الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفتح العين، واسمه: هَرْم؛ بفتح الهاء وسكون الراء، ابن عمر بن جرير.
(عن جَرير)؛ بفتح الجيم، ابن عبد الله البجلي جد أبي زرعة الراوي عنه هنا لأبيه، وكان بديع الجمال، طويل القامة، وكان نعله ذراعًا، (أن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قال) : جملة محلها الرفع خبر (إن)، (له) وعند المؤلف في (حجة الوداع) :(أن النبي عليه السلام قال لجرير)، (في حَجة)؛ بفتح الحاء وكسرها، (الوَداع)؛ بفتح الواو وكسرها، والمشهور: الفتح فيهما، وإنَّما سمِّيت بحجة الوداع؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام ودَّع الناس فيها، والمقالة كانت عند جمرة العقبة واجتماع الناس للرمي وغيره.
(استنصت) : أمر من الإستنصات، (استفعال) من الإنصات، ومعناه: طلب السكوت، (الناس) والجملة من الفعل، والفاعل، والمفعول مقول القول، وقد أنكر بعضهم لفظة (له) من قوله: قال له في حجة الوداع، معللًا بأن جريرًا أسلم قبل وفاته عليه السلام بأربعين يومًا، وتوقف المنذري؛ لثبوتها في الطرق الصحيحة، وقد ذكر غير واحد أنه أسلم في رمضان سنة عشر، فأمكن حضوره مسلمًا لحجة الوداع، وحينئذ فلا خلل في الحديث كما أوضحه في «عمدة القاري» .
(فقال) عليه السلام بعد أن أنصتوا: (لا ترجعوا)؛ أي: لا تصيروا، (بعدي)؛ أي: بعد موتي أو موقفي هذا، (كفارًا) نصب خبر لا ترجعوا المفسر بلا تصيروا، فيكون من الأفعال الناقصة؛ أي: لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار، أو دوموا مسلمين أولا يكفِّر بعضكم بعضًا فتستحلوا القتال.
(يضربُ بعضكم رقاب) جمع: رقبة، (بعض)؛ بالرفع في (يضرب) على الصفة لـ (كفارًا)؛ أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا متصفين بهذه الصفة القبيحة، يعني ضرب بعضهم رقاب بعض آخرين، أو على الحال من ضمير (ترجعوا)؛ أي: لا ترجعوا
(1)
بعدي كفارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض، أو على الاستئناف كأنه قيل: كيف يكون الرجوع كفارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض، فمعناه:
على الأول: لا ترجعوا عن الدين بعدي فتصيروا مرتدِّين مقاتلين يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حق.
وعلى الثاني: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض بينكم باستحلال القتل، ولا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفار في الانهماك في تهييج الشرِّ وإثارة الفتن من غير إشفاق بعض على بعض.
وعلى الثالث: لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقٍّ، فإنَّه فعل الكفار، وجوَّز الإمام أبو البقاء وابن مالك جزم (يضرب) على أنه بدل من (لا ترجعوا) وأن يكون جزاء الشرط مقدرًا
(2)
؛ أي: فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض، أو أن يكون جواب النهي، والمعنى: لا تتشبهوا بالكفار في قتل بعضهم بعضًا.
وقد جرى بين الأنصار كلام بمحاولة اليهود حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 101]؛ أي: تفعلون فعل الكفار، وسياق الخبر يدل على أن النهي عن ضرب الرقاب والنهي عما قبله بسببه، كما جاء في حديث أبي بكرة:«إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام» وذكر الحديث، ثم قال: «ليبلِّغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارًا
…
»؛ الحديث، فهو شرح لما تقدم من تحريم بعضهم على بعض.
فإن قلت: رقاب جمع: رقبة، وليس لكل شخص إلا رقبة واحدة، ولا شك أن ضرب الرقبة الواحدة منهي عنه.
قلت: البعض وإن كان مفردًا، لكنه في معنى الجمع، كأنه قال: لا يضرب فرقة منكم رقاب فرقة أخرى، والجمع في مقابلة الجمع أو ما في معناه يفيد التوزيع.
وفي الحديث: وجوب الإنصات عند قراءة الحديث والعلم وغيره من العلوم الشرعية.
وفيه: تعلق بعض المبتدعة في إنكار حجة الوداع؛ لأنَّه نهى الأمة بأسرها عن الكفر ولولا جواز إجماعها عليه؛ لما نهاها، والجواب أن الامتناع إنَّما جاء من جهة خبر الصادق لا من الإمكان، وقد قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، ومن المعلوم أنه عليه السلام معصوم، كذا حققه في «عمدة القاري» ، والله تعالى أعلم.
