الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنَّه لو سمع ولم يفهم؛ لا يمكنه أن يجيب، فحاصله اشتراط سماع أكثر ما يتكلم بحضرته، بحيث لو سئل عنه؛ أجاب، كذا في «منهل الطلاب» .
وقال الزركشي: الترجمة مشعرة بأن النعاس لا يوجب الوضوء، والحديث مشعر بالنهي عن الصلاة ناعسًا، والجواب: بأنه استنبط عدم الانتقاض بالنعاس من قوله عليه السلام: «إذا صلى وهو ناعس» ، والواو للحال، فجعله مصليًا مع النعاس، فدل على بقاء وضوئه، ثم قال: ويجوز أن يريد المؤلف بقوله: (الوضوء من النوم) انقسام النوم إلى ما لا ينقض؛ كالنعاس، وإلى ما ينقض؛ كالمستغرق غير ممكن مقعدته، انتهى، قال في «المصابيح» :(وفيه ضعف؛ إذ لا يمتنع مثل قولك: إذا صلى الإنسان وهو محدث؛ كان كذا، فيحمل على أنه إذا فعل صورة الصلاة؛ فلا يقوي دلالة الحديث على ما أراده) انتهى، فتأمل.
وفي الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأنَّه علل بأمر محتمل، والحث على الخشوع، وحضور القلب، واجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة، وضابطه: أنه إن دعا بما جاء في الصلاة، أو في القرآن، أو في المأثور؛ لا تفسد صلاته، وإن لم يكن في القرآن أو المأثور، ولا يستحيل سؤاله من العباد؛ تفسد، كذا في «البحر» .
اللهم فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، واكشف عنا هذا البلاء، فإنك على كل شيء قدير.
(54)
[باب الوضوء من غير حدث]
هذا (باب الوضوء من غير حدث)؛ أي: استحباب تجديد الوضوء للنوم، ولمسِّ الكتب الشرعية، وللمداومة عليه، وللصلاة فرضًا أو واجبًا أو نفلًا، أو لمسِّ مصحف أو تفسير، فإن لم يكن واحد من هؤلاء المذكورين؛ فبشرط أن يتبدَّل المجلس؛ لأنَّه مع التبدل يكون نورًا على نور، وإن لم يتبدل مجلسه؛ يكون إسرافًا، وهو مكروه بالإجماع، وقيد بالوضوء؛ لأنَّ الغسل على الغسل والتيمم على التيمم يكون عبثًا؛ لعدم وروده في السنة عن النبي الأعظم عليه السلام.
[حديث: كان النبي يتوضأ عند كل صلاة]
214 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف)؛ أي: الفريابي (قال: حدثنا) : وفي رواية: (أخبرنا)(سفيان) : هو الثوري، (عن عَمرو) بفتح العين (بن عامر) : الكوفي الأنصاري (قال: سمعت أنسًا)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، ومفعول (قال) : (كان النبي
…
) إلخ الواقع بعد الإسناد الثاني قاله الكرماني.
(ح) : إشارة إلى التحويل على الأصح، أو إلى الحائل، أو إلى (صح)، أو إلى الحديث، كما سبق (قال) أي: المؤلف: (وحدثنا) : وسقطت الواو في رواية (مسدد) : هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى) : هو ابن سعيد القطان، (عن سفيان) : هو الثوري (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن عامر)؛ أي: الأنصاري السابق، (عن أنس) : وللأصيلي زيادة: (ابن مالك) رضي الله عنه، وفائدة الإسناد الثاني وإن كان الأول أعلى التصريحُ من سفيان فيه بالتحديث؛ لأنَّ سفيان مدلِّس، وعنعنة المدلِّس لا يحتج بها (قال: كان النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة)؛ أي: مفروضة من الأوقات الخمسة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس: (طاهرًا أو
(1)
غير طاهر) ولفظة: (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فيكون عادته الوضوء لكل صلاة من الخمس المعلومة، وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى ابن سيرين قال:(كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة)، وفي لفظ آخر:(كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضؤون لكل صلاة، فإذا كانوا بالمسجد؛ دعوا بالطشت، فقال: كان فرضًا، ثم نسخ بالتخفيف) انتهى.
