الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة؛ سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله عليه السلام بذلك؛ لأنَّه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير رضي الله عنه بلبس الحرير؛ لحكة كانت به، أو للقمل فإنه كان كثير القمل، أو لأنَّهم كانوا كفارًا في علم الله عز وجل، ورسوله عليه السلام علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس) انتهى.
فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم عليه السلام بذلك؟
قلت: قد كانت
(1)
إبله عليه السلام ترعى الشيح والفيوم، وأبوال الإبل الذي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستسقاء، فإذا كان كذلك؛ كان الأمر في هذا أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي كون هذه شفاء، وعرف أيضًا من هضم الذي تزيله هذه الأبوال فأمرهم بذلك، ولا يوجد هذا في زماننا حتى إذا فرضنا أن أحدًا عرف مرض شخص بقوة العلم وعرف أنه لا يزيله إلا تناول المحرم؛ يباح له حينئذٍ تناوله كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة، وأيضًا التمسك بعموم قوله عليه السلام:«استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» أولى؛ لأنَّه ظاهر في تناول جميع الأبوال فيجب اجتنابها لهذا الوعيد، والحديث رواه أبو هريرة وصححه ابن خزيمة وغيره مرفوعًا.
فإن قلت: لو كانت أبوال الإبل محرمة الشرب؛ لما جاز التداوي بها؛ لما روى أبو داود من حديث أم سَلَمَة رضي الله عنها: «أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» .
قلت: هذا محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار؛ فلا يكون حرامًا؛ كالميتة للاضطرار، كما ذكرنا، وقال ابن حزم:(هذا حديث باطل؛ لأنَّ في سنده سلمان الشيباني، وهو مجهول).
قلت: أخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، وصحَّحه.
وقوله: (إن في سنده سلمان) وهم، وإنما هو سليمان؛ بزيادة مثناة تحتية، وهو أحد الثقات، أخرج عنه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» .
فإن قلت: يردُّ عليه قوله عليه السلام في الخمر: «إنها ليست بدواء، وإنها داء» في جواب من سأله عند التداوي بها؟
قلت: هذا روي عن سويد بن طارق: أنه سأل رسول الله عليه السلام عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فيها، فنهاه، فقال: يا نبي الله؛ إنها دواء، فقال:«لا، ولكنها داء» ، وأجاب ابن حزم عن ذلك، فقال: (لا حجة فيه؛ لأنَّ في سنده سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وغيره، ولو صح؛ لم يكن فيه حجة؛ لأنَّ فيه أن الخمر ليست
(2)
بدواء، ولا خلاف بيننا في أن ما ليس بدواء لا يحل تناوله)، وقد أجاب ابن حجر: بأن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيره من المسكرات.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ دعوى الخصوصية بلا دليل لا تسمع، والجواب القاطع: أن هذا محمول على حالة الاختيار، كما ذكرنا، قاله في «عمدة القاري» ، واعترضه العجلوني: بأنه إنَّما ذكر النبيُّ عليه السلام الدائية في الخمر، فقيس عليها بقية المسكرات، وأما باقي المسكرات؛ فليس كذلك، فالمثبت لها حكم الخمر هو المحتاج للدليل.
قلت: وهذا خبط فاسد، فإن دليل باقي المسكرات ثابتة بالقياس على الخمر؛ لكمال الجامع بينهما على أنهادِّعاء الخصوصية غير مزال، بل هو باقٍ، ومدعيها مطالب بالدليل، وذكر النبيُّ الأعظم عليه السلام الدائية في الخمر؛ نظرًا إلى حالة الاختيار كما علمت؛ فليحفظ.
ثم قال في «عمدة القاري» : (فإن قلت: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا)، وروي عن جابر والبَرَاء رضي الله عنهما مرفوعًا:«ما أكل لحمه؛ فلا بأس ببوله» ، وحديث ابن مسعود الآتي ذكره في باب (إذا ألقي على ظهر المصلي قذرًا وجيفة؛ لم تفسد صلاته)، والحديث الصحيح الذي ورد في غزوة تبوك:(فكان الرجل يجر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي في كبده)، قلت: أما حديث ابن عمر؛ فغير مسند؛ لأنَّه ليس فيه أنه عليه السلام علم بذلك، وأما حديث جابر والبَرَاء؛ فرواه الدارقطني وضعَّفه، وأما حديث ابن مسعود؛ فلأنَّه كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم، وقال ابن حزم:(هو منسوخ بلا شك)، وأما حديث غزوة تبوك؛ فقد قيل: إنه كان للتداوي، وقال ابن خزيمة:(لو كان الفرث إذا عصره نجسًا؛ لم يجز للمرء أن يجعله على كبده) انتهى.