(44)
[باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم
فيكل العلم إلى الله]
هذا (باب ما)؛ أي: الذي، (يستحب للعالم إذا) : شرطية، (سُئِل) بالبناء للمجهول، (أيُّ الناس)؛ أي: شخص من أشخاص الناس، (أعلم) من غيره، (فيكل) الفاء في جواب (إذا)، وأصله: يوكل حذفت الواو؛ لوقوعها بين الياء والكسرة؛ أي: فهو يكل، (العلم إلى الله) تعالى، والجملة بيان لما يستحب، أو (إذا) ظرف لـ (يستحب) والفاء تفسيرية على أن (يكل) في تقدير المصدر بتقدير أن؛ أي: ما يستحب وقت السؤال هو الوكول إلى الله تعالى، وصرَّح بـ (أن) في رواية، كما في «عمدة القاري» .
[حديث: قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل]
122 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسنَدي؛ بفتح النون، (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عُيينة؛ بضم العين، (قال: حدثنا)، وفي رواية:(أخبرنا)، (عَمرو)؛ بفتح العين، ابن دينار، (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، (سعيد بن جُبَير)؛ بضم الجيم وفتح الموحدة.
(قال: قلت لابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما، فالسائل هنا سعيد بن جبير، والمجيب ابن عباس، وفيما تقدم أن ابن عباس تمارى هو والحر بن قيس فمرَّ بهما ابن كعب فسأله ابن عباس، فيحتمل أن يكون سعيد بن جبير سأل ابن عباس بعد الوقعة الأولى المتقدمة لابن عباس والحر، وجاء أن السائل غير ابن جبير، قال سعيد: (كنت عند ابن عباس وعنده قوم من اليهود فقال بعضهم: يا أبا عبد الله
…
) إلخ، فقال ابن عباس: (كذب
…
) إلخ.
(إن نَوْفًا)؛ بفتح النون وسكون الواو آخره فاء، ابن فَضَالة؛ بفتح الفاء والضاد المعجمة، أبو يزيد القاص، (البِكالي)؛ بالنصب صفة لـ (نوفًا)، بكسر الموحدة وفتحها وتخفيف الكاف نسبة إلى بكال بطن من حمير، وهو ابن امرأة كعب الأحبار على المشهور، وهمزةإن مكسورة، و (نوفًا)؛ بالنصب اسمها، وهو منصرف في اللغة الفصيحة، وفي بعضها غير منصرف، وكتبت بدون ألف؛ لأنَّه أعجمي، لكن الأفصح: الصرف؛ لأنَّ سكون وسطه يقاوم إحدى العلتين فيبقى الاسم بعلة واحدة كنوح ولوط، كما بسطه في «عمدة القاري» .
(يزعم) : جملة من الفعل والفاعل محلها الرفع خبر (إن)، والزعم بمعنى: القول فلا يقتضي إلا مفعولًا واحدًا وهو قوله: (أن)؛ بفتح الهمزة، (موسى) : ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وإن كان الزعم بمعنى: الظن فأن مع اسمها وخبرها سدت مسد المفعولين؛ أي: موسى صاحب الخضر.
(ليس بموسى بني إسرائيل) الباء زائدة للتأكيد، وهي جملة محلها الرفع خبر (أن)، وفي رواية: بحذف الباء الموحدة من موسى؛ أي: المرسل لبني إسرائيل؛ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و (موسى) وإن كان علمًا؛ لا يضاف، لكنَّه نكر بأن أوِّل بواحد من الأمة المسماة به ثم أضيف إليه.
(إنما هو موسًى)؛ بالتنوين؛ لكونه نكرة فانصرف؛ لزوال العلمية وعدمه وهو ظاهر، (آخر) غير منصرف؛ للوصفية الأصلية ووزن الفعل فلا ينون على كل حال، وغلبت عليه الاسمية المحضة، فاضمحل عنه معنى التفضيل بالكلية، يعني: يزعم نوف أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بن عمران الذي أرسل إلى فرعون، وإنما هو موسى بن مِيْشا؛ بكسر الميم، وسكون التحتية، وبالشين المعجمة، وميشا يعني: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو أول موسى وهو نبي أيضًا مرسل، وزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر.
(فقال) ابن عباس: (كذب عدو الله) نوف ومن تبعه في هذه المقالة، وهذا وقع من ابن عباس على طريق الإغلاظ على القائل، بخلاف قوله: ولم يرد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق؛ فيطلقون أمثال هذا الكلام؛ لقصد الزجر والتنفير عنه، وحقيقته غير مرادة، وكان ذلك منه حال الغضب وألفاظ الغضب تطلق ولا يراد بها حقائقها.
(حدثنا)، وفي رواية:(حدثني)، (أبيُّ بن كعب)؛ بالرفع فاعل التحديث، وهو الصحابي المشهور رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه (قال: قام موسى) ابن عمران، (النبي)؛ بالرفع صفة (موسى)، صلى الله عليه وسلم حال كونه، (خطيبًا في بني إسرائيل)، أولاد يعقوب عليه السلام، وهم اثني عشر الذين سماهم الأسباط، كالشعوب من العجم، والقبائل من العرب، وجميع بني إسرائيل منهم.
(فسُئل)؛ بضم السين المهملة، (أيُّ الناس أعلم) : مبتدأ مضاف وخبره، والتقدير:
(1)
في الأصل: (ترجوا).