وحديث سويد الآتي يدل على أن ذلك غالب أحواله عليه السلام، وحينئذ فيدل على الاستحباب، وإلا لما وسعه الترك، ولأنَّ الأصل عدم الوجوب، وقال الحافظ الطحاوي: يحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح؛ لحديث بريدة المروي في «صحيح مسلم» : أنه عليه السلام صلَّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: صنعْتَاليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال:«عمدًا صنعْتُه يا عمر» ، ولهذا ذهب النخعي إلى أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات، وادعاء النسخ نقله ابن عبد البر عن جماعة؛ منهم: عكرمة، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، واستدلوا بحديث عامر وبريدة.
(قلت: كيف كنتم تصنعون؟) : القائل (قلت) : هو عَمرو بن عامر مخاطبًا لأنس ومن معه من الصحابة، (قال) أي: أنس: (يُجزئُ)؛ بضم التحتية، وضم الهمزة؛ لأنَّ (أجزأ)؛ بالهمزة أولًا وآخرًا؛ بمعنى: يكفي، وهي رواية الأصيلي، (أحدَنا)؛ بالنصب مفعول مقدم (الوضوءُ)؛ بالرفع فاعل مؤخر (ما لم يحدث)؛ أي: مدة دوام عدم حدثه، فـ (ما) : مصدرية، وعند ابن ماجه:(وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد)، وهذا مذهب الجمهور، وقال ابن شاهين: ولم يبلغنا أن أحدًا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر، فالجمهور على أنَّه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وقدروا في الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في «مسنده» على ذلك بقوله عليه السلام:«لا وضوء إلا من حدث» ، وذهب قوم إلى وجوبه لكل صلاة، ولو كان من غير حدث، وهو ظاهر آية الوضوء؛ لأنَّ الأمر فيها مشروط بالقيام إلى الصلاة، وهو يدل على تكرار الوضوء لكل صلاة وإن لم يحدث، وأجاب الفاضل جار الله الزمخشري في «الكشاف» :(بأنه يحتمل أن يكون الخطاب للمحدثين، أو أن الأمر فيه للندب لا للوجوب)، ولا يصح الحمل عليهما معًا؛ بناءً على قواعد مذهب الإمام الأعظم في عدم جواز حمل المشترك على معنييه؛ لأنَّ تناول الكلمة الواحدة إلى معنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية، وهو لا يجوز) انتهى، خلافًا للشافعي، وخص بعض الظاهرية وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين.
واختلف العلماء هل نسخ أو استمر حكمه؟ والجمهور على النسخ، ويدل له ما أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة:(أنَّ النبي عليه السلام أمر بالوضوء لكل صلاة، فلمَّا شق عليه؛ أمر بالسواك)، وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث حنظلة بن أبي عامر الغسيل:(أنه عليه السلام أُمِر بالوضوء عند كل صلاة، فلمَّا شق ذلك عليه؛ أُمِر بالسواك عند كل صلاة، ووُضِع عنه الوضوء إلا من حدث).
وقد انعقد الإجماع واستقر على أنه يصلي بالوضوء ما شاء وأن تجديده لكل صلاة مندوب، فالإجماع استقر على عدم الوجوب، كما حكاه النووي، ثم قال:(ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المُحْدِثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب) انتهى، واعترضه في «عمدة القاري» ، فقال:(هذا لا يصح؛ لأنَّه يكون من باب الإلغاز، فلا يجوز) انتهى، أي: والتعمية فلا يجوز، على أنه لا حاجة إلى هذا الحمل بعد استقرار الإجماع؛ فإنه حجة من حجج الشرع؛ فليحفظ.
