الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنهم كان يرون جواز البناء كما قدمناه عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والحديث الذي ذكره لا يدل على الفرق أصلًا؛ لأنَّ إلقاء النبيِّ عليه السلام نعليه يحتمل أن يكون قبل شروعه في الصَّلاة، ويحتمل أن يكون في وسطها، والظاهر: الأول؛ لأنَّ قوله: (يصلي بأصحابه)؛ أي: يتهيَّأ للصلاة بهم، فرآهم جبريل يريدون الصَّلاة، فجاء، فأخبر النبيَّ عليه السلام: بأنَّ فيهما قذرًا، ويدل لهذا مجيء جبريل، فإنه لا يجيء إليه وهو في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السلام مشغول بعبادة ربه، فلا يلتفت لما سواه، وجبريل أيضًا لا يخبره وهو في حال العبادة؛ لأنَّ كلًّا منهما عليهما السلام في غاية من الأدب في عبادة الربِّ جلَّ وعزَّ.
وقوله في الحديث: (فلما قضى صلاته) : لا يدل على أنَّ الخلع كان في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السلام لم يرهم خلعوا نعالهم إلا بعد فراغه من الصَّلاة، بدليل قولهم:(رأيناك ألقيت نعليك)، ورؤيتهم له عليه السلام كانت بعد أن شرع في الصَّلاة، فرأوه قد خلع وشرع في الصَّلاة، فخلعوا وشرعوا معه، فبعد فراغهم من الصَّلاة رآهم، والله تعالى أعلم.
(وقال ابن المسيِّب)؛ بكسر التحتية وفتحها: هو سَعِيْد التابعي (والشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة: هو عامر التابعي، قال في «عمدة القاري» : وقع للأكثرين: (وقال ابن المسيب)، ووقع للمستملي والسرخسي:(وكان ابن المسيب) بدل (قال).
فإن قلت: فعلى هذا؛ ينبغي أن يثنِّي الضمير؛ لأنَّ المذكور اثنان؟
قلت: أراد كل واحد منهما، انتهى، قلت: ويجوز أن يكون خبر (كان) محذوفًا؛ أي: يقولان؛ فتأمل.
وزعم ابن حجر أن الأكثر بلفظ (قال)، وهو الصواب، وللمستملي والسرخسي بلفظ:(وكان) انتهى.
قلت: وهذا تناقض، فإن قوله:(وهو الصواب)، وتصريحه بالرواية الأخرى كلام من غير رويَّة ولا معنًى؛ لأنَّ المستملي أحفظ الرواة، فجعْلُ روايته خطأ غيرُ صواب، كما لا يخفى، وأيُّ داع إلى قوله:(وهو الصواب)، وما هو إلا كلام مناف فيه تناقض، كما لا يخفى؟ وليس هذا شأن شارح هذا الكتاب، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام» ؛ فافهم.
(إذا صلى) أي: الشخص (وفي ثوبه) : الواو للحال؛ أي: والحال أنَّ في ثوبه الذي هو عليه (دم) أقل من قدر الدرهم، (أو) صلى وفي ثوبه الذي عليه (جنابة) أي: أثرها؛ وهو المني، وكان أقل من قدر الدرهم، ففيه: إطلاق الجنابة على المني من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، (أو) صلى (لغير القبلة)؛ كالمشارق، والمغارب، والشمال وكان على اجتهاد، (أو تيمم)؛ أي: لعدم وجود الماء المطلق الكافي وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر، (وصلى) وفي رواية:(فصلى)؛ أي: فأتم صلاته، (ثم) بعد فراغه منها (أدرك) أي: وجد (الماء) المطلق الكافي لطهارته (في وقته)؛ أي: في وقت هذه الصَّلاة التي صلاها؛ فإنه (لا يعيد)؛ أي: تلك الصَّلاة التي صلاها في هذه الحالة، أمَّا الدم؛ فلأنَّه لمَّا كان أقل من قدر الدرهم؛ كانت الصَّلاة معه صحيحة، لكن مع كراهة التحريم، ويجب إعادتها جبرًا؛ لما حصل بها من الكراهة؛ لأنَّ كلَّ صلاة أديت مع كراهة التحريم؛ يجب إعادتها على وجه غير مكروه، والأولى: هي الفرض، والثانية: جابرة للأولى.
وأما الجنابة -أي: أثرها-؛ فكالدم كما علمت؛ لأنَّ المني نجس عندنا، كما شهدت به الأحاديث الصحيحة، وهذا الأثر يدل له أيضًا؛ فافهم.