(2)
في الأصل: (مقدر).
أعلم منهم، كما في قولك: الله أكبر؛ أي: من كل شيء، (فقال) موسى:(أنا أعلم) الناس؛ أي: فيما ظهر لي، واقتضاه شاهد الحال أو دلالة النبوة، وهذا أبلغ من الرواية السابقة، هل تعلم أن أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فإنه إنَّما نفى هناك علمه، وهنا على البت.
(فعتب الله عليه)؛ أي: لم يرض قوله شرعًا، وعن أُبي قال:(أعجب موسى بعلمه فعاتبه الله بما لقي من الخضر)، وهو من باب التنبيه لموسى والتعليم لمن بعده لئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه، والعجب بحالها فيهلك، (إذ)؛ بسكون الذال للتعليل، (لم يُرد)؛ بضم الدال اتباعًا لضمة الراء، والفتح للخفة، والكسر على الأصل من أن الساكن إذا حرك يحرك بالكسر، ويجوز فك الإدغام أيضًا.
(العلم)؛ بالنصب مفعول (يرد)، (إليه)، وفي رواية:(إلى الله تعالى) فكان ينبغي أن يقول: الله أعلم، وقالت الملائكة:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وسئل النبي الأعظم عليه السلام عن الروح وغيره فقال: لا أدري حتى أسأل الله عز وجل، والعتب؛ بمعنى: المؤاخذة وتغير النفس وهما في حق الله تعالى محال فيراد به: لم يرض قوله شرعًا.
(فأوحى الله) تعالى (إليه)؛ أي: إلى موسى، (أن)؛ بفتح الهمزة؛ أي: بأن، (عبدًا)؛ أي: الخضر، وفي رواية: بكسر الهمزة على تقدير فقال إن عبدًا، (من عبادي) محله النصب صفة عبدًا، (بمجمع البحرين) : الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كائنًا بمجمع البحرين؛ أي: ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق، وقال أبي بن كعب: إنه بإفريقية وقيل: بطنجة، كما بسطه في «عمدة القاري» .
(هو)؛ أي: العبد المسمى: بالخضر، (أعلم منك) جملة اسمية محلها رفع خبر (إن)؛ أي: بشيء مخصوص، كما يدل عليه قول الخضر الآتي: إنِّي على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمك الله لا أعلمه، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر بما اختص به من الرسالة، وسماع الكلام، والتوراة، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى عليه السلام، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم، وإن قلنا: إن الخضر ليس بنبي؛ بل ولي، فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به، والقائل بخلافه كافر بالإجماع؛ لأنَّه معلوم من الشرع بالضرورة.
(قال رب) أصله: يا رب، فحذف حرف النداء، وياء المتكلم للتخفيف اكتفاء بالكسرة، وفي رواية:(يا رب)، (وكيف لي به) بالواو، وفي رواية: بالفاء؛ أي: كيف الالتقاء لي بذلك العبد، و (لي) : في محل رفع خبر مبتدأ محذوف وهو الالتقاء المقدر، و (كيف) وقع حالًا، والتقدير: على أيِّ حالة الالتقاء وبه يتعلق بالمقدر، والفاء على الرواية الثانية زائدة، والفاء في قوله:(فقيل) عاطفة، (له: احمل) أمر وفاعله مستتر.
(حوتًا) : مفعوله والجملة مقول القول، (في مِكَتل)؛ بكسر الميم وفتح الفوقية شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا كما في «العباب» وهو في محل نصب صفة لـ (حوتًا)؛ أي: حوتًا كائنا في مكتل، (فإذا) للشرط، (فَقَدته)؛ بفتح الفاء والقاف؛ أي: الحوت جملة فعل الشرط، (فهو ثَمَّ)؛ بفتح المثلثة ظرف؛ بمعنى: هناك جملة وقعت جواب الشرط فلذا دخلته الفاء؛ أي: العبد الأعلم منك هناك، (فانطلق) : موسى، (وانطلق معه بفتاه) : التصريح بالمعية للتأكيد وإلا فالمصاحبة مستفادة من الباء في (بفتاه)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (معه).
(يُوشَع)؛ بضم التحتية وفتح المعجمة، مجرور بالفتحة عطف بيان لـ (فتاه) غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، (ابن نون) : مجرور بالإضافة منصرف كنوح ولوط على الأفصح، وهو من أولاد يوسف بن يعقوب عليه السلام وكان يخدمه، وقيل: يأخذ عنه العلم، (وحملا حوتًا في مكتل)، كما وقع الأمر به وقد قيل: كانت السمكة مشوية مملوحة وقيل شق سمكة.
(حتى) للغاية، (كانا عند الصخرة) الحجر الكبير التي دون نهر الزيت بالمغرب الموعود بلقي الخضر عنده، (وضعا رؤوسهما) على الصخرة، (وناما)، وفي رواية:(فناما) بالفاء وكلاهما للعطف على (وضعا)، وفيه غاية التواضع لله تعالى، (فانسلَّ الحوت) المشوي المملوح، (من المكتل)؛ لأنَّه أصاب الحوت من ماء عين الحياة التي في أصل الصخرة لا يصيب مائها لشيء إلا حييى، فتحرك الحوت وانسلَّ من المكتل فدخل البحر، كذا في طريق للمؤلف.
