الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن حجر من كلامه فقال: («باب تحريم تجارة الخمر في المسجد»؛ أي: جواز ذكر ذلك) انتهى.
وردَّ هذا كله إمامنا الشَّارح، فقال: (كلُّ هذا خارج عن المهيع، وتصرفات بغير تأمُّل؛ لأنَّه لا فائدة في بيان جواز ذكر ذلك في المسجد؛ إذ هو مبيَّن من الخارج، وليس غرض البخاري ذلك، وإنما غرضه بيان أنَّ تحريم تجارة الخمر وقع في المسجد؛ لأنَّ ظاهر حديث الباب يصرح بذلك؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: «لما نزلت الآيات في سورة البقرة في الربا؛ خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد
…
»؛ الحديث، فهذا ظاهره أن تحريم تجارة الخمر بعد نزول آيات الربا.
فإن قلت: كان تحريم الخمر قبل نزول آيات الربا بمدة طويلة، كما صرحوا به، فلما حُرِّمت الخمر؛ حُرِّمت التجارة فيها أيضًا قطعًا، فما الفائدة في ذكر تحريم تجارتها ههنا؟
قلت: يحتمل كون تحريم التجارة فيها قد تأخر عن وقت تحريم عينها، ويحتمل أن يكون ذكره ههنا تأكيدًا ومبالغة في إشاعة ذلك، أو يكون قد حضر المجلس من لم يبلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك، فأعاد عليه السلام ذكر ذلك للإعلام لهم، وكان ذلك لرسول الله عليه السلام في المسجد، وهذا أيضًا هو موقع التَّرجمة، وليس ذلك مثل ما قال بعضهم:«وموقع التَّرجمة أن المسجد منزه عن الفواحش فعلا وقولًا، لكن يجوز ذكرها فيه للتحذير منها» انتهى، قلت: إذا كان ذكر الفواحش جائزًا في المسجد؛ لأجل التحذير، فما وجه تخصيص ذكر صاحبه تحريم الخمر بالمسجد؟ وجواب هذا يلزم هذا القائل، فعلى ما ذكرناه لا يَرِد سؤال، فلا يحتاج إلى جواب) انتهى كلام إمام الشَّارحين، قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر؛ فإنَّه القائل لهذا، آخذًا من كلام صاحب «التوضيح» ؛ فاعرفه.
وزعم العجلوني: إن كان النَّبي عليه السلام لم يذكر تحريم التجارة في الخمرة قبل هذه القصة؛ فالحقُّ ما قاله صاحب «عمدة القاري» ، وإلا؛ فالحقُّ ما قاله ابن حجر وابن الملقن، ويكون ذكر تحريمها ثانيًا؛ لمزيد التأكيد، وإن لم يعلم واحد من الأمرين بخصوصه؛ فالأمر محتمل، والتَّرجمة كذلك، لكنَّها ظاهرة فيما قاله صاحب «عمدة القاري» ، ويدل للأخير كل
(1)
منهم) انتهى.
قلت: هذا كلام متناقض، والحقُّ أحق أن يتَّبع، فإنَّ الحق ما قاله إمام الشَّارحين، ولا ريب أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يذكر تحريم تجارة الخمر قبل هذه القصة؛ لأنَّ حديث الباب صريح في ذلك؛ لأنَّ قول عائشة:(فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر) صريح في ذلك قطعًا، وقوله: (وإلا فالحقُّ
…
) إلخ؛ غير صحيح كما ذكرنا، وقوله: (ويكون ذكر
…
) إلخ؛ غير صحيح أيضًا؛ لأنَّه عليه السلام؛ إذا ذكر أمرًا أو نهيًا لشيء؛ يذكره مرة واحدة، فإنَّ تجارة الخمر حرام، فذكر حرمتها حين قرأ الآيات، ومن عادته عدم الإعادة، ولا فائدة في التأكيد هنا؛ لأنَّ الحكم واحد لم يتغير؛ حيث إنَّه قد ذكره عند قراءته الآيات، وقوله: (وإن لم يعلم
…
) إلخ؛ لا احتمال في الأمر ولا في التَّرجمة، ومقصود البخاري هو ما قاله إمام الشَّارحين قطعًا، والعناد بعد ذلك مكابرة.