وأما على زعم من زعم أنه طاهر؛ فلا كلام له.
وأما الصَّلاة لغير القبلة؛ فإذا كان قد صلى عن تحرٍّ واجتهاد، ثم تبيَّن الخطأ بعد فراغه من الصَّلاة؛ فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، وأحمد، والجمهور، وزعم الشافعية: أنه ليس عليه الإعادة في القديم، والمعتمد عندهم: وجوب الإعادة، وهو القول الجديد، وهذا الأثر حجَّة عليهم؛ لأنَّ الشخص فعل ما في وسعه.
وأمَّا التيمم؛ فإنه إذا لم يجد الماء وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر فصلى بالتيمم؛ فصلاته صحيحة، فإذا وجد الماء بعد ذلك؛ فلا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثلاثة، وقال في «عمدة القاري» :(وهذا الأثر إنَّما يطابق الترجمة إذا عمل بظاهره على الإطلاق، وأمَّا إذا قيل: المراد من قوله: «دم» : أقل من الدرهم عند من يرى بذلك، أو شيء يسير عند من ذهب إلى أنَّ اليسير عفو، فلا يطابق الترجمة على ما لا يخفى، وكذلك الجنابة لا تطابق عند من يراه طاهرًا) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (إن عمَّمنا في القدر في الترجمة بين القليل وغيره؛ حصلت المطابقة) انتهى.
قلت: ما ذكره قد أخذه من كلام إمامنا الشارح؛ لأنَّه صدَّر كلامه بقوله: (إذا عمل بظاهره على الإطلاق)؛ أي: إن عمَّم في القدر؛ حصلت المطابقة، وقد يقال: بل يتعين حمله على القليل، فلا يطابق الترجمة؛ لأنَّ مراد المؤلف: القليل؛ بدليل الآثار التي ساقها، فإنها تدل على القليل المعفوِّ عنه، كما لا يخفى على من تتبَّع.
[حديث: أن النبي كان يصلي عند البيت وأبو جهل]
240 -
وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين، وسكون الموحدة، مثنَّى: عبد: هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) : هو عثمان بن جَبَلة؛ بفتح الجيم، والموحدة، المروزي، (عن شُعْبة)؛ بضمِّ المعجمة، وسكون المهملة: هو ابن الحجاج، (عن أبي إسحاق) : السَّبِيعي؛ بفتح السين المهملة، وكسر الموحدة، واسمه عمرو بن عبد الله الكوفي التابعي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين المهملة (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: أبو عبد الله الكوفي الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، أدرك زمن النبيِّ عليه السلام، ولم يَلْقَه، وحج مئة حجة وعمرة، وأدَّى صدقته إلى عمال النبيِّ عليه السلام، وهو الذي رأى قردة زنت في الجاهلية، فاجتمعت عليها القردة ورجموها، مات سنة خمس وسبعين، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: فهو تابعي مخضرم، وهو غير عمرو بن ميمون المخزومي؛ فافهم.
(عن عبد الله)؛ أي: ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنَّه المراد حيث أطلق، كما أنه إذا أطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به: أبو حنيفة النعمان إمام الأئمَّة، ورئيس المجتهدين رضي الله تعالى عنه (قال) وفي رواية:(قال عبد الله) : (بينا) بغير ميم، فإن أصله:(بين)؛ بلا ألف زيدت؛ لإشباع الفتحة، قال في «عمدة القاري» :(وهو مضاف إلى الجملة التي بعده، والعامل فيه: «إذ قال بعضهم لبعض» الآتي بعد التحويل إلى الإسناد الثاني) انتهى.
قلت: وقد تبعه الشراح؛ لأنَّه إمامهم، وهذا هو الصحيح من أن (بينا)؛ بالألف؛ كـ (بينما)؛ بالميم مكفوفان عن الإضافة إلى المفرد، ومضافان للجملة، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم: إلى أنَّ (ما) والألف كافتان عن الإضافة، والجملة بعدهما لا محل لها من الإعراب، وذهب بعضهم: إلى أنَّ الألف لا تكفُّ عن الإضافة إلى الجملة بخلاف (ما)، واختاره المغاربة، كذا في «همع الهوامع» ، وتمامه فيه؛ فافهم.
