛ عَرَسَ
…
)؛ الحديث.
وعند أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعود قال: (أقبلَ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم من الحُديبية ليلًا، فنزلنا دهاشًا من الأرض، فقال:«من يكلؤنا؟» قال بلال: أنا
…
)؛ الحديث، وحديث الباب:(ولا وقعةَ عند المسَافر أحلى منها)، فكأنهم سقطوا عن الحركة بالكلية؛ لأنَّهم لم يناموا إلى آخر الليل مع شدة النصب والجري ليلًا فرآهم النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة، كما رأى نفسه الشريفة، كذلك علم بالقرينة أنه وأصحابه يستغرقونَ في النَّوم، فوكَّل من يوقظهم؛ لأنَّ طلوعَ الفجرِ، وكذا الشَّمس مما يُدركُ بالجوارحِ الظاهرةِ بخلافِ الباطنة؛ فلا يَصحُ هذا ممن نامتْ عينه؛ فليحفظ.
(حتى يكون) أي: إلى أن يكون (هو مستيقظ)؛ أي: بنفسه من غير أَنْ يُوقِظَه أحد، وهذا يدلُ أنَّ نومه عليه السلام غير مستغرق إلا في هذه القصة؛ لعلمه بحاله، كما سبق؛ (لأنَّا) أي: معشرَ الصَّحابة (لا ندري) أي: لا نعلم (ما يحدُث له في نومه)؛ بضمِّ الدال المهملة، من الحدوث؛ أي: ما يحدث له من الوحي، وكانوا يخافون انقطاعه عنه بالإيقاظ، قاله إمام الشَّارحين، (فلما استيقظ)؛ أي: تيقظ بمعنى: انتبه (عُمَر) هو ابنُ الخطاب؛ أي: من نومه، وجواب (لمَّا) محذوف؛ تقديره: فلمَّا استيقظ؛ كَبَّر، ويدل عليه قوله الآتي:(فكبَّر)(ورأى) أي: أبصر، أو اعتقد (ما) أي: الَّذي (أصابَ الناسَ) أي: أصابهم من فوات صلاة الصُّبح، وكونهم على غيرِ ماءٍ، (وكان) أي: عُمَر بن الخطابِ (رجلًا جَليدًا)؛ بفتح الجيم، من جلُد الرجل؛ بالضم، فهو جَلَدٌ وجَليدٌ؛ أي: بيِّن الجلادة بمعنى: القُوة والصَّلابة، وزاد مسلم هنا:(أجوف)؛ أي: رفيعُ الصَّوت يخرج صوته من جوفه، (فكبر) أي: عُمَر؛ أي: قال: الله أكبر، (ورفع صوته بالتَّكبير) وإنَّما خصَّ لفظ (التكبير)؛ لأنَّه الأصل في الدعاء إلى الصَّلاة، ولأنَّ استعمالَ التَّكبيرِ سلوكُ طريقِ الأدبِ، وفيه الجمعُ بين المصلحتين، (فما زال يكبر ويرفع صوته)؛ أي: بالتكبير؛ يعني: أنه يكرره مرارًا عديدة مع رفع صوته (حتى استيقظ) أي: تيقظ؛ يعني: انتبه (لصوته) أي: لأجل صوته، وفي رواية:(بصوته)؛ أي: بسببِ صوت عُمَر بن الخطاب (النَّبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ بالرفع فاعل (استيقظ)، وهو لازم؛ يعني: وإنَّ الناسَ قد استيقظوا قبله، فعند أحمد:(فجعلَ الرَّجُلَ يقومُ دَهِشًا إلى طَهورهِ)، وعند مسلم:(فقمنا فزعين)، وعند أبي داود والطَّبراني بسندٍ لا بأس به، عن عمرو بن أميةَ الضَّمريِّ، وفيه: قال ذو مخبر: فما أيقظني إلا حرُّ الشَّمسِ في وجهي، فجئت أدنى القوم
(1)
في الأصل: (اكلأنا)، ولعل المثبت هو الصواب.
فأيقظتهُ، وأيقظَ النَّاس بعضهم بعضًا حتى استيقظَ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا يدلَّ على أَنَّ القِصة متعددة، فكان نومهم عن صلاة الصُّبح مرة وأكثر منها، وجزم الأصيلي: أَنَّ القِصة واحدة، وردَّه القاضي عياض: بأنَّ قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران؛ لأنَّ في قصة أبي قتادة لم يكن أبو بكر وعمر مع النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لما نام، وفي قصة عمران: أنَّ أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عُمر رضي الله عنه، والَّذي يدلُّ على تعدد القصة: اختلاف مواطنها، كما ذكرناه، وقد تكلف أبو عَمْرو
(1)
في الجمع بينها، بقوله:(زمان رجوعهم من خيبر كان قريبًا من زمان رجوعهم من الحديبية، وأَنَّ طريقَ مكة يصدق عليهما).
قال القاضي عياض: وفيه تعسُّف؛ لأنَّ رواية عبد الرزاق تعين أنَّها في غزوة تبوك، فهو يرد عليه، وزعم أبو عمر
(2)
أيضًا أنَّ نومه عليه السلام كان مرَّة واحدة.
وقال ابن العربيِّ: (كان ثلاثَ مراتٍ؛ أحدها: رواية أبيِّ قَتادة، ولم يحضرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والثانية: حديث عمران، وقد حضراها، والثالثة: حضرها أبو بكر وبلال رضي الله عنهما.
وقال القاضي عياض: (حديثُ أبي قتادة غير حديثِ عمران، والدَّليل عليه: أنَّ ذلك وقع مرتين؛ لأنَّه قد رُوي: أن ذلك كان زمنَ الحديبية، وفي رواية: «بطريق مكة»، والحديبية كانت في السَّنةِ السَّادسة، وإسلامُ عِمران وأبي هريرة -الرَّاوي حديث غزوة خيبر- كان بها في السَّنة السَّابعة بعد الحديبية، وهما كانا حاضرين الوقعة).
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّ إسلام عِمران كان بمكة)، ذكره أبو منصور الماوردي في كتاب «الصَّحابة» ، وقال ابن سعد، وأبو أحمد العسكري، والطبراني، وآخرون
(3)
: (كان إسلامه قديمًا) انتهى والله أعلم.
(فلما استيقظَ)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجواب (لَمَّا) قوله:(شَكَوا)؛ بفتح المعجمة أوله، وتخفيف الكاف (إليه الَّذي أصابهم) من نومهم عن صلاة الفجر حتى خرج وقتها وهم على غير ماء، وعند عبد الرزاق:(فقال: «ألم أقل لك يا بلال؟»)، وعند مسلم:(فقال: «أي بلال»، فقال بلال: أخذَ بنفسي الَّذي أخذَ بنفسك)؛ يعني: أني لا اختيار لي بالانتباه، فإن أرواحنا بيد الله عز وجل، (قال) ولابن عساكر:(فقال)؛ أي: لهم: (لا ضَير أو لا يضير)؛ أي: لا ضرر، من ضاره يضوره، ومضرة ضيرًا وضررًا؛ أي: ضيره، والشَّكُّ من عوف الأعرابي، وقد صرَّح بذلك البيهقي في روايته، ولأبي نعيم في «مُستَخْرَجه» :(لا يسير ولا يضير)، وإنما قال عليه السلام ذلك لهم لتأنيس قلوبهم؛ لما عرَضَ لهم من الأسفِ على فوات الصَّلاة عن وقتها؛ لأنَّهم لم يَتَعَمَّدوا ذلك، قاله إمام الشَّارحين، (ارتحِلوا)؛ بصيغة الأمر للجماعة المخاطبين من الصَّحابة، (فارتحَلوا)؛ بصيغة الجمع من الماضي؛ أي: ارتحلوا عقيب أمر النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية:(فارتحل)؛ بصيغة الماضي؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الصَّحابة، والسبب في أمره عليه السلام بالارتحال من ذلك المكان ما في رواية مسلم عن سَلَمَة بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: فإنَّ هذا منزلٌ حضر فيه الشَّيطان، وقيل: كان ذلك لأجل الغفلة، وقيل: لكون ذلك وقتَ الكراهةِ، وفيه نَظرٌ؛ لأنَّ في حديث الباب:(لم يستيقظوا حتى وجدوا حرَّ الشَّمس)، وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة، وقيل: الأمر بذلك منسوخ بقوله تعالى: {وَأَقِمِ
(4)
الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وبقوله عليه السلام:«من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الآية مكيَّة، والقصَّة بعد الهجرة، كذا قرره إمام الشَّارحين، ثم قال: (وقد ورد عن النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: «أنَّه نهى عن التشاؤم» ، وهنا ارتحل عن الوادي الذي تشاءم منه.
وأجيب: بأنَّه عليه السلام كان يعلم حال ذلك الوادي، ولم يكن غيره يعلم به، فيكون خاصًّا به عليه السلام، وأخذ بعض العلماء بظاهرهِ، فقال: إن من انتبه من نومِ عن صلاةٍ فائتةٍ في سفر؛ فإنَّه يتحولُ عن موضعه وإن كان بوادي؛ فليخرجْ منه، وقيل: إنَّما يَلزمُ بذلك الوادي بعينه، وقيل: هو خاص بالنَّبيِّ عليه السلام، كما ذكرنا) انتهى.