[حديث سويد بن النعمان: خرجنا مع رسول الله عام خيبر]
215 -
وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلد) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة (قال: حدثنا) : ولابن عساكر: (أخبرنا)(سليمان)؛ يعني: ابن بلال، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين: هو القطان (قال: أخبرني) بالإفراد (بُشير)؛ بضم الموحدة، تصغير بشر (بن يَسَار)؛ بفتح المثناة التحتية، وتخفيف السين المهملة (قال: أخبرني) بالإفراد (سُويد بن النُّعمان)؛ بضم أولهما: الأوسي المدني (قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة النبي الأعظم عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر) : منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، كما تقدم، (حتى إذا كنا)؛ أي: النبي عليه السلام وأصحابه (بالصَّهْباء)؛ بفتح المهملة، وسكون الهاء، والموحدة الممدودة؛ وهي أدنى خيبر؛ أي: أسفلها من جهة المدينة؛ (صلَّى لنا)؛ أي: بنا أو لأجلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)؛ أي: صلاة العصر، (فلمَّا صلَّى)؛ أي: فرغ من صلاة العصر؛ (دعا بالأطعمة)؛ أي: التي يتخذها
(2)
المسافر في سفره، (فلم يؤت إلا بالسويق) المعلوم مما مر؛ لعدم وجود غيره معهم، (فأكلنا)؛ أي: من السويق بعد أن بُلَّ بالماء، (وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، وعند المؤلف في (الجهاد) :(فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: لككنا السويق، (ثم قام النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى المغرب)؛ أي: إلى أداء صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه بالماء من أثر السويق، وزاد في الرواية السابقة:(ومضمضنا)، (ثم صلى لنا) : ولأبي ذر: (وصلى لنا)؛ أي: بأصحابه (المغرب)؛ أي: صلاتها (ولم يتوضأ)؛ فأفادت هذه الطريقة التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه.
والجمع بين حديثي الباب: أن وضوءه عليه السلام لكل صلاة كان في غالب أحواله؛ لأنَّه الأفضل، فأعطى الراوي
(1)
في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي» .
(2)
في الأصل: (يتخذه).
معظم الشَّيء حكم كله، أو أنَّه لم يشاهد التَّرك كما شاهده غيره، وأنَّ فعله الثاني لبيان الجواز، وليري أمَّته أنَّ ما التزمه في خاصَّته من الوضوء لكلِّ صلاة ليس بلازم لكلِّ مكلَّف، وليس عند المؤلِّف حديث لسويد بن النعمان إلا هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه في مواضع، وهو أنصاري حارثي، شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعيد أنه شهد أحُدًا
(1)
، وتمامه في «عمدة القاري» .
ووجه مطابقة الحديثين للترجمة ما قاله الكرماني: من أن لفظ الحكم مقدر في الترجمة؛ أي: باب حكم الوضوء من غير حدث ثبوتًا وانتفاءً، والدلالة عليها حينئذ ظاهرة، وقال بعضهم: وقد يقال: دلالة الحديث الأول عليها من قول أنس: (كان عليه السلام يتوضأ عند كل صلاة)، فإنه صادق بتجديد الوضوءلا سيما وقد زاد الترمذي كما تقدم: (طاهرًا أو
(2)
غير طاهر)، وأمَّا الحديث الثاني؛ فذكره للتنبيه على بيان حالتي النبي عليه السلام في الوضوء؛ تكميلًا للفائدة؛ فتأمل.
قلت: وللتنبيه على اختلاف ألفاظه عن الحديث الأول، كما لا يخفى على من تفحص.
وفي يوم السبت الحادي عشري صفر سنة سبع وسبعين ومئتين وألف أمر فؤاد باشا بقتل أحمد عزت باشا سر عسكر، فقُتِل بالنيشان، ومعه أربعة من أمراء
(3)
الآي؛ منهم: علي بيك، وصالح بيك رحمهم الله تعالى، وحفنا بلطفه، وفرج وعنا وعن المسلمين بجاه الحبيب الأعظم وأصحابه الكرام عليه وعليهم السلام.