وزعم العجلوني أن قول إمام الشَّارحين: (فإن قلت
…
) إلخ، قد سبقه إليه القاضي عياض: فنسبه لنفسه، انتهى.
قلت: هذا تعصب بارد من ذهن شارد، فإنَّ إمامنا الشَّارح قد اشتهر فضله وعلمه في الآفاق، وعُلم عند المحققين أن مثل هذا الكلام يقوله من تلقاء نفسه من علمه وفضله، ولا كلام لنا مع القاضي إذا كان قال مثل قوله؛ فقد صادف الرأيان على السواء، وهذا لا يعد نقصًا في حق إمام الشَّارحين، بل هو دال على كثرة علمه، وغزارة فهمه، وقوة استحضاره، فرحم الله تعالى هذا الشَّارح، وحقيق بأن يلقَّب بإمام الشَّارحين؛ فافهم، ولا تكن من المتعصبين.
وقال ابن كثير في «تفسيره» : (قال بعض من تكلم على هذا الحديث: لما حرَّم الربا ووسائله؛ حرَّم
(2)
الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك)، قال إمامنا الشَّارح:(ظاهر هذا يدل على أنَّ تحريم الخمر كان مع تحريم الربا، ولكن قالوا: إن تحريم الخمر قبل تحريم الربا بمدة طويلة كما ذكرنا عن قريب) انتهى.
وفي الحديث أحكام؛ الأول: فيه تحريم الرِّبا، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عبَّاس رضي الله عنهماأنَّه قال:(آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق)، وروى ابن جرير عن ابن عبَّاس قال:(يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} [البقرة: 275]، قال: وذلك حين يقوم من قبره)، الثاني: فيه تحريم تجارة الخمر، الثالث: فيه تحريم الخمر، والعلة فيه: النَّجاسة الخفيفة في رواية عن الإمام الأعظم، أو الغليظة في رواية أخرى، والإسكار، وعند الشَّافعي كذلك، وسيأتي مزيد كلام لذلك في محلِّه إن شاء الله تعالى.
(74)
[باب الخدم للمسجد]
هذا (باب) في بيان أمر (الخَدَم)؛ بفتحتين: جمع خادم، ويجمع أيضًا على خُدَّام؛ بِضَمِّ المعجمة، وتشديد المهملة (للمسجد)؛ باللَّام رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة:(في المسجد)، وكان المناسب أن يكون هذا الباب عقيب باب (كنس المسجد) على ما لا يخفى، كذا قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(وقال ابن عبَّاس) هو عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب، حبر هذه الأمَّة، ويسمَّى البحر؛ لغزارة علمه، وكان يفتي في عهد الصديق والفاروق، ويشاورانه مع أهل بدررضي الله عنهم، توفي بالطَّائف سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة.
وهذا التَّعليق وصله الضحاك في «تفسيره» عنه، ووصله أيضًا ابن أبي حاتم -لكن بمعناه- في تفسير قوله تعالى حكاية عن حَنَّة -بفتح المهملة، وتشديد النُّون آخره هاء- بنت فاقوذا -بالفاء أوله بعد ألف، ثم قاف بعد واو، ثم ذال معجمة ثم ألف- وهي: امرأة عمران بن ماثان، وهي أم مريم والدة عيسى النَّبي الذي ينزل في ديارنا آخر الزمان، وليس هو عمران بن يصهر؛ لأنَّه والد موسى الكليم وهارون الكريم، وكان بين العمرانين ألف
(1)
في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (وحرَّم)، ولعل المثبت هو الصواب.
وثمان مئة سنة، كما قاله أبو السعود، وكانت حَنَّة عاقرًا، فرأت يومًا طائرًا يزق فرخه، فاشتهت الولد، فسألت الله تعالى أن يهبها ولدًا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحقَّقت الحمل؛ قالت ما أخبر الله تعالى عنها بقوله:{رَبِّ إِنِّي} ({نَذَرْتُ}) : النَّذر: ما كان وعدًا على شرط، كما في «القاموس» ، والنَّذر: واحد النُّذور، وقد نذر لله كذا، من باب (ضرب) و (نصر)، ويقال: نذر على نفسه نذرًا، ونذر ماله نذرًا، وتناذر القوم كذا؛ خوف بعضهم بعضًا، كذا في «مختصر الصِّحاح» ، والنَّذر: إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيمًا لله تعالى، كذا في «تعريفات السيد» ، قلت: وهذا أولى مما في «القاموس» ؛ فافهم، فعلي ({لَكَ})؛ أي: قاصدًا بالنذر ابتغاء وجهك؛ أي: ذاتك ({مَا فِي بَطْنِي}) : إنَّما عبرت بـ (ما) الموضوعة لمن لا يعقل؛ لأنَّه مبهم لم تعلمه أذكر أم أنثى ({مُحَرَّرًا})[آل عمران: 35]، كذا في رواية الأكثرين، وهو بالنصب على الحال، أي: معتقًا، وفي رواية الأصيلي:(تعني: محررًا)، وعليها؛ فهو منصوب بـ (تعني) على المفعولية، والضمير في (تعني) يرجع إلى حنة أم مريم، (للمسجد)؛ أي: الأقصى، فاللَّام للعهد، وهو بيت المقدس بالاتفاق، قالوا: وسمِّي الأقصى؛ لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام (تخدُمه)؛ بِضَمِّ الدَّال، وفي أوله مثناة فوقية أو تحتية للمؤنث الغائب؛ أي المسجد: لا أُشغله بشيء سوى الخدمة، أو مخلصًا للعبادة، وفي رواية أبي ذر:(تخدمها)؛ أي: المساجد، أو الصخرة، أو الأرض المقدسة.
قال البيضاوي: (روي أنَّ أمَّ مريم كانت عاقرًا عجوزًا، فبينا هي في ظل شجرة؛ إذ رأت طائرًا يطعم فرخه، فحنَّت إلى الولد وتمنَّته، فقالت: اللهم إنَّ لك نذرًا إن رزقتني ولدًا؛ أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من خَدَمِه، فحملت بمريم، ومات عمران، وهذا النذر كان مشروعًا عندهم في الغلمان، فلعلَّها بَنَتِ الأمر على التقدير أو طلبت ذكرًا، فلما وضعتها؛ قالت: {رب إني وضعتها أنثى}، قالته تحسرًا وتحزنًا لما فاتها مما كانت ترجوه من ذكر؛ لتحرره لخدمة المسجد الأقصى، {فتقبَّلها ربها} [آل عمران: 37] : فرضيها في النذر مكان الذكر) انتهى.
قلت: والظَّاهر أن قولها: {رب إنِّي وضعتها أنثى} ليس للتحسُّر والتحزُّن لما فاتها من ذكر، بل لكون المسجد يدخل فيه الكبير والصغير، والذكر، والبرُّ والفاجر، فخافت من خدمتها الفتنة والعار، ووقوعها في المحظور؛ لأنَّ الذكر إذا خالط الذكور وغيرهم؛ لا يقع في الفتنة، بخلاف الأنثى، فقوله تعالى:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} يعني: حفظها ورضيها للنذر مكان الذكر، وأنَّه حفظها مما يُتوهم وقوعه من الفتنة؛ فيراجع.
وقال إمام الشَّارحين: (أشار البخاري بهذا التَّعليق إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا في الأمم الماضية، ألا ترى أن الله تعالى حكى عن حَنَّة أمِّ مريم أنَّها لمَّا حَبلَت؛ نذرت لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرَّرًا، يعني: عتيقًا يخدم المسجد الأقصى، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنَّ الخدمة للمساجد مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لمَا نذرت به، وهذا موضع التَّرجمة) انتهى، قلت: وهذا مبني على أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأنَّه تعالى قصَّه علينا ورسوله عليه السلام من غير إنكار، فصارت خدمة المسجد مطلوبة.
بقي أنَّه هل يصح النذر بخدمة المسجد؟ والظَّاهر: أنَّه غير صحيح؛ لأنَّه ليس من جنسه واجبًا؛ فيراجع.
وزعم ابن حجر أن مناسبة هذا التَّعليق لحديث الباب؛ من جهة صحَّة تبرع المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد لتقرير النَّبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك، انتهى.