(فسار) أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه (غيرَ بعيدٍ) وهذا يدلُّ على أن الارتحال المذكور وقع على خلاف سَيرِهم المعتاد، قاله في «عُمدة القاري» .
قلت: لأنَّ الارتحالَ المذكور إنَّما كان للتجاوزِ عن ذلك المكان الذي ناموا فيه إلى مكانٍ آخرَ، وليس مرادهم السَّير المُعتاد، كما لا يخفى.
(ثم نزل)؛ أي: النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بمن معه، وفي رواية أحمد:(فسرنا حتى ارتفعتِ الشَّمس)، وهو يدلُّ على أنَّ سيرهم كان قبلَ ارتفاعها، وهو يُخالف حديثَ الباب، وما رواه عبد الرزاق عن عُقْبَة بن عامر قال:(فاستيقظَ حين كانت الشمس قدر رمح) إلا أن يُحمل على تعدد القصَّة؛ فليحفظ.
(فدعا بالوَضوء)؛ بفتح الواو؛ أي: بالماء المُطلَق لأجل الوضوء، (فتوضأ)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه، (ونُودي بالصَّلاة) والمراد بالنداء هو: التأذين؛ لأنَّه قد صرح المؤلف في آخر (المواقيت)، وكذا مُسلم من حديث قتادة بالتأذين.
فإن قلت: من أذَّن لهم؟
قلت: هو بلال، ففي رواية أحمد:(ثم أمر بلالًا، فأذَّن)؛ فافهم.
(فصلى بالناس)؛ أي: صلاةَ الفجرِ، وهذا مجمل، وقد بينه أحمد في روايته قال:(ثم صلَّى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا، فقالوا: يا رسول الله؛ ألا نُعيد في وقتها من الغد؟ قال: «أَيَنْهَاكُم رَبُّكُم عن الرِّبا ويَقْبَلُه مِنْكم!»)، (فلما انفتل) أي: فرغ (من صلاته) أي: فريضة الفجر؛ (إذا هو برجل) لم يُعْلَم اسمه، قاله إمام الشَّارحين، وزعم صاحبُ «التوضيح» أَنَّه خلاد بن رافعٍ بن مالك الأنصاريُّ أخو رفَاعَة، قال إمام الشَّارحين:(وفيه نظر؛ لأنَّ ابن الكلبيِّ قال: هو شَهِدَ بدرًا، وقُتِلَ يومئذٍ، ووقعة بدر مقدمة على هذه القصة، فاستحال أن يكون هو إياه، وقيل: له رواية، فإذا صح هذا؛ يكون قد عاش بعد النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال انقطاعها، أو نقلها عنه صحابي آخر) انتهى كلامه، (معتزل) أي: مُنفرد عن الناس (لم يصل مع القوم)؛ لأنَّه لمَّا فَرَغَ من صلاته، والناس قعود وراءه؛ استقبلهم فرأى هذا الرجل وهو معتزل فعلم بالقرينة الحالية أنه لم يصل مع القوم، فناداه (قال: ما منعك يا فلان) كناية عن اسم مبهم (أَنْ تُصلي مع القوم؟)؛ أي: صلاة الصُّبح، (قال)؛ أي: الرَّجل: يا رسول الله؛ (أصابتني جنابة) يحتمل بسبب الاحتلام، ويُحتمل بسبب وطء زوجته (ولا ماءٌ)؛ بالرفع، والتنوين في (ماء)، وكلمة (لا) بمعنى: ليس، فيرتفع الـ (ماء) حينئذٍ، ويكون المعنى: ليس ماء عندي، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر: أن (ماء)؛ بفتح الهمزة؛ أي: معي.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا تفسير من لم يمسَّ شيئًا من عِلمِ العربِّية؛ لأنَّ كلمة (لا) على قوله؛ لنفي جنس الماء، فأيُّ شيء يقدر خبرها بقوله: معي؟ وعدم الماء عنده لا يستلزم عدمه عند غيره، فحينئذٍ لا يستقيم نفي جنس الماء، ويجوز أن تكون (لا) بمعنى: ليس) انتهى؛ يعني: كما ذكرنا.
وقال ابن دقيق العيد: (حذف الخبر في قوله: «ولا ماء» ؛ أي: موجودٌ عندي، وفي حذف الخبر بسط لعذره؛ لما فيه من عموم النفي، كأَنَّه نفى وجود الماء بالكلية بحيث لو وجد بسبب أو سعي أو غيره ذلك؛ لحصله، فإذا نفى وجوده
(1)
في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (آخرين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (أقم)، وليس بصحيح.
مطلقًا؛ كان أبلغ في النفي، وأعذر له) انتهى.
قلت: وقد نحا نحو كلام ابن حجر في نفي جنس الماء بالكلية، وهو غير صحيح، فإنَّ الماءَ في السَّرية موجودٌ عند جميع أهلها حيث إنهم توضؤوا جميعًا، ولم يَنْف
(1)
الماءَ أحدٌ غير هذا الرَّجلِ، فليس في حذف الخبرِ بسط لعذره؛ لأنَّ الواجب عليه أَنَّه إذا لم يكن عنده ماء؛ يطلبه من رفيقه إمَّا مجانًا أو بثمنٍ مثله إن لم يعطهِ مجانًا، فلا يلزم عمومَ النَّفي؛ لأنَّ القافلة لا تخلو عن الماءِ، ونفي وجود الماء بالكلية لا يليقُ فينا فضلًا عن الصحابيِّ؛ لأنَّ فيه تعريضًا
(2)
بالكذب، وهو محالٌ عليه، ولكنَّه مقصرٌ في عدم السَّعي والطلب من رفقائه، ولكنَّه اجتهد في نفسه وأداه اجتهاده إلى ألَّا يسأل أحدًا، وينفي الماء من عنده فقط، فليس في نفي وجوده مطلقًا أبلغيَّةٌ في النَّفي والعذر؛ لاحتمال أنَّ عنده ماء للشرب لنفسه، أو لدوابه، أو غير ذلك، فخشي إِن اغتسلَ يَفْنى الماء، فربَّما يهلك هو ودوابه من العطش؛ فلا يجب عليه حينئذٍ استعماله؛ لأنَّ الحاجة إلى الشُّرب الذي فيه إحياء النفوس مُقدَّم على ذلك، فكلامُ هذا القائل غيرُ صحيح أيضًا، كما لا يَخفى؛ فافهم.
والحقُّ هو ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(قال) أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم للرَّجلِ المذكور: (عليك بالصَّعيد) وكلمة (عليك) من أسماء الأفعال؛ ومعناه: الزم، والألف واللام في (الصَّعيد) لـ (العهد) المذكور في الآية الكريمة:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وفي رواية مسلم بن رزين عند مسلم:(فأمره أَنْ يتيمم بالصَّعيد)، كذا في «عُمدة القاري» ، والمراد بالصَّعيد: وجه الأرض؛ كحجر، ومدرٍ، وتُراب، وغيرها، كما قدمنا تحقيقه، (فإنَّه يكفيك)؛ أي: لإباحة أداءِ الصَّلوات فرضها، وواجبها، ونفلها ما لم تحدث؛ لأنَّ التَّيمم حكمه حكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والواجبات، والنوافل، وهذا مذهب الإمام الأعظم، والجمهور، وخالفهم الشافعية فزعموا أَنَّه يتيمم لكل صلاة فرضٍ والنوافل، وزعم القسطلاني تبعًا لما زعمه ابن حجر في معنى (فإنه يكفيك)؛ أي: لإباحةِ صلاةِ الفرض الواحد مع النوافل.
قلت: وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ معناه: فإنه يكفيك؛ أي: في كلِّ الصلوات؛ فرضها ونفلها، وهذا معنى الأعميَّة، كما ذكرناه آنفًا؛ فليحفظ هذا ولا تغتر بما زعمه، فإنَّه لترويج مذهبه.
وعند ابن حزم من حديث إسماعيل بن مسلم: حدثنا أبو رجاء: (ثُمَّ إنَّ الجُنب وجدَ الماءَ بعد؛ فأمره عليه السلام أن يغتسل ولا يعيد الصَّلاة).
قلت: وهذا يدل لما قلناه آنفًا من وجود الماء في القافلة؛ لأنَّها لا تخلو عنه؛ فافهم.
(ثُمَّ سار النَّبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: من ذلك المكان إلى أن اشتدَّ الحرُّ، فشربوا الذي معهم من الماء كله حتى لم يبق معهم شيء، ثمَّ عَطشوا من كثرة السَّير وشدة الحرِّ، والحرُّ حرُّ الحجاز، (فاشتكى إليه) أي: إلى النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (النَّاس من العطش) الحاصل لهم، وفي رواية:(فاشتكوا إليه النَّاس)، وهي من قبيل لغة أكلوني البراغيث، (فنزل)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه، ولم يعلم اسم ذلك المكان (فدعا فلانًا) : هو عِمران بن حصين راوي الحديث، ويدلُّ على ذلك: قوله في رواية ابن رزين عند مسلم: (ثُمَّ عجلني النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في ركب بين يديه فطلب الماء)، وهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّه كان هو وعليٌّ الصدِّيق الأصغر فقط؛ لأنَّهما خوطبا بلفظ التثنية، وهو قوله:«اذهبا فابتغيا الماء» .