(رسول الله صلى الله عليه وسلم : فـ (رسول) مبتدأ، خبره قوله:(ساجد)؛ أي: في صلاته، والذي يظهر أنه كان يصلي حينئذ منفردًا، قال في «عمدة القاري» : (وبقية الحديث من رواية عبدان المذكورة: «وحوله ناس من قريش من المشركين
…
»، ثم ساق الحديث مختصرًا) انتهى؛ فافهم.
(ح) مهملة: إشارة للتحويل من سند إلى آخر، هذا هو الأصح من أقوال سبق ذكرها، ولابن عساكر:(قال)؛ أي: المؤلف: (وحدثني)؛ بالإفراد، وللأصيلي:(وحدثنا)(أحمد بن عثمان)؛ أي: ابن حَكِيم؛ بفتح الحاء المهملة، وكسر الكاف، الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، الكوفي، المتوفى سنة ستين ومئتين (قال: حدثنا شُرَيْح)؛ بضمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة؛ مصغرًا (بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام، والميم الثانية، الكوفي التنوخي، زعم الكرماني أنه بالمثناة الفوقية، وبالنُّون المشددة، وبالخاء المعجمة.
وردَّه في «عمدة القاري» أن نوخ وتنوخ: حي من اليمن، ولا تشدد النُّون، انتهى.
قلت: ويدلُّ لهذا أن أهل اللغة والتاريخ قالوا: بتخفيف النُّون، وعبارة السيوطي في «لبِّ الألباب» :(التَّنُوخي؛ بالفتح، وضم النُّون الخفيفة، ومعجمة: نسبة إلى تنوخ قبائل أقاموا بالبحرين) انتهى؛ فافهم، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وهو غير شريح القاضي؛ لأنَّه كان في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف)؛ أي: السبيعي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، (عن أبيه) : يوسف بن إسحاق، (عن أبي إسحاق) : عمرو بن عبد الله الكوفي السبيعي، الذي سبق ذكره قريبًا، قال في «عمدة القاري» : وهنا إسنادان، ومن لطائف إسناد هذا الحديث: أنه قرن رواية عبدان برواية أحمد بن عثمان مع أن اللفظ لرواية أحمد؛ تقويةً لرواية عبدان؛ لأنَّ في إبراهيم بن يوسف مقالًا، فقال: عباس عن ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الزوجاني: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
ومن لطائفه: أن رواية أحمد خرجت بالتحديث لأبي إسحاق من عمرو بن ميمون، ولعمرو بن عبد الله بن مسعود.
ومنها: أن روايته عيَّنت أن عبد الله المذكور في رواية عبدان هو عبد الله بن مسعود.
ومنها: أن المذكور في رواية عبدان: (رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أحمد: (نبي الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
(قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: أبو عبد الله السابق قريبًا: (أن عبد الله بن مسعود) وللكشميهني: (عن عبد الله)، ولا فرق بين الروايتين؛ لأنَّه قد صرَّح بالتحديث في قوله:(أي: ابن مسعود)(حدَّثه)؛ أي: حدَّث عمرو بن ميمون: (أن النبيَّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت) العتيق؛ وهو الكعبة، وإفادة (كان) الدوام والاستمرار (وأبو جَهل)؛ بفتح الجيم: عمرو بن هشام المخزومي، وكان يكنَّى في الجاهلية بأبي الحكم، فكنَّاه النبيُّ عليه السلام بأبي جهل، ولهذا قال الشاعر:
الناس كنَّوه أبا حكم
…
والله كنَّاه أبا جهل
وقيل: كان يكنَّى أبا الوليد، وكان يعرف بابن الحنظلة، وكان أحول، وفي «المحبر» :(كان مأبونًا)، وفي «الوشاح» لابن دريد:(هو أول من حُزَّ رأسه)، ولما رآه رسول الله عليه السلام؛ قال:«هذا فرعون هذه الأمة» ، وتمامه في «عمدة القاري» (وأصحاب له)؛ أي: لأبي جهل، قال في «عمدة القاري» : وهم السبعة المدعوُّ عليهم بعدُ، كما بيَّنه البزار من طريق الأجلح عن أبي إسحاق، (جلوس) : جمع: جالس؛ أي: عند البيت أيضًا، قال في «عمدة القاري» :(أبو جهل) : مبتدأ، و (أصحاب له) : عطف عليه، و (جلوس) : خبره، والجملة: نصب على الحال، ومتعلق (له) : محذوف؛ أي: أصحاب كائنون له؛ أي: لأبي جهل، ويجوز أن يكون (جلوس) : خبر (أصحاب)، وخبر (أبي جهل) : محذوف؛ كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت
…
بما عندك والرأي مختلف
والتقدير: نحن راضون بما عندنا، انتهى.
