الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: قواعد دينهم، وهي جملة وقعت حالًا مقدرة؛ لأنَّه لم يكن معلمًا وقت المجيء، وأسند التعليم إليه وإن كان سائلًا؛ لأنَّه لما كان السبب فيه أسنده إليه، أو أنه كان من غرضه.
وللإسماعيلي: «أراد أن تعلموا؛ إذ لم تسألوا» ، وفي حديث أبي عامر:«والذي نفس محمد بيده؛ ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة» ، وفي رواية سليمان التيمي:«ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى» .
(قال أبو عبد الله) المؤلف: (جعل)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (ذلك) المذكور (كله من الإيمان)؛ أي: من ثمرات الإيمان، وفي الحديث بيان عظم الإخلاص والمراقبة، وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يعلمه؛ يقول: لا أدري، ولا ينقص ذلك من جلالته، بل يدل على ورعه، وتقواه، ووفور علمه؛ فإنَّ النبي الأعظم ورد عنه أنه قال:«لا أدري حتى أسأل جبريل» ، وجبريل قال: «لا أدري حتى أسأل ميكائيل
…
» وهكذا إلى رب العزة جل جلاله، ونُقل قول:(لا أدري) عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وعن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنهم، وقال مالك: قول: لا أدري؛ نصف العلم، وتوقف إمامنا الإمام الأعظم في اثنتي عشر مسألة، والإمام مالك في ثماني عشرة مسألة، وهذا من ورعهما وتقواهما، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وفيه: أن الملائكة تَمثَّل بأي صورة شاؤوا من صور بني آدم، كقوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية، ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين، والله تعالى أعلم.
(38)
[باب منه]
هذا (بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة؛ لتعلقه بالترجمة السابقة؛ من حيث اشتراكهما في جعل الإيمان دِينًا.
[حديث أبي سفيان مع هرقل]
51 -
وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن حمزة)؛ بالزاي: ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي المدني، المتوفى بالمدينة سنة ثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، (عن صالح) هو ابن كيسان الغفاري، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله)؛ بفتحها، ابن عتبة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة:(أن عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان)؛ بتثليث أوله، وللأصيلي:(ابن حرب) : (أن هرقل) عظيم الروم (قال له) أي: لأبي سفيان في قصته المذكورة سابقًا: (سألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟)، وفي الرواية السابقة: الاستفهام بالهمزة؛ وهو القياس؛ لأنَّ (أَم) المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن (أم) هنا منقطعة؛ أي: بل ينقصون، فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة واستفهامًا عن النقصان، على أن جار الله الزمخشري أطلق أنَّها لا تقع إلا بعد الاستفهام؛ فهو أعم من الهمزة؛ فافهم.
(فزعمت) وفي السابقة: (فذكرت)(أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم)؛ أي: أمر الإيمان؛ كما في الرواية السابقة، (وسألتك هل يرتد) وفي السابقة:(أيرتد) بالهمزة (أحد سَخطة)؛ بفتح السين، وفي رواية:(أحد منهم سَخطة)؛ أي: ساخطًا؛ أي: كراهة، منصوب على الحال أو على المفعول لأجله، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت) في السابقة:(فذكرت)(أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يَسخَطه أحد)؛ بفتح المثناة التحتية والخاء، ولم يذكر هذه اللفظة وتاليها في الرواية السابقة.
واقتصر هنا على هذه القطعة؛ لبيان غرضه منها هنا؛ وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خرمًا، والصحيح جوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلِّق بما رواه؛ بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، والظاهر أنَّ الخرم وقع من الزهري لا من المؤلف؛ كما قاله القسطلاني تبعًا للكرماني، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنه كيف يكون الخرم من الزهري وقد أخرجه البخاري بتمامه بهذا الإسناد في (كتاب الجهاد)؟ وليس الخرم إلَّا من البخاري، انتهى.
قلت: وهو ظاهر؛ لأنَّ عادة البخاري الخرم في بعض الأحاديث؛ لبيان غرضه واستدلاله كما وقع هنا، فلا شكَّ أن الخرم وقع هنا من المؤلف؛ لأنَّ سياقه في (الجهاد) بتمامه بهذا الإسناد؛ دليل واضح على ذلك، والله أعلم.
(39)
[باب فضل من استبرأ لدينه]
هذا (باب فضل من استبرأ لدينه)؛ أي: الذي طلب البراءة؛ لأجل دينه من الذم الشرعي أو من الإثم، وإنما قال:(لدينه) ولم يقل: لعرضه؛ لأنَّه لازمٌ له، والاستبراء للدين من الإيمان.
