الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: مَنْبِج؛ بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الموحدة، آخره جيم: بلدة من كور قنسرين، بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسماها: منبه، وبنى بها بيت نار ووكل بها رجلًا فعربت، فقيل: منبج، والنسبة إليها: منبجي على الأصل، ومنبجاني على غير القياس، والباء تفتح في النسبة، كما يقال في النسبة إلى صدف: صدفي؛ بفتحها، وعن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى مَنبِج؛ بفتح الميم، وكسر الباء، ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذا قال ثعلب: يقال: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب في لفظ الحديث.
وأما معناها؛ فزعم عبد الملك بن حبيب في «شرح الموطأ» هي كساء غليظ يشبه الشملة، يكون سداه قطنًا غليظًا أو كتانًا غليظًا، ولحمته صوف ليس بالمبرم، في فتله لين غليظ يلتحف بها في الفراش، وقد يشتمل بها في شدة البرد، وقيل: هي من أدوان الثياب الغليظة، يتخذ من الصوف، وقيل: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان للكساء علم؛ فهو خميصة، وإن لم يكن؛ فهو أنبجانية، انتهى كلامه
(فإنها) أي: الخميصة (ألهتني)؛ أي: شغلتني، وهو من الإلهاء، وثلاثيه لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه؛ إذا غفل، وهو من باب (علِم يعلَم)، وأما لها يلهو؛ إذا لعب؛ فهو من باب (نصَر ينصُر)، وفي «الموعب» : وقد لها يلهو والتهى، وألهاني منه كذا؛ يعني: أنساني وشغلني، كذا في «عمدة القاري» .
(آنفًا)؛ بفتح الهمزة الممدودة؛ أي: قريبًا، واشتقاقه من الائتناف
(1)
بالشيء؛ أي: الابتداء به، وكذلك الاستئناف، ومنه: أنف كل شيء وهو أوله، ويقال: قلت: آنفًا وسالفًا، وانتصابه على الظرفية، قال ابن الأثير:(قلت: الشيء آنفًا؛ أي: في أول وقت يقرب مني) انتهى.
(عن صلاتي)؛ أي: عن كمال الحضور فيها، وتدبير أركانها وأذكارها، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أنه لا يقال هذا المعنى؛ لأنَّ قوله في التعليق الآتي:(فأخاف أن تفتني) يدل على نفي وقوع ذلك، انتهى.
قلت: إمام الشَّارحين قد فسر معنى هذا الحديث وهو يدل على أنه قد وقع الإلهاء منه؛ لأنَّ قوله: (ألهتني) صريح في الوقوع، وأما التعليق؛ فإنه لم يتعرض له هنا، وسيأتي الكلام عليه على أنه يحتمل تعدد القصة؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: فإن قلت: كيف بعث عليه السلام بشيء يكرهه إلى غيره؟
قلت: بعثها لأبي جهم لم يكن لما ذكر، وإنما كان لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع، وعن ذكر الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم:«اخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه واد به شيطان» ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعائشة في الضب:«إنا لا نتصدق بما لا نأكل» ، وكان هو صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله لدفع الوسوسة، ولكن كرهها؛ لدفع الوسوسة.
وزعم ابن بطال أن بعثه عليه السلام الخميصة لأبي جهم وطلب أنبجانيته هو من باب الإدلال عليه؛ لعلمه بأنه يفرح بذلك، انتهى.
فإن قلت: أليس فيه تغيير خاطر أبي جهم بالرد عليه؟
قلت: لعلمه بأنه يفرح بذلك، كما زعمه ابن بطال.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا ليس بشيء، والأولى منه هو ما دلت عليه رواية أبي موسى المديني: «ردوها عليه وخذوا أنبجانيته»؛ لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه، وعند أبي داود: «شغلني أعلام هذه»، وأخذ كرديًّا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله؛ الخميصة كانت خيرًا من الكردي) انتهى.
قلت: فهذا يرد ما زعمه ابن بطال، ويدل على أنه عليه السلام علم أن أبا جهم يكره رد الهدية، وأنه عليه السلام طلب الأنبجانية تطييبًا لخاطره، ولئلا يتأذى قلبه بذلك؛ فافهم.
فإن قلت: أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم الخميصة في صلاته؟
قلت: لا يلزم منه ذلك، ومثله قوله في حلة عطارد؛ حيث بعث بها إلى عمر بن الخطاب:«إني لم أبعث بها إليك لتلبسها» ، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو كساء لغيره من النساء.