واعترض البرماوي: بأنَّ الإخبار في البيت عن الجميع متعذر، بخلاف ما هنا، انتهى.
قلت: وهذا الاعتراض سهل، فإنه اعتراض في المثال لا في الحكم، وغاية الأمر: أنه يقال: إن الإخبار في البيت عن المجموع، وهو كافٍ وغير متعذر؛ فافهم.
(إذ قال) وسقط (إذ) لابن عساكر (بعضهم) : هو أبو جهل، كما سماه مسلم من رواية زكريا (لبعض)؛ أي: لأصحابه، وزاد مسلم فيه:(وقد نحرت جزور بالأمس)، وجاء في رواية أخرى:(بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي في ظل الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم؛ إذ قال قائل منهم: ألا تنظروا إلى هذا المرائي؟!)(أيُّكم)؛ بتشديد التحتية، استفهامية (يجيء بسَلَى)؛ بفتح السين المهملة واللام، وبالقصر: هي الجلدة التي تكون فيها الولد، والجمع: أسلاء، وخصَّ الأصمعي: السلى بالماشية، وفي الناس: بالمشيمة، وفي «المحكم» :(السلى: يكون للناس والخيل)، وقال الجوهري: هي جلدة رقيقة إن نزعت عن وجه الفصيل بساعة يولد، وإلا؛ قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن، وألف (سلى) منقلبة عن ياء مثناة، ويقوِّيه ما حكاه أبو عبيد من أنَّ بعضهم قال: سليت الشاة: إذا نزعت سلاها، انتهى «عمدة القاري» ، وقوله:(جَزُور) مضاف إليه؛ بفتح الجيم، وضم الزاي، من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنَّث، والجمع: الجزر، يقال: جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم ابن حجر أن الجزور: ما يُجْزَرُ؛ أي: يُقْطَع.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يدرى من أي موضع نقله؟).
وزعم العجلوني أنه نقله من كتب اللغة؛ كـ «الصحاح» ، و «القاموس» ، و «المحكم» ، قال في «الصحاح» :(جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، وأجزرتها؛ إذا نحرتها)، وقال في «المحكم» :(الجزور: الناقة المجزورة، والجمع: جزائر)، وقال في «القاموس» :(الجزور: البعير أو خاصٌّ بالناقة المجزورة) انتهى.
قلت: ولا يخفى أن هذه النقول دليل واضح لما قاله صاحب «عمدة القاري» من أن الجزور بمعنى: المجزور؛ أي: المنحور، فهي دليل له لا عليه، ولم يصرِّح أحد من هذه النقول أن معناه: المقطوع، كما زعمه ابن حجر، فالردُّ ظاهر؛ لأنَّه لم يجئ بمعنى القطع في اللغة أصلًا، والعجلوني نقل ولم يعلم ما نقل، وما نقل إلا الحق، فإن الشخص إذا أعرض عن الحق لا بدَّ أن الله تعالى يجعل له أسبابًا، ثم يعيده إلى الحق، وهو لا يدري، ويكون مراده غيره، فالحق مع صاحب «عمدة القاري» ، والذي زعمه ابن حجر تفسير من عنده لا مستند له فيه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وتمامه في «إيضاح المرام» ؛ فيراجع.
(بني فلانٍ)؛ بالتنوين: اسم مبهم لقبيلة من قبائل العرب لم تعرف أسماؤهم، (فيضعه) أي: السلى المذكور (على ظهر محمَّد)؛ أي: النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (إذا سجد)؛ أي: في صلاته، وكأنَّهم لا يتيسَّر لهم ذلك إلا في الصَّلاة، وذلك لما أنَّه يدعو عليهم، فيكون أقرب للإجابة، وهل كانت هذه الصَّلاة فرضًا أو نفلًا؟ فيه احتمال، ويدلُّ للثاني أنه عليه السلام كان يصلي إذ ذاك وحده، وقد يقال: إنه عليه السلام كان يصلي النافلة في بيته، ولعلَّه كان يصلي تحيَّة المسجد؛ فهي تحية المسجد على ما يظهر، وصلاته منفردًا دليل على أنَّها نفل لا فرض؛ لأنَّها لو كانت فرضًا؛ لأداها بالجماعة كما هي عادته؛ فتأمل، والله أعلم، (فانبعث)؛ أي: أشرع، وهو مطاوع (بعث)، يقال: بعثه وانبعثه بمعنًى؛ أي: أرسله فانبعث، كذا قاله في «عمدة القاري» .
