الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطيب؛ حيث قال:
ومن يعصهما؛ فقد غوى، فقال له عليه السلام:«بئس الخطيب أنت» ، فأمره بالإفراد؛ إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية، وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غيره عليه السلام، والمراد بـ (الحب) هنا العقلي؛ وهو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه، ويستدعي اختياره، وإن كان على خلاف هواه؛ فتأمل.
(وأن يحب) المتلبس بها (المَرء) بفتح الميم حال كونه (لا يحبه إلا لله) عز وجل، (وأن يكره) المكروه ضد المحبوب (أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يُقذَف)؛ بضم أوله وفتح ثالثه؛ أي: مثل كرهه القذف (في النار)؛ وهذا نتيجة حلاوة الإيمان بظهور نوره، وضياء محاسنه، وقبح الكفر وشينه، وإنما عَدَّى (العَوْد) بـ (في) ولم يُعَدِّه بـ (إلى).
أجاب الإمام شهاب الدين الكرماني: بأنه ضمِّن معنى الاستقرار؛ كأنَّه قال: أن يعود مستقرًا فيه، وارتضاه ابن حجر العسقلاني وأجاب به، واعترضه الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ هذا تعسف، وإنما (في) هنا؛ بمعنى (إلى) كقوله تعالى:{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]؛ أي: لتصيرنَّ إلى ملتنا، قلت: وهو وجيه، كما لا يخفى على من له أدنى حظ في العلم، فرحم الله هذا الإمام ما أعلمه في المنطوق، والمفهوم، والحجة، والبرهان، وما ذاك إلا من الحنان المنان، اللهم إنِّي أسألك بسيدنا النبي الأعظم عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ أن يطيل عمري في طاعتك، ويرزقني العلم النافع، والرزق الواسع، ويقهر أعدائي قهرًا يمنع عنهم الراحة والقرار، ويضيِّق عليهم فسيح الأرض، وواسع الأقطار، وأن يدخلني الجنة، وأن يكثر أولادي ويجعلهم من الصالحين، آمين.
(10)
[بابٌ علامة الإيمان حب الأنصار]
ولما ذكر المؤلف حلاوة الإيمان؛ أراد أن يبين علامته؛ فقال: (باب) بالتنوين: (علامة) حلاوة (الإيمان حب الأنصار) فـ (علامة) مبتدأ، خبره (حب)، وسقط التنوين للأصيلي ونسخة، فقوله:(علامة) مجرور بالإضافة.
[حديث: آية الإيمان حب الأنصار]
17 -
وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي؛ نسبة لبيع الطيالسة، البصري، المتوفى سنة عشرين ومئتين، (قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما (بن جَبْر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، الأنصاري المدني (قال: سمعت أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك) رضي الله عنه عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه (قال: آية)؛ أي: علامة حلاوة (الإيمان)؛ بالهمزة الممدودة والمثناة التحتية المفتوحة (حب الأنصار)؛ الأوس والخزرج، جمع قلة على وزن (أفعال)؛ لأنَّه معرفة، فلا فرق بين القلة والكثرة؛ فليحفظ.
وإنما قدَّرنا مضافًا؛ لظهور المراد على أنَّ العلامة في الشيء غير داخلة في حقيقته، فلا دلالة فيه على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ بل فيه دلالة واضحة على أن الأعمال خارجة عن الإيمان؛ وهي من ثمراته، وأما جواب بعضهم عن هذا؛ فلا ينهض دليلًا لمدّعاه، على أنَّه قد أجيب عنه بما يطول؛ فتأمل.
(وآية) بالمد؛ أي: علامة (النفاق)؛ وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر (بغض الأنصار)؛ من حيث إنهم أنصاره عليه السلام، وهذا من أعلام النبوة؛ حيث أنبأنا أنه سيوجد بعدَه منافقون يُبغضون أنصاره، وإنما خُصُّوا بهذه المنقبة العظيمة؛ لما فازوا به من نصره عليه السلام، والسعي في إظهاره، مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، وإنما عبر بالنفاق ولم يعبر بالكفر؛ لأنَّه ليس بكافر في الظاهر.
(11)[باب]
(بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة، ولفظ الباب؛ ساقط في رواية، فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة، وعلى روايةٍ إثباتُه؛ فهو كالفصل عن ما قبله مع تعلقه به.