(فاتخذ سبيله)؛ أي: طريقه، (في البحر سربًا)؛ أي: مسلكًا؛ بالنصب على المصدرية أو المفعولية وفي رواية: عند المؤلف: (فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (وكان) إحياء الحوت المملوح وإمساك جرية الماء حتى صار مسلكًا، (لموسى وفتاه عجبًا)؛ بالنصب خبر كان، وجاء عند المؤلف:(فكان للحوت سربًا ولموسى عجبًا)؛ فيجوز أن يكون من قول يوشع ومن قول موسى ثم قال موسى: (عجبت من هذا عجبًا)، فيحسن على هذا الوقف على البحر ويتبدى عجبًا، كذا قاله الزجاج، وقال غيره: يجوز أن يكون إخبارًا من الله تعالى؛ أي: اتخذ موسى طريق الحوت في البحر عجبًا، كذا في «عمدة القاري» .
(فانطلقا بقيةً)؛ بالنصب على الظرفية، (ليلتِهما)؛ بالجر على الإضافة، (ويومِهما)؛ بالجر عطفًا على ليلتهما والنصب على إرادة سير جميع اليوم، وعند المؤلف في «التفسير» و «مسلم» :(فانطلقا بقية يومهما وليلتهما)، قال القاضي: وهو الصواب لقوله: (فلما أصبح) ولا يقال: أصبح إلا عن ليل، وفي رواية:(حتى إذا كان من الغد)، وما زعمه ابن حجر رده في «عمدة القاري» .
(قال موسى) : جواب (لما)، (لفتاه آتنا غدَائَنا)؛ بفتح الغين مع المد، الطعام يؤكل أول النهار؛ بالنصب على المفعولية، واللام في (لقد) للتأكيد وقد للتحقيق، (لقينا من سفرنا هذا نصَبًا)؛ بفتح النون والصاد، بالنصب مفعول (لقينا)؛ أي: تعبًا، والإشارة لسير البقية والذي يليها ويدل عليه قوله:(ولم يجد موسى) عليه السلام، (مسًّا)، وفي رواية:(شيئًا) بالنصب مفعول (تجد)(من النصب) : في محل نصب صفة (مسًّا)؛ أي: مساء حاصلًا أو واقعًا من النصب؛ أي: التعب.
(حتى) : للغاية؛ أي: إلى أن، (جاوز المكان الذي أمر به)؛ أي: أمره الله بلقي الخضر فألقى عليه الجوع والنصب، (فقال)، وفي رواية:(قال)، (له فتاهُ)؛ بالرفع فاعل (قال) :(أرأيت)؛ أي: أخبرني ما دهاني، (إذ) : ظرف بمعنى: حين، (أوينا)؛ أي: رقدنا، (إلى الصخرة) عندها، (فإني نسيت الحوت)؛ أي: فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت و (الفاء) : تفسيرية زاد في رواية: (وما أنسانيه)؛ أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وإنما نسبه للشيطان هضمًا لنفسه.
(قال موسى ذلك) : مبتدأ؛ أي: فقدان الحوت، (ما) : موصولة (كنا نبغي) : خبر المبتدأ والعائد محذوف؛ أي: نبغيه؛ أي: نطلب؛ لأنَّه علاه وجدان المقصود ويجوز حذف الياء من (نبغي) للتخفيف وبها قرئ، (فارتدَّا) : رجعا (على آثارهما) : في الطريق الذي جاءا فيه يقصَّان، (قصصًا) فهو منصوب على المصدرية؛ أي: يتبعان آثارهما اتباعًا، (فلما أتيا إلى الصخرة)، وفي نسخة:(انتهيا) زاد مسلم: (فأراه مكان الحوت، فقال: ههنا وصف لي) وإلى هنا انتهى كلام يوشع؛ فافهم.
(إذا) : للمفاجأة، (رجل) : مبتدأ تخصص بالصفة وهي قوله: (مسجًّى)؛ أي: مغطًّى، (بثوب) والخبر محذوف؛ أي: نائم، (أو قال: تسجى بثوبه) شكٌّ من الراوي، ويروى أنهما اتبعا أثر الحوت وقد يبس الماء في ممرِّه فصار طريقًا فأتيا جزيرة فوجدا
(1)
الخضر قائمًا يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر؛ أي: وسطه.
(فسلم موسى) عليه السلام، (فقال الخضر: وأنَّى)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون المفتوحة؛ أي: كيف، (بأرضك السلام)؛ أي: السلام بهذه الأرض عجيب، ويؤيده ما في التفسير: هل بأرض من سلام، وكأنها كانت داركفر وكانت تحيتهم بغير السلام، وقد تكون (أنى)؛ بمعنى: أين، فهي ظرف مكان و (بأرضك) محله النصب على الحال من السلام.