فإن قلت: في رواية ابن رزين: (في ركب)، وهو يدلُّ على الجماعة؟
قلت: يُحتمل أن يكون معهما غيرهما، ولكنهما خُصَّا بالخِطاب؛ لأنَّهما تعينا مقصودين بالإرسال، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(كان يُسميه) أي: ذلك الرَّجل المدعو بـ (فُلان)(أبو رجاء) : هو العطاردي (نسيه) ولابن عساكر: (ونسيه)؛ بالواو (عوف) : هو الأعرابيُّ الرَّاوي، (ودعا)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أيضًا (عليًّا) : هو الصديق الأصغر بن أبي طالب (فقال)؛ أي: النَّبيَّالأعظم صلى الله عليه وسلم لهما حين حضرا بين يديه: (اذهبا فابتغيا)؛ بالفاء، ثم الموحدة، بعدها مثناة فوقية، من الابتغاء: وهو الطلب، يقال: بغيت الشيء، وابتغيته، وتبغيته؛ إذا طلبته، وابتغيتك الشيء؛ إذا جعلتك طالبًا له، وفي رواية الأصيلي:(فابغيا)؛ بإسقاط المثناة الفوقية، من الثلاثي، وهمزته همزة وصل، وفي رواية أحمد:(فابغيانا)؛ بزيادة النون، والألف في آخره (الماء)؛ أي: لأجل الشُّرب للناس والدَّواب، وكذلك الوُضوءِ، والغسل، ففيه: أنَّ المسافر إذا لم يَجدِ الماء؛ يجبُ عليه الطلب لأمره عليه السلام بذلك.
قال في «منهل الطُّلاب» : (وليس على المتيمم وجوبًا أن يطلب الماء إذا لم يغلب على ظنِّه أن بقربه ماء؛ لأنَّ الغالب عدم الماء في الفلوات)، ولا دليل على الوجود، فلم يكن واجدًا، لكن يستحب له الطلب مطلقًا سواء ظنَّ أنَّ بقربه ماء أو شَكَّ فيه إن رجا، كذا في «السِّراج» ، فإن لم يَرجُ؛ لا يطلبه لِعدم الفائدة، كما في «البحر» ، وأما في العمرانات؛ فيجب طلب الماء مطلقًا باتفاق أئمتنا الأعلام، وكذا إذا كان يقرب منها، وحدُّ القُرب: ما دون الميل، أمَّا الميلُ وما فوقه؛ فبعيد لا يوجب الطلب، قاله صاحب «البحر» ، فإن غلب على ظن المسافر أن هناك؛ يعني: بقربه دون ميل ماء؛ لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه؛ لأنَّه واجدٌ للماء نظرًا إلى الدَّليل؛ وهو غلبة الظنِّ، فإنها قائمة مقام العلم في العبادات، كذا في «العناية» ، فكان الطلب عليه واجبًا، وكذا إن وجد أحدًا يسأله عن الماء؛ وجب عليه السُّؤال حتى لو صلى ولم يسأله وأخبره بالماء بعد ذلك؛ أعادَ الصَّلاة، وإلا؛ فلا، كذا في «التبيِّين» ، و «البدائع» .
واختلف أئمتنا الأعلام في مقدار الطلب للماء، فاختار الإمام حافظ الدين في «الكنز» : أنَّه قدر غلوة؛ وهي مِقدار رمية سهم، كما في «التبيين» ، واختار غيره: أنَّه قدر ثلاث مئة ذراع، كما في «الذَّخيرة» ، واختار بعضهم: أنَّه قدرُ أربع مئة ذراع، كما في «المغرب» ، واختار في «المستصفى» : أنَّه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه وسمعوا صوته، وهو الموافق لما قاله الإمام أبو يوسف رضي الله عنه قال: سألت الإمام الأعظم رضي الله عنه عن المسافر لا يجد الماء: أيطلب عن يمين الطريق أو عن يساره؟ فقال: إن طمع فيه؛ فليفعل، ولا يبعد فيضرَّ بأصحابه إن انتظروه، وبنفسه إنِ انقطع عنهم، انتهى.
وقد صححه صاحب «البدائع» ، وقال صاحب
(1)
في الأصل: (ينفي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (تعريض)، لعل المثبت هو الصواب.
«البحر» : (فكان هو المُعتمد في المذهب)، وعلى اعتبار الغلوة؛ فالطلبُ أَنْ يَنظُر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه غلوة، كذا في «الحقائق» ، قال في «النهر» :(ومعنى ما ذكره في «الحقائق» : أنَّه يقسم المشي بمقدار الغلوة على هذه الجهات، فيمشي من كلِّ جانب مئة ذراع، فإنَّ الطلب لا يتم بمجرد النظر، ويدلُّ على ذلك ما سبق عن الإمام الأعظم) انتهى.
وقال في «البحر» عن «المنية» : (ولو بعث من يطلبه له؛ كفاه عن الطلب بنفسه، وكذا لو أخبره من غير أن يُرسله) انتهى.
قال الإمام برهان الدين الحلبي: (ويشترط في المخبر أن يكون مكلَّفًا عدلًا، وإلَّا؛ فلا بدَّ معه من غلبة الظن حتى لا يلزم الطلب؛ لأنَّه من الديانات، وغلبة الظن هنا إما بأن وجد أمارة ظاهرة؛ كرؤية خضرة، أو طير، أو أخبره مخبر، كذا أطلقه في «التوشيح»، وقيَّده صاحب «البدائع» بالعدل) انتهى، وهو الموافق لِمَا قاله برهان الدين.
وقال في «المحيط» : ولو قرب من الماء وهو لا يعلم به، ولم يكن بحضرته من يسأله عنه؛ أجزأه التَّيمم؛ لأنَّ الجهل بقرب الماء كبعده عنه، ولو كان بحضرته من يسأله، فلم يسأله حتى تيمم وصلى، ثم سأله، فأخبره بماء قريب؛ لم تَجُزْ صلاته؛ لأنَّه قادر على استعمال الماء بواسطة السُّؤال، فإنْ لم يسأله؛ فقد جاء التقصير من قبله؛ فلم يعذر؛ كمن نزل بالعمران ولم يطلب الماء؛ لم يَجُزْ تيممه، وإن سأله في الابتداء، فلم يخبره حتى تيمم وصلى، ثم أخبره بماء قريب؛ جازت صلاته؛ لأنَّه ما عليه، كذا في «شرح الملتقى» للعلامة الباقاني، وذكر مثله صاحب «البحر» ، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب» ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فانطلقا)؛ أي: علي وعِمران؛ لأمره عليه السلام لهما بذلك (فتلقيا)؛ بالفاء، والمثناة الفوقية، بعدها لام، وفي رواية:(فلقيا)؛ بإسقاط المثناة الفوقية، من اللقى: وهو الاجتماع، يقال: لقي زيدٌ عمرًا؛ يعني: اجتمع به، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا} [الكهف: 74](امرأة) لم يُعلم اسمها، وفي رواية مسلم:(فإذا نحن بامرأة سادلية)؛ أي: متدلية رجلها (بين مَزَادتين)؛ تثنية مزادة؛ بفتح الميم، وتخفيف الزاي: الراوية أو القربة، وتجمع على (مزايد)، ومزاد سميت مزادة؛ لأنَّه يزاد فيها جلد آخر من غيرها، ولهذا قيل: إنها أكبر من القِربة، (أو) بين (سَطِيحتين)؛ تثنية سطيحة؛ بفتح السين المهملة، وكسر الطاء المهملة، وهي بمعنى: المزادة، قال ابن سيده:(السطيحة: المزادة التي بين الأديمين قوبل أحدهما بالآخر)، وفي «الجامع» :(هي أداوة تتخذ من جلد وهي أكبر من القِربة) انتهى.
وكلمة (أو) للشك، قال إمام الشَّارحين:(الشك من الراوي؛ يعني: أي راوي كان)، وزعم ابن حجر أنَّ الشَّك من عوف.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلتُ: تعيينه به من أين؟ يعني: ليس لتعيينه به دليل لا من رِواية ولا غيرها، وما هو إلا خدش وتخمين، وخِلاف الظاهر).
قلت: والَّذي يظهر أنَّ الشكَّ من أبي رجاء، ويُحتمل أنَّه من عِمران، وفي رواية مسلم:(فإذا نحن بإمراة سادليَّة رجلها بين مزادتين) من غير شكٍّ؛ فافهم.
وقوله: (من ماء) بيان لقوله: (مزادتين)، وساقطٌ في رواية ابن عساكر (على بَعير لها)؛ بفتح الموحدة، وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، وإنَّما يُقال له: بعيرٌ إذا أجذع، والجمع:(أبعرة)، وأباعر، وبعران، وإفادة (اللام) : الملكية؛ أن البعير ملك لها؛ فتأمل.