قلت: وأراد بالمرأة التي أقامت نفسها لخدمة المسجد: المرأة السَّوداء، فإنَّه عليه السلام أقرَّها ولم ينكر عليها، لكنَّ فيه أنَّ مريم لم تتبرَّع بنفسها، بل أمها نذرت أن تكون خادمة للمسجد، والنذر من الشَّخص لا يجري على غيره ولو كان ولدًا له، فما قاله غير ظاهر.
وزعم العجلوني أنَّه لا يقال: حقه أن يقول: بإقامة ولدها؛ لأنَّ النَّاذرة هي أمُّ مريم لا مريم نفسها، ولعله أراد: أن مريم أقامت نفسها بعد أن بلغت مبلغًا يصح منها الإقامة، انتهى.
قلت: وفيه بعد؛ لأنَّ أمَّ مريم وإن كانت هي النَّاذرة، لكنَّها لم تنذر نفسها، بل نذرت ولدها، وهي لا تملك منعه من الاشتغال بغير خدمة المسجد.
ولو قيل: (حقه أن يقول: بإقامة ولدها) لا يصح أيضًا؛ لأنَّ المرأة السوداء ليس لها ولد، ولو كان؛ فهي لم تقمه لأجل خدمة المسجد، بل تولت خدمته بنفسها؛ فهذا الجواب غير صحيح.
وأما قوله: (ولعله أراد
…
) إلخ؛ فله وجه، لكن إن ثبت أنَّ مريم كانت بالغة، مع أن الذي ذكره المفسِّرون أن حَنَّة وضعت مريم في المسجد قبل بلوغها مبلغًا يصح منها الإقامة، ويلزم أيضًا ثبوت تبرُّع مريم بالخدمة في المسجد؛ لاحتمال عدم رضاها بالمكث فيه، وأمها لم تملكها، والذي يجنح للقلب أن المناسبة بين التَّعليق والحديث: هو مجرد خدمة مريم في المسجد مع قطع النَّظر عن النِّذر الذي وقع من أمها حَنَّة، كما أنَّ المرأة السوداء تبرَّعت بالخدمة من غير نذر منها ولا من أمها إن لو كانت، ولهذا أشار البخاري بالتَّعليق إلى أنَّ تعظيم المساجد بالخدمة مطلوب، وهو مشروع في الأمم السَّالفة، وقد أقرَّه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره؛ فليحفظ.
[حديث: أن امرأةً كانت تقم المسجد]
460 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد ابن واقد)؛ بالقاف والدَّال المهملة، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فهو أحمد بن عبد الملك بن واقد الحرَّاني البصري، أبو يحيى، المتوفى ببغداد سنة إحدى وعشرين ومئتين، وفي «التقريب» :(أنَّه ثقة تُكلم فيه بلا حجة)(قال: حدثنا حمَّاد)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، زاد الأصيلي:(ابن زيد) هو ابن درهم الأزدي الحمصي البصري، (عن ثابت)؛ بالمثلَّثة: هو أبو محمَّد البناني البصري، (عن أبي رافع) هو نُفيع الصائغ التَّابعي الكبير، كما سبق؛ فافهم، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه:(أنَّ) بفتح الهمزة (امرأة أو رجلًا) وكلمة (أو) للشك من أبي رافع، أو أبي هريرة، أو ثابت (كانت تقم)؛ أي: أو كان يقم؛ بِضَمِّ القاف، من قمَّ الشيء يقُمُّ قمًّا، من باب (نصر ينصر)؛ أي: يكنس (المسجد)؛ أي: النَّبوي -فاللَّام للعهد- من القُمامة، وهي الزبالة والكناسة، فحذف في هذا الباب ما يتعلق بالمذكر، عكس ما سبق في باب (كنس المسجد)، وكلٌّ منهما جائز.
وزعم العجلوني أن ما هنا أولى.
قلت: لم يبين وجه الأولوية، ولا وجه لما زعمه، بل كل
(1)
منهما جائز، وليس أحدهما أولى من الآخر، وقال الدماميني: (حذف «أو كان» كما سبق، فحذف من الأول خبر المؤنث، وهنا خبر المذكر؛ اعتبارًا بالسَّابق؛ ليكون جاريًا على المهيع الكثير، وهو الحذف
(1)
في الأصل: (كلًّا)، وليس بصحيح.