(قال أبو قِلابة)؛ بكسر القاف، عبد الله:(فهؤلاء)؛ أي: العرنيون والعكليون (سرقوا) إنَّما أطلق عليهم سراقًا؛ لأنَّهم أخذوا اللقاح سرقة؛ لكونه من حرز حافظ، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: الحافظ هو الراعي، فإذا كان مع المواشي راعٍ وهو حافظ لها، وسرق منها شيء؛ قطع، كذا أطلقه شيخ الإسلام خواهر زاده، وقيل: لا بد للقطع من وجود حافظ سوى الراعي، كذا قاله الإمام البقالي، وأفتى به، ووفق في «فتح القدير» : بأن الراعي لم يقصد حفظها من السارق بخلاف غيره، ولو كانت تأوي في الليل إلى بيت بني لها عليه باب مغلق فكسره وسرق منها شاة؛ قطع، ولا يعتبر الغلق إذا كان الباب مردودًا إلا أن يكون بيتًا منفردًا في الصحراء بمأوى المراح، كذا في «النهر الفائق» ، وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
(وقتلوا)؛ أي: قتلوا راعي لقاح النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، ورعيان إبل الصدقة كما قدمناه؛ فافهم، (وكفروا بعد إيمانهم) قال الكرماني: عُلِم ذلك من الطرق الأُخر، فقد روى مسلم في «صحيحه» ، والترمذي: أنهم ارتدوا عن الإسلام، قال القسطلاني: وهو في رواية سَعِيْد عن أنس في (المغازي)، وفي رواية وهيب في (الجهاد) في أصل الحديث؛ فتأمل، (وحاربوا) بالحاء المهملة (الله ورسوله) عليه السلام، وإنما أطلق عليهم محاربين؛ لما ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس رضي الله [عنه] في أصل الحديث، وهربوا محاربين، وقول المؤلف: (قال أبو قلابة
…
) إلخ إن كان داخلًا
(3)
في قول أيُّوب مفعولًا له؛ يكون داخلًا تحت الإسناد، وإن كان مقول البخاري؛ يكون تعليقًا منه، كذا قاله في «عمدة القاري» ، وزعم ابن حجر: أن هذا قاله أبو قلابة استنباطًا، ثم قال: ليس موقوفًا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم، ورده في «عمدة القاري» ، فقال:(قلت: كلامه متناقض، كما لا يخفى) انتهى.
قلت: ولم يذكر وجه التناقض، ووجهه ظاهر، فإن قوله:(قاله استنباطًا) يفيد أنه موقوف عليه.
وقوله: (ليس موقوفًا) يفيد أنه مرفوع، وهذا التناقض ظاهر، وزعم العجلوني: أن مراد ابن حجر أنه استنباط من أبي قلابة هو قوله: (سرقوا)، وأما الذي جعله ليس موقوفًا على أبي قلابة؛ فهو قوله: (وكفروا بعد إيمانهم
…
) إلخ؛ فتأمل.
قلت: تأملته فرأيته خلطًا وخبطًا، فإن المتبادر من كلام ابن حجر والظاهر منه أن قول أبي قلابة جميعه استنباطًا، وأنه ليس موقوفًا، وهذا التفصيل الذي زعمه العجلوني هو غير مراده؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لصرح به، وما هو إلا كلام بارد، وذهن شارد.
قال في «عمدة القاري» : (وفي الحديث من الأحكام: نظر الإمام في مصالح قدوة القبائل والغرباء إليه وأمره لهم بما يناسب حالهم، وإصلاح أبدانهم، وفيه: جواز التطبُّب وطب كل جسد بما اعتاده، ولهذا أفرد البخاري بابًا لهذا الحديث وترجم عليه: (الدواء بأبوال الإبل وألبانها)، وفيه: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء، فإنه عليه السلام بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاء، واختلف
(1)
في الأصل: (كان).
(2)
في الأصل: (ليس)، وكلاهما صحيح.