(فقالا)؛ أي: علي وعِمران (لها) أي: لتلك المرأة: (أين الماء) مبتدأ وخبر؟ (قالت: عهدي بالماء أمسِ)؛ بالبناء على الكسر عند أهل الحجاز، ويعرب غير منصرف؛ للعلمية والعدل عند بني تميم وعليه؛ فهو بضمِّ السين، وموقعه من الإعراب الرفع على أَنَّه خبر للمبتدأ، وهو (عهدي)، كذا قاله إمام الشَّارحين، وعلله المحقق أبو البقاء؛ بأن المصدر يخبر عنه بظرف الزمان، وجوز في «المصابيح» أن يكون بالماء خبر (عهدي)، و (أمس) ظرف لعامل هذا الخبر؛ يعني: عهدي متلبس بالماء في أمسِ، ولم يجعل الظرف متعلقًا بـ (عهدي)؛ لأني جعلت (بالماء) خبرًا، فلو علق الظرف بالعهد مع كونه مصدرًا؛ لزم الإخبار عن المصدر قبل استكمال معمولاته، وهذا باطل) انتهى.
قلت: وبهذا تعلم فساد قول القسطلاني، ويحتمل أن يكون (عهدي) مبتدًا، و (بالماء) متعلق به، و (أمس) ظرف له؛ لما علمت، قال: وإذا كان ظرفًا؛ فتفتح سينه؛ فتأمل.
(هذه الساعةَ) منصوب على الظرفية، قال ابن مالك: أصله: في مثل هذه الساعة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يكون (هذه الساعة) بدل من (أمس) بدل بعض من كل؛ أي: مثل هذه الساعة، والخبر محذوف؛ أي: حاصل ونحوه؛ فتأمل.
(ونفرنا)؛ أي: رجالنا، وفي «المحكم» : النفر، والنفر، والنفور، والنفير: ما دون العشرة من الرجال، والجمع:(أنفار)، وفي «الواعي» : النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والعرب تقول: هؤلاء نفرك؛ أي: رهطك ورجالك الذين أنت منهم، وهؤلاء عشرة نفر؛ أي: عشرة رجال، ولا يقولون: عشرون نفرًا، وثلاثون نفرًا، وتقول العرب: جاءنا في نفره ونفيره ونفرته، كلها بمعنًى، وسُمُّوا بذلك؛ لأنَّهم إذا حزنهم أمر؛ اجتمعوا ثم نفروا إلى عدوهم، ولا واحد له، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(خُلُوف)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، واللام المخففة، جمع: لخالف؛ أي: المسافر؛ نحو: شاهد وشهود حتى حي خلوف؛ أي: غيب، وقال ابن عرفة:(الحي خلوف؛ أي: خرج الرجال، وبقيت النِّساء)، وقال الخطابي: هم الذين خرجوا للاستقاء، وخلفوا النساء، والأثقال، وارتفاع (خلوف) على أنَّه خبر المبتدأ، وفي رواية المستملي، والحموي:(خُلوفًا)؛ بضمِّ الخاء المعجمة، واللام المخففة، والنصب، قال الكرماني: منصوب بـ (كان) المقدرة؛ أي: كان نفرنا خلوفًا، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر تبعًا للدماميني أنه منصوب على الحال السادِّ مسد الخبر.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: ما الخبر هنا حتى يسد الحال مسده؟ والأوجه: ما قاله الكرماني) انتهى.
قلت: ويجوز أَنْ يكون منصوبًا بفعل مقدر؛ أي: ونفرنا أحسب أو اعتقد خلوفًا، ونحوه؛ فتأمل.
(قالا)؛ أي: علي وعِمران (لها) أي: لتلك المرأة:
(انطلقي) أي: معنا (إذًا)؛ بالتنوين، وهو ظرف، ومعناه الوقت؛ يعني: انطلقي معنا في هذا الوقت من غير تأخير، (قالت: إلى أين)؛ أي: أنطلق، (قالا)؛ أي: عليٌّ وعِمران لها: (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت) أي: لهما: (الذي يقال له: الصَّابئ؟) يروى بالهمزة وبغيرها، فالأول: من صبأ؛ إذا خرج من دين إلى آخر، والثاني: من صبا يصبو؛ إذا مال، كذا [قال] إمام الشَّارحين، ففي رواية غير الهمزة: هو الياء التحتية؛ والمعنى: أي المائل، (قالا) أي: علي وعِمران لها: (هو الذي تعنين)؛ أي: تريدين وتقصدين، من عنا يعنو؛ إذا قصد وأراد، وقولهما:(هو الذي تعنين) فيه حسن الأدب، وحسن التخلص؛ لأنَّه لو قالا لها: لا؛ لفات المقصود، ولو قالا لها: نعم؛ لم يحسن ذلك؛ لأنَّ فيه تقرير ذلك، قاله إمام الشَّارحين؛ أي: لكونه عليه السلام صابئًا، فتخلصا بهذا اللفظ، وأشارا
(1)
إلى ذاته الشريفة لا إلى تسميتها؛ فليحفظ.
(فانطلقي)؛ أي: معنا إليه، (فجاءا)؛ بهمزة ممدودة؛ أي: علي وعِمران (بها) أي: بالمرأة المذكورة (إلى النَّبيِّ) الأعظم، ولأبي ذرٍّ، وأبي الوقت:(إلى رسول الله) صلى الله عليه وسلم وفي الكلام حذف؛ يعني: فانطلقت معهما إلى أَنْ وصلا بها إلى المكان الذي نزل به النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، (وحدثاه الحديث)؛ أي: الذي وقع بينهما وبينها، (قال) أي: عمران بن الحصين (فاستنزلوها) وفي الكلام حذف أيضًا؛ يعني: فلما فرغا من الحديث؛ أمر النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أصحابه الموجودين في خدمته باستنزالها، فاستنزلوها (عن بعيرها)؛ أي: طلبوا منها النزول عنه، فالسين والتاء لـ (الطلب)، وإنما ذكره بلفظ الجمع؛ لأنَّه كان مع علي وعمران من تبعهما ممن يعينهما ويخدمهما، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويُحتمل أَنَّ عليًّا وعمران لم يباشرا طلب نزولها، وإنَّما الَّذين استنزلوها هم الأصحاب الذين كانوا بخدمة النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(ودعا النَّبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم فيه حذف؛ تقديره: فأتوا بها إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأحضروها بين يديه، فدعا عليه السلام حينئذٍ (بإناء)؛ أي: وعاء الماء، ولم يذكر أنَّه سألها عن اسمها، وقبيلتها، وحالها، ولعلَّه اقتصر على ما حدَّثاه به عليٌّ وعِمران (ففرغ) عليه السلام، من التفريغ، وفي رواية الكشميهني:(فأفرغ) من الإفراغ، (فيه)؛ أي: في ذلك الإناء (من أفواه المَزَادتين)؛ تثنية مزادة؛ بفتح الميم، والزاي، الراوية: وهي أكبر من القربة، و (أفواه) جمع:(فم)؛ لأنَّ أصله: فوه، فحذفوا الواو [لأنها] لا تحتمل التنوين عند الإفراد، وعوَّضوا من الهاء ميمًا.
فإن قلت: لكل مزادة فم واحد، فكيف جمع؟
قلت: هذا من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، قاله إمام الشارحين.
قلت: ومنه قوله تعالى: {إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6] حيث جاء بلفظ الجمع، ولكلِّ يدٍ مرفقٌ واحد؛ لأنَّ ما كان واحدًا من واحد؛ فتثنيته بلفظ الجمع؛ ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، فلم يقل: قلباكما.
(أو) من أفواه (السَطِيحتين)؛ تثنية سَطِيحة؛ بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين، بمعنى: المزادة؛ يعني: أفرغ من أفواههما، والشك من الراوي، ويحتمل أنَّه من أبي رجاء، أو من عمران، كما سبق، (وأَوكأَََ)؛ بهمزتين مفتوحتين، أولاهما في الأول، وثانيهما في الآخر؛ أي: شدَّ، وهو فعلٌ ماض، من الإيكاء: وهو شدُّ الوكاء، وهو ما يشدُّ به رأس القربة من حبل ونحوه؛ ومنه قوله عليه السلام: «العينان وكاء السَّهِ
…
»؛ الحديث؛ يعني: شدَّ (أفواههما)؛ أي: المزداتين بحبل أو نحوه، وقد بين ذلك في رواية الطبراني، وكذا البيهقي قال:(فأفرغ من أفواه المزادتين، فمضمض في الماء، وأعاده في أفواه المزادتين، وأوكأ)، وبهذه الزيادة تظهر الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وبهذا حصلت البركة لاختلاط ريقه المبارك للماء، قاله إمام الشَّارحين، (وأطلق)؛ أي: فتح (العَزَالَي)؛ بفتح العين المهملة، والزاي، وفتح اللام، قال السفاقسي:(رويناه بالفتح)، ويجوز فتح الياء، وكذلك يجوز كسر اللام، جمع: لـ (عَزْلاء)؛ بفتح المهملة، وإسكان الزاي، وبالمد؛ وهو فم المزادة الأسفل، وهي عروقها التي يخرج منها الماء بسعة، ولكلِّ مزادة عزلاء وإن من أسفلها، قال الجوهري:(العزالِي)؛ بكسر اللام، وإن شئت فتحتها؛ مثل: الصحاري، والصحارى، ويقال: العزلاء: مَصْبُّ الماء من الرَّاوية والقِربة)، وفي «الجامع» :(عزلاء القربة: مصبٌّ يجعل في أحد يديها يستفرغ منه ما فيها، وإنَّما سُميت عزالي السحاب؛ تشبيهًا بها).
وقال السفاقسي: (رويناه بالفتح: وهو أفواه المزادة السفلى).
وقال الداودي: (ليس في أكثر الرِّوايات أَنَّهم فتحوا أفواه المزادتين أو السطيحتين، ولا أنهم أطلقوا العزالي، وإنما شقوا المزادتين، وهو معنى: صبوا منهما، ثُمَّ أعاده فيهما إن كان هو المحفوظ)، كذا في «عُمدة القاري» .
قلت: وفيما قاله الداودي نظر، فإنَّ أكثر الروايات، بل جميعها: أنَّهم فرغوا الماء من المزادتين إلى الإناء، وأنَّهم أطلقوا العزالي على أن الشق يضر بالمزادة، ويفني الماء، فيفوت المقصود؛ فتأمل.
(ونُودي)؛ بضمِّ النون على البناء للمجهول (في الناس)؛ أي: الصحابة الموجودين وقتئذٍ، ولم يعلم اسم المنادي، والظاهر: أنه بلال؛ لأنَّه عالي الصوت: (اسقوا)؛ بهمزة وصل، من سقى فتكسر، أو همزة قطع من أسقى فتفتح؛ يعني: اسقوا غيركم كالدواب ونحوها (واستقوا)؛ أي: لأنفسهم؛ كلٌّ منهما، فعل أمر (فسقي من سقى) وفي رواية ابن عساكر:(فسقى من شاء)، (واستقى من شاء) قال إمام الشَّارحين:(والفرق بين «اسقوا» من السقي، و «استقوا» من الاستقاء: أَنَّ السَّقي لغيره، والاستقاء لنفسه، ويقال أيضًا: سقيته لنفسه، وأسقيته لماشيته) انتهى.
(وكان آخر ذلك) أي: آخر السَّقي والاستقاء (أن أعطى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (الذي أصابته الجنابة) وهو الرجل المعتزل المذكور (إناءً) مملوءًا (من ماء)؛ بالمد، ويجوز في لفظة (آخر) الرفع والنصب، أما الرفع؛ فظاهر؛ لأنَّه اسم (كان)، وقوله:(أن أعطى) خبره؛ لأنَّ (أن) مصدريَّة، وأمَّا النَّصب؛ فلأنَّه خبر (كان) مقدمًا على اسمه، وهو (أن أعطى)؛ لأنَّ (أن) مصدرية؛ تقديره: وكان إعطاؤه للرجل الذَّي أصابته الجنابة آخر ذلك، والأمران جائزان.
وقال العلامة أبو البقاء: (النصب أولى وأقوى؛ لأنَّ «أن» و «الفعل» أعرف من الفعل المفرد، وقد قُرِئ قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قَالُوا} [النمل: 56] : بالوجهين) انتهى.
وقال إمام الشارحين: (وعندي كلاهما سواء؛ لأنَّ كلًّا معرفة) انتهى.
وفي رواية بإسقاط لفظة: (ذلك)، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم للَّذي أصابته الجنابة: (اذهب فأفرغه)؛ بقطع الهمزة، من الإفراغ: وهو الصَّبُّ، والضمير فيه يرجع إلى (الماء) الذي في
(1)
في الأصل: (فأشار)، والمثبت هو الصواب.
الإناء؛ يعني: صُبه (عليك)؛ أي: على جسدك كله بعد أن تتمضمض وتستنشق؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن (وهي قائمة)؛ أي: المرأة المذكورة قائمة تشاهد ذلك، وهذه الجملة اسمية محلها نصب على الحال على الأصل (تنظر إلى ما) أي: الذي (يُفعل)؛ بضمِّ أوله مبني للمجهول؛ أي: يفعلونه (بمائها) من تفريغه لسقي الدواب، ولسقي الجيش، وللوضوء، والغسل، فاستغربته؛ لعدم عهدها به عندهم لكونها من الكفار وقتئذٍ.
فإن قلت: الاستيلاء على الكفار بمجرده يبيح رق نسائهم وصبيانهم، وإذا كان كذلك؛ فقد دخلت هذه المرأة في الرق باستيلائهم عليها، فكيف وقع إطلاقها وتزويدها؟
قلت: إنَّما أطلقت لمصلحة الاستيلاف الذي جر دخول قومها في الإسلام، ويحتمل أنَّها كان لها أمان قبل ذلك، وكانت من قوم لهم عهد.
فإن قلت: كيفَ جَوزوا التَّصرف حِينئذٍ من مالها؟
قلت: بالنظر إلى كفرها أو لضرورة الاحتياج إليه، والضرورات تُبيح المحظورات، أفاده إمام الشَّارحين.
(وايم الله)؛ بوصل الهمزة، قال الجوهري:(وايمُنُ الله: اسم وضع للقسم هكذا بضمِّ الميم والنون، وألفه ألف الوصل عند الوصل عند الأكثر، ولم يجئ في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف؛ والتقدير: أيمن الله قسمي، وربما حذفوا منه النون، فقالوا: وايم الله).
وقال أبو عُبيد: (كانوا يحلفون، ويقولون: يمين الله؛ لا أفعل، فجمع اليمين على أيمن، ثُمَّ كثر في كلامهم، فحذفوا النون، فألفه ألف قطع، وهو جمع، وإنَّما طرحت الهمزة في الوصل؛ لكثرة استعمالهم إياه).
قلت: فيها لغات؛ جمع منها النووي في «تهذيبه» سبع عشرة، وبلغ بها غيره عشرين، كذا قرَّره في «عُمدة القاري» .
(لقد أُقلع)؛ بضمِّ الهمزة، من الإقلاع: وهو الكفُّ، يقال: أقلع عن الأمر؛ إذا كفَّ عنه (عنها)؛ أي: كف عن المزادة، فلم يأخذوا منها شيئًا؛ لأنَّهم قد اكتفوا لشربهم، ولدوابهم، وللوضوء، وكذا الغسل، وإنَّما أفردها؛ لأنَّهم إذا كفوا عن أحدهما؛ يكون الكف عن الأخرى ضرورةً، فكأنه قال: وايم الله؛ لقد أقلع عنهما جميعًا، والقائل ذلك: هو عمران بن الحصين، (وإنَّه)؛ أي: الشَّأن (ليُخيَل)؛ بضمِّ التحتية الأولى، وفتح الثانية، من التخييل، وهو مرادف للظن الذي هو استواء الطرفين (إلينا) أي: الصَّحابة (أنها) أي: المزادة (أشدُّ) أي: أكثر (مِلْأَة)؛ بكسر الميم وفتحها، وسكون اللام، بعدها همزة مفتوحة، وفي رواية البيهقي:(إملاء)؛ بهمزة أوله (منها) أي: المزادة (حين اُبْتُدئ)؛ بضمِّ الهمزة، وسكون الموحدة، وضم المثناة الفوقية، من الابتداء (فيها)؛ بالسقي والاستقاء؛ والمعنى: أنَّهم يظنون أن ما بقي فيها من الماء أكثر مما كان أولًا، فهذا من دلائل النبوة؛ حيث توضؤوا، وشربوا، وسقوا، واغتسل الجنب مما سقط من العزالي وبقيت المزادتان مملوءتانِ ببركة النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعظيم برهانه، وكانوا أربعين، نص عليهم في رواية مسلم
(1)
بن رزين، وأنَّهم ملؤوا كل قربة كانت معهم.
وقال القاضي عياض: وظاهر هذه الرِّواية أنَّ جملة من حضر هذه القصة كانوا أربعين، ولا نعلم مخرجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه يخرج في هذا العدد، فلعله الرَّكب الَّذي عجلهم بين يديه؛ لطلب الماء، وأَنَّهم وجدوا
(2)
المرأة، وأنَّهم أسقوا للنَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم قبلَ النَّاس، وشربوا، ثُمَّ شرب الناس بعدهم، كذا في «عُمدة القاري» .
قلتُ: وقد يُقال: إنَّ الجيش حين سار النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم استأذن بالمشي بسرعة
(3)
، والسَّبق إلى المدينة، وبقي مع النَّبيِّ الأعظم عليه السلام هذا الركب وهم أربعون، وفيهم علي وعمران؛ فاختارهم عليه السلام لطَلَب الماء، فإنَّ الذي طلب الماء لم يكن إلا عليًّا وعِمْران، فلَّما فَرَغوا من السَّقي والاستقاء وساروا؛ ربما وجدوا بقية الجيش في الطريق، ولهذا ملؤوا قربهم جميعًا، وما ذاك إلا لأجل الجيش الذي تقدم، والله أعلم؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفيه أنَّ جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده، وأنَّه لم يختلط فيه شيءٌ من ماءِ تلك المرأة في الحقيقة وإنْ كان في الظَّاهر مختلطًا، وهذا أبدع وأغرب في المعجزة، وفيه دلالة: أنَّ عُمر رضي الله عنه أجلدُ المسلمين وأصلبهم في أمر الله عز وجل انتهى.
