الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وأصحابه، ومالك، وداود، وهو وجه للشافعي؛ فافهم وتعجَّب، كذا في «عمدة القاري» .
(قال إبراهيم بن يوسف)؛ أي: ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن أبيه) : يوسف الكوفي الحافظ، المتوفى سنة سبع وخمسين ومئة، أو زمن أبي جعفر المنصور، (عن) جده (أبي إسحاق) قال:(حدثني) بالإفراد (عبد الرحمن) : هو ابن الأسود بن يزيد؛ أي: بالإسناد السابق، وهذا موجود في غالب النسخ، ساقط في بعضها، وأراد المؤلف بهذا التعليق الردَّ على من زعم أنَّ أبا إسحاق دلَّس هذا الخبر، كما حكى ذلك عن الشاذكوني؛ فإنَّه صرَّح فيه بالتَّحديث.
وقد استدلَّ الإسماعيلي على صحَّة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن؛ لكون يحيى القطان رواه عن زهير، ثم قال: ولا يرضى القطَّان أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وقال الكرماني: هذه متابعة ناقصة، ذكرها المؤلف تعليقًا.
فإن قيل: قد تُكلِّم في إبراهيم، قال عباس بن يحيى: إبراهيم ليس بشيء، وقال النسائي: إبراهيم ليس بالقوي.
قلت: يحتمل في المتابعات ما لا يحتمل في الأصول، انتهى كلامه.
قال في «عمدة القاري» : (قلت: لأجل متابعة يوسف المذكور حفيد أبي إسحاق زهير بن معاوية رجَّح المؤلف رواية زهير المذكورة وتابعهما أيضًا شريك القاضي، وزكريا بن أبي زائدة، وغيرهما، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليثُ بن أبي سليم، أخرجه ابن أبي شيبة، وحديثه يتشهد به، ولمَّا اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة؛ دلَّ على أنَّه عارف بالطريقين، وأنَّ رواية عبد الرحمن عنده أرجح، والله تعالى أعلم) انتهى.
(22)
[باب الوضوء مرةً مرةً]
هذا (باب) جواز (الوضوء مرةً مرةً)؛ بالنصب على المفعولية المطلقة، أو على الحال لتأوُّله بنحو مفصَّلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ يعني: أنَّ لكلِّ عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة، لكن الاقتصار عليها بالنسبة إلينا مكروه كالاقتصار على مرتين حيث لم يكن عذر؛ فافهم.
[حديث: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مرةً]
157 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف) البيكندي أو الفريابي (قال: حدثنا سفيان) : بن عيينة أو الثوري، ورجَّح في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر والبرماوي: بأنَّ المراد: محمد بن يوسف الفرياني لا البيكندي، وسفيان الثوري لا ابن عيينة، والتردد فيهما للكرماني فقط؛ فليحفظ.
والسين في (سفيان) يجوز فيها الحركات الثلاث، والضم أشهر، ولا قدح في ذلك؛ لأنَّ أيًّا كان منهما؛ فهو عدل ضابط بشرط المؤلف لا يتفاوت الحكم باختلاف ذلك؛ فافهم.
(عن زيد بن أَسلَم)؛ بفتح الهمزة واللام، التابعي المدني، (عن عطاء) بالمد (بن يَسَار) بفتح التحتية والسين المهملة المخففة، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنه (قال: توضأ النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم مرةً مرةً)؛ بالنصب على الحال كما سبق، وقال الكرماني: منصوب على الظرف؛ أي: توضأ في زمان واحد ولو كان ثمة غسلتان أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء؛ لكان التوضؤ في زمانين أو أزمنة؛ إذ لا بدَّ لكلِّ غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى، أو منصوب على المصدر؛ أي: توضَّأ مرة، من التوضؤ؛ أي: غسل الأعضاء غسلة واحدة، وكذا حكم المسح.
فإن قلت: يلزم على هذا التقدير أن يكون معناه: توضَّأ عليه السلام في جميع عمره مرة واحدة، وهو ظاهر البطلان.
قلت: لا يلزم؛ لأنَّ تكرار لفظ (مرة) يقتضي التفصيل والتكرير، أو نقول: المراد: أنه غسل في كل وضوء كل عضو مرة؛ لأنَّ تكرار الوضوء منه عليه السلام معلوم بالضرورة.
وقال البرماوي: وهذا الثالث واضح؛ أي: توضَّأ فغسل كل عضو مرة، فكرر (مرة) لأجل ذلك فنصبه على المفعول المطلق المبيِّن للكمية، والوجهان الأوَّلان لا يخفى بُعْدُهما، انتهى.
لكن نظر فيه في «عمدة القاري» فقال: (بأنه يلزم منه أن جميع وضوئه عليه السلام في عمره مرة مرة، وليس كذلك على ما لا يخفى) انتهى، وهو كما قال ذكره العجلوني.
وفي الحديث ردٌّ على من قال: فرض مغسول الوضوء ثلاث، واستدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية؛ لأنَّه إذا غسل وجهه مرة لا يبقى معه من الماء ما يخلل به، واستدلَّ به ابن بطال على طهورية الماء المستعمل بناءً على أنَّ الماء يصير مستعملًا بملاقاة أول جزء من العضو ثم غيره، وهو مستعمل، فيجزئ؛ وهو باطل؛ لأنَّ المراد بالمستعمل: ما انفصل عن العضو بعد كمال طهارته، ولا معنى لتخصيص الاستدلال بحديث المرة؛ فافهم، والله أعلم.
(23)
[باب الوضوء مرتين مرتين]
هذا (باب) جواز (الوضوء مرتين مرتين) : لكل عضو، ونصبهما ما مرَّ في (مرة مرة).
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين]
158 -
وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (الحسين)؛ بالتصغير، وفي رواية:(حسين)؛ بدون (أل) التي للَّمح، (بن عيسى) بن حُمران؛ بضم الحاء المهملة، أبو علي الطائي القومسي -بالقاف والسين المهملة- البَسطامي الدامغاني، وبَسطام؛ بفتح الموحدة، والدامغان؛ بالغين المعجمة من قومس، وقومس: عمل مفرد بين الري وخراسان، المتوفى بنيسابور سنة سبع وأربعين ومئتين، (قال: حدثنا يونس بن محمد) بن مسلم أبو محمد المؤدِّب المعلِّم البغدادي، المتوفى سنة سبع أو ثمان ومئتين (قال: حدثنا)، وفي رواية:(أخبرنا)(فُلَيْح بن سليمان)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، واسمه عبد الملك، وفليح لقب له غلب عليه، (عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمرو بن حَزْم)؛ بفتح العين في الأول، وفتح الحاء المهملة وسكون الزاي في الثاني، المدني التابعي الأنصاري، المتوفَّى سنة خمس وثلاثين ومئة، وفي رواية:(أبي بكر بن محمد بن عمرو)؛ بزيادة (ابن محمد) بين (أبي بكر) و (ابن عمرو).
(عن عبَّاد بن تميم)؛ بتشديد الموحدة بعد العين المهملة، ابن زيد بن عاصم الأنصاري واختلف في صحبته، (عن عبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم المازني، وهو عمُّ عبَّاد، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه صاحب رؤيا الأذان، كما في «عمدة القاري» ، وتبعه العجلوني في «شرحه» وغيره، فما وقع في «شرح القسطلاني» من أنَّه صاحب رؤيا الأذان؛ خطأ، والصواب: أنَّه غيره؛ فافهم: (أنَّ النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم توضأ) فغسل أعضاء الوضوء (مرتين مرتين)؛ أي: لكلِّ عضو؛ بالنصب فيهما على المفعولية المطلقة، أو على الظرف، أو على الحال، كما سبق في (مرة مرة).
قال ابن حجر: وهذا الحديث مختصر من حديث عبد الله بن زيد المشهور في صفة وضوئه عليه السلام، كما سيأتي بعد من حديث مالك وغيره، لكن ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، وكان حقُّ حديث عبد الله بن زيد أنَّ يُبوَّب له: غسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا.
وروى أبو داود والترمذي وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة: أنَّه عليه السلام توضَّأ مرتين مرتين، وهو شاهد قويٌّ لرواية فليح هذه، فيحتمل أن يكون حديثه هذا المجمل غير حديث مالك المبين؛ لاختلاف مخرجهما، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه إذا كان كذلك؛ لا يقتضي ما ذكره على أنَّه ليس في حديث عبد الله بن زيد أنَّه غسل بعض الأعضاء مرة مرة، وإنَّما هذا في حديث غيره ولم يلتزم المؤلف التبويب على الوجه المذكور، وإن كان الأمر يقتضي بيان ما روي عنه عليه السلام:(أنَّه توضَّأ مرة مرة)، وما روي عنه:(أنَّه توضَّأ مرَّتين مرَّتين)، وما روي عنه:(أنَّه توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وما روي عنه:(أنَّه توضَّأ بعض وضوئه مرة، وبعضه ثلاثًا)، وما روي عنه:(أنَّه توضَّأ بعض وضوئه مرَّتين، وبعضه ثلاثًا)؛ فافهم، انتهى، والله تعالى أعلم.
(24)
[باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا]
هذا (باب) جواز (الوضوء ثلاثًا ثلاثًا)؛ أي: لكل عضو، ويجري فيه كما في الحديث نظير ما سبق؛ فافهم.
[حديث: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين]
159 -
وبه قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيْسي)؛ بضم الهمزة، وفتح الواو، وسكون المثناة التحتية، بالتصغير (قال: حدثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد)؛
بسكون العين المهملة، سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن ابن شهاب) : محمد بن مسلم الزهري: (أنَّ عطاء) بالمد (بن يزيد) : الليثي التابعي (أخبره) : جملة محلها الرفع خبر (أنَّ)؛ أي: أخبر عطاءٌ ابنَ شهاب (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النُّون؛ أي: بأنَّ، (حُمْران) -بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، وبالرَّاء- ابن أَبَان -بفتح الهمزة والموحدة المخففة- ابن خالد بن عبد عمرو، من سبي عين التمر، سباه خالد بن الوليد، فوجده غلامًا فطنًا فوجهه إلى عثمان، فأعتقه، وكان كاتبه وحاجبه، وولِّي نيسابور من الحجَّاج، ثم أغرمه الحجَّاج مئة ألف لأجل الولاية السابقة، ثم ردَّها عليه بشفاعة عبد الملك، وقوله:(مولى عثمان)؛ أي: ابن عفان، جملة محلها النصب؛ لأنَّه صفة لـ (حُمرانَ) منصوب؛ لأنَّه اسم (أنَّ)، ومنع من الصرف؛ للعلمية وزيادة الألف والنُّون، وحديث حُمران صحيح، توفي سنة خمس وسبعين (أخبره)؛ أي: أخبر حمرانُ عطاءً: (أنَّه)؛ أي: بأنَّه (رأى) أي: أبصر (عثمان بن عفان) : أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمُّه أروى بنت عمة رسول الله عليه السلام، وهو أصغر من النبي عليه السلام، وسمي بذي النورين؛ لأنَّه تزوج بنتي سيد الكونين عليه السلام؛ رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، وقال النبي الأعظم عليه السلام له:«لو أنَّ لي أربعين ابنة؛ زوَّجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة، وما زوَّجته إلا بالوحي من الله عز وجل» ، ولم يتفق لغيره أنَّه تزوج بنتَي نبي غيره، استُخلِف أول يوم من محرم سنة أربع وعشرين، وقُتِل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، قتله الأسود التُّجِيْبي؛ بضم الفوقية، وكسر الجيم، وسكون التحتية، والموحدة، المصري، ودفن بالبقيع ليلة السبت، وعمره اثنان وثمانون سنة، وصلى عليه حكيم بن حزام، أو جبير بن مطعم، أو المسور بن مخرمة، والأصح الأول، وكثرت الأموال في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمئة ألف، ونخلة بألف درهم، وليس في الصحابة من اسمه عثمان بن عفان غيره رضي الله تعالى عنه.
وجملة (دعا) أي: عثمان (بإناء)؛ أي: بظرف فيه الماء للوضوء؛ حال من عثمان بتقدير: (قد) كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، وفي رواية مسلم ورواية شعيب الآتية قريبًا:(دعا بوَضوء)؛ بفتح الواو، اسم للماء المعدِّ للتوضؤ، ففيه: جواز الاستعانة بغيره في إحضار الماء وهو غير مكروه بالإجماع، (فأفرغ) الفاء تفسيرية؛ أي: صبَّ، يقال: فرِغ الماء -بالكسر- إذا انصب، وأفرغته أنا؛ أي: صببته، وتفريغ الظروف: إخلاؤها (على كفيه)؛ أي: واحدة بعد واحدة لا عليهما معًا، كما بيَّنتْه الرواية الأخرى، وهي أنَّه:(أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثمَّ غسلهما)(ثلاث مرات)؛ بالفوقية آخره، وفي رواية:(ثلاثَ مرار)؛ بالرَّاء آخره، وهو منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: إفراغًا ثلاث مرات، (فغسلهما)؛ أي: كفيه إلى الرسغين.
والرسغ: منتهى الكف عند المفصل، وفي «الضياء» : الرسغ؛ بالغين المعجمة: مفصل الكف في الذراع والقدم في الساق، وأمَّا الكوع؛ فهو العظم الذي يلي الإبهام في رأس الزند، ويقابله الكرسوع؛ وهو العظم الذي يلي الخنصر من اليد في طرف الزند، والرسغ بينهما، والبوع؛ العظم الذي يلي إبهام الرجل، وقد نظم ذلك بعض الحذَّاق فقال:
وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي
…
لخنصره الكرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب
…
ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط
وفي غسل اليدين ابتداءً ثلاثة أقوال: قيل: إنَّه فرض وتقديمه سنة، واختاره المحقق في «فتح القدير» ، وقيل: إنَّه سنة تنوب عن الفرض، واختاره في «الكافي» ، وقال شمس الأئمة السرخسي: إنَّه سنة لا تنوب عن الفرض؛ فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما، واستشكله في «الذخيرة» ، وظاهر كلام الشرَّاح: أنَّ المذهب الأول.
قلت: والظاهر: أنَّه لا مخالفة بين الأقوال، فإنَّ القائل بالفرضيَّة أراد أنَّه يجزئ عن الفرض، وأن التقديم سنة، وهذا معنى القول: بأنَّه سنَّة تنوب عن الفرض، فالظاهر على هذين القولين: يسنُّ إعادة غسل اليدين عند غسل الذراعين؛ ليكون آتيًا بالفرض قصدًا، ولا ينوب الغسل الأول منابه من هذه الجهة، وإن ناب منابه من حيث إنَّه لو لم يعده؛ سقط الفرض، كما يسقط لو لم ينو أصلًا؛ فتأمل.
واختلف في أن غَسْلَهما قبل الاستنجاء أو بعده، فقيل: سنَّة قبله فقط، وقيل: بعده فقط، وقيل: قبله وبعده، وإليه ذهب الجمهور وصحَّحه الإمام قاضيخان، وصاحب «النهاية» ، وحِكْمَته قبل الاستنجاء: المبالغة في اليدين لئلا يتشرب الجسد من النجاسة إذا لم يُغْسلا، وكيفية غسلهما: أنَّه إذا كان الإناء صغيرًا بحيث يمكن رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبُّه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثًا، ثم يأخذ الإناء بيمينه ويصبُّه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثًا، وإن كان الإناء كبيرًا لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن
عنده إناء صغير؛ فيدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ويصبُّ على كفه اليمنى ثم يدخل اليمنى في الإناء ويغسل اليسرى، وعلَّله في «المحيط» بأنَّ الجمع بين اليدين في كل مرة غير مسنون.
وقوله: (غسلهما) قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، وقال في «الحلية» : إنَّ الجمع سنة كما تفيده الأحاديث، والظَّاهر: أنَّ تقديم اليمنى على اليسرى؛ لأجل التيامن لا لما ذكره في «المحيط» ، ثم قال في «الحلية» : وظاهر الأحاديث: الجمع بينهما، وأنَّه لا يستحبُّ التيامن هنا، كما في غسل الخدين، والمنخرين، ومسح الأذنين، والخفين إلا إذا تعذَّر ذلك؛ فحينئذٍ يقدِّم اليمنى منها، انتهى.
قلت: ويدل لذلك قوله: (فغسلهما ثلاثًا)؛ لأنَّه لو أراد التفريق لقال: غسلهما ثلاثًا ثلاثًا، ولا يرد نقل البلَّة؛ لأنَّهما كالعضو الواحد، ولأنَّها جائزة هنا لظاهر الأحاديث؛ فتأمل.
ومحلُّ غسلهما قبل إدخالهما الإناء الذي فيه الماء، ولو لم يكن عقب النوم، وهو الأصح، كما في «النهر» .
(ثم أدخل يمينه في الإناء) أي: للاغتراف بها منه، ففيه: أنَّه يسنُّ الاغتراف باليمين، وفيه: دلالة على عدم اشتراط نية الاغتراف نفيًا وإثباتًا؛ لأنَّ الحدث قد ارتفع بالغسل الأول، حتى قال في «الخانية» : المحدِث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء للاغتراف وليس عليهما نجاسة؛ لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الحُب فأدخل يده إلى المرفق؛ لا يصير الماء مستعملًا، انتهى.
قلت: وإنَّما لم يصر الماء مستعملًا؛ لعدم النية، أمَّا لو نوى؛ صار الماء مستعملًا؛ لأنَّه ارتفع به الحدث، فالملاقى مستعمل؛ فافهم.
(فمضمض) وللأصيلي: (فتمضمض)؛ بفوقية بعد الفاء، وهو عطف على مقدَّر؛ أي: فأخذ الماء من الإناء وأدخله في فيه فمضمض، والفاء: تفصيحية، وهي لغة: التحريك، وعند الفقهاء: استيعاب الماء جميع الفم سواء مجَّه أو لا؛ لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأنَّه ماء مستعمل كما في «البحر» ، وفي «فتح القدير» : لو شرب الماء عبًّا؛ أجزأه عن المضمضة، وإن مصًّا؛ لا يجزئه، فالمجُّ ليس بشرط على الأصحِّ، انتهى.
وقال القهستاني: (وهل يدخل إصبعه في فمه وأنفه؟ الأولى نعم) انتهى، وبه قال الإمام الزندوستي، كما في «المحيط» ، وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة بالغرغرة، والاستنشاق بمجاوزة المارن سنَّة لغير الصائم.
قلت: لا يقال: (لا فائدة فيه؛ لأنَّه استاك قبله)، لأنَّا نقول: بل فيه فائدة وهو وجود أثر الطعام الذي لا يخرجه السواك أو يتحلَّل من أجزاء السواك شيء لا يخرجه إلا الإصبع، وأمَّا الأنف؛ فظاهر؛ لأنَّه يوجد فيه بعض وسخ لزج لا يخرجه الماء، بل الإصبع، والله أعلم.
(واستنشق)، وفي رواية:(واستنثر)؛ بالمثلثة والرَّاء، بدل:(واستنشق)، وثبتتا في رواية شعيب الآتية، قال ابن الأعرابي وابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق، وقال النووي: الاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، قال: وهو الصواب، ويدلُّ عليه الرواية الأخرى:(استنشق واستنثر)؛ فجمع بينهما، واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّ الصواب ما قاله ابن الأعرابي: من أنهما بمعنًى، وقوله: (ويدل عليه
…
) إلخ، لا يدلُّ على ما ادَّعاه؛ لأنَّ المراد منالاستنثار في هذه الرواية: الامتخاط؛ وهو أن يمتخط بعد الاستنشاق.
وقال ابن سيدة: استنثر: إذا استنشق الماء ثم استخرجه بنَفَسِ الأنف، والنثرة: الخيشوم وما ولاه، وتنشق واستنشق الماء في أنفه: صبه فيه، انتهى، ومثله في «القاموس» ، فالاستنثار يستلزم الاستنشاق من غير عكس فهو أخص لا أعم، خلافًا لما زعمه ابن حجر؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري» : (وليس في طريق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان رضي الله عنه فإنَّ في أحدهما: «فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا»، وفي الأخرى: «ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا») انتهى.
قلت: والمضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن؛ منها: تقدم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع؛ لاتفاق الروايات على ذلك، ومنها: التثليث في حق كل واحد بالإجماع، وأخذ ماء جديد في التثليث سنَّة عندنا، وإزالة المخاط باليسرى، كما في «المعراج» وفي «المبسوط» ، وفعلهما باليمين سنَّة، لكن في «المنية» أنه يستنشق باليسرى، والصحيح: أنَّه يستنشق بيمينه ويستنثر بيساره، كما في «شرح النقاية» للعلامة المنلا علي القاري.
(ثم غسل وجهه ثلاثًا)؛ بالنصب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: غسلًا ثلاث مرات، والوجه حدُّه: طولًا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن، وعرضًا ما بين شحمتي الأذنين، وعطف بكلمة (ثم)؛ لأنَّها تقتضي الترتيب والمهلة، كما في «عمدة القاري» .
قلت: والترتيب والمهلة في كل شيء بحسبه، فلا حاجة أن يقال: إنَّ (ثمَّ)؛ بمعنى الفاء؛ فافهم.
والحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق: اعتبار أوصاف الماء؛ لأنَّ اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف، فيقدَّم الأقوى منها، وهو الطعم، ثم الريح، ثم اللون، وهذا شامل لتخليل اللحية، وقد دلَّ عليه ما رواه الطبراني وأبي داود عن أنس قال:(وضأتُ النبيَّ عليه السلام فتوضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، وخلَّل لحيته مرتين أو ثلاثًا)، وتمامه في «عمدة القاري» ؛ فافهم.
(و) غسل (يديه) كل واحدة (إلى) أي: مع (المَرفِقين)؛ بفتح الميم وكسر الفاء وبالعكس لغتان مشهورتان (ثلاث مرار)؛ بتكرار الرَّاء، وقد جاء ذلك مبيَّنًا في كتاب (الصوم) وعند مسلم، وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كلٍّ منهما بكلمة (ثمَّ)، وكذا في (الرجلين) أيضًا، والمرفق: موصل الذراع في العضد، واختلف في وجوب إدخال المرفقين في الغسل على قولين؛ فذهبت الأئمة الأربعة والجمهور: إلى الوجوب، وذهب الإمام زفر وأبو بكر بن داود: إلى عدم الوجوب، ورواه أشهب عن مالك، ومنشأ الخلاف من كلمة (إلى)، كما سبق الكلام عليه.
تتمة: المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء -كما ذكرنا- فرضان في الغسل، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، وسفيان الثوري، وقال عطاء، وابن أبي ليلى، وحماد، والزهري: المضمضة في الوضوء فرض فلو تركها؛ يعيد الوضوء.
وقال أحمد وأبو عبيد وأبو ثور: الاستنشاق في الوضوء فرض، فلو تركها؛ أعاده، والمضمضة ليست بفرض، قال ابن المنذر: وبقول أحمد أقول، وقال ابن حزم: هذا هو الحق؛ لأنَّ المضمضة ليست فرضًا، وإن تركها؛ فوضوؤه تامٌّ عامدًا أو ناسيًا؛ لأنَّه لم يصحَّ عنه عليه السلام فيها أمر، وإنَّما هي فعل، وأفعاله ليست فرضًا.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ الأمر بالمضمضة صحيح على شرطه، أخرجه أبو داود من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مرفوعًا:«إذا توضأت؛ فمضمض» ، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، وقال البغوي: صحيح، وصحَّح إسناده الطبري والدولابي، وقال الحاكم:(صحيح ولم يخرِّجاه، وله شاهد من حديث ابن عباس) انتهى، وفيه نظر؛ لأنَّهما لم يشترطا ما ذكره؛ لذكرهما في كتابيهما أحاديث جماعة بهذه المثابة، ولئن سلَّمنا قوله؛ كان لقيط هذا خارجًا عمَّا ذكره؛ لرواية جماعة عنه، وأمَّا حديث ابن عباس؛ فذكره أبو نعيم الأصبهاني من حديث الربيع بن بدر، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه يرفعه:«مضمضوا واستنشقوا» ، وقال حديث غريب، وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة عنه عليه السلام:(أنَّه أمر بالمضمضة والاستنشاق)، وصحِّح إسناده.
وأخرج من
حديث عائشة ترفعه: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بدَّ منه» ، وعند الدارقطني مرفوعًا:«من توضَّأ؛ فليمضمض» ، وتمامه في «عمدة القاري» .
وما قدَّمناه: من أنَّه يسنُّ التثليث في حقِّ كلِّ واحد منهما، فيفصل بينهما بغرفتين؛ يتمضمض بثلاث وكذا يستنشَّق بثلاث، ودليله: ما رواه الترمذي عن أبي حيَّة قال: رأيت عليًّا الصدِّيق الأصغر توضَّأ فغسل كفَّيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه مرَّة، ثمَّ غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال:(أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله عليه السلام، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومدلوله ظاهر؛ وهو أنه يتمضمض ثلاثًا؛ يأخذ لكلِّ مرَّة ماء جديدًا، ثم يستنشق كذلك، وهو رواية البويطي عن الشافعي، وفي رواية غيره: أنَّه يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف ثالثة كذلك، فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق، واختلف نصه في الكيفيتين، فنصَّ في «الأمِّ» : أنَّ الجمع أفضل، ونصَّ البويطي: أنَّ الفصل أفضل، ووجه الفصل -كما هو مذهبنا- ما رواه الطبراني عن كعب بن عمرو اليمامي: (أنَّه عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، فأخذ لكلِّ واحدة ماءً جديدًا)، وكذا رواه أبو داود في «سننه» وسكت عنه، وهو دليل رضاه بالصحَّة.
وما روي في الأحاديث: أنَّه تمضمض واستنشق من كفٍّ واحد، فيحتمل أنَّه تمضمض واستنشق بكفٍّ واحدٍ بماءٍ واحد، ويحتمل أنَّه فعل ذلك بكف واحد بمياه، والمحتمل لا تقوم به صحة، أو يُرَدُّ هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه؛ توفيقًا بين الدليلين، وقد يقال: إنَّ المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين كما في الوجه، وقد يقال: إنَّه فعلهما باليد اليمنى ردًّا على من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأنَّ الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في «المبسوط» ، وقد يقال: إنَّ كل ما روي من ذلك في هذا الباب فهو محمول على الجواز، وتمامه في «عمدة القاري» ؛ فليحفظ.
(ثم مسح برأسه)، وسقط:(ثم) في رواية، وكذا الموحَّدة في روايتي مسلم والمؤلف في (الصوم)؛ فيفيد استيعاب المسح للرأس، بخلافه مع الباء الموحدة، ومذهب الإمام الأعظم: أن فرض المسح ربع الرأس، وقال مالك وأحمد: جميع الرأس، وقال الشافعي: بعضه؛ وهو يطلق بشعرة، وأمَّا المسنون في مسحه؛ فظاهر الحديث يدلُّ على استيعاب الرأس بالمسح مرة واحدة؛ لأنَّه لم يوجد شيء من طرقه في «الصحيحين» ذِكْرُ عدد للمسح؛ فيقتصر فيه على مرة واحدة، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور.
وقال الشافعي: المسنون تثليث مسحه كغيره من الأعضاء؛ لظاهر رواية مسلم: أنَّه عليه السلام توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا.
وأجيب: بأنَّه مجمل وقد تبيَّن في الروايات الصحيحة أنَّ المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب أو يُخصُّ بالمغسول، قال أبو داود في «السنن» : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، وكذا قال ابن المنذر: إنَّ الثابت عنه عليه السلام في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف؛ فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأنَّ العدد لو اعتبر في المسح؛ لصار في صورة الغسل؛ لأنَّ حقيقة الغسل جريان الماء.
وبالغ أبو عبيد القاسم بن سلام، فقال: لا نعلم أحدًا من السلف استحبَّ تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، قال في «عمدة القاري» : وفيه نظر؛ لأنَّ ابن أبي شيبة حكى ذلك عن أنس، وابن جبير، وعطاء، وميسرة؛ أنهم كانوا إذا توضَّؤوا؛ مسحوا رؤوسهم ثلاثًا، وفي «سنن أبي داود» بسند صحيح عن حُمران وفيه:(ومسح رأسه ثلاثًا)، وفيه أيضًا من حديث علي رفعه:(ومسح برأسه ثلاثًا)، وسنده صحيح.
وفي «سنن الدارقطني» : عن عمر ووصف وضوء النبي عليه السلام وقال: (ومسح برأسه ثلاثًا)، وروى الدارقطني في «سننه» أيضًا: عن محمد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي: (أنَّه توضَّأ
…
) الحديث، وفيه:(ومسح برأسه ثلاثًا) ثم قال: هكذا رواه أبو حنيفة عن علقمة بن خالد، وخالفه بعض الحفاظ فرووه عن خالد بن علقمة فقالوا فيه:(ومسح رأسه مرة واحدة)، ومع خلافه إياهم قال: إنَّ السنة مسح الرأس مرة واحدة.
وأجيب: بأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم.
وأمَّا قوله: (فقد خالف في حكم المسح)؛ فخطأ غير صحيح؛ لأنَّ تكرار المسح ثلاثًا مسنون عند الإمام الأعظم وأصحابه، وكتب مذهبه طافحة بذلك، ولكن بماء واحد؛ لظاهر الأحاديث التي ذكرناها.
وأما كيفية المسح؛ فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد: (ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)، وعند الطبراني:(بدأ بمؤخر رأسه، ثمَّ جرَّه إلى قفاه، ثم جرَّه إلى مؤخره)، وعند أبي داود:(بدأ بمؤخره، ثم بمقدمه، وبأذنيه كليهما)، وعند أبي داود عن أنس:(أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه)، وفي كتاب ابن السكن:(فمسح باطن لحيته وقفاه)، وفي «سنن أبي داود» : عن ابن عباس وصف وضوء علي بن أبي طالب قال: (وأخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء، فصبها على ناصيته، فتركها تستن على وجهه)، وفيه من حديث معاوية مرفوعًا:(فلما بلغ رأسه؛ غرف غرفة من ماء، فتلقَّاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كان يقطر)، وبهذا يُرَدُّ على من قال: لو كرَّر المسح؛ لصار غسلًا؛ فخرج عن وظيفة المسح، ويردُّ أيضًا بأنَّ المسح ثلاثًا بماء واحد لايسع أحدًا أن يقول: إنَّه يصير غسلًا، أمَّا لو كرَّره ثلاثًا بمياه ثلاثة -كما يقول الشافعي-؛ فلا ريب أنَّه يصير غسلًا، ويخرج عن وظيفة المسح، ولأنه لم يوجد في الأحاديث أنه كرر بمياه ثلاثة، ولا شكَّ أنه إسراف منهي عنه؛ فليحفظ.
(ثم غسل رجليه) غسلًا (ثلاثَ مرار)؛ بتكرار الرَّاء، فهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: غسلًا ثلاث مرار (إلى) أي: مع (الكعبين)؛ وهما العظمان المرتفعان عند آخر مفصل الساق والقدم.
وفي الحديث: الترتيب بين المسنون والمفروض؛ وهما المضمضة وغسل الوجه، فيفيد أن الترتيب سنة، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، ويدلُّ لذلك الآية المعهودة؛ كما مر الكلام عليه، ومذهب مالك: أن الترتيب في المفروض دون المسنون واجب، والمشهور عنه أنَّه سنة، ومذهب الشافعي: وجوبه، وقال المزني من أصحابه: إنَّه غير واجب، واختاره ابن المنذر، وحكاه البغوي عن أكثر المشايخ؛ فليحفظ.
(ثم قال) أي: عثمان رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) موصولة فيها معنى الشرط في محل رفع على الابتداء، وقوله:(توضأ) جملة وقعت صلة للموصول (نحوَ وضوء) كلام إضافي منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: من توضأ وضوءًا نحو وضوء، (هذا)، والإشارة إلى وضوئه ثلاثًا ثلاثًا، ولفظ:(نحو)؛ بمعنى: مقارب، لا مماثل.
قال النووي: وإنما قال: نحو وضوء، ولم يقل: مثل؛ لأنَّ حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، انتهى، وفيه نظر؛ لأنَّ المثلية ثبت التعبير بها في رواية للمؤلف في (الرقاق)، ولفظها:(من توضأ مثل هذا الوضوء)، وعند مسلم:(من توضأ مثل وضوئي هذا)، وكلُّ واحد من لفظة:(نحو) و (مثل)