فإن قلت: ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر؛ لأنَّه عليه السلام قال له: «لم أبعث بها إليك لكذا» ، وكذا وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته، فكيف لا تلهي أبا جهم، على أنه قيل: إنه كان أعمى، فالإلهاء مقصود عنده؟
قلت: لعله عليه السلام علم أنه لا يصلي فيها، ويحتمل أن يكون خاصًّا بالشَّارع، كما قال:«كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي» .
فإن قلت: المراقبة شغلت خلقًا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم به.
قلت: أولئك كانوا يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشَّارع عليه السلام يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص غير الكل؛ فقال:«لست كأحدكم» ، وإذا سلك طريق غيرهم؛ قال:«إنما أنا بشر» ، فرد إلى حالة الطبع، فنزع الخميصة ليس فيه ترك كل شاغل، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث أحكام؛ ففيه جواز لبس الثوب المعلم، وجواز الصلاة فيه، وفيه أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وزعم ابن بطال وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقًا بالصلاة، والذي حكي عن بعض السلف: أنه مما يضر غير معتد به) انتهى.
وفيه طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عنه، ولهذا قال أصحابنا: المستحب أن يكون المصلي نظره إلى موضع سجوده؛ لأنَّه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينًا وشمالًا.
وفيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة، والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها.
وفيه منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهم موضع قدمه إذا مشى.
وفيه تكنية العالم لمن دونه وكذا الإمام.
وفيه كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات.
وفيه قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود؛ لعدم ذكر الصيغة.
وفيه كراهة الأعلام التي يتعاطاها الناس على أردائهم.
وفيه أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرًا في النفوس الطاهرة
(2)
والقلوب الزكية.
(1)
في الأصل: (الإيناء)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (الظاهرة)، وهو تصحيف.
وقال الطيبي: (إنما أرسلها إليه؛ لأنَّه كان أهداها إياه، فلما ألهاه علمها؛ أي: شغله عن الصلاة بوقوع نظره إلى نقوش العلم؛ ردها عليه، أو تفكره في أن مثل ذلك للرعونة التي لا يليق به ردها إليه، واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه) انتهى.
(وقال هشام بن عروة) : هو ابن الزبير، قال إمام الشَّارحين:(وهذا تعليق رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام، ورواه أبو داود عن عبيد الله، عن معاذ، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عنه، ورواه أبو معمر فقال: عمرة عن عائشة، قال الإسماعيلي: ولعله غلط منه، والصحيح عروة، ولم يذكر أبو مسعود هذا التعليق، وذكره خلف) انتهى.
قلت: والظاهر أنه سهو من الناسخ الأول وتبعه النساخ، والصواب عروة، كما لا يخفى، وزعم الكرماني أن قوله:(وقال هشام) عطف على قوله: (قال ابن شهاب)، وهو من جملة شيوخ إبراهيم، ويحتمل أن يكون تعليقًا، انتهى.
قلت: ولو اضطلع على ما قاله إمام الشَّارحين؛ لم يحتج إلى هذا التردد على أنَّ هذا ظاهر في أنه تعليق، فكأنه لم يضطلع على ما ذكره الشَّارح فتردد، فلله در شارحنا من إمام؛ فافهم.
(عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت:(قال النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم يومًا وهو في حجرتها: (كنت أنظر إلى علمها)؛ بفتح العين المهملة واللام؛ يعني: الخميصة (وأنا في الصلاة) : جملة حالية، (فأخاف أن تَفتِنِّي)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الثانية، وبالنونين، من فتنه يفتنه من باب (ضرب يضرِب)، وفي رواية:(يَفتنني)؛ بفتح التحتية أوله بدل الفوقية، ويجوز أن تكون بالإدغام، وأن تكون بضم المثناة الفوقية من الثلاثي المزيد، يقال: فتنه وأفتنه، وأنكره الأصمعي.