وزعم العجلوني أن معناه: انطلق.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّ الانطلاق يكون عن غير أمر، بخلاف الإرسال، فإنَّه يكون عن طلب من الغير، فالمعنى الصحيح هنا أن معناه: أرسله، كما لا يخفى؛ فافهم.
(أشقى القوم) وفي نسخة: (أشقى قومه)، وللسرخسي والكشميهني:(أشقى قومٍ)؛ بالتنكير، قال في «عمدة القاري» : ولا خلاف في أن (أفعل) التفضيل إذا فارق كلمة (من)؛ أنَّه يعرَّف باللام أو بالإضافة.
فإن قلت: أي الفرق في المعنى في إضافته إلى المعرفة والنكرة؟
قلت: بالتعريف والتخصيص ظاهر، وأيضًا النكرة لها شيوع؛ معناه: أشقى قوم أيَّ قوم كان من الأقوام؛ يعني: أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، ففيه مبالغة ليست في المعرفة.
وزعم ابن حجر أن المقام يقتضي الأول؛ يعني: أشقى القوم؛ بالتعريف؛ لأنَّ الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك الأقوام فقط.
وردَّه في «عمدة القاري» بأن التنكير أولى؛ لما قلنا من المبالغة؛ لأنَّه يدخل ههنا دخولًا ثانيًا بعد الأول، وهذا القائل ما أدرك هذه النكتة، انتهى.
وزعم العجلوني، فقال:(قد أدرك هذه النكتة هذا القائل؛ لأنَّه قال: ففيه مبالغة، لكنه داعي المقام، فرجح التعريف لذلك).
قلت: وترجيحه التعريف دليل على عدم إدراكه هذه النكتة، لأنه قال:(ففيه مبالغة)، على أنَّ المقام يقتضي التنكير والعموم، وترجيحه التعريف ترجيح بلا مرجح، بدليل قوله عليه السلام حين رأى أبا جهل:«هذا فرعون هذه الأمة» ، والأمة: جميع المخلوقات، فهي أمة الدعوة، فكأنه عليه السلام قال: هذا فرعون جميع المخلوقات، فاقتضى ذلك التنكير لا التعريف، وترجح التنكير على التعريف، كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما زعمه العجلوني؛ فافهم.
وأشقى القوم: هو عُقْبَة بن أبي مُعَيط؛ بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ:(فجاء عُقْبَة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الداودي:(إنه أبو جهل)، كما نقله عنه صاحب «عمدة القاري» وغيره، وعلى هذا؛ فكونه أشقاهم ظاهر، والصحيح: الأول، ولهذا اقتصر عليه أكثر الشراح، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشدُّ كفرًا منه وإيذاءً لرسول الله عليه السلام؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب، وقتل هو صبرًا، كما سيأتي؛ فافهم.
(فجاء)؛ أي: أتى أشقى القوم (به) أي: بسلى الجزور، (فنظر) أي: فانتظر (حتى إذا سجد النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ (وضعه على ظهره) الشريف (بين كتفيه) وكأنَّه وقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وهو وضعه، وقوله:(وأنا أنظر) : جملة محلها نصب على الحال؛ أي: قال عبد الله: وأنا أشاهد تلك الحالة (لا أغني) أي: في كفِّ شرِّهم (شيئًا)، وفي رواية:(لا أغيِّر)؛ أي: من فعلهم شيئًا، (لو كان) وفي رواية:(لو كانت)(لي منَعة)؛ بفتح النُّون، وحُكي إسكانها.
قال النووي: (وهو شاذٌّ ضعيف).
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: يردُّ عليه ما ذكره في كتاب «المحكم» : المَنعة والمُنعة والمِنعة، وقال يعقوب في «الألفاظ» : منعة ومنعة، وقال القزاز: فلان في منعة من قومه، ومنعة؛ أي: عزٍّ، وفي كتاب ابن القوطية وابن طريف: منع الحصن مناعًا، ومنعة: لم يرم، وفي «الغريبين
(1)
» : فلان في منعة؛ أي: في تمنِّع على من رامه، وفلان في منعة؛ أي: في قوم يمنعونه من الأعداء) انتهى كلامه.