(فقال)، وفي رواية:(قال) : (أنا موسى فقال) له الخضر: أنت (موسى بني إسرائيل) : فهو خبر لمبتدأ محذوف، (قال: نعم) أنا موسى بني إسرائيل، فهو مقول القول ناب عن الجملة، وهذا يدل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علَّمهم الله تعالى؛ لأنَّ الخضر لو كان يعلم كل غيب؛ لعرف موسى قبل أن يسأله.
(قال: هل) : للاستفهام، (أتبِعُك على أن) : مصدرية؛ أي: على اتباعي إياك، (تعلمني مما علمت)؛ أي: من الذي علمك الله علمًا، (رشدًا) فهو منصوب صفة لمصدر
(1)
في الأصل: (فوجد).
محذوف.
روي أنه قال له الخضر: كفى بالتوراة علمًا وببني إسرائل شغلًا، فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا، و (من) في (مما علمت) للتبعيض، فطلب تعليم بعض ما علِّم، كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا لك في العلم؛ بل أطلب منك أن تفيدني بعض ما علِّمت.
قال البيضاوي: ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقًا، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه، انتهى.
وقال الإمام الزمخشري: لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، وإنما يغضُّ منه أن يأخذ ممن دونه، قال الكرماني: هذا الجواب لا يتم على تقدير ولا يته.
أجاب في «عمدة القاري» : بأن الزمخشري قائل بنبوته كما ذهب إليه الجمهور؛ بل هو رسول وينبغي اعتقاد ذلك؛ لئلَّا يتوسل به أهل الزيغ والضلال والفساد من المبتدعة الملاحدة في دعواهم أن الولي أفضل من النبي نعوذ بالله من ذلك.
وقال ابن حجر: هذا الجواب فيه نظر؛ لأنَّه يستلزم نفي ما أوجب.
وأجابه في «عمدة القاري» : بأن هذه الملازمة ممنوعة فلو بين وجهها؛ لأجيب عن ذلك، والله تعالى أعلم؛ فافهم.
(قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ لأنك ترى أمورًا منكرة بحسب الظاهر ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات، (يا موسى؛ إنِّي على علم من علم الله علمنيه)(من) للتبعيض، والجملة من الفعل، والفاعل، والمفعولين أحدهما: ياء المفعول والثاني: الضمير الذي يرجع إلى العلم، محلها الجر صفة لـ (علم)، (لا تعلمه أنت) : صفة أخرى، فالأولى من الصفات الإيجابية والثانية من الصفات السلبية.
(وأنت على علم) : مبتدأ وخبر عطف على قوله: (إني على علم)، (علمك الله) : جملة من الفعل، والفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: علَّمك الله إياه، والجملة صفة لعلم، وفي رواية:(علمكه الله) بهاء الضمير الراجع إلى العلم، (لا أعلمه) : صفة أخرى، وهذا لا بدَّ من تأويله؛ لأنَّ الخضر كان يعرف من علم الشرع ما لا غنى للمكلف عنه، وموسى كان يعرف من علم الباطن ما لا بدَّ منه، كما لا يخفى، قاله القسطلاني.
(قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا)؛ بالنصب مفعول ثاني لـ (ستجدني)، وقوله:(إن شاء الله) معترض بين المفعولين؛ أي: غير منكر.
وفيه: دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى خلافًا للمعتزلة.
(ولا أعصي لك أمرًا) : في محل نصب عطفًا على (صابرًا)؛ أي: ستجدني صابرًا وغير عاصٍ، وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن أو لعلمه بصعوبة الأمر؛ فإنَّ مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد بلا خلف، أفاده البيضاوي وغيره.
(فانطلقا) على السَّاحل حال كونهما، (يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة)؛ أي: مركب، وأول من أحدثه نوح عليه السلام قبل الطوفان، فكان كل يوم يشتغل بها فيأتي قومه بالليل فيخرِّبوها، فيأتي نهارًا يجدِّدها إلى أن خلق الله له الكلاب تحرسها إلى أن تمَّت وركب فيها.
(فمرت بهما سفينة) : (فعيلة)؛ بمعنى: (فاعلة) كأنها تسفن الماء؛ أي: تقشره وتشقه، (فكلموهم)؛ أي: كلَّم موسى والخضر أصحاب السفينة، والجمع إمَّا للتعظيم أو لما فوق الواحد، وما قيل: إنهم ثلاثة موسى، والخضر، ويوشع؛ يردُّه تثنية الضمير في (فانطلقا يمشيان ليس لهما، فمرت بهما) فإنه راجع إلى موسى والخضر؛ فليحفظ.
(أن)؛ أي: لأن، (يحملوهما)؛ أي: لأجل حملهم إياهما معهم فيها، (فعُرف)؛ بضم العين، (الخضر)؛ أي: عرف أهل السفينة الخضر كأنه معلوم عندهم يرونه في بعض الأوقات، لما روي عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال:«كان الخضر ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر، فطلبه أبوه فلم يقدر عليه» ، كذا في «حواشي شيخ زاده» .