[حديث: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا]
18 -
وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة؛ اسم علم؛ أي: ذو عياذة بالله، فهو عطف بيان لقوله:(أبو إدريس)(بن عبد الله) الصحابي، ابن عمر الخولاني، الدمشقي، الصحابي؛ لأنَّ مولده كان عام حنين، التابعي من حيث الرواية، المتوفى بالشام بقرية داريا الكبرى سنة ثمانين:(أن عُبادة) بضم العين (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي، المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، رضي الله عنه وكان شهد بدرًا)؛ أي: وقعتها، فالنصب بقوله:(شهد) وليس مفعولًا فيه؛ كذا قيل؛ وهي بئرٌ سميت باسم بانيها؛ بدر من بني النضر، (وهو أحد النقباء) جمع نقيب؛ وهو الناظر على القوم، وكانوا اثني عشر رجلًا (ليلة العقبة)؛ بمنى؛ أي: فيها، و (الواو) في (وهو) كواو (وكان) هي الداخلة على الجملة الموصوف بها؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أنَّ كون شهودِ عُبادةَ بدرًا وكونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواو للحال ولا للعطف؛ كذا قاله شيخ الإسلام بدر الدين العيني.
قيل: إن هذا ذكره ابن هشام في «المغني» معزيًا للفاضل الزمخشري، واعترضه ابن مالك في «شرح التسهيل» ، وأجاب عنه نجم الدين سعيد، واعترضه الدماميني، وأجاب عنه الإمام العلامة الشُّمُنِّي الحنفي، وقد تبع جار الله الزمخشري في ذلك أبو البقاء الحنفي العكبري وقوَّاه؛ فليحفظ.
قيل: ويَحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس؛ فيكون متصلًا، وإن حُمل على أنه سمع ذلك من عُبادة أو الزهري؛ فيكون منقطعًا، والجملة اعتراض بين (أن) وخبرها الساقط من أصل الرواية، ولعلها سقطت من ناسخ بعدَه؛ بدليل ثبوتها عند المؤلف في (باب من شهد بدرًا)، والتقدير هنا: أنَّ عُبادة أخبر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحولَه) بالنصب على الظرفية (عِصابة)؛ بكسر العين؛ ما بين العشرة إلى الأربعين، وقوله:(من أصحابه) صفة لـ (عصابة)، والجملة اسمية، و (عصابة) مبتدأ، خبرُه (حولَه) مقدمًا، وإنما قال:(وهو أحد النقباء وإنه شهد بدرًا)؛ للتقوية والترجيح: (بايعوني)؛ أي: عاقدوني (على) التوحيد (ألَّا تشركوا بالله شيئًا)؛ أي: على ترك الإشراك، وهو عام؛ لأنَّه نكرة وهي سياق النهي كالنفي تعم، وقدَّمه؛ لأنَّه الأصل (و) على أن (لا تسرقوا) فيه حذف المفعول؛ ليدل على العموم (ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصهم بالذكر؛ لأنَّهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأنَّ قتلهم؛ أكبر من قتل غيرهم؛ وهو الوأد؛ وهو أشنع القتل، أو إنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر، (ولا تأتوا) بحذف النون، وفي رواية: بإثباتها، (ببهتان)؛ أي: بكذب يبهت سامعه؛ أي: يدهشه؛ لفظاعته كالرمي بالزنا، وقوله:(تفترونه) من الافتراء؛ أي: تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم)؛ أي: من قِبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأنَّ معظم الأفعال بهما (ولا تعصوا في معروف) قيَّد به مع أنه عليه السلام لا (يأمر) به؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخص ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره؛ للاهتمام به، (فمن وفى)؛ أي: ثبت على العهد، و (وفى) بالتخفيف، وفي رواية: بالتشديد (منكم؛ فأجره على الله) فضلًا ووعدًا بالجنة؛ كما وقع التصريح به في «الصحيحين» ، وفي رواية الصنابحي عن عبادة، وعبر بلفظ (على) وبـ (الأجر)؛ للمبالغة في تحقق وقوعه؛ لأنَّه لا يجب على الله شيء عندنا، (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون (من ذلك شيئًا) غير الشرك بنصب (شيئًا) مفعول (أصاب) الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط، والجار للتبعيض، (فعوقب)؛ أي: به كما رواه أحمد؛ أي: بسببه (في الدنيا)؛ أي: بأن أقيم عليه الحد؛ (فهو)؛ أي: العقاب مع التوبة النصوحة (كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، أما إذا لم يتب؛ فإنَّه يعاقب في الآخرة؛ لأنَّ الحدود شرعت لنفع الكافة من صيانة الأنساب، والأعراض، والأموال، وإقامة الحدود مع عدم التوبة؛ لا يفيد المقصود، فلا يكون الحد مطهرًا من الذنب؛ بل المطهر إنَّما هو التوبة عملًا بآية قُطاع الطريق؛ حيث قال الله تعالى بعد ذكر أحكامهم:{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34].