وقال القرطبي: المنْعة؛ بسكون النُّون، وروي بفتحها على أنَّه جمع: مانع، ورجَّح القزاز والهروي الإسكان في المفرد، وعكس ابن السكيت، وحاصل ما حكاه في «المحكم» ثلاث لغات: فتح النُّون، وإسكانها، والثالث: كسر الميم وإسكان النُّون، ولا ريب أن هذا يردُّ على النووي فيما ادَّعاه.
وزعم العجلوني أنَّه لا يردُّ عليه؛ لأنَّ حكايته لغات فيها لا ينافي أنَّ بعضها شاذ.
قلت: وهو فاسد، فإن هؤلاء الأئمَّة من أهل اللغة كلهم صرَّحوا بعدم الشذوذ، فدعوى الشذوذ باطلة، فلو كان فيه شذوذ؛ لصرَّحوا به، وحكايته اللغات فيها من غير تصريح بالشاذِّ من غيره ينافي ذلك قطعًا، فزعم هذا الزاعم فاسد؛ فليحفظ، والله أعلم.
وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هُذَليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، وجواب (لو) محذوف؛ أي: لطرحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرَّح به مسلم، أو لكففت شرَّهم، أو (لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، وللبزار:(وأنا أرهب منهم).
(قال) أي: ابن مسعود: (فجعلوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يضحكون)؛ أي: استهزاءً قاتلهم الله تعالى، وفي رواية:(حتى مال بعضهم على بعض من الضحك)، (ويُحِيل)؛ بضمِّ التحتية، وكسر الحاء المهملة (بعضهم على بعض)؛ أي: ينسب فعل ذلك بعضهم إلى بعض باللفظ أو بالإشارة تهكُّمًا واستهزاءً، قال في «عمدة القاري» : من قولك: أحلت الغريم؛ إذا جعلت له أن يتقاضى المال من غيرك، وجاء حال وأحال أيضًا؛ بمعنى: وثب، وفي الحديث:(أن أهل خيبر أحالوا إلى الحصن)؛ أي: وثبوا إليه، وفي رواية مسلم من رواية زكريا:(ويميل)؛ بالميم بدل (ويحيل)؛ أي: من كثرة الضحك، وفي (الصَّلاة) عند المؤلف:(حتى مال بعضهم على بعض) انتهى.
قلت: ومقتضى ما في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر والشرَّاح: أنَّ (ويميل) ليس في روايةٍ للمؤلف.
وزعم العجلوني أنه رأى نسخة صحيحة من «البخاري» : (ويميل) انتهى.
قلت: والله أعلم بصحة هذه النسخة التي رآها، ولعلَّها نسخة طبع الأعجام الشيعة الذين دأبهم التحريف في الكتب الشرعية والحديثية حتى يوقعوا أهل السنة والجماعة في الخطأ والغفلة، والله أعلم.
(ورسول الله صلى الله عليه وسلم : مبتدأ، وقوله: (ساجد) خبره، والجملة: محلها نصب على الحال (لا يرفع رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، بل أبطأ (حتى جاءته) ولأبي ذر:(حتى جاءت)(فاطمة)؛ أي: ابنته عليه السلام، ورضي عنها، قال في «عمدة القاري» :(أنكحها رسول الله عليه السلام علي بن أبي طالب بعد وقعة أحد، وسنُّها يومئذٍ خمسة عشر سنة وخمسة أشهر، روي لها عن رسول الله عليه السلام ثمانية عشر حديثًا، وفي «الصحيحين» لها حديث واحد، روت عنها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت بعد رسول الله عليه السلام بستة أشهر بالمدينة، وقيل: بمئة يوم، وقيل غير ذلك، يوم الثُّلاث لثلاث خلت من رمضان، وغسَّلها علي رضي الله عنه، وصلَّى عليها، ودفنت ليلًا، ودفنها بوصيتها له في ذلك، وفضائلها كثيرة لا تحصى، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من رسول الله عليه السلام، ثم قال في «عمدة القاري» : (زاد إسرائيل: وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم ساجدًا)، (فطرحته)؛ أي: ما وضعه أشقى القوم من سلى الجزور، وللكشميهني:(فطرحت)؛ بحذف الضمير المنصوب (عن ظهره) الشريف، زاد إسرائيل:(فأقبلت عليهم تسبهم)، وزاد البزار:(فلم يردوا عليها شيئًا).
قلت: ففيه: قوَّة نفس فاطمة الزهراء من صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوَّتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح قاتلهم الله تعالى، وهذا الفعل هو بعض من أفعال جماعة عظمة الكلب العقور المملوءة من المكر والخداع والفجور، كما بيَّنت ذلك في كتابي المسمَّى «إنجاء الغريق المخزون فيما يقوله صاحب الهمِّ والغمِّ المحزون» .