[حديث: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات]
52 -
وبه قال: (حدثنا أبو نعيم)؛ بضم النون: الفضل بن دُكَين؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف؛ وهو لقبه، واسمه عمرو بن حماد، القرشي التيمي الطلحي، المتوفى بالكوفة سنة ثمان أو تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا زكريا) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون، الهمداني الوادعي الكوفي، المتوفى سنة سبع أو تسع وأربعين ومئة (عن عامر) هو الشعبي، وفي «فوائد أبي الهيثم» من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال:(حدثنا الشعبي)، وبهذا حصل الأمن من تدليس زكريا؛ كذا في «عمدة القاري» : أنه (قال: سمعت النعمان بن بشير)؛ بفتح الموحدة وكسر المعجمة: ابن سعْد؛ بسكون العين، الأنصاري الخزرجي، وأمه عمرة بنت رواحة، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة، المقتول سنة خمس وستين، وقول القابسي وابن معين عن أهل المدينة: لا يصح للنعمان سماع من النبي عليه السلام؛ يرده قوله هنا: (سمعت النعمان بن بشير)(يقول: سمعت رسول الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعند مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه (يقول: الحلالُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبر؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (والحرامُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبره؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (وبينهما) خبر، أمورٌ (مشبَّهاتٌ) مبتدؤه؛ بتشديد الموحدة المفتوحة؛ أي: شُبِّهت بغيرها ممَّا لم يتبيَّن به حكمها على التعيين، وفي رواية:(مشتَبِهات)؛ بمثناة فوقية مفتوحة وموحدة مكسورة؛ أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، بقي ثلاث روايات فيها مذكورة مع معانيها بغاية الإيضاح في «عمدة القاري» ؛ فيراجع، (لا يعلمها)؛ أي: لا يعلم حكمها (كثير من الناس) وفي رواية الترمذي: (لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟) وقليل من الناس يعلم حكمها؛ وهم العلماء، إما بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نصٌّ ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به؛ صار حلالًا أو حرامًا، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه؛ فهل يؤخذ بالحل أو الحرمة أم بالتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب؛ وهي مخرَّجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنه لا يحكم بتحليل ولا تحريم ولا غيرها؛ لأنَّ التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وهو الأصح؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وفي «البدائع» : وهو المختار، وهو قول الشافعية.
الثاني: أن الحكم الحل والإباحة، وهو قول بعض أئمتنا، وهو قول الإمام الكرخي، ومشى عليه الإمام المرغيناني في «الهداية» ، والإمام الجليل قاضيخان في «الفتاوى» .
الثالث: المنع، وهو قول بعض أصحاب الحديث.
الرابع: الوقف؛ بمعنى: أنه لا بدَّ لها من حكم، لكنا لم نقف عليه بالعقل، وهو قول بعض أئمتنا.
وقد يكون الدليل غير خال عن الاحتمال، فالورع تركه لا سيما على القول: بأن المصيب واحد، وهو المشهور في مذهب إمامنا الإمام الأعظم والإمام مالك، ومنه ثار القول في مذهبهما بمراعاة الخلاف أيضًا، وكذا روي عن الشافعي: أنه كان يراعي الخلاف؛ حيث لا يفوت به سنة عندهم.
فعلى هذا: ساغ لنا إذا سُئِلنا عن مذهبنا أن نقول: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب؛ بناء على أن الحق واحد، وقال الشافعي: إن الحق متعدد، فلا يجوز له أن يقول ذلك، والله تعالى أعلم.
(فمَن) موصولة مبتدأ (اتقى) أي: حَذِرَ (المشبَّهات)؛ بالميم وتشديد الموحدة، وفي رواية:(المشْتَبِهات)؛ بالميم والمثناة الفوقية بعد الشين الساكنة، وفي أخرى:(الشُّبهات) بإسقاط الميم، وضم الشين، وبالموحدة: جمع شبهة؛ وهي الالتباس، وأصل (اتقى) : اوتقى؛ من وقى وقاية، قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، صلة الموصول، وقوله:(استبرأ) خبره، وفي رواية:(فقد استبرأ) بالهمز بوزن (استفعل)(لدينه) المتعلق بخالقه، (وعرضه) المتعلق بالخلق؛ أي: حصل البراءة لدينه من الالتباس، ولعرضه من طعن الناس، وفي رواية:(لعرضه ودينه)، (ومَن) شرطية، وفعل الشرط قوله:(وقع في الشُّبهات) التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من آخر؛ بمعنى: التبس أمرها، وفي رواية:(المشْتَبِهات)؛ بالميم، وسكون الشين، وفوقية قبل الموحدة، وفي أخرى:(المشبَّهات)؛ بالميم والموحدة المشددة، وجواب [من] محذوف في جميع النسخ، وثبت
في رواية الدارمي عن أبي نُعيم شيخ المؤلف فيه، ولفظه قال:(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)(كراعٍ)؛ أي: مثله مثل راع، وفي رواية:(كراعي بالياء)، (يرعى) : جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، أو أن تكون (مَن) موصولة لا شرطية مبتدأ، والخبر (كراع يرعى)، وحينئذٍ لا حذف، والتقدير: الذي وقع في الشبهات كراع يرعى مواشيه.