(فحملوهما)؛ أي: موسى والخضر، (بغير نَول)؛ بفتح النون؛ أي: بغير أجرة، والنول بالواو: الجعل، وأما يوشع؛ فإنه لم يركب معهما، فتركاه قبيل الصخرة؛ لأنَّه لم يقع له ذكر بعد ذلك، وما قيل: إنه روي: (فحملوهم)؛ بالجمع وهو يقتضي أنه ركب معهم: ممنوع بإعادة ضمير التثنية فيما سبق عليهما، أو للتعظيم، أو لما فوق الواحد؛ فافهم.
(فجاء عُصفور)؛ بضم العين طير مشهور سمي به؛ لأنَّه عصى وفر، وقيل: إنه الصرد، (فوقع على حرف) طرف، (السفينة فنقر نقرةً)؛ بالنصب على المصدرية، (أو نقرتين) عطف عليه، (في البحر)؛ أي: شرب منه، وهو يدل على أن البحر عذب؛ لأنَّ الملح لا يشربه الحيوان بأنواعه.
(فقال الخضر) حين رأى نقرة العصفور، وقد رآها موسى أيضًا، (يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله)؛ أي: معلوماته، (إلا كنقرة هذا العصفور في البحر)، وعند المؤلف:(ما علمي وعلمك في جنب الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر)؛ أي: في جنب معلوم الله، فيطلق العلم ويراد به المعلوم، من إطلاق المصدر وإرادة الفعل، وقيل: إن (إلا)؛ بمعنى: ولا، كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك ولا ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر؛ لأنَّ علم الله لا ينقص بحال، وقيل:(نقص)؛ بمعنى: أخذ؛ لأنَّ النقص أخذ خاص، والمقصود منه التشبيه في القلة والحقارة لا المماثلة في كل الوجوه، كما بسطه في «عمدة القاري» .
(فعمَد)؛ بفتح الميم، كضرب، (الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه)، وعند المؤلف:(فوتد فيها وتدًا)، وجاء أيضًا:(فعمد إلى قدوم فخرق به)، وقيل:(أخذ فأسًا فخرق لوحًا حتى دخلها الماء فحشاها موسى بثوبه)، والذي ذكره المفسرون أنه قلع لوحين مما يلي الماء ولعلَّه كان شقين.
(فقال) له (موسى) عليه السلام: هؤلاء (قومٌ) : مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ما علمت، أو هم قوم، (حملونا) : جملة صفة لـ (قوم)، (بغير نَول)؛ بفتح النون: الجعل، والمراد به الأجرة، (عمَدت)؛ بفتح الميم، (إلى سفينتهم فخرقتها لتُغرِق)؛ بضم الفوقية وكسر الراء، على الخطاب مضارع أغرق؛ أي: لأنَّ تغرق (أهلهَا)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية:(لتَغرَق)؛ بفتح الفوقية وفتح الراء، على الغيبة مضارع غرق، و (أهلُها)؛ بالرفع على الفاعلية.
(قال) له الخضر: (ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ فذكره بما قال له من قبل، (قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت)؛ أي: بالذي نسيته، أو بشيء نسيته؛ يعني: وصيته بأن لا يعترض عليه، أو بنسياني إياها، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها، وقيل: أراد بالنسيان: الترك؛ أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة.
فإن قلت: قول الخضر: (إنك لن تستطيع معي صبرًا)، وقول موسى:(ستجدني إن شاء الله صابرًا) يستلزم صدور الكذب من أحدهما، فإن كل واحد من القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وصدوره من أحدهما ينافي عصمة الأنبياء.
قلت: وأجيب: بأنه لم يحصل صدور الكذب من واحد منهما، أما من الخضر؛ فلتحقق عدم الصبر من موسى باستخباره عما رأى من الخضر وأنكره نظرًا لظاهره، وأما من موسى؛ فإنه قد استثنى في جوابه (وقال: ستجدني إن شاء الله صابرًا) فإن التعليق بالمشيئة يدفع الحنث وينافي الكذب، كمن قال لآخر: آتيك غدًا إن شاء الله تعالى، ولم يأته في الغد لا يكون كذبًا.
وقال ابن عباس: لما خرق الخضر السفينة؛ تنحى موسى بناحية ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت أتلو في بني إسرائيل كتاب الله غدوة وعشية وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى تريد أن أخبرك بما حدَّثت به نفسك، قال: نعم، قال: قلت: كذا وكذا، قال: صدقت، زاد في رواية أبي ذر:(ولا ترهقني من أمري عسرًا)؛ أي: ولا تغشني عسرًا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي، فإن ذلك يعسر علي متابعتك، (فكانت) المسألة، (الأولى من موسى) عليه السلام، (نسيانًا)؛ بالنصب خبر كان.