(فرفع) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، زاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق: (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ اللهم عليك
…
»)؛ الحديث، قال البزار: تفرَّد بقوله: (أما بعد) زيدٌ، قاله في «عمدة القاري» ، (ثم قال) ولابن عساكر:(وقال)؛ بإبدال (ثم) بـ (الواو)، قال في «عمدة القاري» : وكلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وفي رواية الأجلح عند البزار:(فرفع رأسه، كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى صلاته؛ قال: «اللهم»)، ولمسلم والنسائي نحوه، والظاهر من ذلك: أن دعاءه وقع خارج الصَّلاة، لكنَّه وقع وهو مستقبل القبلة، كما ثبت من رواية زهير عن أبي إسحاق عند البخاري ومسلم، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أن قوله: (والظاهر
…
) إلخ يدلُّ على أنَّه لم يقف على هذه الرواية، بل غفل عنها؛ لذكره لها، انتهى.
قلت: وهو كلام فاسد؛ لأنَّه ظاهر التناقض، فإن [بين] قوله:(لم يقف عليها وغفل عنها)، وقوله:(لذكره لها) تناقض، والحقُّ أنَّه لم يغفل عنها، وقد وقف عليها كما علمت من سياق كلامه،
(1)
في الأصل: (الغربيين)، ولعله تحريف.
وحين كان صاحب «عمدة القاري» يؤلِّف ويدرِّس ويلقي العلوم إلى العلماء كان العجلوني منيًّا في ظهر أجداده خلف البقر في عجلون، فكيف يقول:(لم يقف) و (غفل)؟! بل قوله: (والظاهر
…
) إلخ؛ منشأ الاستظهار من أن قوله عليه السلام كان بعد تمام الصَّلاة، وخارجها من رواية المؤلف هنا، ثم ساق الرواية الدَّالة على ذلك كما علمت؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(اللهمَّ؛ عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، كذا أفاده صاحب «عمدة القاري» ، فلا يرِدُ ما يقال: كيف جاز الدعاء على كلِّ قريش وبعضهم كانوا يومئذٍ مسلمين كالصديق وغيره؟ وأما الجواب: بأنَّه لا عموم للَّفظ، ففيه أن لفظ (قريش) موضوع لهذه القبيلة عمومًا؛ فتأمل (ثلاث مرات) متعلق بـ (قال)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم عليه السلام: «اللهم؛ عليك بقريش» ثلاثًا، قال في «عمدة القاري» :(كرَّره إسرائيل في روايته لفظًا لا عددًا، وزاد مسلم في رواية زكريا: (وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا) انتهى، ثم قال: وفيه: حلمه عليه السلام عمَّن آذاه، ففي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ، وإنما استحقوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم به حال عبادته لربه سبحانه وتعالى، (فشقَّ ذلك) أي: الدعاء (عليهم)؛ أي: على أبي جهل وأصحابه، وفي رواية إسقاط لفظ:(ذلك) فقط، وعليها شرح إمام الشارحين بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني، وقوله:(إذْ دعا عليهم)؛ بسكون الذال بمعنى: حين، متعلق بـ (شقَّ)، وعند مسلم من رواية زكريا:(فلمَّا سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضَّحك، وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السلام، وفيه: جواز الدعاء على الظالم، لكنْ قال بعضهم: محلُّه ما إذا كان كافرًا، فأمَّا المسلم؛ فيستحبُّ الاستغفار له، والدعاء له بالتوبة، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أن يكون عليه السلام اطَّلع على أنَّ المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يُدعى لكل حيٍّ بالهداية، انتهى.
قلت: والظاهر: أنه يجوز الدعاء بالهلاك على المسلم الظالم، وكذا الكافر؛ لعموم حديث الباب، ولقوله تعالى حكاية عن قول نوح:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، ولعموم قوله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، وذلك فإنَّ في الدعاء بالهلاك تخليص النَّاس من شرِّه وإيذائه لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين الذين هم أهل التقوى والشرف، ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدَّعاء عليهم جائز، بل واجب، وقد رميت بكلام الأعداء الفجار بالقيل والقال، فدعوت الله تعالى عليهم بالهلاك، فبعد سنة واحدة قد أخذ اثنين منهم أخذ عزيز مقتدر، وقد بيَّنت ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المخزون» .