(3)
في الأصل: (دخلًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار، فنفاه الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وأثبته مالك، والشافعي، وفيه: مشروعية المماثلة في القصاص، وفيه: جواز عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
…
}؛ الآية [المائدة: 33]، وهل كلمة (أو) فيها للتخيير أو للتنويع قولان، وفيه: قتل المرتد من غير استتابة، وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف مشهور، وقيل: هؤلاء حاربوا والمرتد إذا حارب لا يُسْتَتَاب؛ لأنَّه يجب قتله، فلا معنى للاستتابة، انتهى، والله تعالى أعلم.
[حديث: كان النبي يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم]
234 -
وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بفتح الهمزة الممدودة، هو ابن أبي إياس؛ بكسرها (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا)(أبو التَّيَّاح)؛ بفتح المثناة الفوقية المشددة، وتشديد التحتية، آخره حاء مهملة بعد الألف، وثبت في رواية زيادة:(أبو التياح يزيد بن حميد)، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبني المسجد) أي: مسجده عليه السلام (في مرابض الغنم)؛ جمع مَربِض؛ بفتح الميم، وكسر الموحدة، من ربَض بالمكان يربِض من باب (ضرَب يضرِب)؛ إذا لصق به، وأقام ملازمًا له، والمربض: المكان الذي يربض فيه، والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل، وربوض الغنم كنزول الجمل، وقول ابن حجر:(المِربَض؛ بكسر أوله، وفتح الموحدة) غلط فاحش صريح، كما لا يخفى، قال ابن المُنْذِر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصَّلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصَّلاة في مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبعارها وأبوالها، وممن روي عنه إجازة ذلك وفعله: ابن عمر، وجابر، وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سيرين، والنخعي، وعطاء، وقال ابن بطال: حديث الباب حجة على الشافعي؛ لأنَّ الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من البعر والبول، فدل على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر، ففيه المطابقة للترجمة قال في «عمدة القاري» : قد استدلَّ به من يقول بطهارة بول المأكول ولحمه
(1)
، وروثه، وقالوا: لأنَّ المرابض لا تخلو عن ذلك، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة، وأجاب مخالفوهم: باحتمال وجود الحائل، ورد عليهم: بأنهم لم يكونوا يصلون على حائل دون الأرض، ورد عليهم: بأنه شهادة على النفي، وأيضًا فقد ثبت في «الصحيحين» عن أنس رضي الله عنه:(أن النبيَّ عليه السلام صلى على حصير في دارهم)، وصح عن عائشة رضي الله عنها:(أنه عليه السلام كان يصلي على الطريق)، وقال ابن حزم: هذا الحديث -يعني: حديث الباب -منسوخ؛ لأنَّ فيه أن ذلك كان قبل أن يُبْنى المسجد، فاقتضى أنه في أول الهجرة، ورد عليه بما صح عن عائشة:(أنه عليه السلام أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطَيَّبَ وتُنَظَّف)، رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد:(وأن يطهرها)، قال: وهذا بعد بناء المسجد، وما ادُّعي من النسخ يقتضي الجواز، ثم المنع، ويرد هذا إذنه عليه السلام في الصَّلاة في مرابض الغنم، وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: «إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم، وأعطان الإبل؛ فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» ، قال الطوسي والترمذي:(حديث حسن صحيح)، وفي «تاريخ نيسابور» من حديث أبي حيان، عن أبي زرعة، عنه مرفوعًا:«الغنم من دوابِّ الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها» ، وعند البزار في «مسنده» :«وأحسنوا إليها، وأميطوا عنها الأذى» ، وفي حديث عبد الله بن المغفَّل:«صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين» .
قال البيهقي: (كذا رواه جماعة)، وقال بعضهم: كنا نؤمر ولم يذكر النبيَّ عليه السلام، وفي لفظ:«إذا أدركتم الصَّلاة وأنتم في مراح الغنم؛ فصلوا فيها؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصَّلاة وأنتم في أعطان الإبل؛ فاخرجوا منها؛ فإنها جن خلقت من الجن، ألا ترى أنها إذا نفرت؛ كيف تشمخ بأنفها» ، وفي مسند عبد الله بن وهب البصري، عن سَعِيْد بن أبي أيُّوب، عن رجل حدثه عن ابن المغفَّل:(نهى النبيُّ عليه السلام أن يصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلَّى في مراح الغنم والبقر)، وعند ابن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:«لا يُصلَّى في أعطان الإبل، ويُصلَّى في مراح الغنم» ، وعند أبي القاسم بسند: لا بأس به، عن عُقْبَة بن عامر:«صلوا في مرابض الغنم» ، وكذا رواه ابن عمر، وأُسَيْد بن حضير، وعند ابن خزيمة من حديث البَرَاء: سئل النبيُّ عليه السلام عن الصَّلاة في مرابض الغنم، فقال:«صلُّوا فيها؛ فإنها بركة» .