وقال ابن عباس: إنَّما سمي الإنسان إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، وفي رواية:(نسيانُ)؛ بالرفع على أن (كانت) : تامة، و (الأولى) : مبتدأ، و (نسيان) : خبره، أو يكون (كانت) : زائدة والتقدير: فالأولى من موسى نسيان، (فانطلقا)؛ أي: موسى والخضر بعد خروجهما من السفينة.
(فإذا) : للمفاجئة، (غلام)؛ بالرفع
مبتدأ، وقد تخصَّص بالصفة وهي قوله، (يلعب مع الغلمان) والخبر محذوف تقديره: فإذا غلام يلعب مع الغلمان بالحضرة أو نحوها، وكانوا عشرة وهو أظرفهم وأوضأهم، قال ابن عباس: كان الغلام لم يبلغ الحنث، وقال الضحاك: كان غلامًا يعمل بالفساد ويتأذَّى منه أبواه، وقال الكلبي: كان الغلام يسرق المتاع بالليل فإذا أصبح؛ لجأ إلى أبويه فيحلفان دونه شفقة عليه، ويقولان: لقد بات عندنا، واختلف في اسمه: فقال الضحاك: جيسون، وقال شعبة: جيسور، وقال وهب: كان اسم أبيه: ملاس، واسم أمه: رحمى.
(فأخذ الخضر برأسه من أعلاه)؛ أي: مسك الخضر رأس الغلام فجرِّه، (فاقتلع رأسه بيده) وعند المؤلف في (بدء الخلق) :(فأخذ الخضر برأسه، فقطعه بيده هكذا) أومأ سفيان بأطراف أصابعه (كأنه يقطف شيئًا)، وفي «التفسير» : ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا مع الغلمان؛ فاقتلع رأسه فقتله، وجاء فوجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين.
وقال الكلبي: صرعه ثم نزع رأسه من جسده فقتله، وقيل: رفعه برجله فقتله، وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل: أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، والفاء في (فاقتلع) للدلالة على أنه لما رآه اقتلع رأسه من غير تروٍّ واستكشاف حال.
(فقال موسى) للخضر عليهما السلام، (أقتلت نفسًا زكيَّة)؛ بتشديد التحتية؛ أي: طاهرة من الذنوب، وهي أبلغ من زاكيَة بالتخفيف، وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية التي لم تذنب قطٌّ، والزكية التي أذنبت ثم غفرت، ولهذا اختار قراءة التخفيف، فإنها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم، والهمزة في (أقتلت) ليست للاستفهام الحقيقي، فهي كما في قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6].
وكانت قصة الغلام في أُبُلَّة؛ بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة بعدها هاء، مدينة بالقرب من البصرة وعبادان، وقيل: بأَيْلا؛ بفتح الهمزة وسكون التحتية واللام الممدودة، مدينة على ساحل بحر القلزم على طريق الحاج المصري، وزعم قوم: أن الغلام كان بالغًا يعمل الفساد واحتجوا بقوله: (بغير نفس) الباء للمقابلة، والقصاص إنَّما يكون في حق البالغ ولم يرها قد أذنبت ذنبًا يقتضي قتلها، أو قتلت نفسًا فتقاد به، نبه على أن القتل إنَّما يباح حدًّا أو قصاصًا وكلا الأمرين منتفٍ.
وأجاب الجمهور: بأنا لا نعلم كيف كان شرعهم، ولعله كان يجب على الصبي كما يجب في شرعنا عليه غرامة المتلفات، أو المراد به: التنبيه على أنه قتل بغير حق.
(قال) الخضر لموسى عليهما السلام (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ بزيادة (لك) في هذه المرة زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.
(قال) سفيان (بن عُيينة)؛ بضم العين، (وهذا)؛ أي: زيادة (لك)، (أوكد)، واستدل عليه بزيادة (لك) في هذه المرة، كذا في «الكشاف» ، ولما سمع الخضر مقالة موسى؛ اقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، فإذا في عظم كتفه؛ مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدًا، وفي «مسلم» :(وأما الغلام؛ فطبع يوم طبع كافرًا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك؛ أرهقهما طغيانًا وكفرًا)، قال المؤلف:(وكان ابن عباس يقرأ: وكان أبواه مؤمنين وهو كان كافرًا)، وعنه:(أنه قرأ: وأما الغلام؛ فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين)، كذا في «عمدة القاري» .
(فانطلقا) : موسى والخضر (حتى أتيا)، وفي رواية:(حتى إذا أتيا) موافقة للقرآن، (أهل قرية) : هي أنطاكية، كما قاله ابن عباس، وقيل: قرية من قرى الروم يقال لها: ناصرة وإليها تنسب النصارى، وقيل: إنها باجروان مدينة بنواحي أرمينية من أعمال شروان عندها عين الحياة، قال أبي بن كعب: وكان أهلها لئام وافياها بعد غروب الشمس.