(فقال النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم أي: لأصحابه الذين معه حين رأى المرأة تريد الرُّجوع إلى أهلها: (اجمعوا لها)؛ أي: من الزَّاد مكافأةً لها بما أخذ من مائها وتطييبًا لخاطرها، حيث حُبِسَتْ في ذلك الوقت عن المسير إلى قومها، وحيث طاوعتهما في المجيء إلى النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم من غير مُقاتلة، فإنَّه إذا امتنع صاحب الماء عن دفعه وهو غير محتاج إليه للعطش، وهنالك مضطر إليه للعطش؛ كان له أخذه منه قهرًا، وله أنْ يُقاتله، كما في «السِّراج الوهَّاج» ، وينبغي تقييده بما إذا امتنع من دفعه مجانًا أو بالثمن، وللمُضطر ثمنه، وذكروا في باب (الشُّرب) : أنَّ له أنْ يُقاتله بالسِّلاح.
قال في «الدرُّ المُختار» : (هذا في غير المحرز بالأواني، أما المحرز؛ فيقاتله بغير السِّلاح إذا كان فيه فضل عن حاجته لملكه له بالإحراز، فصار نظير الطعام) انتهى، ومثله في «المنح» و «التبيين» .
وأما في البئر ونحوه؛ الأَولى أنْ يقُاتله بغير سلاح؛ لأنَّه قد ارتكب معصية، فكان كالتعزير، كما في «الكافي» ، فإنْ قاتله وكان المقتول ربَّ الماء؛ فدمه هدرٌ لا قِصَاص فيه، ولا دية، ولا كفَّارة، كذا في «السِّراج» ، ويبقى
(4)
أن يَضمن المُضطر قيمة الماء، كما في «حواشي الشَّرنبلالي» ، وإنْ كان المقتول المضطر؛ فهو مضمون إما بالقصاص إن كان القتل عمدًا؛ كأنْ قتله بمحدد، وإما بالدية إن كان القتل شِبه عمد، أو خطأ، أو جرى مجرى الخطأ، والدية على العاقلة، وعلى القاتل الكفارة، أفاده صاحب «البحر» .
قال في «السِّراج» : (وإن كان صاحب الماء محتاجًا إليه للعطش؛ فهو أولى به من غيره، فإن احتاج إليه الأجنبي للوضوء؛ لم يلزمه بذله، ولا يجوز للأجنبي أخذه منه قهرًا) انتهى، وتمامه في شرحنا «منهل الطُّلاب» .
(فجمعوا لها من بين) وفي رواية: (ما بين)(عجوة) : وهي تمر من أجود التَّمر بالمدينة، وقال ابن التين:(العجوة: نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني، وتسمَّى اللينة)، كذا في «عمدة القاري» ،
(1)
في الأصل: (سلم)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (وجودا)، وهو تحريف.
(3)
في الأصل: (سرعة)، ولعله تحريف.
(4)
في الأصل: (ويبغى)، وهو تصحيف.
(ودَقيقة وسَويقة)؛ بفتح أولهما، وفي رواية كريمة؛ بضمِّ الدال؛ مصغرًا، وزعم الكرماني:(دقيقه وسويقه) رويا مكبرين ومصغرين، كذا في «عُمدة القاري» (حتى جمعوا لها طعامًا) زاد أحمد في رِوايته:(كثيرًا)، والطَّعام: كل ما يُؤْكل، وربَّما خصَّ الطَّعام بالبرِّ، قاله الجوهري، وفي حديث أبي سَعِيْد: كنَّا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير، كذا في «عمدة القاري» ، وزعم ابن حجر أنَّ فيه إطلاق لفظ الطَّعام على غير الحِنطة والذُّرة خلافًا لمن أبى ذلك.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلتُ: هذا القول منه يخالف قول أهل اللُّغة جميعًا، والمراد ههنا من الطعام: غير ما ذكر من العجوة، وهو أعم من أن يكون حِنطةً، أو شعيرًا، أو كعكًا، أو نحو ذلك) انتهى.
(فجعلوه)؛ أي: الذي جمعوه من عجوة، ودقيقة، وسويقة، ونحوها، وفي رواية أبي ذرِّ:(فجعلوها)؛ أي: العجوة، والدقيقة، والسويقة
وزعم الكرماني أنَّ الضمير في (جعلوه) يرجع إلى الطعام، وفي (جعلوها) يرجع إلى الأنواع المذكورة.
وردَّه إمام الشَّارحين؛ حيث قال: (قلت: لم يجعلوا الطعام وحده في الثَّوب حتى يرجع الضمير إليه، والصواب من القول: أنَّ الضمير فيه يرجع إلى كلِّ واحد باعتبار المذكور) انتهى.
قلت: وهو وجيه، كما لا يخفى.
(في ثوبٍ)؛ يعني: كان معها ملك لها، (وحمَلوها)؛ بتخفيف الميم؛ أي: المرأة المذكورة (على بعيرها)؛ أي: الذي جاءت عليه، (ووضعوا الثَّوب)؛ أي: الذي جعلوا فيه هذه الأطعمة (بين يديها)؛ أي: قُدامها على البعير، ولم يذكر تحميلهم المزادة، والظاهر: أنَّه مفهوم من قوله: (وحمَّلوها)؛ بتشديد الميم؛ لأنَّه يُحتاج إلى مشقةٍ وتعبٍ حيث يحملون المزادتين أولًا، ويشدونهما
(1)
على البعير، ويحملونها
(2)
بعده عليه، فاقتُصر عليه؛ لأنَّ الحاجة إلى المزادتين أبلغ؛ لأنَّ الماء حياة الأبدان والطعام غذاؤها، فالأول أبلغ؛ فافهم.
(قال لها)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الأصيلي:(قالوا لها)؛ أي: الصَّحابة الذين معه بأمره صلى الله عليه وسلم: (تَعْلَمِين)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون العين المهملة، وتخفيف اللام، مفرد مؤنث من باب (علم يعلم)، وزعم ابن حجر أنه بفتح التاء، والعين، وتشديد اللام؛ أي: اعلمي.
وردَّه إمام الشَّارحين حيث قال: قلت: لا حاجة إلى هذا التَّعسف، وإنَّما هو مفرد مخاطب مؤنث من باب (علم يعلم) انتهى.
(ما رَزِئْنا)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي، بعدها همزة ساكنة؛ أي: ما نقصنا، وزعم الكرماني أنَّه بفتح الزاي، قال إمام الشَّارحين:(الكسر هو الأشهر، يقال: ما رزأته وما رزئته -بالكسر- ماله؛ أي: نقصته، وارتزأ الشيء: انتقص) انتهى، (من مائك شيئًا)؛ أي: فجميع ما أخذنا من الماء مما زاده الله تعالى، وأوجده، ويؤيده قوله:(ولكنَّ الله هو الذي أسقانا)؛ بالهمزة أوله، وفي رواية ابن عساكر:(سقانا)؛ بإسقاطها، (فأتت أهلها)؛ يعني: قومها، وفيه حذفٌ؛ تقديره: فلما قالوا لها ذلك، وسمعته؛ ذهبت من منزل النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فسارت في الطَّريق وحدها إلى أن وصلت إلى قومها، (وقد احتبست عنهم) مدة يَسيرة زائدة عن عادتها؛ لأنَّها جاءتهم في اليوم الثاني لخروجها من عندهم يدلُّ عليه قولها فيما سبق:(عهدي بالماء أمس)؛ فتأمل.
(فقالوا) وفي رواية: (قالوا)؛ يعني: أهلها، والمراد: قومها؛ لأنَّه أعم، وقوله:(لها) ثابتٌ في رواية الأصيلي، ساقط في غيرها (ما حَبَسكِ) يعني: أي شيء حبسك (يا فلانة؟) كناية عن اسم مؤنث مبهم، (قالت: العجبُ!) : مرفوع بفعل مقدر؛ تقديره: حبسني العجب، وهو الأمر الذي يُتَعَجَّب منه لغرابته، وكذلك العجيب، والعُجائب؛ بالضم والتخفيف، والعُجَّائب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة، ولا يجمع عجب ولا عجيب، ويقال: جمع عجيب: عجائب؛ مثل: تبيع وتبائع، و (أعاجيب) جمع:(أعجوبة)؛ كـ (الأحاديث) جمع: (أحدوثة)، وعجبت من كذا، وتعجبت منه، واستعجبت كلها بمعنًى، وأعجبني هذا الشيء لحُسنه، وعجبت غيري تعجييًا، والعُجْب؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الجيم: اسم من أُعجب فلان بنفسه؛ فهو مُعجبٌ برأيه وبنفسه، كذا في «عُمدة القَاري» ، (لقيني) أي: في الطَّريق بعد ما ملأت المزادتين (رجلان) وكأنها لم تعلم باسمهما، (فذهبا بي إلى هذا) وقوله:(الرَّجل) ثابت في رواية أبي ذرٍّ، ساقطٌ في غيرها (الذي يُقال) بضمِّ المثناة التحتية أوَّله (له) عند المشركين، وأهل الكتاب:(الصَّابئ)؛ بالهمزة، وبغيرها روايتان، فالأول: من صبأ؛ إذا خرج من دين إلى دين، والثاني: من صبا يصبو؛ إذا مال، وسيأتي، (ففعل كذا وكذا)؛ يعني: بالمزادتين حيث أفرغ منهما في إناء، فمضمض، ثم ألقى فيهما وربط الوكاء، وأطلق العزالي، ونادى منادٍ في الجيش: اسقوا واستقوا؛ فسقى من شاء، واستقى من شاء، وأعطى رجلًا إناء، فأمره أن يغتسل به وإنَّ الماء قد زاد، ووجد أكثر مما كان أولًا، وقال لي:«ما رزِئنا من مائك شيئًا» ، وجمعوا لي هذا الطعام الذي في هذا الثَّوب، فأفرغته بين أيديهم، ثُمَّ قالت:(فوالله إنه لأسخى النَّاس) من السَّخاء؛ يعني: كثيره، وفي رواية:(لأسحر) من السحر؛ لأنَّها رأت شيئًا عجيبًا في زعمها؛ حيث شاهدت من دلائل نُبوته، وباهر مُعجزاته أنَّهم توضؤوا وشربوا، وسقوا دوابهم، واغتسل الجُنب مما سقط من العزالي، وبقيت المزادتان مملوءتان ببركته، وعظيم بُرهانه، فزعمتْ أنَّه سِحْر؛ لأنَّه خارقٌ للعادة، وما هو بسحر، إنْ هو إلا مُعجزة نبيٍّ مرسل صلى الله تعالى عليه وسلم (من بين هذه وهذه)؛ يعني: السماء والأرض، وكان المُناسب أن تقول:(في بين) بلفظة (في)، وأجيب: بأن (مِن) بيانية مع جواز استعمال حروف الجر بعضها مكان بعض، كذا في «عُمدة القَاري» ، (وقالتْ)؛ أي: أشارت (بإصبعها) فهو من إطلاق القول على الفعل، وقد مرَّ نظيره (الوسطى والسَّبابة)؛ بالسِّين المهملة فيهما، وإنما سميت وسطى؛ لتوسطها بين الأصابع الخمسة، وسميت سبَّابة؛ لأنَّه يشار بها عند السَّبِّ والمخاصمة، وهي المُسبِّحة، وسمِّيت بذلك؛ لأنَّه يشار بها إلى التَّوحيد
(1)
في الأصل: (ويشدوهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (ويحملوها)، ولعل المثبت هو الصواب.
والتنزيه (فرفعتهما)؛ أي: الوسطى والسبابة (إلى السماء؛ تعني)؛ أي: تقصد وتريد المرأة بذلك: (السماء والأرض)؛ لأنَّه نبي مرسل إلى كافَّة النَّاس بشيرًا ونذيرًا؛ وقوله: (أو إنه) عطف على قولها: (فوالله؛ إنه)(لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا) مصدر حق؛ يعني: أحقه رسول الله حقًّا يقينًا، وظاهر قولها هذا وإن كان فيه الشَّك: أنَّها آمنت به عليه السلام قبل وصولها إلى قومها، وقولها:(إنَّه لأسحر النَّاس) إنَّما قالته خوفًا من أهلها وقومها أنْ يقتلوها، ففاجئتهم أولًا بذلك، ثم قالت لهم ما هو الحق؛ لأجل أن يرغبوا في الإسلام، يدلُّ عليه: أنَّها هي التي كانت سببًا في إسلام قومها، كما يأتي قريبًا، وزعم القسطلاني أنَّ هذا منها ليس بإيمان؛ للشكِّ، لكنها أخذت في النظر؛ فأعقبها الحق، فآمنت بعد ذلك.
قلتُ: بل هذا منها إيمان به عليه السلام، والشكُّ لا ينافي ذلك؛ لأنَّها ذكرت ذلك لقومها، فلو قالتْ لهم ابتداءً: إنَّه لرسول الله؛ لربما وقع في نفوسهم شيءٌ فقتلوها، وهي تعلم ذلك منهم؛ فعبَّرت لهم كلامًا يوافق نفوسهم حيث ابتدأت بما يرضون به، ثُمَّ ثنَّت بما يرضيها، فهذا الشَّك طارئٌ عليهم بمعنى التَّشكيك، فإنَّها تعلم أنَّه رسول الله، لكنها شكَّكت الأمر عليهم أولًا، ثم حققته لهم.
وقوله: (لكنَّها أخذت
…
) إلى آخره؛ هذا تناقض، فإنَّها حققت النَّظر حين كانت في منزل النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وآمنت وكتمت إيمانها خوفًا من أهلها وقومها، ويحتمل أنَّ قولها:(أوَ إنَّه لرسول الله) ناسخٌ لقولها: (إنَّه لأسحر الناس)؛ لتقدمه، وإثباتُ قولها:(إنَّه لرسول الله) بقولها: (حقًّا)؛ يعني: صِدقًا صادقًا، فلو كانت شاكَّةً؛ لم تأت بقولها:(حقًّا)؛ فليتأمل.
(فكان المسلمون بعد) وقوله: (ذلك) ساقط في رواية الأصيلي، ثابتٌ في غيرها، والإشارة إلى القصة، ووصول المرأة إلى أهلها، وقولها لقومها:(يُغيرون)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، من الإغارة بالخيل في الحرب، قيل: ويجوز فتح الياء؛ من غار.
قلتُ: لكنه قليل، وكونه من أغار هو الكثير المشهور؛ فافهم.
(على من حولها من المشركين)؛ يعني: يغزونهم
(1)
، ويقاتلونهم، ويغنمون
(2)
منهم الغنائم، (ولا يصيبون) أي: ولا يغيرون (الصِرْم)؛ بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء: وهو أبيات من النَّاس مجتمعة، والجمع: أصرام وأصاريم وصرمال، والأخيرة عن سيبويه، كذا في «عُمدة القَاري» ، وزعم القسطلاني أن الصِرْم: نفر ينزلون بأهليهم على الماء.
قلتُ: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما أرسلوا المرأة المذكورة إلى الماء؛ لأجل أنْ تأتيهم به، وقد حَملتْ على بعيرها مزادتين، كما سبق في أوَّل القصة، فهذا يدلُّ على أنَّه أبيات من النَّاس مجتمعة، كما فسَّره إمام الشَّارحين؛ لأنَّهم لو كانوا نازلين على الماء؛ لم يحتاجوا إلى استجلابه؛ فليحفظ.
(الذي هي منه)؛ أي: المرأة المذكورة، وإنما لم يغيروا عليهم وهم كفرة؛ يُحتمل أنَّه للطمع في إسلامهم بسبب وجودها عندهم، ويُحتمل أنه لرِعاية زمامها.
قلتُ: والظاهر الأول، ويدلُّ عليه قوله:(فقالت) أي: المرأة المذكورة (يومًا لقومها) والمراد بهم: أهلها وغيرهم؛ فهو أعم، وذلك بعد أن رأى قومها إغارة المسلمين على المشركين حولهم، ولم يصيبوهم
(3)
بسوءٍ أصلًا؛ فافهم.
(ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة بمعنى: أظن، وبفتحها بمعنى: أعلم، و (ما) موصولة، كذا في «عُمدة القَاري» (أَنَّ) بفتح الهمزة، وتشديد النون (هؤلاء القوم) أي: المسلمين (يدَعونَكم)؛ بفتح الدال المهملة؛ أي: يتركونَكم من الإغارة عليكم (عمدًا)؛ أي: لا غفلة عنكم، ولا سهوًا منهم، ولا خوفًا منكم، بل لاستيلافكم ومراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه رواية أبي ذرٍّ، وهي الأولى، وفي رواية الأكثرين:(ما أَرى هؤلاء)؛ بفتح الهمزة في (أرى)، وإسقاط كلمة (أن)، وفي رواية ابن عساكر:(ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظن (إنَّ هؤلاء)؛ بكسر الهمزة، وفي رواية الأصيلي:(ما أدري أَنَّ)؛ بالدال المهملة بعد الألف، وفتح همزة (أَنَّ)، وتشديد نونها، وهي في موضع نصبٍ على المفعولية؛ والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إيَّاكم عمدًا لماذا هو؟
وقال المحقق أبو البقاء: الجيِّد أن يكون (أن هؤلاء)؛ بالكسر على الإهمال والاستئناف، ولا يفتح على إعمال (أدري) فيه؛ لأنَّها قد عملت بطريق الظاهر، ويكون مفعول (أدري) محذوفًا؛ والمعنى: ما أدري لماذا تمتنعون من الدُّخول في الإسلام إنَّ المسلمين تركوا الإغارة عليكم عمدًا مع القُدرة منهم عليكم؟ وقيل: إنَّ (ما) نافية، و (إنَّ) بالكسر؛ ومعناه: لا أعلم حالكم في تخلفكم عن الإسلام مع أنَّهم يدعونكم عمدًا، (فهل لكم) أي: رغبة بالدُّخول (في الإسلام؟) فقال: بلى، (فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام)؛ فحصل لها بذلك زيادة الثَّواب، والترقي في الدَّرجات في الجنان، وهذا يدلُّ على أنَّها آمنت قبلهم كما ذكرنا؛ لأنَّه لو كان غير ذلك؛ لما قالت لهم ذلك، ولما أمرتهم بالدخول في الإسلام، بل كانت مثلهم، فقولها: (ما أرى
…
) إلى آخره؛ دليل على إيمانها من قبل، وأنَّها تريد دخولهم في الإسلام، فلمَّا رأت إغارة المسلمين على المشركين دونهم؛ صار لها دخل وسبب في دخولهم، فحقق الله مقصدها، وفي الحديث الصَّحيح: أنَّه عليه السلام قال لعلي: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمرِ النِّعم» ، وفي الحديث أحكام؛
أحدها: فيه استحباب سلوك الأدب مع الأكابر، كما فعل عُمَر رضي الله عنه في إيقاظ النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم.
الثاني: فيه إظهار التأسُّف لفوات أمر من أمور الدين.
الثالث: فيه لا حرج على من تفوته صلاة، لكن لا بتقصير منه؛ لقوله عليه السلام:«لا ضَير» .
الرابع: فيه أَنَّ من أجنب ولم يجد ماءً؛ فإنَّه يتيمم؛ لقوله عليه السلام: «عليك بالصَّعيد» .
الخامس: فيه أنَّ العالم إذا رأى أمرًا مجملًا يسأل فاعله عنه ليوضحه؛ فيوضح له وجه الصَّواب.
السادس: فيه استحباب الرِّفق والملاطفة في الإنكار على أحد؛ كترك الشَّخص الصَّلاة بالجماعة.
السابع: فيه الإنكار على ترك الشَّخص الصَّلاة بحضرة المصلين بغير عذر.
الثامن: فيه أن قضاء الفوائت واجبٌ، ولا يسقط بالتأخير ويأثم بتأخيره بغير عذر.
التاسع: فيه أنَّ من حلت به فتنة في بلدٍ؛ فليخرج منه وليهرب
(1)
في الأصل: (يغزوهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (ويغنموا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (يصيبونهم)، والمثبت هو الصواب.
من الفتنة بدينه، كما فعل الشارع بارتحاله عن بطن الوادي الذي تشاءم به لأجل الشؤم.
العاشر: فيه أنَّ من ذكر صلاة فائتة له أن يأخذ ما يصلحه من وضوء، وطهارة، وابتغاء بقعة تطمئن نفسه للصَّلاة عليها، كما فعل الشَّارع بعد أَنْ ذكر الفائتة، فارتحل بعد الذِّكر ثُمَّ توضأ وتوضأ الناس.
الحادي عشر: فيه استحباب الأذان والإقامة للفائتة؛ لما في «المستدرك» من حديث الحسن
(1)
عن عِمران: (نمنا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشَّمس، فأمر المُؤذن فأَذن، ثُمَّ صلى الرَّكعتين قبل الفجر، ثُمَّ أقام المؤذن فصلى الفجر)، وقال:(صحيحٌ على ما قدمنا)، وعند أحمد:(ثُمَّ أمر بلالًا فأذن، ثُمَّ صلى الرَّكعتين قبل الفجر، ثُمَّ أقام فصلينا).
الثاني عشر: فيه جواز أداء الصَّلاة الفائتة بالجماعة إنْ كان الفرض واحدًا، كما فعل الشَّارع.
الثالث عشر: فيه وجوب طلب الماء للشرب، والوضوء، والغسل.
الرابع عشر: فيه أَنَّ أخذ الماء المملوك لغيره لضرورة العطش بعوض إن كان يعطيه، وإلا؛ فيأخذه قهرًا، كما قدمنا.
الخامس عشر: أَنَّ العطشان يقدم على الجنب عند صرف الماء إلى النَّاس؛ لأنَّه لا خُلف للنفوس إذا زهقت من العطش بخلاف الجُنب؛ لأنَّ الطهارة لها خُلف وهو التَّيمم.
السادس عشر: فيه جواز المعاطاة في الهبات والإباحات من غير لفظ من الجانبين.
السابع عشر: فيه تقديم مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره كمصلحة الطَّهارة بالماء، ووقع في رواية سلم بن رزين:(غير إنا لم نسق بعيرًا).
وأجيب: بأنَّ هذا مبني على أَنَّ الإبل لم تَكُنْ إذ ذاك مُحتاجة إلى السَّقي.
الثامن عشر: فيه جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية والكلام معها عند أمنِ الفتنة في حالة الضَّرورة الشَّرعية.
التاسع عشر: فيه جواز استعمال أواني المشركين، وكذا ثيابهم ما لم يتيقن فيها النجاسة، وقال أئمتنا الأعلام: إذا اشترى ثوبًا من يهودي أو نصراني؛ جاز له أَنْ يصلي به، ولو لم يغسله؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة.
العشرون: فيه جواز اجتهاد الصحابة بحضرة النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو المُختار، وعليه الجُمهور، وقيل: لا يجوز، وقد تقدم، وزعم ابن حجر أَنَّ في الحديث جواز أخذ مال النَّاس عِند الضَّرورة بثمنٍ إنْ كان له ثمن.
قال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر)، ولم يذكر وجهه.
قلت: وجهه أَنَّ أخذ مال النَّاس ولو بثمنٍ عند الضرورة لا يجوز؛ لأنَّه تصرف بغير إذن من مالكه، وهو غير جائز إلا الماء للشرب؛ لأجل العطش، والطعام؛ للأكل في المجاعة، فإنَّه في هذين الموضعين يجوز أخذ الماء والطعام قهرًا، وما عداهما فإنَّه لا يجوز، يدلُّ عليه قوله عليه السلام: «فإنَّ أموالكم عليكم حرام
…
»؛ الحديث فكيف قال هذا القائل ما قال؛ فافهم.
الحادي والعشرون: فيه جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها إذا لم يكن عن تغافلٍ أو سهو
(2)
، وذلك من قوله:(ارتحلوا)؛ بصِيغة الأمر.
الثاني والعشرون: فيه مُراعاة ذِمام الكافر، والمحافظة به كما حفظ
(3)
النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم هذه المرأة في قومها وبلادها، فراعى [في] قومها ذِمامها وإن كانت من ضميمهم.
الثالث والعشرون: فيه جواز الحلف من غير استحلاف.
الرابع والعشرون: فيه جواز الشَّكوى من الرعيَّة إلى الإمام عند حُلول أمرٍ شديدٍ.
الخامس والعشرون: فيه جواز التعريس للمسافر إذا غلب عليه النوم.
السادس والعشرون: فيه مشروعية قضاء الفوائت، وأنَّه لا يسقط بالتأخير.
السابع والعشرون: فيه جواز الأخذ للمُحتاج برضى المطلوب منه، وبغير رضاه إنْ تعين.
الثامنُ والعشرون: فيه جواز النَّوم على النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كنوم أحد منا في بعض الأوقات.
التاسع والعشرون: فيه جواز السَّفر من غير أن يعين يومًا أو شهرًا، قاله في «عُمدة القاري» .
زاد المستملي في روايته قوله: (قال أبو عبد الله) : هو المؤلف نفسه (صبأ: خرج من دين إلى غيره) وأراد المؤلف بهذا: الإشارة إلى الفرق بين الصابئ المراد في هذا الحديث، والصابئ: المنسوب إلى طائفة من أهل الكتاب، أمَّا الصابئ الذي هو المراد في هذا الحديث في قول المرأة المذكورة:(الذي يقال له: الصَّابئ)؛ فهو من صبا إلى الشيء يصبو؛ إذا مال، وهو غير مهموز، وكانت العرب تسمي النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: الصَّابئ؛ لأنَّه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من دخل في الإسلام مصبوًا؛ لأنَّهم لا يهمزون، ويسمون: الصُّباة؛ بغير همز جمع: (صابي) غير مهموز؛ كقاض وقُضاة، وغاز وغُزاة، وقد يقال: صبأ الرجل إذا عشق، وقد يقال: صابئ؛ بالهمز من صبا يصبو؛ بغير همز صبا وصبو؛ إذا خرج من دين إلى آخر.
وأما الصَّابئ المنسوب إلى طائفةٍ من أهل الكتاب؛ فأشار إليه بقوله: (وقال أبو العالية) : هو رُفيع؛ بضمِّ الراء، ابن مهران الرياحي، مما وصله ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه قال:(الصابئين) جمع صابئ، وأصله من صبأ يصبأ صبأ.
والصَّابئ نسبة إلى صابي ابن أبي متوشلخ بن أخنون بن برد بن مهليل بن فتين بن بايش بن شيث بن آدم عليه السلام، وقيل: نِسبة إلى صابي بن ماري، وكان في عصر إبراهيم الخليل عليه السلام، كذا قاله الرشاطي.
وأراد أبو العالية تفسير (الصَّابئين) المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الذينَ آمَنُوا وَالذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وهو إن كان عربيًّا؛ فمن صبأ؛ إذا خرج، يقال: صبأ ناب البعير يصبأ صبًا وصبوًا؛ أي: طلع حده، وصبا الرجل صبوًا؛ أي: خرج من دين إلى آخر، ويقال: صبا يصبو صبوةً وصبوًا؛ أي: مال، كذا في «الصحاح» .
وقرأ الجمهور: (والصابئين)؛ بالهمزة بعد الباء؛ كالخاطئين، وقرأ نافع: بياء تحتية ساكنة بعد الموحدة بغير همزة بينهما،
(1)
في الأصل: (الحسين)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (سهوى)، ولعله تحريف.
(3)
في الأصل: (حفظه)، و المثبت هو الصواب.