(قال) أي: ابن مسعود: (وكانوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يَرون)؛ بفتح الياء، ويروى بالضم، قاله صاحب «عمدة القاري» ، ومقتضاه: أن الفتح أشهر الروايتين.
وزعم العجلوني تبعًا للبرماوي أن الضم أشهر؛ فتأمل.
ولا يخفى أن الفتح من الرأي، ومعناه: يعتقدون، والضم؛ ومعناه: يظنون، والمعنى الصحيح هنا: الاعتقاد لا الظن، فالفتح هنا أوفق للمعنى وأشهر؛ بدليل أنهم قد شقَّ عليهم إذ دعا عليهم، فهو يدلُّ على أنَّهم كانوا يعتقدون ذلك، فصاحب «عمدة القاري» قد أدرك هذا المعنى بخلاف غيره ممن تصدَّر لشرح هذا الكتاب، فإنه قد خفي عليه هذا المعنى ورئيسهم ابن حجر، فإنَّه قد خفي عليه أيضًا، وتبعوه وكأنَّه عندهم معصوم لا يطرأ عليه خطأ ولا غفلة، بل لو قال غير الحق؛ لاتَّبعوه، ولو قيل: إنَّه إله؛ لعبدوه، وما هذا إلَّا من شدَّة التعصب والعناد والتعنت.
(أن الدعوة) ولابن عساكر إسقاط (أن)(في ذلك البلد)؛ أي: مكة المكرمة، كما صرَّح به ابن نعيم في «المستخرج» فقال:(إن الدعوة في مكة)، كذا في «عمدة القاري» (مستجابة)؛ أي: مجابة، يقال: استجاب وأجاب بمعنًى واحد، فليست السين للطلب؛ كقوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما كان اعتقادهم إجابة الدعوة من جهة رسول الله عليه السلام، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد، ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السلام، (ثم سمَّى)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام قريشًا بأن فصَّل في دعائه ما أجمله أولًا، (فقال) عليه السلام:(اللهم؛ عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وفي رواية إسرائيل:(اللهم؛ عليك بعمرو بن هشام)، وهو اسم أبي جهل، فلعلَّه عليه السلام سمَّاه وكنَّاه معًا، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عُتْبَة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره؛ لأنَّه فرعون هذه الأمة، كما قدمناه، (وعليك بعُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، بعدها موحدة (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، (وشيبة بن ربيعة) : هو أخ عُتْبَة المذكور، (والوَلِيد)؛ بفتح الواو، وكسر اللام (بن عُتْبَة)؛ أي: المذكور، بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، ثم باء موحدة، قال في «عمدة القاري» :(ولم تختلف الروايات فيه أنه كذا إلا [ما] وقع في رواية مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل التاء، وهو وهم نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصواب) انتهى؛ فافهم، (وأُمَيَّة) بضمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف)، وفي رواية شعبة:(أو أُبَي بن خلف)؛ بالشك من شعبة، والصحيح: أمية؛ لأنَّ المقتول ببدر أمية؛ بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبيُّ بن خلف قتل بأحد، قاله في «عمدة القاري» ، (وعُقْبَة) بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، فموحدة (بن أبي مُعَيْط)؛ بالتصغير، بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة (وعدَّ السابع فلم نحفظه)؛ بنون المتكلم، ويروى بالياء المثناة التحتية، وفاعل الفعلين: إما عبد الله بن مسعود، أو عمرو بن ميمون، والظاهر أن فاعل (عد) : النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفاعل (نحفظ) : أحد المذكورين، وهذا على الروايتين، وقال الكرماني: فاعل (عدَّ) : رسول الله عليه السلام، أو عبد الله، وفاعل (لم نحفظه) : عبد الله، أو عمرو بن ميمون،.
واعترضه ابن حجر فقال: (لا أدري من أين تهيَّأ له الجزم بذلك مع أن في رواية الثوري عند مسلم ما يدل على أنَّ فاعل «فلم نحفظه» : أبو إسحاق، ولفظه: «قال أبو إسحاق: ونسيت السابع»، وعلى هذا؛ ففاعل «عدَّ» عمرو بن ميمون على أنَّ أبا إسحاق قد تذكَّره مرة أخرى فسمَّاه: «عمارة بن الوليد»، كما أخرجه المصنف في «الصَّلاة») انتهى.
قلت: وهذا كلام فارغ، فقد أخرجه المؤلف في (الجهاد)، ولفظه: (قال أبو إسحاق: