الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة إلى أنَّ الصلاة في مواضع الخسف مكروهة؛ لأنَّه قال: (أن عليًّا) : هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه (كره الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (بخسف بابل) : اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، قاله الجوهري، وقال البكري:(بابل بالعراق؛ مدينة السحر معروفة)، وقال الأخفش:(ممنوعة من الصرف؛ للعَلَمِيَّة والتأنيث)، قال إمام الشَّارحين:(وذلك أنَّ اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف؛ فإنَّه لا ينصرف في المعرفة)، قال: وربما سموا العراق: بابلًا، قال عمر بن أبي ربيعة -وأتى البصرة فضافه ابن هلال المعروف بصديق الجن-:
يا أهل بابل ما نَفَست عليكم
…
من عيشكم إلا ثلاث خِلال
ماء الفرات وظل عَيْش بارد
…
وغِنَى مسمعتين لابن هلال
وذكر الطبري: (أنَّ بابل: اسم قرية، أو موضع من مواضع الأرض، واختُلف فيها؛ فقال السدي: هي بابل دنياوند، وقيل: بالعراق، وورد في ذلك حديث مروي عن عائشة، وإنَّما سميت ببابل؛ لأنَّه بات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنتين وسبعين لسانًا، كُلٌ يبلبل بلسانه، فسمي الموضع: بابلًا) انتهى.
قلت: والمشهور أنَّ أرض بابل من مدينة حلب وما وراءها؛ كمرعش، وديار بكر، وغيرهما؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة: عن وكيع: حدثنا سفيان: حدثنا عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أبي المُحِلِّ العامري قال: «كنا مع علي رضي الله عنه، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يُصلِّ حتى أجازه»؛ أي: تعداه، والمُحِلُّ بضمِّ الميم، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام) انتهى.
قلت: وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن علي قال: (ما كنت لأصلي في أرض خَسَف الله بها ثلاث مرار)، قاله ابن حجر، ثم قال:(والظاهر أنَّ قوله: «ثلاث مرار» ليس متعلقًا بالخسف؛ لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد، وإنَّما أراد الرواي: أنَّ عليًّا قال ذلك ثلاثًا) انتهى.
قلت: وفيه نظر، بل الظاهر أنَّ قوله:(ثلاث مرار)، متعلق بالخسف؛ يعني: أنَّ الخسف وقع لهذه الأرض ثلاث مرار؛ بأن خسف بها أولًا، ثم أعيدت، ثم خسف بها ثانيًا، ثم أعيدت، ثم ثالثًا، ولا مانع من ذلك؛ لأنَّ القدرة صالحة، وفيه تنبيه إلى مبدأ الإنسان ومعاده ومبعثه، فقوله:(لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد)؛ ممنوع؛ لأنَّها دعوى بلا دليل، وهي غير مقبولة.
وقوله: (وإنَّما الراوي
…
) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان يقال: (ثلاثًا) بدون تصريح بقوله: (مرار) الدالة على تكرار وقوع الخسف، فصريح قوله:(ثلاث مرار) يدل لما قلناه؛ فليُحفظ.
قال إمام الشَّارحين: (وروى أبو داود في «سننه» من حديث حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري، عن علي رضي الله عنه: «أنَّه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما برز منها؛ أتى المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة؛ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنَّها ملعونة»، قال ابن يونس: «أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن روى عن علي، وما أظنه سمع منه»، وقال ابن القطان: «في سنده رجال لا يُعرفون»، وقال عبد الحق: «حديث واه»، وقال البيهقي: «إسناده غير قوي») انتهى.
قلت: وحاصله أنَّه ضعيف، وزعم ابن حجر أنَّ اللائق بتعليق المؤلف ما رواه ابن أبي شيبة، انتهى.
ورده العجلوني فقال: (ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة كلاهما لائق به، وما رواه أبو داود أليق؛ لأنَّ المؤلف أورده بصيغة التمريض؛ فتأمل) انتهى.