(حول الحمى)؛ بكسر الحاء المهملة وفتح الميم: المحمي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، والمراد: موضع الكلأ الذي مُنع منه الغير وتُوعِّد على من رعى فيه، (يوشك)؛ بكسر المعجمة؛ أي: يقرب، (أن يواقعه)؛ أي: يقع فيه، وعند ابن حبان: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك؛ استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه؛ كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام: حرف تنبيه أن الأمر كما تقدم، (وإن لكل ملِك)؛ بكسر اللام من ملوك العرب (حمى)؛ مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعَّد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة، وسقط قوله:(ألا وإن) في رواية (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، (إنَّ) وفي رواية:(وإن)، (حمى الله) تعالى، وفي رواية زيادة:(في أرضه)، (محارمه) وفي رواية:(معاصيه) بدل (محارمه)؛ أي: المعاصي التي حرمها؛ كالزنا ونحوه، فهو من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب، فشبه المكلفَ بالراعي، والنفسَ بالبهيمة؛ بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه: حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك.
(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، إن الأمر كما ذكر، (وإن في الجسد مضغة) بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: قطعة من اللحم، وسميت بذلك؛ لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، أو لأنَّ أول نقطة تكون من النطفة، (إذا صلحت)؛ بفتح اللام وضمها، والفتح أفصح؛ أي: المضغة، (صلح الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها، وسقط لفظ (كله) في رواية، (وإذا فسدت)؛ أي: المضغة (فسد الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها.
(ألا)؛ بالفتح والتخفيف، (وهي)؛ أي: المضغة (القلب)؛ أي: الفؤاد، وقيل: القلب أخص من الفؤاد، وإنما سمي به؛ لتقلبه في الأمور، وقيل: لأنَّه خالص ما في الإنسان، وخالص كل شيء قلبه، وأصله مصدر ثم نُقل وسمي به هذا العضو؛ لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
ما سمِّي القلبُ إلَّا من تقلُّبه
…
فاحذرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلِ
قيل: إن القلب محل العقل، وهو قول بعض المتكلمين، والشافعية، والفلاسفة، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: إن العقل في الدماغ، وهو قول جمهور المتكلمين والأطباء.
وقال الإمام النووي: ليس في الحديث دلالة على أن العقل في القلب، واستدل به أيضًا على أن من حلف لا يأكل لحمًا فأكل قلبًا؛ حنث، قلت: ولأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يحنث، وإليه مالَ الصيدلاني المروزي، والأصح: أنه لا يحنث؛ لأنَّه لا يسمى لحمًا اهـ.
فعُلِم منه: أن بعض الشافعية قالوا: العقل في القلب، وبعضهم قالوا: إنه في الدماغ، وظاهر عبارة أئمتنا الأعلام: أن العقل مقره في القلب، وسلطانه ونوره وشعاعه في الدماغ، وبهذا يحصل التوفيق بين القولين؛ فليحفظ.
(40)
[باب أداء الخمس من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين (أداء الخُمُس)؛ بضم المعجمة والميم، (من الإيمان) مبتدأ وخبره؛ أي: من شعبه، ويجوز إضافة الباب لما بعده.
[حديث: مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى]
53 -
وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين، أبو الحسن ابن عُبيد؛ بضم العين، الجوهري، الهاشمي، البغدادي، المتوفى فيها سنة ثلاثين ومئتين، (قال: أخبرنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، واسمه نصر بن عمران بالصاد المهملة، الضُّبَعي؛ بضم الضاد المعجمة، بعدها موحدة مفتوحة، بعدها عين مهملة، البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، والضُّبَعي: نسبة لبطن من عبد القيس.
(قال: كنت أقعد) بلفظ المضارع حكاية حالٍ ماضية؛ استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين، (مع ابن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: عنده زمن ولايته بالبصرة من قِبَل علي بن أبي طالب، (يُجلسني)؛ بضم أوله من غير فاء، مِن أجلس، وفي رواية: بالفاء؛ أي: يرفعني بعد أن أقعد.
(على سريره) عطف على (أقعد)؛ لأنَّ الجلوس على السرير بعد القعود، وروى المؤلف في (العلم) السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه:(كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس)، والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، فقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عن من تكلم بها، وفيه دليل على جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد؛ كما قاله القاضي.
قلت: قال أئمتنا الأعلام: والواحد يكفي للتزكية والرسالة والترجمة؛ لأنَّها خبر وليست بشهادة حقيقية، ولهذا لا يشترط لفظة الشهادة؛ فليحفظ.