(استطعما أهلها)؛ أي: سألاهم الطعام، فإن آخر كسب الجائع الإقدام على المسألة والاستطعام، وهو أمر مباح في كل الشرائع، وربما يجب ذلك عند خوف التلف والضرر الشديد، (فأبوا أن يضيِّفوهما)؛ أي: من أن يضيفوهما، فـ (أن) مصدرية؛ أي: من تضييفهما، و (أبوا)؛ بالموحدة من الإباء وهو الامتناع؛ أي: امتنعوا من استطعامهما، وروي أن أهل القرية لما سمعوا نزول هذه الآية؛ استحيوا وجاؤوا إلى النبي الأعظم عليه السلام بحمل من الذهب، وقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء الموحدة تاء مثناة فوقية حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما؛ أي: إتيان أهل القرية إليهما لأجل الضيافة، وقالوا غرضنا منه أن يدفع عنا هذا اللؤم، فامتنع النبي الأعظم عليه السلام، وقال: إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله وهو يوجب القدح في الآلهية فعلمنا به أن تغيير النقطة الواحدة يوجب بطلان
(1)
الربوبية، كذا في «حواشي شيخ زاده» ، ولم يجدوا تلك الليلة في تلك القرية قرى ولا مأوى وكانت ليلة باردة.
(فوجدا فيها)؛ أي: في القرية، (جِدارًا)؛ بكسر الجيم، وكانا قد التجأا
(2)
إليه في تلك الليلة وهو على شاطئ الطريق، قيل: كان سمكه مئتي ذراع بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمس مئة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا.
(يريد أن) : مصدرية، (ينقض)؛ أي: يريد الانقضاض؛ أي: الإسراع بالسقوط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز؛ لأنَّه لا إرادة له حقيقة، والمراد هنا المشارفة على السقوط، وقال الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، وعند المؤلف:(مائل وكان أهل القرية يمرون تحته على خوف)، (قال الخضر بيده)؛ أي: أشار بها، وفي رواية:(فمسحه بيده)، (فأقامه) كالطين يمسحه القلال فاستوى، وعن ابن عباس: أنه هدمه ثم بناه، وقيل: أقامه بعود عمده به، وفيه إطلاق القول على الفعل، وفي رواية:(يريد أن ينقضَّ فأقامه).
(قال موسى)، وفي رواية:(فقال له موسى)؛ أي: للخضر (لو شئت لاتَّخَذت)؛ بهمزة وصل، وتشديد الفوقية، وفتح الخاء، على وزن:(افتعلت) من تخذ؛ كاتبع وليس من الأخذ عند البصريين، وفي رواية:(لتخذت)؛ أي: لاتخذت، (عليه أجرًا) : فيكون لنا قوتًا وبلغة على سفرنا إذ استضفناهم؛ فلم يضيفونا، فكأنه لما رأى الحرمان، ومساس الحاجة، واشتغاله بما لا يعنيه؛ لم يتمالك نفسه، (قال) الخضر لموسى:(هذا فراق بيني وبينك) : بإضافة الـ (فراق) إلى الـ (بين) إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، والإشارة في قوله:(هذا) إلى الفراق الموعود بقوله: (فلا تصاحبني)، أو تكون الإشارة إلى السؤال الثالث؛ أي: هذا الاعتراض سبب للفراق أو إلى الوقت؛ أي: هذا الوقت وقت الفراق، أفاده في «عمدة القاري» .
(قال النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى) إخبار، ولكن المراد منه الإنشاء لأنَّه دعاء له بالرحمة، (لودِدْنا)؛ بكسر الدال الأولى وسكون الثانية، واللام فيه جواب قسم محذوف وكلمة (لو) هنا؛ بمعنى: أن الناصبة للفعل؛ كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، والتقدير: والله، (لو صبر)؛ أي: صبر موسى؛ أي: لأنَّه لو صبر؛ لأبصر أعجب الأعاجيب، (حتى يقصُّ) على صيغة المجهول، (علينا من أمرهما) : مفعول ما لم يسمى فاعله.
وهذه القصة كانت حين كان موسى في التيه، فلما فارقه الخضر؛ رفع إلى قومه وهم في التيه وقيل: كانت قبل خروجه من مصر، وما فعله الخضر كله كان بوحي يدل عليه قوله:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛ لأنَّ هذه الأفعال لا يجوز لأحد أن يفعلها إلا بالوحي.
وفي الحديث: إثبات كرامات الأولياء، وصحة الولاية، وجواز الإجارة، وركوب البحر والتزود للسفر، وهو لا ينافي التوكل خلافًا لمن نفاه، والحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه.
وفيه: إذا تعارضت مفسدتان؛ يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما.
وفي شهر ذي القعدة سنة ست وسبعين ومئتين وألف، وقع القتال بين الطائفة الدروز وبين النصارى التي في قرية زحلة، وقرى البقاع، وجبل بيروت فانتصرت الدروز عليهم وصار الواحد منهم يقاوم المئة من النصارى، وخشي الوالي الذي
(3)
بدمشق أحمد
(1)
في الأصل: (بصلان).
(2)
في الأصل: (التجأ).
(3)
في الأصل: (التي).