قلت: تأملته؛ فرأيته في غاية من الحسن، بل قلت: إنَّ ما رواه أبو داود هو اللائق قطعًا بتعليق المؤلف؛ لأنَّه قد صرح به: بأنَّها ملعونة؛ يعني: لم ينزل عليها من الرحمات شيء، وقول المؤلف:(ويذكر) صيغة تمريض تدل على ضعف إسناد الحديث، وقد صرَّح الأئمة بضعفه، كما علمت؛ فافهم.
والمراد بالخسف: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ
…
}؛ الآية [النحل: 26]، قال الإمام النسفي:(إنَّ هذا البناء كان لبختنصر)، وقال ابن عبَّاس وزيد بن أسلم:(هو صرح نمرود بن كنعان)، قال ابن عبَّاس:(كان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع)، وقال كعب:(كان طوله في السماء فرسخين)، وبه قال مقاتل، انتهى.
وقال أهل الأخبار: إنَّ المراد بذلك ما بناه نمرود بن كنعان؛ فإنَّه بنى ببابل بنيانًا عظيمًا يقال له: المجدل؛ أي: القصر، انتهى.
قال النسفي: (قال مقاتل: فهبت ريح فألقت رأسها في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي من فوقهم، وذلك لأنَّهم كانوا يترصدون
(1)
خبر السماء، فأهب الله الريح، فخرَّ عليه وعلى قومه فهلكوا).
قال الخطابي: (لا أعلم أحدًا من العلماء حَرَّم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا»، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه أن يتخذها وطنًا ومقامًا، فإذا أقام بها؛ كانت صلاته بها، وهذا من باب التعليق في علم البيان) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (قلت: أراد بها الملازمة الشرعية؛ لأنَّ من لَازِمِ إقامة الشخص بمكان أن تكون صلاته فيه، فيكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإنَّما قيدنا الملازمة بالشرعية؛ لانتفاء الملازمة العقلية) انتهى كلامه، وقد اختصر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فليتنبه.
وقال الخطابي أيضًا: (لعل النهي لعلي خاصة، ألا ترى أنَّه قال: «نهاني»، ولعل ذلك إنذار منه ما لقي من المحنة بالكوفة) انتهى.
قلت: دعواه الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقوله:(نهاني) لا يدل عليها؛ لأنَّه عليه السلام قال ذلك له عند إرادته السفر، فهو توصية له بذلك، وهي على العموم، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب)، ولم يجعل ذلك خاصًّا بعلي؛ فافهم.
على أنَّ الظاهر: أنَّه نهاه أن يتخذها وطنًا؛ لأنَّه إذا أقام بها كانت صلاته بها؛ فتأمل.
وقال إمام الشَّارحين: (وقد وردت أحاديث فيها النهي عن الصلاة في مواضع؛ منها: حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن
(1)
في الأصل: (يترصدوا)، وليس بصحيح.
يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله»، رواه الترمذي وابن ماجه، قال القرطبي:«وإسناده ليس بقوي؛ لأنَّه فيه: زيد بن جبيرة، وقد تكلم فيه من قِبِل حفظه» .
وقال ابن العربي: المواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر موضعًا، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: الصلاة إلى المقبرة، وكذا الصلاة وأمامك جدار مرحاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبِيْعة، وفي قبلتك تماثيل، وفي دار العذاب.
وزاد بعضهم: الصلاة في الأرض المغصوبة، وإلى النائم، والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي، والصلاة في بطن الضراوي، فصارت الجملة ثمانية عشر، فنقول:
أمَّا المزبلة؛ فهي المكان الذي يلقى فيه الزبل؛ وهو السرجين، وفيها لغتان؛ فتح الموحدة وضمها، والصلاة فيها، فإن كانت فيها نجاسة؛ فلا تصح عليها بدون حائل، وإن فرش عليها حائلًا
(1)
بينه وبينها وصلى؛ فصلاته مكروهة تحريمًا، وإن لم يعلم فيها نجاسة أم لا وصلَّى فيها بحائل؛ فصلاته مكروهة تنزيهًا.