(فقال: أقم)؛ أي: توطن (عندي)؛ لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، (حتى) أن (أجعل لك سهمًا)؛ أي: نصيبًا (من مالي)، سبب الجعل الرؤيا التي رآها في العمرة؛ كما سيأتي في الحج، قال أبو جمرة:(فأقمت معه)؛ أي: عنده مدة (شهرين) بمكة، وإنما عبر بـ (مع) المقتضية للمصاحبة دون (عند) المقتضية لمطابقة (أقم عندي)؛ للمبالغة.
وفي رواية مسلم بعد قوله (وبين الناس) : (فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا بن عباس: إنِّي انتبذت
(1)
في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشرب منه فيقرقر بطني، قال: لا تشربْ منه وإن كان أحلى من العسل).
(ثم قال: إنَّوَفْد)؛ أي: جماعة (عبد القيس) أبو القبيلة، وهو ابن أَفْصَى؛ بهمزة مفتوحة، وفاء ساكنة، وصاد مهملة مفتوحة، ابن دُعْمي؛ بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة، ابن جَديلة؛ بفتح الجيم، ابن أسد بن ربيعة بن نزار، كانوا ينزلون البحرين وحوالي القطيف، وكانوا أربعة عشر رجلًا بالأشج، ويُروى أنهم أربعون، فيحتمل أن يكون لهم وفادتان، أو أن الأشراف أربعة عشر والباقي تبع، وأسماؤهم وبيانهم موضح في «عمدة القاري» غاية الإيضاح.
(لما أتوا النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم عام الفتح قبل خروجه من مكة، وكان سبب وفودهم كما في «عمدة القاري» إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه السلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه؛ كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ وهو الأشج: إنِّي أنكرت فعل بعلي منذ قدم مِن يثرب؛ إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة، يعني: الكعبة، فيحني ظهره مرة ويقع أخرى، فاجتمعا فتحادثا في
(2)
ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا وأجمعوا المسير إلى رسول الله عليه السلام، فلما قدموا؛ (قال) عليه السلام (مَن القوم؟ أو) قال (مَن الوفد؟) شك شعبة أو أبو جمرة، (قالوا) نحن (ربيعة)؛ أي: ابن نزار بن معَدِّ بن عدنان، وإنما قالوا: ربيعة؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، وعبر عن البعض بالكل؛ لأنَّهم بعض ربيعة، ويدل له ما في المؤلف في (الصلاة)، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة.
(قال) عليه السلام: (مرحبًا بالقوم أو) قال (بالوفد)، وأول من قال: مرحبًا: سيف بن ذي يزن، وانتصابه على المصدرية بفعل مضمر؛ أي: صادفوا رُحبًا؛ بالضم؛ أي: سعة، حال كونهم (غير خزايا) جمع خزيان على القياس؛ أي: غير أذلاء أو غير مستحيين لقدومكم مبادرين دون حرب يوجب استحياءكم، و (غير) بالنصب حال، ويروى: بالخفض صفة لـ (القوم).
(ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، وإنما جُمع كذلك؛ اتباعًا لـ (خزايا) للمشاكلة والتحسين، وذكر القزاز: أن (ندمان) لغة في (نادم)، فجمعه المذكور على هذا قياس، (فقالوا)، وللأصيلي:(قالوا) : (يا رسول الله؛ إنا لا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك، (إلا في الشهر الحرام) سُمي الشهر شهرًا؛ لشهرته وظهوره، وحرامًا؛ لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد الجنس، فيشمل الأربعة الحُرُم، والمراد شهر رجب، كما صُرِّح به في رواية البيهقي.
وفي رواية: (إلا في شهر الحرام)، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع، والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف مضاف؛ أي: ومسجد الوقت الجامع، وشهر الوقت الحرام.
وقول ابن حجر: هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز؛ كما عُرِف في موضعه؛ فليحفظ، وفي رواية:(إلا في أشهر الحُرُم)، تقديره: في أشهر الأوقات الحُرُم، و (الحُرُم)؛ بضمتين جمع حرام، وفي رواية:(إلا في كل شهر حرام).
(و) الحال (بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح المعجمة، مخفوض بالمضاف بالفتحة؛ للعلمية والتأنيث، وهذا مع قولهم:(يا رسول الله)، يدل على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق.
(فمرنا بأمرٍ فصْلٍ)؛ بالصاد المهملة وبالتنوين في الكلمتين على الوصفية، لا بالإضافة؛ أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى: المفصَّل المبين، وأصل (مرنا) : أأمرنا؛ بهمزتين؛ من أمر يأمر،
(1)
في الأصل: (أنتبذ).
(2)
في الأصل من دون (في) والسياق يقتضيها.