(55)
[باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله]
هذا (باب)؛ بالتنوين، كما في «الفرع» ، وفي «عمدة القاري» :(باب؛ بالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، اللهم إلا إذا قُدِّر شيء يكون حينئذ معربًا؛ نحو: هذا باب؛ لأنَّه يكون حينئذ خبر مبتدأ، وقول ابن حجر: «باب؛ بالتنوين»؛ غلط) انتهى؛ أي: لعدم تركيبه مع المبتدأ المقدر؛ فافهم.
(من الكبائر ألَّا يستتر)؛ بمثناتين فوقيتين؛ أي: لا يستبرئ (من بوله) : و (أن) : مصدرية في محل رفع على الابتداء، و (من الكبائر) : خبره مقدمًا؛ والتقدير: ترك استتار الرجل من بوله من الكبائر؛ جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة؛ يعني: صار اسمًا لهذه الفعلة القبيحة، وفي الأصل: هي صفة؛ والتقدير: الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة.
واختلف في الكبائر؛ فقيل: سبع، وهو ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أنه عليه السلام قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ، فقيل: يا رسول الله؛ وما هنَّ؟ قال: «الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ، وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل:«الكبائر تسع» ، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: «عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال
(4)
البيت الحرام»، وقيل: الكبيرة كل معصية، وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة.
قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب، فهو بالنسبة إليه كبيرة، وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة، كذا في «عمدة القاري» ؛ فليحفظ.
[حديث: مر النبي بحايط من حيطان المدينة]
216 -
وبه قال: (حدثنا عثمان) : هو ابن أبي شيبة الكوفي (قال: حدثنا جَرير)؛ بفتح الجيم: هو ابن عبد الحميد، (عن منصور) : هو ابن المعتمر، (عن مُجاهد)؛ بضم الميم: ابن جَبر -بفتح الجيم وسكون الموحدة- الإمام في التفسير، وهذا الحديث رواه الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاووسًا، كما يأتي عن قريب أن المؤلف أخرجه هكذا، وإخراجه بهذين الوجهين يقتضي أن كليهما صحيح عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاووس عن ابن عباس، وسمعه أيضًا من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيد ذلك أن في سياق مجاهد عن طاووس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي:(رواية الأعمش أصح)، وقال الترمذي في «العلل» : (سألت محمدًا أيهما
(5)
أصح؟ فقال: الأعمش أصح)، فإن قيل: إذا كان حديث الأعمش أصح؛ فَلِمَ لمْ يخرجه وخرج الذي هو غير صحيح؟ قلت له: كلاهما صحيح، فحديث الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح، كما لا يخفى، ويؤيده: أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور ولم يذكر طاووسًا، كذا في «عمدة القاري» ، وتبعه ابن حجر.