وأمَّا المجزَرة؛ فهي -بفتح الزاي-: المكان الذي ينحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والغنم، وهي أيضًا محل الدماء والأرواث، فصلاته فيها على التفصيل في المزبلة، وهذا مذهب الإمام الأعظم، ومالك، وغيرهما، وقال أحمد: الصلاة فيهما لا تصح.
وأمَّا المقبرة؛ فقدمنا الكلام فيها.
وأمَّا قارعة الطريق؛ فلما فيها من شغل الخاطر بمرور الناس ولفظهم، ويلحق بها صلاته في دكانه، فإنَّه مكروه لذلك.
وأمَّا الحمام؛ فالصلاة فيه مكروهة عند الجمهور، وفصَّل أئمتنا الأعلام، فقالوا
(2)
: إن صلى في داخله بأن غسل موضعًا وصلى فيه؛ فصلاته مكروهة، وإلا؛ فلا، وإن صلى في خارجه عند محل خلع الثياب؛ فلا بأس بذلك، وقال أحمد: لا تصح الصلاة في الحمام، ومن صلى؛ أعاد، والعلة في الكراهة الغُسَالات، وقيل: لأنَّها مأوى الشياطين، فعلى الأول؛ إن صلى في مكان طاهر فيها؛ لا تكره تحريمًا، بل تنزيهًا، وعلى الثاني؛ تكره الصلاة فيه، سواء كان في داخله أو خارجه، ويلزم منه أن تكره الصلاة في غير الحمام أيضًا؛ لعدم خلوِّ الأمكنة من الشياطين.
قلت: وقد يقال: إنَّ الشياطين في الحمام أكثر من غيره.
وأمَّا معاطن الإبل؛ فقد سبق الكلام عليه.
وأمَّا الصلاة فوق ظهر بيت الله؛ ففيه تفصيل، قال في «نور الإيضاح» : (صح فرض ونفل فيها؛ لقوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ
…
}؛ الآية [البقرة: 125]، ولحديث بلال:«أنَّه عليه السلام دخل البيت وصلى فيه» ، وصح فرض ونفل فوقها وإن لم يتخذ سترة، لكنه مكروه؛ لإساءة الأدب باستعلائه عليها، ومن جعل ظهره إلى غير وجه إمامه فيها أو فوقها؛ صح اقتداؤه، إلا أنَّه يكره إذا قابل وجهه وجه إمامه، وإن جعل ظهره إلى وجه إمامه؛ لا يصح، وصح الاقتداء خارجها بإمام فيها والباب مفتوح، وإن تحلقوا حولها والإمام خارجها؛ صح، إلا أنَّه لا يصح صلاة من كان أقرب إليها من جهة إمامه) انتهى بزيادة من الشرح.
وقال أحمد: لا تصح الصلاة فوقها، وفي «شرح الترمذي» :(لم يصح فيه حديث).
وأمَّا الصلاة إلى جدار مرحاض؛ فلما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر قال: (لا يصلى إلى الحش)، وعن علي:(لا يصلى تجاه الحش)، وعن إبراهيم:(كانوا يكرهون ثلاثة أبيات القبلة)، وذكر منها: الحش، وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال: لا تكره الصلاة وبين يديه جيفة، وحكى الطبري: أنَّه يكره استقبال الجدار النجس في الصلاة، وقال ابن حبيب المالكي: من تعمَّد الصلاة إلى نجاسة؛ بطلت صلاته، إلا أن يكون بعيدًا جدًّا، ونص علماؤنا الأعلام: على أنَّه تكره الصلاة قريبًا من نجاسة.
وأمَّا الصلاة في الكنيسة والبَيعة؛ فكرهها الحسن البصري، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» : أنَّ ابن عبَّاس كره الصلاة في الكنيسة إذا كانت فيها تصاوير، ولم يَرَ الشَّعبي وعطاء بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسًا، وكذلك ابن سيرين، وقال الإمام الأعظم: تُكره الصلاة في الكنيسة والبيعة، وإن تكرر منه الدخول إليهما؛ يعذر بما يليق به، كما صرح به في «البحر» .
وأمَّا الصلاة إلى قبلة فيها تماثيل؛ فهي مكروهة كما قدمناه.
وأمَّا الصلاة في دار العذاب؛ فلما تقدم من تعليق المؤلف عن علي.
وأمَّا الصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلما فيه من استعمال حق الغير بغير إذنه، وهو حرام، فتحرُم الصلاة فيها، ولا ثواب له، فإن كانت لكافر؛ لا يصلي فيها، ويصلي في الطريق، وإن كانت لمسلم؛ صلى فيها؛ لأنَّ المسلم يعفو عن المسلم.
وأمَّا الصلاة إلى النائم والمتحدث؛ فلما روى ابن عبَّاس النهي عن ذلك، رواه أبو داود وابن ماجه؛ لأنَّه يشغل البال، ويُخلُّ بالخشوع، وربما تفسد صلاته من ظهور شيء من النائم والمتحدث؛ فافهم.
وأمَّا الصلاة في بطن الوادي؛ فهو خوف السيل السالب للخشوع.
وأمَّا الصلاة في مسجد الضِرار؛ فلقوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، وقال ابن حزم:(لا تصح الصلاة فيه؛ لأنَّه ليس موضع صلاة)، وقال:(لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله، أو رسوله، أو بشيء من الدين، أو في مكان يُكفر فيه بشيء، فإن لم يمكنه الخروج وصلى؛ جازت صلاته) انتهى.
قلت: ولا فرق في ذلك بينها وبين الكنيسة والبيعة، فإنَّ فيهما يكفر بالله ورسوله؛ فلا وجه؛ لعدم صحة صلاته، بل صلاته فيه صحيحة مع الكراهة؛ فافهم ذلك، وسيأتي بقية الكلام على ذلك في آخر الباب.
[حديث: لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين إلا أن تكونوا باكين]
433 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسماعيل) : هو ابن أبي أويس بن عبد الله الأصبحي المدني، وتكلم فيه كأبيه، لكن أثنى عليه أحمد ابن حنبل وابن معين (قال: حدثني)؛ بالإفراد خالي (مالك) : هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن عبد الله بن دِينار)؛ بكسر أوله: هو المدني، (عن عبد الله بن عمر) : هو ابن الخطاب القرشي العدوي المدني: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بفتح الهمزة، وجملة: (قال) : محلها رفع خبر (أنَّ)؛ أي: لأصحابه حين مروا بالحجر وديار ثمود في حال توجههم إلى تبوك: (لا تَدخُلوا) بفتح الفوقية، وضم الخاء المعجمة (على هؤلاء المعذَّبين)؛ بفتح الذال المعجمة؛ يعني: ديار هؤلاء وهم
(1)
في الأصل: (حائل)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (فقال)، وليس بصحيح.
أصحاب الحِجْر قوم ثمود، وهؤلاء قوم صالح عليه السلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ
…
} الآية [الحجر: 80]، و (الحِجْر)؛ بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم: يطلق على معان؛ منها: الكعبة، ومنها: الحرم؛ لقوله تعالى: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 22]؛ أي: حرامًا محرمًا، ومنها: العقل؛ لقوله تعالى: {لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5]، والحجر: حجر القميص، ومنها: القوس الأنثى، ومنها: ديار ثمود -وهو المراد ههنا-: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود، قاله قتادة، وقال الطبري:(هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح)، وقال الزهري: هو اسم مدينتهم، وإنَّما قال:{المُرْسَلِينَ} -وهو صالح وحده- إشعارًا بأنَّ من كذب نبيًّا؛ فقد كذب الأنبياء؛ لأنَّهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم، وقيل: كذَّبوا صالحًا ومن تقدمه من النبيين، وروى المؤلف في (المغازي) عن ابن عمر:(أنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك؛ أمرهم ألَّا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنَّا واستقينا، فأمرهم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا العجين)، وروى أيضًا في (التفسير) عن ابن عمر:(أنَّ الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر في أرض ثمود، فاستقَوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم أن يهريقوا ما استقَوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تَرِدُها الناقة)، وروى أيضًا في (الأنبياء) عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر، فقال لنا رسول الله: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم
…
»؛ الحديث، قال المهلب: إنَّما قال عليه السلام: «لا تدخلوا» من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط والغضب، يدل عليه قوله تعالى:{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] في مقام التوبيخ على السكون فيها، وقد تشاءم عليه السلام بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها ثم صلى، فكراهة الصلاة في موضع الخسف أولى.
ثم استثنى من ذلك، فقال:(إلا أن تكونوا باكين) حقيقة، أو متباكين حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف، فأباح الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار خوفًا من حلول مثل ذلك بكم، وهذا يدل على أنَّ من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأنَّ الصلاة موضع البكاء والاعتبار، وزعمت الظاهرية أنَّ من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك؛ فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك؛ بطلت صلاته، قال الشَّارح:(وهو خُلفٌ من القول؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبكِ، وإنَّما فيه خوف نزول العذاب به) انتهى.
وزعم ابن حجر: ليس المراد الاقتصار في البكاء على ابتداء الدخول، بل دائمًا عند كل جزء من الدخول، وأمَّا الاستغراق؛ فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنَّه عليه السلام لم ينزل فيه ألبتة، انتهى.
قلت: وهذا كلام فيه نظر، وبُعدٌ عن الظاهر؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على إباحة دخولهم إذا كانوا باكين مطلقًا، سواء كانوا حقيقة أو متباكين في حال دخولهم أو في انتهائه، والمراد به الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون بكاء، فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم له، فلا يلزم البكاء دائمًا كما زعمه، بل يلزم دوام الخوف والاعتبار مع البكاء في جزء من الدخول، سواء كان في الابتداء أو في الانتهاء، والبكاء لا يلزم أن يكون حقيقة، بل يجوز أن يكون حكمًا وهو المتباكي، وقوله: (وسيأتي
…
) إلخ: ممنوع، فإنَّا قدمنا عن المؤلف: أنَّه عليه السلام نزل على الحجر
…
؛ الحديث، وقد رواه المؤلف من طرق متعددة في أبواب متفرقة، وهو صريح في أنه نزل فيه ألبتة؛ فافهم، والله أعلم.
(فإن لم تكونوا باكين)؛ أي: حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف حقيقة، ولا متباكين ولا خائفين معتبرين، أمرهم بالتفكر في أحوالهم؛ (فلا تدخلوا عليهم)؛ أي: لا تدخلوا ديارهم، قال الخطابي: معنى الحديث: أنَّ الداخل في ديار القوم الذين أهلكوا بالعذاب إذا دخلها ولم يجلب ما يرى من آثار ما نزل بهم بكاءً، ولم يبعث حزنًا، إمَّا شفقة عليهم، وإمَّا خوفًا من حلول مثلها به؛ فهو قاسي القلب، قليل الخشوع، غير مستشعر للخوف والوجل، فلا يأمن إذا كان حاله هكذا أن يصيبه ما أصابهم، وهذا معنى قوله:(لا يصيبُكم)، وللمؤلف في (الأنبياء) :(أَن يصيبكم)؛ بفتح الهمزة، وفيه إضمار؛ تقديره: حذرًا أن يصيبكم، أو خشية أن يصيبكم (ما أصابهم)؛ أي: من العذاب، و (يصيبُكم) بالرفع؛ على أن (لا) نافية؛ لأنَّه استئناف كلام، وفسَّره ابن حجر؛ أي: لئلا يصيبكم، وردَّه إمامنا الشَّارح فقال:(الجملة الاستئنافية لا تكون تعليلًا)؛ فافهم، ثم قال ابن حجر:(ويجوز الجزم على أن «لا» ناهية، وهو أوجه)، واعترضه إمام الشَّارحين، فقال:(هذا مبنيٌّ على صحة الرواية بذلك، وقوله: «وهو أوجه» غير موجَّه؛ فإنَّه لم يبين وجهه) انتهى.
قلت: والظاهر من كلام ابن حجر أنه تفسير إعراب، ولم أر أحدًا من الشراح ذكر الرواية في ذلك، والظاهر: أنَّه بالرفع لا غير؛ لأنَّه استئناف كلام؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: كيف يصيب عذاب الظالمين لغيرهم وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]؟)
قلت: لا نسلِّم الإصابة إلى غير الظالمين، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وأمَّا الآية الأولى؛ فمحمولة على عذاب يوم القيامة، ولا نسلِّم أنَّ الذي يدخل موضعهم ولا يتضرع ليس بظالم؛ لأنَّ ترك التضرع فيما يجب التضرع فيه ظلمٌ، انتهى.
قلت: يعني: فيُطلب في حقه الخوف والاعتبار؛ لأنَّه تعالى مقلِّب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، ولا
(1)
يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال الكرماني: (فإن قلت: كيف دلالة الحديث على الترجمة؟ قلت: من جهة استلزامه مصاحبة الصلاة بأسرِها للبكاء، وهي مكروهة، بل لو ظهر من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو ممدود؛ تبطل صلاته) انتهى.
قلت: لا يلزم مصاحبة الصلاة بأسرها للبكاء؛ لأنَّ المراد بالحديث: الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون البكاء، ويلزم مصاحبة البكاء في جزء من الدخول، ولا يلزم في الصلاة البكاء؛ لأنَّ الصلاة محلٌّ للبكاء والخشوع؛ ولهذا قال ابن بطال:(والحديث يدلُّ على إباحة الصلاة هناك؛ لأنَّ الصلاة موضع بكاء وتضرع) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فلا مطابقة للحديث على الترجمة، لكن قال إمام الشَّارحين: (هذا الحديث مطابق لأثر عليٍّ من حيث عدم النزول من النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لما مرَّ بالحجر ديار ثمود في حالة توجهه
(1)
سقط من الأصل: (ولا).
إلى تبوك، وأثر عليٍّ كذلك من حيث إنَّه لم ينزل لما أتى خسف بابل، فأثر عليٍّ مطابق للترجمة على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك حديث ابن عمر مطابق للترجمة؛ لأنَّ المطابق للمطابق للشيء مطابق لذلك الشيء، وعدم نزولهما فيهما يستلزم عدم الصلاة فيهما، وعدم الصلاة لأجل الكراهة، والباب معقود لبيان الكراهة، فحصلت المطابقة) انتهى.
ثم قال: وفي الحديث دلالة على أن ديار هؤلاء لا تُسكَن بعدهم، ولا تتخذ وطنًا؛ لأنَّ المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيًا أبدًا، وقد نُهي أن تُدخل دورهم إلا بهذه الصفة، وروى الحاكم في «الإكليل» بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال:(رأيت رجلًا جاء بخاتم وجده بالحِجر في بيوت المعذَّبين، فأعرض عنه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: «ألقِه»، فألقاه)، وقدمنا أن عند المؤلف في (المغازي) و (التفسير) و (الأنبياء) : أنَّه عليه السلام نهى أن يُستقى من مياههم
…
؛ إلى آخر ما قدمنا.
وفي الحديث: المنع من المقام بدورهم والاستيطان بها، وفيه: الإسراع عند المرور بديار المعذبين؛ كما فعل عليه السلام في وادي محسر؛ لأنَّ أصحاب الفيل هلكوا هناك؛ ولهذا قنَّع النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم رأسه لما مرَّ بديار المعذبين، وقد أسرع السير حتى جاز المدينة ولم يصلِّ هناك، وكذلك عليٌّ وضع على رأسه حين مرَّ بابل، وفيه: أمرهم بالبكاء؛ لأنَّه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك، وقال ابن الجوزي: (التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل هذا المقام ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم
(1)
بالكفر والعناد.
الثالث: يتعلق بالمارِّ عليهم؛ لأنَّه وفق للإيمان، وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ ينبغي أيضًا الإسراع عند المرور بمقابر الكفار اليهود والنصارى؛ لأنَّهم معذبين تنزل عليهم اللعنة والغضب؛ خوفًا من أن يصيبه منه شيء.
وفي الحديث: دلالة على كراهة الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، والباب معقود عليه، وفيه: دلالة على كراهة الدخول في تلك المواضع، سواء كانت موضع مقام الكفار أو موضع خسف أو عذاب، وأمر عليه السلام بهرق ما استقوا من بئر ثمود، وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأجل أنَّه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به؛ فرارًا من سخط الله تعالى، وقال:«اعلفوه الإبل» ، فالوضوء به مكروه.
وأمره عليه السلام أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وإن تقادمت أعصارهم، وخَفِيت آثارهم؛ كما أنَّ في الأول دليلًا
(2)
على بغض أهل الفساد، وذمِّ ديارهم وآثارهم، هذا وإن كان التحقيق أنَّ الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمبغوض مبغوض.
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: (ولا تصحُّ الصلاة في بقعة مغصوبة، ومقبرة، وحمام، وحشٍّ، وأعطان إبل، ومجزرة وإن كانت طاهرة، ولا في قارعة الطريق، ولا بأسطحتها، ولا في الكعبة)، قال ابن العربي: (فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ؛ فلا يجوز التيمُّم بترابها، ولا الوضوء بمائها، ولا الصلاة فيها؛ لحديث ابن عمر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلَّى في سبع مواطن
…
»؛ الحديث، رواه الترمذي)، وقال مالك في «المجموعة» :(لا يصلَّى في أعطان الإبل وإن فرش ثوبًا، ولا على بساط فيه تماثيل، ولا في الدَّار المغصوبة، وذكر بعضهم: أنَّه كره مالك الصلاة في الدار المغصوبة)، قال القرطبي:(والصحيح الذي يدلُّ عليه الخبر والنظر: أنَّ الصلاة بكل موضع طاهر صحيحةٌ جائزة، وما روي من قوله عليه السلام: «إنَّ هذا وادٍ به شيطان»، وقول عليٍّ: «نهاني رسول الله أن أصلي [بأرض] بابل»، وقوله: حين مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين»)؛ فإنَّه مردود إلى الأصول المجمع عليها، وما روي من النهي عن الصلاة في تلك المواضع؛ كله منسوخ ومدفوع بقوله عليه السلام:«جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ، فإنَّه قال: «أُعطيت خمسًا لم يؤتهن أحد قبلي
…
»؛ الحديث رواه الجماعة، ومن الجائز على فضائله عليه السلام الزيادة، وغير جائز النقصان، يدلُّ عليه قوله عليه السلام لأبي ذر: «حيث ما أدركتك الصلاة؛ فصلِّ، فإن الأرض كلها مسجدٌ
(3)
» ذكره المؤلف، ولم يخص موضعًا من موضع.
وأمَّا حديث الترمذي؛ فهو انفرد به زيد بن جبيرة، وأنكروه عليه، ولا يعرف الحديث مسندًا إلا برواية يحيى بن أيوب عن
(4)
زيد بن جبيرة، وكتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، فكتب إليه ابن نافع:(لا أعلم من حدَّث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل) ذكره الحلواني عن ابن أبي مريم عن الليث.
وحديث علي: (نهاني
…
)؛ إسناده ضعيف.
واتخاذه عليه السلام مسجده على مقبرة المشركين دليل: جواز الصلاة في المقبرة، وكذلك وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وروى النسائي عن طلق بن علي قال: (خرجنا وفدًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا
…
)؛ الحديث، وفيه:«فإذا أتيتم أرضكم؛ فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدًا» ، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أنه عليه السلام أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
وهذا كله حجة مستقيمة على أحمد ومن تبعه في عدم جواز الصلاة في تلك المواضع.
وقول ابن العربي: (فإن هذه المواضع مستثناة من قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا») ممنوع؛ فإنَّه دعوى باطلة لا دليل عليها، بل المراد بالأرض كلها، كما جاء في رواية المؤلف، كما سبق، والله تعالى أعلم.
(1)
في الأصل: (بهم)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (مسجدًا)، وليس بصحيح.
(4)
في الأصل: (بن)، وهو تحريف.