وقال ابن المُنْذِر: (تجوز الصَّلاة أيضًا في مراح البقر؛ لعموم قوله عليه السلام: «أينما أدركتك الصَّلاة؛ فصلِّ»، وهو قول عطاء، ومالك).
قلت: ذهل ابن المُنْذِر عن حديث عبد الله بن وهب الذي ذكرناه آنفًا حتى استدل بذلك، فلو وقف عليه؛ لاستدل به، والله أعلم، انتهى كلامه رحمه الله، ورضي عنه.
(67)
[باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء]
(باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء)؛ فـ (ما) موصول اسمي، أو حرفي، أو نكرة موصوفة، واقتصر في «عمدة القاري» على جعلها مصدرية، وجعل (من) بيانية، فقال: هذا باب في بيان حكم وقوع النجاسة في السمن والماء، واعترض تقدير ابن حجر هل ينجسها أم لا؟ أو لا ينجس الماء إلا إذا تغيَّر دون غيره، انتهى، فقال:(لا حاجة إلى هذا التفسير، فكأنه لما خفي عليه المعنى الذي ذكرناه؛ قدر ما قدره) انتهى كلام «عمدة القاري» ، وابن حجر.
قلت: ولا يخفى على المنصف حسن كلام «عمدة القاري» وما قدرناه، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وأشار المؤلف بـ (السمن) إلى كل جامد رطب؛ كالدبس، والعسل، وغيرهما، وبـ (الماء) إلى سائر المائعات، وأن الجامد الرطب لا يتنجس منه إلا ما لاقى النجس فقط، وأما المائع؛ فإن كان ماء؛ ينظر، فإن كان جاريًا؛ فلا ينجس إلا بالتغيير، وإن كان غيره؛ فيتنجَّس مطلقًا بمجرد الملاقاة له، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
(وقال) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (الزُّهري)؛ الفقيه المدني نزيل ديارنا الشريفة الشامية، وهذا تعليق من المؤلف، ولكنه قد وصله عبد الله بن وهب في «مسنده» عن يونس عنه قال:(كل ماء فضل مما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه، ولا لونه، ولا ريحه؛ فلا بأس أن يتوضَّأ به)، وروي في هذا المعنى حديث عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله عليه السلام: «إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه، وطعمه، ولونه» ، رواه ابن ماجه، وقال الدارقطني:(إنما يصح هذا من قول راشد بن سعد، ولم يرفعه غير رشيد بن سعد).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ أبا أحمد بن عديٍّ رواه في «الكامل» من طريق أحمد بن عمر، عن حفص بن عمر: حدثنا ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة؛ فرفعه، وقال: لم يروه عن ثور إلا حفص.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ البيهقي رواه من حديث أبي الوليد، عن الساماني، عن عطية بن بقية بن الوليد، عن أبيه، عن ثور، وقال البيهقي: والحديث غير قوي إلا أنا لا نعلم في
(1)
في الأصل: (لحمه)، ولعل المثبت هو الصواب.
نجاسة الماء إذا تغير بالنَّجاسة خلافًا، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: على أنه قد ورد هذا الحديث في بئر بُِضاعة اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها؛ بئر قديمة بالمدينة يلقى فيها الجِيَف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السلام حين توضأ منها، فقال: «الماء طهور
…
»؛ الحديث، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين تسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النَّجاسة فيه عندنا، فهذا الحديث إن صح؛ فهو محمول على بئر بضاعة، وهو غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغير الماء بالنَّجاسة؛ تتنجس بالإجماع، وتمامه في «منهل الطلاب» .
(لَا بَأْسَ)؛ أي: لا حرج (بِالْمَاءِ)؛ أي: في استعمال الماء المطلق؛ لأنَّه باقٍ على طهارته (مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله وكسر التحتية آخره، وضميره يعود على الماء، و (ما) : ظرفية مصدرية مأولة بمدة، وقوله:(طَعْمٌ)؛ بالرفع فاعله (أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ)؛ أي: كل ماء طاهر في نفسه ولا ينجس بإصابة الأذى؛ أي: النَّجاسة إلا إذا تغير أحد الأشياء الثلاثة منه؛ وهي الطعم واللون والريح، فكل ماء دائم وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وأمَّا الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة؛ جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر، وهو إمَّا طعم أو لون أو ريح؛ لأنَّ النَّجاسة لا تستقر فيه مع جريان الماء، والمراد بالجاري ما يعده العرف جاريًا على الأظهر، وقيل: هو ما يذهب بقشة واحدة، وهو الأشهر، قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: الطعم أو الريح أو اللون هو المغيَّر -بفتح التحتية المشددة- لا المغيِّر على صيغة الفاعل، والمغيِّر؛ بالكسر: هو الشيء النجس الذي يخالطه، فكيف يجعل الطعم أو الريح أو اللون مغيرًا على صيغة الفاعل على ما وقع في عبارة البخاري، وأمَّا الذي في عبارة عبد الله بن وهب؛ فهو على الأصل؟
قلت: المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغيره لما كان لم يعلم إلا من جهة الطعم أو الريح أو اللون؛ فكأنه هو المغير، وهو من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، وزعم الكرماني، فقال: لا بأس؛ أي: لا يتنجس الماء بوصول النجس إليه قليلًا أو كثيرًا، بل لا بد من تغيير أحد الأوصاف الثلاثة في تنجسه، والمراد من لفظ:(ما لم يتغير) : طعمه، فنقول: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور في لفظ الزُّهري: طعم الماء أو طعم الشيء المنجس، فعلى الأول معناه: ما لم يغير الماء من حاله التي خلق عليها طعمه له لا بد أن يكون بشيء نجس؛ إذ البحث فيه، وعلى الثاني معناه: ما لم يغير الماء طعم النجس، ويلزم منه تغيير طعم الماء؛ إذ لا شك أن الطعم هو المغير للماء للطعم، واللون للون، والريح للريح؛ إذ الغالب أن الشيء يؤثر في الملاقي بالنسبة، وجعل الشيء متصفًا بصفة نفسه، ولهذا يقال: لا يسخن الحار، ولا يبرد البارد، فكأنه قال: ما لم يغير طعم الماء طعم الملاقي النجس أو لا بأس؛ معناه: لا يزول طهوريته ما لم يغيره طعم من الطعوم الطاهرة أو النجسة، نعم؛ إذا كان المغير طعمًا نجسًا؛ نجسه، وإن كان طاهرًا؛ يزيل طهوريته لا طهارته، ففي الجملة: في
(1)
اللفظ تعقيد، انتهى.
وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: تفسيره هكذا هو عين التعقيد؛ لأنَّه قد فسر قوله: «لا بأس» بمعنيين؛ أحدهما: بقوله: «لا يتنجس
…
» إلى آخره، والآخر: بقوله: «لا تزول طهوريته» ، وكلا المعنيين لا يساعد اللفظ، بل هو خارج عنه، وقوله:«المغير للطعم هو الطعم» : غير سديد؛ لأنَّ المغير للطعم غير الطعم، وهو الشيء الملاقي له، وكذلك اللون والريح، وكذلك قوله:«والمراد من لفظ: ما لم يغيره طعمه ما لم يتغير طعمه» : غير موجه؛ لأنَّه تفسير للفعل المتعدي بالفعل اللازم من غير وجه، وكذلك ترديده بقوله: «لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور
…
» إلى آخره: غير موجه؛ لأنَّ الضمير في «لم يغيره» يرجع إلى الماء، فيكون المعنى على هذا: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم الماء، وطعم الماء ذاتي، فكيف يغير ذات الماء؟ وإنما يغير طعم الشيء الملاقي، والفرق بين الطعمين ظاهر) انتهى.
وقد خبط وخلط العجلوني في هذا المقام وادَّعى أنه التحقيق، وعرج عن عبارة الكرماني وعبارة «عمدة القاري» ، ثم اختصر عبارة «عمدة القاري» بعبارة مغلقة ونسبها لنفسه، ونقل أثر الزُّهري بعبارة غير العبارة السابقة التي ذكرناها، واعترض على صاحب «عمدة القاري» : بأنَّه ليس الذي رواه ابن وهب على الأصل كما يتوهم.
قلت: والحال أن الواهم في ذلك هو العجلوني؛ لعدم نقل عبارة الزُّهري بالتحقيق، وإنما نقلها بلفظ مخل محرف حتى يعترض، واعتراضه مردود عليه، كما لا يخفى، وإنما لم يذكر عبارة الكرماني؛ لكونها غير جارية على التحقيق، ولم يذكر عبارة «عمدة القاري» ؛ للتعصب والتعنت، بل غيَّرها بعبارة مغلقة غير واضحة، واعتمدها ونسبها لنفسه؛ فافهم واحفظ؛ لكونها في غاية من التحقيق، ونهاية من الدقيق، فلله در صاحب «عمدة القاري» ما أغزر علمه وأوفر فهمه! وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه.
قلت: وحاصله: أن الطعم وأخويه مغير، والماء متغير به، وهو طعم النجس أو لونه أو ريحه؛ فإنه هو الذي غير الماء أو طعم الماء أو لونه أو ريحه الحاصل بمخالطة النَّجاسة، فالمتغير هو الماء، لكنه لمَّا لم يعلم تغيره من جهة طعمه أو ريحه أو لونه؛ كان هو المتغير، فهو من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والله تعالى أعلم.
وقال في «منهل الطلاب» : المراد من هذه الأوصاف -أعني: الطعم واللون والريح- أوصاف النَّجاسة لا الشيء المتنجس؛ كماء الورد والخل مثلًا، فلو صب في ماء جار؛ يعتبر أثر النَّجاسة التي فيه لا أثره نفسه؛ لطهارة المائع بالغسل، وكذا الثوب المصبوغ بالصبغ النجس، والمخضوبة بالحناء النجس والعضو ونحوه المتلطخ بالدهن النجس إذا وضع في الماء الجاري فظهر فيه لون الصبغ والحناء وأثر الدهن؛ لا يتنجس ما لم يظهر فيه أثر النَّجاسة لا أثر هذه الأشياء، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري» : واستنبط منه: أن مذهب الزُّهري في الماء الذي يخالطه شيء نجس الاعتبار بتغييره بذلك من غير فرق بين القليل والكثير، وهو مذهب جماعة، وشنع أبو عبيد في كتاب (الطهور) على من ذهب إلى هذا بأنَّه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفًا؛ أنه يجوز له التطهير به، وهو مستبشع.
وزعم ابن حجر أن هذا نصر قول التفريق بالقلتين.
وردَّه في «عمدة القاري» قال: قلت: كيف ينصر هذا بحديث القلتين، وقد قال ابن العربي: مداره على علقمة أو مضطرب في الرواية أو موقوف؟! وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو إباضي، واختلفت روايته؛ فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا، وروي: أربعون قلة، وروي: أربعون غربًا، ووقف على أبي هريرة وعبيد الله بن عمر، وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عنه من جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب، ولعل مسلمًا تركه لذلك.
قلت: ولذلك لم يخرِّجه البخاري؛ لاختلاف وقع في إسناده، وقال أبو عمر في «التمهيد» : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنَّه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، وقال الدبوسي في كتاب «الأسرار» : وهو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم يعملوا به، انتهى، وقال في «منهل الطلاب» : وحديث القلتين ضعيف بالاضطراب سندًا ومتنًا، أما الأول؛ فقال أبو دواد: إن في إسناده ضعفًا، وقال ابن المديني شيخ البخاري: حديث القلتين مما لا يثبت، وقال البيهقي: الحديث غير قوي، وقد
(1)
في الأصل: (ففي)، ولعل المثبت هو الصواب.
تركه الغزالي والروياني مع شدة اتباعهما للشافعي؛ لشدة ضعفه، وأما الثاني؛ فلأنَّه روي بطريق مختلفة، فتارة روي:(إذا بلغ الماء قلتين)، وتارة:(ثلاثًا)، وتارة:(أربعين قلة)، وتارة:(أربعين دلوًا)، وقول الشافعي في الحديث:(بقلال هجر) منقطع للجهالة، والقلة في نفسها مجهولة؛ لأنَّها تذكر، ويراد بها: قامة الرجل، وتُذكر ويُراد بها: رأس الجبل، كما روي ذلك عن علي، وتذكر ويُراد بها: الجرة، والتعيين لـ (قلال هجر) : لا يثبت بقول جرير؛ لأنَّه مقلد، فيبقى الاحتمال ويبطل الاستدلال به، والله أعلم.
ومذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه: أن الماء إما جار أو راكد، قليل أو كثير، فالجاري إذا وقعت فيه نجاسة وكانت غير مرئية؛ كالبول، والخمر، ونحوهما؛ فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وإن كانت مرئية؛ كالجيفة ونحوها، فإن كان يجري عليها جميع الماء؛ لا يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري أكثره عليها؛ فكذلك اعتبارًا للغالب، وإن كان أقله يجري عليها؛ يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري عليها النصف دون النصف؛ فالقياس جواز التوضؤ، وفي الاستحسان لا يجوز احتياطًا، والراكد اختلف فيه؛ فقال الظاهرية: لا ينجس أصلًا، وقال عامة العلماء: إن كان الماء قليلًا؛ ينجس، وإن كان كثيرًا؛ لا ينجس، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما؛ فعندنا: بالخلوص، فإن كان يخلص بعضه إلى بعض؛ فهو قليل، وإلا؛ فهو كثير، واختلف أئمتنا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر؛ فهو مما يخلص، وإلا؛ فهو مما لا يخلص، واختلفوا في جهة التحريك؛ فروى الإمام أبو يوسف عن الإمام الأعظم: أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى الإمام محمَّد: أنه يعتبر بالوضوء، وروي: أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء، وأمَّا اعتبارهم في تفسير الخلوص؛ فروى الإمام أبو حفص الكبير: أنه اعتبره بالصبغ، وروى أبو نصر: أنه اعتبره بالصبغ، وروى أبو نصر: أنه اعتبره بالتكدير، وروى الجوزجاني: أنه اعتبره بالمساحة، فقال: إن كان عشرًا في عشر؛ فهو لا يخلص، وإن كان دونه؛ فهو مما يخلص، وعن ابن المبارك: أنه اعتبره بالعشرة أولًا، ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب الإمام أبو مطيع البلخي، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر؛ أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين؛ لا أجد في قلبي شيئًا، وعن الإمام محمَّد: أنه قدره بمسجده، وكان ثمانيًا في ثمان، وبه أخذ الإمام محمَّد بن سَلَمَة، وقيل: كان مسجده عشرًا في عشر، وقيل: كان ثمانيًا في ثمان، وخارجه عشرًا في عشر، وعن الإمام الكرخي: أنه لا عبرة للتقدير، وإنما المعتبر هو التحرِّي، فإن كان أكبر، رأيه: أن النَّجاسة خلصت إلى الموضع الذي يتوضأ منه؛ لا يجوز، وإن كان أكبر، رأيه: أنها لم تصل إليه؛ يجوز.
قال في «منهل الطلاب» : (والتحقيق: أن الخلوص مفوض إلى رأي المبتلى غير مقدر بشيء، فإن غلب على ظنه عدم الخلوص؛ أي: وصول النَّجاسة إلى الجانب الآخر؛ جاز منه الوضوء، وإن لم يغلب على ظنه عدم الخلوص أو اشتبه عليه الخلوص؛ لا يجوز)، وهو ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم، وإليه رجع الإمام محمَّد، وهو الأصح، كما في «غاية البيان» و «الينابيع» ، وحقق في «البحر الرائق» : أنه المذهب، وبه يعمل، وهو الأليق بأصل الإمام الأعظم، وقال شمس الأئمَّة:(المذهب التحرِّي والتفويض إلى رأي المبتلى، وهو الأصح) انتهى.