فأخبر تعالى أن آخر فعلهم؛ عقوبة دنيوية وأخروية، إلَّا من تاب؛ فإنَّها تسقط عنه الأخروية بالإجماع؛ للإجماع على أن التوبة لا تُسقط الحد في الدنيا، ويدل لهذا حديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم وصححه أنه عليه السلام قال:«لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا» .
وأما حديث علي وفيه: «ومن أصاب ذنبًا فعوقب فيه في الدنيا؛ فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة» ؛ محمول على أنه عند العقوبة قد تاب عن الذنب، على أن قوله: (أن يثني
…
إلى آخره)؛ دليل على أنه إذا لم يتب يعاقب في الآخرة؛ فافهم.
و (شيئًا) : نكرةٌ؛ وهي تفيد العموم، فيشمل إصابة الشرك وغيره، وأجيب بأن المراد بالشرك؛ الإشراك بالله؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، وما قيل: إنه الشرك الأصغر وهو الرياء؛ فممنوع؛ لأنَّ الشارع إذا أطلق الشرك إنَّما يريد به ما يقابل التوحيد؛ فليحفظ.
(ومن أصاب من ذلك) المذكور (شيئًا) غير الشرك؛ كما مر، (ثم ستره الله) وفي رواية:(عليه)؛ (فهو) مفوض (إلى الله) عز وجل (إن شاء عفا عنه) بفضله (وإن شاء عاقبه) بعدله (فبايعناه)؛ أي: عاقدناه (على ذلك) المذكور.
قيل: مفهومه يتناول من تاب ومن لم يتب، وإنه لم يتحتم دخوله النار؛ بل هو في مشيئة الله تعالى، قلت: يُعارض هذا المفهوم قولُه تعالى في آية قطاع الطريق: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، فالاستثناء راجع إلى عذاب الدنيا والآخرة؛ حتى لو تاب قبل القدرة عليه بعد ما خاف الطريق، ولم يقتل، ولم يأخذ شيئًا، سقط عنه حق
الدنيا والعقاب في الآخرة، وهذا هو التحقيق؛ كذا في «النهر الفائق شرح كنز الدقائق» ، قلت: لكن لا يأمن من مكر الله؛ لأنَّه لم يطلع على قبول توبته، ومن كرمه قبولها.
ونقل العلامة البيرمي في «شرحه على الأشباه» عن «الجواهر» : رجل شرب الخمر وزنى ثم تاب ولم يحد في الدنيا، هل يحد له في الآخرة؟ قال: الحدود حقوق الله تعالى إلَّا أنه تعلق بها حق الناس؛ وهو الانزجار، فإذا تاب توبة نصوحة؛ أرجو ألَّا يحد في الآخرة، فإنَّه لا يكون أكثر من الكفر والردة، وإنَّه يزول بالإسلام والتوبة، انتهى؛ أي: فإن المرتد إذا تاب، فإنه لا يعاقب في الدنيا والآخرة، أما إذا قتل على ارتداده؛ فلا يكون قتله كفارة له؛ لعدم توبته ولبقائه على الشرك، وأخبر سبحانه: بأنَّه لا يغفر أن يشرك به، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
(12)
[بابٌ من الدِّين الفرار من الفتن]
(باب) بالتنوين: (من الدين الفرار من الفتن) إنَّما لم يقل: من الإيمان؛ لمراعاة لفظ الحديث، وليس المراد الحقيقة؛ لأنَّ الفرار ليس بدين، فالتقدير: الفرار من الفتن شعبة من شعب الإيمان، ويدل عليه أداة التبعيض.
[حديث: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم]
19 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمة)؛ بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة: ابن قعنب الحارثي البصري، ذو الدعوة المجابة، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومئتين، (عن مالك) هو ابن أنس (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المازني المدني، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن أبيه) عبد الله، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري (الخُدْري)؛ بضم الخاء وسكون المهملة: نسبة إلى (خدرة) جده الأعلى أو بطن، المتوفى بالمدينة سنة أربع وستين أو أربع وسبعين، وفي رواية: رضي الله عنه : (أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشِك)؛ بكسر المعجمة، قيل: فتحها رديء، من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنمًا) بالنصب؛ خبر (يكون)، وفي رواية: بنصب (خيرَ) خبرًا مقدمًا، ورفع (غنمٌ) اسمًا مؤخرًا، و (الغنم) : اسم مؤنث موضوع للجنس، يقع على الذكور والإناث جميعًا، وعلى الذكور وحدهم، وعلى الإناث وحدهن، فإذا صغرتها؛ ألحقتها الهاء، (يتَّبع بها)؛ بتشديد المثناة الفوقية:(افتعال) من (اتبع اتباعًا)، ويجوز إسكانها من (تَبِع) بكسر الموحدة (يتبَع) بفتحها؛ أي: يتبع بالغنم (شَعَفَ)؛ بمعجمة فمهملة مفتوحتين: جمع شَعَفة؛ بالتحريك، وهو بالنصب مفعول (يتَّبع)؛ أي: رؤوس (الجبال ومواقِعَ)؛ بكسر القاف، بالنصب عطف على (شعَفَ)؛ أي: مواضع نزول (القطر)؛ أي: المطر؛ أي: بطون الأودية والصحارى حال كونه (يفر بدينه)؛ أي: يهرب بسببه أو مع دينه (من الفتن)؛ طلبًا لسلامته لا لقصد دنيوي، فالعزلة في أيام الفتن فضيلة، إلَّا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة؛ فإنَّه يجب عليه السعي في إزالتها؛ إما فرض عين أو فرض كفاية بحسب الحال والإمكان، وأما في غير أيام الفتنة؛ فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط؛ فقال الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال؛ لندور خلو المحافل من المعاصي، وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: قلت أنا موافق فيما قال: فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلَّا الشرور، انتهى، قلت: بل ينبغي أن يقال: إن العزلة في زماننا واجبة؛ لما يحصل من المعاصي، وارتكاب الآثام، وإباحة المحرمات، وسب الدين الذي يخرج به من الإيمان، وغير ذلك من المنكرات، وقال الشافعي: الأفضل الاختلاط إلا لفقيه لا يسلم دينه بالاختلاط.
(13)
[باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله]
(باب قول النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم بالإضافة، وسقط في رواية لفظ (باب)، ومقول قوله عليه السلام:(أنا أعلمكم بالله) وفي رواية: (أنا أعرفكم بالله)، والفرق بينهما: أن المعرفة هي إدراك الجزئي، والعلم إدراك الكلي.
(و) باب بيان (أن المعرفة)؛ بفتح الهمزة ويجوز الكسر على الاستئناف، (فعل القلب)، فالإيمان بالقول وحده؛ لا يكون إلا بانضمام الاعتقاد إليه، خلافًا للكرَّامية، والاعتقاد؛ فعل القلب؛ (لقوله تعالى) وفي رواية:(لقوله عز وجل : ({وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ})[البقرة: 225]؛ أي: عزمت عليه، وفيه دليل للجمهور من أن أفعال القلوب إذا استقرت؛ يؤاخذون بها، ويعارضه قوله عليه السلام:«إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل» ، وأجيب: بأنه محمول على إذا لم يستقر، وذلك معفو عنه؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، بخلاف الاستقرار.
[حديث: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا]
20 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن سلَام)؛ بالتخفيف والتشديد، وقيل: إن التشديد لحن، وتمامه في «شرح الشيخ الإمام بدر الدين العيني» ، واسم أبيه: الفرج السلمي، زاد في رواية:(البِيْكَندِي)؛ بموحدة مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم كاف مفتوحة، ثم نون ساكنة؛ نسبة إلى بيكند؛ بلدة على مرحلة من بخارى، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا)(عَبْدة)؛ بسكون الموحدة، قيل: هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب الكلابي الكوفي، المتوفى بها في رجب سنة ثمان وثمانين ومئة، (عن هشام) هو ابن عروة، (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم)؛ أي: أمر الناس بالعمل (أمرهم من الأعمال بما) وفي رواية: (ما)(يطيقون)؛ أي: يطيقون الدوام عليه، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ، والكثرة تؤدي إلى القطع؛ وهو نقض العهد صورة، و (أمرهم) الثانية جواب أول للشرط، والثاني قوله:(قالوا: إنا لسنا كهَيئتك)؛ بفتح الهاء؛ وهي الصورة والحالة، وليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه السلام، فلا بد من التأويل، فالمراد من (هيئتك) : كمثلك؛ أي: كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة؛ للتأكيد؛ نحو: مثلك لا يبخل، أو [حال] من (لسنا)؛ أي: ليس حالنا كحالك، فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه، فاتصل الفعل بالضمير، فقيل: لسنا كهيئتك، قاله الشيخ الإمام ركن الدين الكرماني، (يا رسول الله؛ إن الله قد غفر لك)؛ أي: عفا عنك (ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر)؛ أي: منه، والمراد: ترك الأَولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل، كأنَّه ذنب؛ لجلالة قدر الأنبياء عليهم السلام، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو أولى مما قال القسطلاني نقلًا عن البرماوي؛ فليحفظ.
(فيغضب)؛ على صورة المضارع، والمراد منه: حكاية الحال الماضية (حتى يُعرف)؛ بصيغة المجهول، وفي أكثر الروايات؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني:(فغضب حتى عُرف)(الغضبُ) بالرفع (في وجهه) عليه السلام، وفيه دليل على جواز الغضب عند رد أمر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب والتغير، (ثم يقولُ)؛ بالرفع عطفًا على (يغضب) :(إن أتقاكم)؛ أي: أكثركم تقوًى (أعلمكم بالله) عز وجل (أنا) فـ (أتقاكم) اسم (إن)، و (أعلمكم) عطف عليه، و (أنا) خبرها، والمعنى: كأنَّهم قالوا: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل ومع هذا تواظب على الأعمال، فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا؟! فرد عليهم بقوله: أنا أولى بالعمل؛ لأنِّي أتقاكم وأعلمكم، وأشار بالأول إلى القوة العملية، وبالثاني إلى القوة العلمية، واستدل بهذا على أن أول فرض على المكلف معرفة الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلة نفسه إذا دعت إلى ذلك حاجة؛ فليحفظ.
(14)
[باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان]
(باب) ذكر كراهة (من كره أن يعود)؛ أي: العود (في الكفر كما يكره أن يلقى)؛ أي: ككراهة الإلقاء (في النار من الإيمان)؛ أي: من شُعَبه، ولفظ (باب) ساقط في رواية، ويجوز فيه التنوين، وإضافته لتاليه، وعلى كل تقدير؛ فـ (مَن) مبتدأ و (من الإيمان) خبره و (أن) في الموضعين مصدرية، وكذا (ما) و (من) موصولة، و (كره أن يعود) صلتها، وسقط في رواية (من الإيمان).
[حديث: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان]
21 -
وبه قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب)؛ بفتح المهملة، وسكون الراء، آخره موحدة: ابن بَجِيْل؛ بفتح الموحدة، وكسر الجيم، وسكون المثناة التحتية، آخره لام: الأزدي الواشِحي؛ بكسر الشين المعجمة والحاء المهملة؛ نسبة إلى بطن من الأزد، البصري قاضي مكة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (عن قتادة) بن دِعامة (عن أنس) وفي رواية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قال) : خصال (ثلاث) أو ثلاث خصال، فعلى الأول (ثلاث) صفة لمحذوف، وعلى الثاني مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به إضافته إلى الخصال، والجملة خبره؛ وهي (من كن فيه وجد)؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان) باستلذاذه الطاعات وتحمل المشقات في أمر الدين، وهل هذه الحلاوة محسوسة أو معنوية؟ فيه خلاف، والأرجح الأول، ويدل له قول بلال:(أحد أحد) حين عُذِّب في الله؛ إكراهًا على الكفر، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وعند موته قالوا أهله: واكرباه، وهو يقول:(واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه)، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، (من كان الله) يجوز في إعرابه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلًا من (ثلاث) أو بيانًا، ويجوز أن [يكون] خبرًا لقوله:(ثلاث) على تقدير كون الجملة الشرطية صفة لـ (ثلاث)، والثاني: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الأول مِن الذين فيهم الخصال من كان الله (ورسوله أحب إليه مما سواهما) من نفسه، وولده، ووالده، وأهله، وماله، وكل شيء، ولهذا قال:(مما) ولم يقل: ممن؛ ليعم من يعقل ومن لا يعقل.