قلت: ولا مانع من جعلهما حديثين مستقلين لا سيما مع الاختلاف في كثير من المسند وألفاظ المتن، فيكون هذا رواه مجاهد عن ابن عباس بدون واسطة، والآتي رواه عنه بواسطة طاووس؛ فتأمل.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنَّه (قال: مرَّ النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم بحائط)؛ بالحاء والطاء المهملتين؛ أي: بستان من النخل إذا كان عليه جدار، ويجمع على حيطان وحوائط، وأصله: حواوط؛ بالواو، قلبت ياء؛ لأنَّه من الحوط؛ وهو الحفظ والحراسة، والبستان إذا عمل حواليه جدران؛ يحفظ من الداخل، لا يسمى البستان حائطًا إلا إذا كان عليه جدران، (من حيطان المدينة) المنورة، وعند المؤلف في (الأدب)، ولفظه:(خرج رسول الله عليه السلام من حيطان المدينة)، وبين هذه وبين ما هنا منافاة، أجاب في «عمدة القاري» :(بأن معناه: أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به، وفي «أفراد الدارقطني» من حديث جابر: «أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية») انتهى، (أو مكة) : شك من جرير، وأخرجه المؤلف في (الأدب) :(من حيطان المدينة)؛ بالجزم من غير شك، ويؤيده رواية الدارقطني؛ لأنَّ حائط أم مبشر كان بالمدينة، وإنما عرَّف (المدينة) ولم يعرِّف (مكة)؛ لأنَّ مكة عَلَم، فلا يحتاج إلى التعريف، والمدينة اسم جنس، فعرفت بالألف واللام؛ ليكون معهودًا عن مدينة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا الحديث رواه ابن عباس، وعلى تقدير كون هذه في مكة على ما دل عليه السند كيف يتصور هذا؟ وكان ابن عباس عند هجرة النبي عليه السلام من مكة ابن ثلاث سنين، فكيف ضبط ما وقع في مكة؟
الجواب فيه من وجوه؛ الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي عليه السلام إلى مكة سنة الفتح أو سنة الحج، الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي عليه السلام ذلك، الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، الرابع: أنه يحتمل أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فأسقط ذكره من بينه وبين النبي عليه السلام، ونظائره كثيرة، وفي الحقيقة هذا داخل في الوجه الثالث، كذا قرره في «عمدة القاري» ؛ فافهم.
(فسمع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صوت إنسانين)؛ أي: بشرين، تثنية إنسان، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والعامة تقول: إنسانة، ويجمع على أناسي، قال الله تعالى:{وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49]، وقد خفي هذا الجمع على من تصدر في زماننا؛ ليقال له أعلم العلماء وأفقه الفقهاء؛ فليحفظ، وقال الجوهري: الإنس: البشر
(6)
، الواحد إِنْسي وأَنَسي؛ بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانًا، ثم جمعته أناسي، فتكون الياء عوضًا عن النُّون، وقال قوم: أصل إنسان: إنسيان على وزن (إفعلان)
(7)
، فحذفت الياء؛ استخفافًا لكثير ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها؛ ردوها، وقال ابن عباس: إنَّما سمي إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، ويقال: من الإنس خلاف الوحشة، ويقال للمرأة أيضًا: إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله، كذا في «عمدة القاري» ، (يعذبان) : جملة وقعت حالًا من (إنسانين) أو صفة لهما (في قبورهما)؛ أي: حال كونهما يعذبان وهما في قبورهما، وإنما قال:(في قبورهما) مع أن لهما قبرين؛ لأنَّ في مثل هذا استعمال التثنية قليل، والجمع أجود، كما في قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، والأصل فيه: أن المضاف إلى المثنَّى إذا كان جزء ما أضيف إليه، يجوز فيه الإفراد والجمع، ولكن الجمع أجود؛ نحو: أكلت رأس الشاتين، وإن كان غير جزئه؛ فالأكثر مجيؤه بلفظ التثنية؛ نحو: سلَّ الزيدان سيفيهما
(8)
، وإن أمن اللبس؛ جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله:(في قبورهما)، وقد يجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين، وفي رواية الأعمش:(مر بقبرين)، وزاد ابن ماجه في روايته:(بقبرين جديدين، فقال: «إنهما يعذبان»).
فإن قلت: [المعذب] ما في القبرين، فكيف أسند العذاب إلى القبرين؟
قلت: هذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على غير مذكور؛ لأنَّ سياق الكلام يدل عليه، ورده في «عمدة القاري» : بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير موجود، وهو القبران، ولو لم يكن موجودًا؛ لكان لكلامه وجه، والوجه ما ذكرناه؛ فافهم.
ولم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما.
قال في «عمدة القاري» : (والحكمة في عدم بيان اسمي المقبورين ولا أحدهما
(1)
في الأصل: (أحُد).
(2)
في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي» .
(3)
في الأصل: (أمراة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (واستهلال)، وهو تحريف.
(5)
في الأصل: (أيما).
(6)
في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح» .
(7)
في الأصل: (إفعال).
(8)
في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.