ومثله في «فتح القدير» ، لكن قال في شرح «المنية» : وعامة المتأخرين سهلوا الأمر، واختاروا ما اختاره الإمام أبو سليمان الجوزجاني: أنه يعتبر الخلوص بالمساحة، وهو أن يكون عشرًا في عشر؛ أي: طوله عشرة أذرع، وعرضه كذلك، فيكون وجه الماء مئة ذراع، وجوانبه أربعون ذراعًا إن كان مربعًا، كذا ذكره شيخ الإسلام في «المبسوط» ، وبه أخذ مشايخ بلخ، والإمام المعلى، قال الإمام أبو الليث: وهو قول أكثر أصحابنا، وعليه الفتوى، ومشى عليه بعض أصحاب المتون، وفي «الهداية» :(وعليه الفتوى)، وقواه في «النهر» ، ورد ما قاله في «البحر» ، وحققه شيخ الإسلام سعد الدين الديري في «رسالته» ، ورد على من قال بخلافه، وقد جرى كثير من المتأخرين عليه؛ فليكن هو المذهب، وإلى غيره لا يذهب، والله تعالى أعلم، وتمامه في «منهل الطلاب» ؛ فافهم.
(وقال) الإمام الكبير (حمَّاد)؛ بتشديد الميم، على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن سليمان، فقيه الكوفة، وشيخ الإمام الأعظم رضي الله عنهما، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في «مصنفه» : حدثنا معمر عن حمَّاد بن سليمان أنَّه قال: (لا بأس) أي: لا حرج (بريش الميتة)؛ يعني: ليس بنجس ولا ينجس الماء الذي وقع فيه، سواء كان ريش المأكول لحمه أو غيره، وهذا مذهب الأئمَّة الحنفية والمالكية، وزعم الشافعية أنه نجس، ولا دليل يدل لهم؛ لأنَّه لا تحله الحياة، ولا يتألم الحيوان بقطعه؛ فهو طاهر لا يغير الماء والمائعات عن الطهورية، (وقال الزُّهري) : محمَّد بن مسلم ابن شهاب (في عِظام) بكسر العين المهملة، جمع عظمة (الموتى) : جمع ميت، ويجمع أيضًا على أموات، يشمل العاقل وغيره كما هنا؛ (نحو) أي: مثل (الفيل وغيره)؛ أي: غير الفيل مما لا يؤكل لحمه، وكذا جميع أجزاء الميتة التي لا دم فيها؛ كالقرن، والسن، والظلف، والحافر، والوبر، والصوف، والشعر؛ كلها طاهرة لا تنجس بالموت، وهو مذهب الأئمَّة الحنفية، ومحمَّد بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والمزني، وابن المُنْذِر، لكن قالوا: هؤلاء -العظم، والقرن، والظلف- نجسة، فخالفونا في هذه الثلاثة، وفي العصب روايتان: الطهارة والنَّجاسة، والأصح: أنه طاهر، وخالف الشافعية، فزعموا أنها كلها نجسة إلا الشعر، فإن فيه خلافًا ضعيفًا، وفي العظم أضعف منه، وأمَّا الفيل؛ ففيه خلاف، فعند الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف: هو كسائر السباع، فيجوز الانتفاع بعظمه وجلده بالدباغ، وعند الإمام محمَّد: هو نجس العين حتى لا يجوز بيع عظمه، ولا يطهر جلده بالدباغ ولا بالذكاة، والمعتمد الأول، وعليه الفتوى؛ فافهم:(أدركت ناسًا)؛ أي: كثيرين، فالتنوين فيه للتكثير (من سلف العلماء) : وهم الصحابة والتابعون رضي الله عنهم (يمتشطون بها)؛ أي: بعِظام الموتى؛ يعني: يجعلون منها مشطًا ويستعملونه، فهذا يدل على طهارته، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، (ويدَّهنون)؛ بتشديد الدَّال (فيها)؛ أي: في عِظام الموتى؛ أي: يجعلون فيها ما يحط فيه الدهن، وأصل (يدَّهنون) : يتدهنون؛ لأنَّه من باب (الافتعال)، فقلبت الفاء دالًا، وأدغمت الدَّال في الدَّال.
وزعم ابن حجر أنه يجوز ضم أوله، وإسكان الدَّال.
وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّه على هذا يكون من باب الإدهان، فلا يناسب ما قبله، إلا إذا جاءت فيه رواية بذلك، وذلك لأنَّ معناه بالتشديد: هم يدهنون أنفسهم، وإذا كان من باب (الإفعال)؛ يكون معناه: هم يدهنون غيرهم، فلا مانع من ذلك، إلا أنه موقوف على الرواية، وقال بعض الشراح عن السفاقسي: فيه ثلاثة أوجه؛ اثنان منها ما ذكرناهما الآن، والوجه الثالث: