الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعيني»، وقال أنس، والحسن، وعكرمة: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بعين رأسه، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال:(إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية).
واعلم أن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة؛ لأنَّ دليل الجواز غير مخصوص برؤيته في الآخرة، ولأن مذهب أهل السنة: أن الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد، فإذا حصل العلم بالشيء من طريق البصر؛ كان رؤية بالإراءة، وإن حصل من طريق القلب؛ كان معرفة، فالله تعالى قادر على أن يحصل مدرك العلوم في البصر، كما قدر على أن يحصل مدرك العلوم في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، والاختلاف في الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز، والله أعلم.
(ثم أُدخلت الجنة)؛ بضم الهمزة؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: ثم أدخلني جبريل الجنة، وهي جنة المأوى، وسميت بذلك؛ لأنَّه يأوي إليها المتقون، أو أرواح الشهداء، وقال إمام الشَّارحين: (وقوله عليه السلام: «ثم أدخلت الجنة» يدل على أن سدرة
(1)
المنتهى ليست في الجنة)، وقال ابن دحية: كلمة (ثم) في هذا الحديث في مواضع ليست للترتيب، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، وإنما هي مثل (الواو) للجمع والاشتراك، فهي بذلك خارجة عن أصلها، انتهى.
(فإذا فيها)؛ أي: في الجنة، وكلمة (إذا) هنا والتي في قوله:(فإذا ترابها) للمفاجأة (حبائل اللؤلؤ)؛ بالحاء المهملة، ثم الموحدة، وبعد الألف مثناة تحتية ساكنة، ثم لام، كذا وقع لجميع رواة البخاري، وذكر جماعة منهم: أنه تصحيف، وإنما هو (جنابذ)؛ بالجيم والنون، وبعد الألف موحدة، ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في (أحاديث الأنبياء) من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، وقال ابن الأثير:(إن صحت رواية «حبائل»؛ فيكون أراد به مواضع مرتفعة؛ كحبال الرمل، كأنه جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس)، وفي رواية الأصيلي عن الزهري:(دخلت الجنة، فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ)، وقال ابن قرقول: كذا لجميعهم: (حبائل)، ومن ذهب إلى صحة الرواية؛ قال: إن الحبائل: القلائد والعقود، أو يكون من حبال الرمل؛ يعني: فيها اللؤلؤ؛ كحبال الرمل، وهو جمع حبل؛ وهو الرمل المستطيل، أو من الحبلة: وهو ضرب من الحلي معروف، وقال صاحب «التلويح» :(وهذا كله تخيل ضعيف، بل هو بلا شك تصحيف من الكاتب)، والحبائل إنَّما تكون جمع: حبالة أو حبيلة، والجنابذ جمع: الجُنبُذ؛ بضم الجيم، وسكون النون، وبالموحدة المضمومة، وبالذال المعجمة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار؛ كالقبة، والعامة تقول: بفتح الموحدة، والأظهر أنه فارسي معرب.
قلت: هو في لسان العجم؛ كُنْبَذ؛ بضم الكاف: الصماء، وسكون النون، وفتح الموحدة: وهي القبة، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وإذا ترابها المسك)؛ أي: تراب الجنة رائحته كرائحة المسك، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد؛ أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وغراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ، وفي الحديث: أنه عليه السلام قال: «إن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمس مئة عام، ولا يجد ريحها عاق» ، قال تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} : فإنَّهم أخف في الخدمة {مُّخَلَّدُونَ} : دائمون على ما هم عليه من الشباب والفضاضة في الحسن، فإنَّهم لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحد على مر الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19] : من صفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم، وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض، فإن المتفرق أحسن من المنظوم؛ ليظهر لمعانه وبريقه، عليهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، وفي الحديث:«أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة؛ مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من أحدهما، فترى عليهم نضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تشعث شعورهم أبدًا، ثم يشربون من الآخر، فيخرج ما في بطونهم من الأذى؛ كالغل، والحسد، والقذر، والغش، ثم تستقبلهم خزنة الجنة، فيقولون لهم: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، اللهم؛ اجعلنا منهم.
ويستنبط من الحديث أمور:
أحدها: أن جبريل عليه السلام هو الذي كان ينزل على النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم من عند الله وبأمره.
الثاني: أن فيه الاستئذان وبيان الأدب فيما إذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: زيد مثلًا، ولا تقول: أنا، إذ لا فائدة فيه؛ لبقاء الإبهام، كذا قالوا، قال إمام الشَّارحين: قلت: لكن لا يقتصر على قوله: زيد مثلًا؛ لأنَّ المسمى بزيد كثير، فيشتبه عليه، بل يذكر الشيء الذي هو مشهور به بين الناس.
الثالث: أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه؛ لأنَّ الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإرسال إليه.
الرابع: علم منه أن للسماء أبوابًا حقيقة، وحفظة موكلين بها.
الخامس: أنه علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسل إبراهيم؛ حيث قال: (والابن الصالح) بخلاف غيره من الأنبياء المذكورين فيه، فإنَّهم قالوا:(الأخ الصالح).
السادس: فيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتن.
السابع: أن فيه شفقة الوالد على ولده، وسروره بحسن حاله، وسوءه بسوء حاله.
الثامن: فيه أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وقد مضى الكلام فيه.
التاسع: فيه أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء.
العاشر: فيه استدل بعضهم على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب، ورده إمام الشَّارحين: بأنَّ هذا الاستدلال بعيد؛ لأنَّ ذلك إنَّما كان فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم كحكمنا، ويحتاج أيضًا إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به، ومع هذا كان هذا على أصل الإباحة، وتحريم النقدين كان بالمدينة.
الحادي عشر: فيه وجوب الصلوات الخمس، والباب معقود لهذا، وقال ابن بطال:
(1)
في الأصل: (السدرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء)، وقال ابن إسحاق: (ثم إن جبريل عليه السلام أتى الوادي، فهمز بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت فيه عين ماء مزن، فتوضأ جبريل عليه السلام، ومحمد عليه السلام ينظر إليه، فرجع النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد خديجة رضي الله عنها، ثم أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل عليه السلام، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليه السلام.
وقال نافع بن جبير: (أصبح النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فنزل جبريل عليه السلام حين زاغت الشمس، فصلى به).
وقال جماعة: لم يكن صلاة مفروضة قبلها إلا ما كان أمر به من قيام الليل من غير تحديد ركعات، ووقت حضور، وكان يقوم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه.
الثاني عشر: فيه أن أرواح المؤمنين يصعد بها إلى السماء.
الثالث عشر: فيه أن أعمال بني آدم الصالحة تسر آدم، وأعمالهم السيئة تسوءه.
الرابع عشر: فيه أنه يجب أن يرحب بكل أحد من الناس في حسن لقائه بإكرام النازل أن يلاقيه بأحسن صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه.
الخامس عشر: فيه أن أوامر الله تعالى تكتب بأقلام شتى، وأن العلم ينبغي أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة الله في سماواته، فكيف بأرضه؟
السادس عشر: فيه أن ما قضاه وأحكمه
(1)
من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه رفقًا بعباده؛ فهو الذي قال فيه:{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد: 39]، وقال إمام الشَّارحين:
فإن قلت: إنه عليه السلام عرج به على دابة يقال لها: البراق، وثبت ذلك بالتواتر، فما الحكمة في ذلك، وكان الله تعالى قادرًا
(2)
على رفعه في طرفة عين بلا براق؟
قلت: إنَّما كان ذلك للتأنيس بالمعتاد، والقلب إلى ذلك أميل، وعرج به؛ لكرامة الراكب على غيره، ولذلك لم ينزل عنه على ما جاء في حديث حذيفة:(ما زال ظهر البراق حتى رجع)، وإنما لم يذكر في الرجوع؛ للعلم به؛ لقرينة الصعود، وسمي براقًا؛ لسرعته تشبيهًا ببرق السحاب، وكانت بغلته عليه السلام بيضاء؛ أي: شهباء، فكذلك كان البراق، وفيه أسئلة:
الأول: كون البراق على شكل البغل دون الخيل مع أن الخيل أفضل وأحسن؟
والجواب: كان الركوب في السلم والأمن لا في الخوف والحرب؛ ولإسراعهِ عادة، ولتحقيق ثباته وصبره؛ فلهذا كان عليه السلام يركب بغلته في الحرب في قصة حنين؛ لتحقيق ثباته في مواطن الحرب، وأما ركوب الملائكة الخيل؛ فلأنه المعهود بالخيل في الحروب، وما لطف من البغال واستدار أحسن من الخيل في الوجوه التي ذكرناها.
الثاني: استصحاب البراق لماذا كان؟
والجواب: إنه كان تيهًا وزهوًّا لركوبه عليه السلام، وقول جبريل عليه السلام: أبمحمد
(3)
تستصعب تحقيق الحال، وقد ارفضَّ عرقًا من تيه الجمال؟ وقد قيل: إنه ركبه الأنبياء قبله أيضًا، وقيل: إن جبريل ركب معه؛ لبعد عهده بالأنبياء عليهم السلام، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل: إن جبريل قال لمحمد عليهما السلام حين شمس به البراق: لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم -يعني: الذهب- فأخبره النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه ما مسها إلَّا أنه مر بها، فقال:«تبًّا لمن يعبدك من دون الله» ، وما شمس إلَّا لذلك، ذكره السهيلي، وسمعت من بعض أستاذتي الكبار: أنه إنَّما شمس؛ ليعد له النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بالركوب عليه أولًا يوم القيامة، فلما وعد له؛ قر) انتهى كلام إمام الشَّارحين رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، آمين.
[حديث: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين]
350 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) : هو التنيسي المنزل الدمشقي الأصل، المتوفى سنة ثمان عشرة ومئتين، وفي يوسف تثليث السين المهملة مع الهمز، وتركه؛ ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك) : هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: هو المدني التابعي، المتوفى وهو ابن مئة سنة ونيف وستين سنة، (عن عُرْوة)؛ بضم العين، وسكون الراء المهملتين (بن الزبير)؛ بضم الزاي، وفتح الموحدة: هو ابن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين) : هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، قال تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وهو من باب التشبيه البليغ، حذفت منه أداة التشبيه للمبالغة، ووجه الشبه: وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن، قال تعالى:{وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وهن فيما وراء ذلك كالأجانب، وليس المراد التشبيه في جميع أحكام الأمهات، ألا ترى أن النظر إليهن والخلوة بهن حرام، كما في الأجانب، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، ولا يقال لبناتهنَّ: هن أخوات المؤمنين، ألا ترى أنه عليه السلام زوج بناته لعلي وذي النورين رضي الله عنهما، ولا يقال أيضًا لإخوتهنَّ وأخواتهن: أخوال المؤمنين وخالاتهم؛ لأنَّه قد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهن، وهذا معنى ما روى مسروق: أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أمه، فقالت:(لست لكِ بأمٍّ، إنَّما أنا أم رجالكنَّ)، فالمراد في معنى الآية: التشبيه في بعض الأحكام، وهو كونهن محرمات على الرجال؛ كحرمة أمهاتهم؛ يعني: حرمة مؤبدة.
(قالت) أي: عائشة: (فرض الله)؛ أي: قدر الله، والفرض في اللغة: التقدير، هكذا فسره أبو عمر (الصلاة)؛ أي: الرباعية، وذلك لأنَّ الثلاثية وتر صلاة النهار، وأشار إلى ذلك في رواية أحمد من حديث ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن عروة
…
إلى آخره وفيه: (إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثًا)، وذكر الداودي:(أن الصلوات زيدت ركعتان ركعتان، وزيدت في المغرب ركعة).
قلت: وفيه نظر؛ لما في رواية أحمد المذكورة آنفًا، فإنها صريحة في أن المغرب كانت ثلاثًا، ويدل عليه أيضًا ما في «سنن البيهقي» من حديث داود بن أبي هند، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت:(إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن؛ زاد ركعتين غير المغرب، فإنها وتر صلاة الغداة)، قالت:(وكان إذا سافر صلى الصلاة الأولى)، كذا في «عمدة القاري» .
(حين فرضها) قال ابن إسحاق: ثم إن جبريل أتى الوادي، فهمز بعقبه في ناحيته، فانفجرت
(1)
في الأصل: (ما قضا وأحكم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (قادر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (ألمحمد)، ولعل المثبت هو الصواب.
فيه عين ماء مزن، فتوضأ جبريل والنبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ينظر، فرجع عليه السلام فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ، كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليهما السلام (ركعتين ركعتين) بالتكرار؛ ليفيد عموم التثنية لكل صلاة؛ لأنَّ القاعدة في كلام العرب أن تكرر الاسم المراد تقسيم الشيء عليه، ولولاه؛ لكان فيه إيهام أن الفريضة في الحضر والسفر ما كانت إلا فرد ركعتين فقط، وانتصاب قوله:(ركعتين) على الحالية، والتكرار في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة؛ نحو: مثنى، ونظيره قولك: هذا مزٌّ؛ أي: قائم مقام الحلو والحامض (في الحضر والسفر) إلا المغرب، فإنها ثلاث، كما ذكرناه من رواية أحمد والبيهقي، (فأُقِرت صلاة السفر)؛ بضم الهمزة في (أقرت)، وكسر القاف؛ أي: بقيت على حالها ركعتين ركعتين، والضمير المرفوع في (أقر) يعود على النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه هو المشرع المقر لها على ذلك، وهو أمر منه عليه السلام، والأمر للوجوب، فاقتضى أن يكون القصر في السفر عزيمة؛ يعني: واجبًا، وهو مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، والجمهور، وخالفهم الشافعي، فزعم أنه رخصة، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا صلى المسافر أربعًا ولم يقعد على رأس الركعتين؛ فسدت صلاته عندنا؛ لاتصال النافلة قبل كمال أركانها، وإن قعد في آخر الركعة الثانية قدر التشهد؛ أجزأته وصحت وصارت الأخرييان له نافلة، لكنه يصير مسيئًا بتأخير السلام، وعنده: هو مخير، إن شاء؛ أتم، وإن شاء؛ اكتفى على القصر.
(وزيد في صلاة الحضر) : يعني: زيد فيها حتى تكملت خمسًا، فتكون الزيادة في عدد الصلوات، ويكون قولها:(فرضت الصلاة ركعتين)؛ يعني: قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55]، قاله أبو إسحاق الحربي، ويحيى بن سلام، وغيرهما.
قلت: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: عن النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإن استطعتم ألَّا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فافعلوا» ، ثم قرأ هذه الآية، كذا في «تفسير» الإمام الفقيه أبي الليث رحمه الله، وهذا الحديث من مراسيل السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّها لم تدرك القصة، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك من النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، أو من صحابي آخر، وعلى كل حال؛ فهو حجة؛ لأنَّ هذا مما لا مجال للرأي فيه، وهو حجة قوية ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: من أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، ويدل عليه ما رواه مسلم في «صحيحه» عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة).
ورواه الطبراني في «معجمه» بلفظ: (افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعًا)، ويدل عليه أيضًا ما رواه النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضًا ابن حبان في «صحيحه» ، ولم يقدحه في شيء.
وقول النسائي: (فيه انقطاع؛ لأنَّ ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر بن الخطاب) : مردود؛ لأنَّ إمام هذه الصنعة مسلم بن الحجاج القشيري حكم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه، وصرح في بعض طرقه، فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت عمر بن الخطاب؛ فذكره، ويؤيد ذلك: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في «مسنده» عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب
…
؛ فذكره، فهذا يدل على أن القصر في السفر عزيمة؛ أي: واجب، وإليه ذهب علماء أكثر السلف، وفقهاء الأمصار، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة.
وقال حماد بن أبي سليمان: من صلى في السفر أربعًا؛ يعيد صلاته، وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت، وقال أحمد: السنة ركعتان، وقال الخطابي: الأولى أن يقصر المسافر الصلاة؛ لأنَّهم أجمعوا على جوازها إذا قصر، واختلفوا فيها إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف، ويدل لما قاله الجمهور: ما في «البخاري» و «مسلم» عن حفص بن عاصم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عثمان بن عفان رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
ولا يخفى أن المواظبة على ذلك تدل على الوجوب، فلهذا قال الجمهور: إن القصر في السفر واجب، وقال الشافعي: القصر في السفر رخصة، وهو رواية عن مالك وأحمد، وتعلق بقوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ؛ لأنَّ نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر ينبئ عن تمام سابق، وبما أخرجه أبو داود بإسناده عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فقد ذهب ذلك اليوم، فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقال:«صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان؛ يعني: فالمفروض الأربع إلا أنه رخص بأداء ركعتين.
وبما أخرجه الدارقطني عن عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة: (أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يقصر في
الصلاة، ويتم، ويفطر، ويصوم)، قال الدارقطني:(إسناده صحيح).
قلنا: وهذا كله لا حجة له فيه، وحجته من ذلك مردودة، أمَّا قوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ..} ؛ الآية؛ فلا يدل له؛ لأنَّ المراد من القصر المذكور في الآية هو قصر الأوصاف من ترك القيام إلى القعود، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء؛ لخوف العدو؛ بدليل أنه تعالى علق ذلك بالخوف؛ إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا: قصر الأوصاف مباح لا واجب مع أن رفع الجناح في النص لرفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم، وبهذا فسر الآية ابن عباس حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن؛ حيث قال: المراد من القصر التخفيف في كيفيات أداء الركعات وهو أن يكتفى في الصلاة بالإيماء بدل الركوع والسجود، وبه قال طاووس وغيره.
وأمَّا قوله عليه السلام: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ؛ فلا دليل له فيه، بل هو حجة لما قاله إمامنا الإمام الأعظم والجمهور؛ لأنَّه عليه السلام أمر بالقبول؛ ومعناه: اعتقدوه واعملوا به، فلا يبقى له خيار الرد شرعًا؛ لأنَّ الأمر منه عليه السلام للوجوب، ومعنى قوله عليه السلام:«تصدق الله بها عليكم» : حكم عليكم؛ لأنَّ التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط؛ كالعفو من الله تعالى؛ لأنَّ هذه الصدقة واجبة في الذمة، وليس لها حكم المال، فتكون إسقاطًا محضًا، فلا يرتد بالرد؛ كالصدقة بالقصاص، والطلاق، والعتاق يكون إسقاطًا لا يرتد بالرد، فكذا هذا.
وأمَّا حديث الدارقطني عن عائشة؛ فقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمرو، ودلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وثلاثتهم ضعفاء، عن عطاء، عن عائشة كما قاله البيهقي، وقال: والصحيح عن عائشة موقوف، ولا يخفى أنه معارض بما قدمناه عن حديث البخاري، ومسلم، وغيرهما، وهو لا يقاوم ما ذكر في «الصحيحين» ، فلا دليل فيه له على أن الروايات عن عائشة متعارضة، والصحيح منها في ذكر في هذا «الجامع الصحيح» ، ويجوز أنها كانت تنتقل من بيت بعض الأزواج إلى بيت بعض، فلم تكن مسافرة شرعًا، ولئن صح؛ فمحمول على إتمام الأركان، يدل عليه: أنه عليه السلام صلى الظهر بأهل مكة عام حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديًا ينادي:(يا أهل مكة؛ أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر)، فلو كان فرض المسافر أربعًا؛ لم يحرمهم فضيلة الجماعة معه عليه السلام، وقياسه على الصوم فاسد؛ لأنَّ ترك الشيء لا إلى بدل دليل الفعلية، وفيه بدل؛ وهو القضاء بالنص، فلا يلزمنا، ولأن جهة اليسر فيه مترددة غير متعينة في القصر؛ لما عرف في الأصول، فيخير وجهة اليسر متعينة في القصر، فلم يتوجه التخيير؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن معنى (فرضت الصلاة)؛ أي: ليلة الإسراء حين فرضت الصلوات الخمس فرضت ركعتين، ثم زيدت في صلاة الحضر بعد ذلك، فتكون الزيادة في عدد الركعات، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة، وممن رواه هكذا الحسن والشعبي، وأن الزيادة في الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقد ذكره البخاري من رواية معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:(فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، ففرضت أربعًا)، فإن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين؛ فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعًا؛ فله ذلك.
ويحتمل أن معنى قولها: (فرضت الصلاة) : قدرت، ثم تركت صلاة السفر على هيئتها لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار.
قلت: وهذا كله ممنوع، ولا شيء من الحديث يدل عليه، بل معنى قولها:(فرضت الصلاة ركعتين) : قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها، وقد جاء ذلك بالنص؛ حيث قال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، فالزيادة إنَّما كانت في عدد الصلوات.
وقوله: (وهو المروي
…
) إلى آخره: قد علمت أن الروايات عن عائشة قد تعارضت، وقولها:(فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر عليه السلام، ففرضت أربعًا)؛ معناه: أنه يجوز ترك الركعتين الأخيريين، فلا بد يلزمه، ولا إثم يلحقه، وكان تطوعًا؛ كسائر التطوعات، وهذا معنى قولهم: إن الشفع الثاني لا يقضى، ولا يأثم بتركه.
وقوله: (فإن اختار
…
) إلى آخره: ممنوع، بل يتحتم على المسافر القصر؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال:(صلاة المسافر ركعتان، وصلان الفجر ركعتان، فمن خالف السنة؛ فقد كفر)؛ يريد: كفران النعمة، ولما قدمناه من الأحاديث الدالة على وجوب القصر في السفر؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن الحنفية ألزموا على قاعدتهم فيما إذا تعارض رأي الصحابي روايته؛ فالعبرة بما رأى بأنه ثبت عن عائشة: أنها كانت تتم في السفر، ورده إمام الشَّارحين فقال: قاعدة الحنفية على أصلها، ولا يلزم من إتمام عائشة في السفر النقض على القاعدة؛ لأنَّ عائشة ترى القصر جائزًا، والإتمام جائزًا، فأخذت بأحد الجائزين، وإنما يرد على قاعدتنا ما ذكره أن لو كانت عائشة تمنع الإتمام؛ فافهم.
وكذلك الجواب في إتمام عثمان بن عفان، وقيل: لأنَّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم، فكأنَّهما كانا في منازلهما، ورد: بأنه صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما، وقيل: لأنَّ عثمان تأهل بمكة، ورد: بأنه عليه السلام سافر بأزواجه، وقصر الصلاة، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه ليلًا يظنون