فإن قلت: كيف يخاف الافتتان من لم يلتفت إلى الأكوان ما زاغ البصر وما طغى؟
قلت: إنه عليه السلام كان في تلك الليلة خارجًا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من ورائه، وأما إذا رد إلى طبعه البشري؛ فإنه يؤثر في البشر، واعلم أن هذه الرواية لم يقع له عليه السلام شيء من الخرق من الإلهاء؛ لأنَّه قال:«فأخاف» ، وهو مستقبل، ويدل عليه أيضًا رواية مالك:«فكاد يفتنني» ، فهذا يدل على أنه لم يقع، والرواية الأولى تدل على أنه قد وقع؛ لأنَّه صرح بقوله:«فإنها ألهتني» ، والتوفيق بينهما يمكن بأن يقال: للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم حالتان؛ حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية؛ قال:«ألهتني» ، وبالنظر إلى الحالة الثانية؛ لم يحزم به، بل قال:«أخاف» ، ولا يلزم من ذلك الوقوع، وأيضًا فيه تنبيه لأمته ليحترزوا عن مثل ذلك في صلاتهم؛ لأنَّ الصلاة المعتبرة أن يكون فيها خشوع، وما يلهي المصلي ينافي الخشوع والخضوع، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أن قوله:«ألهتني» في الرواية الأولى يحمل على قوله: «كاد» في رواية مالك، فيكون الإطلاق؛ للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء، انتهى.
قلت: وهذا الحمل غير صحيح؛ لأنَّ الرواية الأولى صريحة في وقوع الإلهاء، فكيف يحمل على قرب الوقوع؛ لأنَّ قوله عليه السلام:«ألهتني» ، وأمره لأصحابه بردها إلى أبي جهم، وأمرهم بأن يأتوه بأنبجانيته دليل واضح على تحقق وقوع الإلهاء، ويدل عليه رواية أبي داود:«شغلني أعلام هذه» ، وهي تدل على تحقق الوقوع أيضًا، ولا مانع من ذلك؛ فافهم فافهم.
فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين هنا وهناك وهو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، ويحتمل تعدد القصة، ففي القصة المذكورة في الرواية الأولى:(ألهته)؛ يعني: تحقق وقوعه، وفي القصة المذكورة في هذا التعليق لم يقع، بل خاف وقوعه، وفي القصة المذكورة في رواية مالك لم يقع، بل قرب وقوعه؛ لقوله:«فكاد» ، وفي القصة المذكورة في رواية الحافظ الطحاوي التعبير بالافتتان وهو لم يقع بل قرب وقوعه لقوله:«فكاد» ، ويدل على أن القصة متعددة أن أبا جهم كان تاجرًا وأنه يستجلب أنواع الخميصة والأنبجانية من الشام، وأنه يهدي إلى النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في كل مرة خميصة، ويدل على ذلك أن في الرواية الأولى: قال عليه السلام: «ولها أعلام» ؛ بالجمع، وفي الرواية الثانية قال:«إلى علمها» ؛ بالإفراد، وفي رواية الحافظ الطحاوي:«لها علم» ؛ أي: واحد، فهذا يدل على أن الخميصة المهداة له عليه السلام متعددة؛ لأنَّ أبا جهم تارة أهدى له خميصة لها أعلام، وتارة أهدى له خميصة لها علم واحد، ويدل على ذلك أيضًا أنه في الرواية الأولى قال لأصحابه:«اذهبوا وائتوني» ، وكذا في رواية أبي موسى قال:«ردوها» ، وهو يدل على أن الذين تولوا ردها أصحابه.
وفي رواية الحافظ الطحاوي: قال عليه السلام لعائشة: «ردي هذه الخميصة» وهو يدل على أنها هي التي تولت ردها بنفسها، وهو يدل على تعدد القصة؛ لأنَّ عائشة لم تكن مع أصحابه في المسجد، بل كانت في حجرتها، وقد صلى عليه السلام في حجرتها، فإنه لا يمكن اختلاط النساء بالرجال، ولو كان ذلك بحضرتها وحضرتهم؛ لما أمرها بردها، بل كان يأمر بعض أصحابه، فهذا كله يدل على أن القصة متعددة، وفيه أن صلاته في الرواية الأولى كانت فرضًا، وفي هذه الرواية كانت نفلًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(15)
[باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته
؟]
هذا (باب)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف (إن صلى)؛ أي: الشخص سواء كان رجلًا أو امرأة (في ثوب) : الجار والمجرور حال؛ أي: حال كونه في ثوب (مُصلَّب)؛ بضم الميم، وفتح اللام المشددة؛ أي: منقوش بصور الصلبان، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أي: