الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثوب بسطه فيه، أو في مكان يابس لا تعلق به نجاسةٌ، وقد قال عامَّة الفقهاء: إن من بسط على موضع نجس بساطًا وصلى فيه أنَّ صلاته جائزة، ولو على السرقين بغير بساط؛ لكان مذهبًا له، ولم يجز مخالفة الجماعة به) انتهى؛ يعني: أنه من فعل أبي موسى، وقد خالفه غيره من الصحابة؛ كابن عمر وغيره، فلا يكون حجة، والتمسك بعموم الأحاديث الصحيحة التي منها ما رواه ابن خزيمة، وصححه وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:«استَنْزِهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» ؛ أولى؛ لظهوره في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها؛ لهذا الوعيد الشديد، وقال ابن حجر معترضًا على ابن بطال: بأن الأصل عدم الحائل، وقد رواه سفيان في «جامعه» عن الأعمش، ولفظه:(صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين)، وهذا ظاهر أنه بغير حائل، ورده في «عمدة القاري» :(بأن الظاهر أنه كان بحائل؛ لأنَّ شأنه يقتضي أن يحترز عن الصَّلاة على السرقين) انتهى.
وزاد في الطنبور نغمة العجلوني، وقال:(بل الظاهر من قوله: (ههنا وثَمَّ سواء) في جواب اعتراضهم عليه أنه لم يحترز والحالة ما ذكر، ولا ينافي هذا ما تقدم أنه كان يشدد في البول؛ لأنَّ المراد به بول الناس) انتهى.
قلت: وهذا مردود وممنوع فإن قوله: (ههنا وثَمَّ سواء)؛ أي: في صحة الصَّلاة كما علمت، واعتراضهم عليه إنَّما كان لأجل أنهم كانوا في مهب ريح أو قرب نجاسة، فاعترضوا عليه؛ لأنَّه ربما يأتي على البساط من السرقين أو النجاسات، فالظاهر المتبادر أنه كان بحائل.
وقوله: (ولا ينافي هذا
…
) إلخ، بل هو منافٍ له حقيقة؛ لأنَّه إذا كان يشدد في البول؛ ففي غيره من السرقين من باب أولى، على أن المراد بالبول جميع الأبوال، ويدل له حديث:«استنزهوا من البول» ، فإنه عام في جميع الأبوال، وإذا كان يحترز عن البول؛ ففي احترازه عن السرقين أولى؛ لأنَّه كان يرى الطهارة من النجاسة شرطًا في صحة الصَّلاة، ويدل له ما تقدم عن أبي نعيم، ولفظه:(صلى بنا أبو موسى في دار البريد وهناك سرقين الدواب)، فهذا ظاهر في أنه كان يحترز عن السرقين، وأنه كان بحائل؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر بأنه قد روى سَعِيْد بن منصور، عن سَعِيْد بن المسيِّب، وغيره: أن الصَّلاة على الطنفسة محدث، إسناده صحيح، ورده في «عمدة القاري» : بأن كون الصَّلاة على الطنفسة محدثة لا يستلزم أن يكون على الحصير ونحوه كذلك، فيحتمل أن يكون أبو موسى قد صلى في دار البريد أو السرقين على حصير أو نحوه، وهو الظاهر على أن الطَِّنفسة؛ بكسر الطاء وفتحها: بساط له خمل رقيق، ولم يكونوا يستعملونها في حالة الصَّلاة؛ لاستعمال المُسرِفين إياها، فكرهوا ذلك في الصدر الأول، واكتفَوا بالدون من السجاجيد تواضعًا، بل كان أكثرهم يصلي على الحصير، بل كان الأفضل عندهم الصَّلاة على التراب تواضعًا ومسكنة) انتهى كلامه رحمه ورضي عنه الله تعالى، اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين.
[حديث: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم]
233 -
وبه قال: (حدثنا سُليمان) بضمِّ السين المهملة (بن حَرْب)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء؛ ضد الصلح، الأزدي الواشحي؛ بمعجمة فمهملة، البصري القاضي بمكة، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين عن ثمانين سنة (قال: حدثنا حمَّاد بن زيد)؛ هو ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري، وفي نسخة:(عن حمَّاد بن زيد)، (عن أيُّوب)؛ هو البصري السختياني، (عن أبي قِلابة)؛ بكسر القاف، عبد الله، وتابعه أبو داود، وأبو عوانة، وأبو نعيم في روايتهم عن سليمان بن حرب، وخالفهم مسلم فأخرجه عن هارون بن عبد الله عن سليمان بن حرب، وزاد بين أيُّوب وأبي قِلابة أبا رجاء مولى أبي قلابة، قال الدارقطني وغيره: ثبوت أبي رجاء وحذفه في حديث حمَّاد بن زيد عن أيُّوب صواب؛ لأنَّ أيُّوب حدث به عن أبي قلابة بقصة العرنيين خاصة، وحدث به أيضًا عن أبي رجاء، عن أبي قلابة مولاه، وزاد فيه قصة في (القسامة) مع عمر بن عبد العزيز، والطريقان صحيحان، كذا قاله في «عمدة القاري» ، وتمامه فيه، (عن أنس) زاد الأصيلي:(ابن مالك رضي الله عنه، ورجال السند كلُّهم بصريون (قال: قدم أُناس)؛ بالهمزة المضمومة عند الأكثرين، وفي رواية بدون الهمزة، وعند المؤلف في (الديات) :(قدم أناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المدينة)، قال الكرماني:(يحتمل أن تكون «المدينة» متعلقًا به على التنازع في قوله: «اجتووا المدينة»)، وكان قدومهم فيما ذكره ابن إسحاق في «المغازي» في غزوة ذي قرد في جماد الآخرة سنة ستٍّ، وذكر المؤلف: بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي: أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد، وابن حبان، وغيرهما، وذكر الواقدي: أن السرية كانت عشرين ولم يقل من الأنصار، وسمى منهم جماعة من المهاجرين منهم؛ يزيد بن الحصيب، وسَلَمَة ابن الأكوع، وكذا سليمان بن جندب، ورافع ابنا مكيت الجهنيان، وأبو ذر، وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنييان
(1)
، وزعم ابن حجر أن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ ورده في «عمدة القاري» بقوله: قلت: ما للواقدي؟ وهو إمام وثقه جماعة منهم الإمام أحمد وغيره، والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه، انتهى، (من عُكْل)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الكاف، آخره لام، وهي خمس قبائل؛ لأنَّ عوف بن عبد مناة ولد قَيْسًا، فولد قَيْسٌ وائلًا وعوانة، فولد وائلٌ عوفًا وثعلبة، فولد عوفُ بن وائل الحارثَ وجشمًا وسعدًا وعليًّا وقَيْسًا، وأمهم بنت ذي اللحية؛ لأنَّه كان مطائلًا لحيته، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها عُكْل، وقيل: عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قَيْس بن عوف بن عبد مناة بن أد بن طابخة، وزعم السمعاني أنهم بطن من غنم، ورد: بأن عكل امرأة من حِمْيَر يقال لها: بنت ذي اللحية، تزوجها عوف بن قَيْس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن أد، فولدت له سعدًا وجشمًا وعليًّا، ثم ملكت الحميرية، فحضنت عكل ولدها وهم من جملة الرباب الذين تحالفوا على بني تميم، كذا قاله في «عمدة القاري» ؛ فافهم، (أو عُرَيْنَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وفتح الراء، وسكون التحتية، وفتح النون مصغر عِرنة؛ بضمِّ العين، وعرينة بن نذير
(2)
بن قيسر بن عبقر بن أنمار بن أراش بن الغوث بن طيِّئ بن أدد، وزعم السكري أن عرينة بن عرين بن نذير، فعرينة: حي من بجيلة لا من قحطان، وليس عرينة عكلًا؛ لأنَّهما قبيلتان متفاوتتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان، وزعم ابن حجر أن الشك فيه من حمَّاد، وزعم الكرماني أن الشك من أنس، وزعم الداودي أنه من الراوي، قال: إنه من حمَّاد لا يدري أي شيء وجه تعيينه بذاك، وللمؤلف في (المحاربين) عن قتيبة، عن حمَّاد:(أن رهطًا من عكل، أو قال: عرينة)، وله في (الجهاد) عن وهيب عن أيُّوب:(أن رهطًا من عكل)، ولم يشكَّ، وكذا في (المحاربين) عن يحيى بن أبي كثير، وفي (الديات) عن أبي رجاء؛ كلاهما عن أبي قلابة، وله في (الزكاة) عن شعبة، عن قتادة، عن أنس:(أن ناسًا من عرينة)، ولم يشكَّ أيضًا،
(1)
في الأصل: (المذنبييان)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (بدير)، وهو تصحيف، وكذا في الموضع اللاحق.
وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة، عن أنس، وفي (المغازي) عن سَعِيْد بن أبي عروبة، عن قتادة:(أن ناسًا من عكل وعرينة)؛ بالواو العاطفة، قيل: هو الصواب، والدليل عليه: ما وقع في رواية أبي عوانة، والطبري من حديث قتادة، عن أنس قال:(كانوا أربعة عن عرينة، وثلاثة من عكل)، قال: هذا يخالف ما عند المؤلف في (الجهاد) من طريق وهيب عن أيُّوب، وفي (الديات) من طريق حجاج الصواف، عن أبي رجاء؛ كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس:(أن رهطًا من عكل ثمانية)، ووجهه أنه صرح بأن الثمانية من عكل، ولم يذكر عرينة، ويمكن التوفيق بأن أحدًا من الرواة طوى ذكر عرينة؛ لأنَّه روي عن أنس تارة:(من عكل أو عرينة)، وتارة:(من عرينة) بدون ذكر (عكل)، وتارة:(من عكل وعرينة)، كما بيَّنَّا.
قال في «عمدة القاري» : لا مخالفة أصلًا؛ لاحتمال أن يكون الناس من غير القبيلتين وكان من أتباعهم فنسب إليهم، وغفل من نسب عدتهم ثمانية لأبي يعلى، وغلط من نسبهم لبني فزارة؛ كعبد الرزاق؛ لأنَّ بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلًا، وهؤلاء المذكورون كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج، كما عند المؤلف في (المحاربين)، وأسلموا وبايعوا النبيَّ عليه السلام على الإسلام.
(فاجْتَوَوُا) : الفاء فيه للعطف، وهو بجيم ساكنة، بعدها مثناة فوقية مفتوحة، بعدها واوين أولاهما مفتوحة، وثانيهما مضمومة، وضميره يعود على الأناس المتقدمين؛ أي: استوخموا (المدينة) كما عند ابن ماجه في روايته بدل (فاجتووا)؛ أي: أصابهم الجوى؛ بالجيم وهو داء الجوف؛ إذا تطاول، وقيل: هو كراهة المقام في مكان يقال: اجتويت البلد؛ إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك وكنت في نعمة واستوبلتها؛ إذا لم توافقك في بدنك وإن أحببتها، وقيَّده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، قيل: هو المناسب لهذه القصة، وقيل: معناه: لم توافقهم، وقيل: الجوى: داء قريب من الوباء، وللمؤلف من رواية سَعِيْد عن قتادة في هذه القصة، فقالوا:(يا نبي الله؛ إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف)، وله في (الطب) عن أنس:(أن ناسًا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله؛ آونا وأطعمنا، فلما صحوا؛ قالوا: إن المدينة وخمة)، وفي رواية أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس:(كان بهم هزال شديد)، وعنده من رواية ابن سعد عنه:(مصفرًا ألوانهم بعد أن صحت أجسادهم، فهو من حمى المدينة)، والظاهر: أنهم قدموا سقامى، فلما صحوا منه؛ كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، والسقم الذي كان بهم، فقد كان بهم هزال شديد، وجهد من الجوع جهيد، وكانت ألوانهم مصفرة، وأما الوخم الذي شكَوا منه بعد أن صحت أجسادهم؛ فهو من حمى المدينة، كما عند أحمد، وأبي عوانة، وسيأتي في (الطب) :(أنه عليه السلام دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة)، وعند الإمام مسلم عن أنس:(أنه وقع بالمدينة المُوْم)، وهو بضمِّ الميم، وسكون الواو: البِرسام؛ بكسر الموحدة، سرياني معرب يطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس، وعلى ورم الصدر، وهو المراد هنا، يدل له ما عند أبي عوانة عن أنس في هذه القصة:(فعظمت بطونهم)؛ أي: فطلبوا منه الخروج، ففي «مسلم» :(أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله عليه السلام؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب أنهم قالوا:(أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال:«ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود» ، (فأمرهم النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم بلِقاح) أي: فأمرهم أن يلحقوا بها، وهي بكسر اللام؛ وهي الإبل، الواحدة لقوح، وهي الحلوب؛ مثل: قلوص وقلاص، قال أبو عمرو: فإذا نتجت؛ فهي لقوح شهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك، وعند المؤلف من رواية همام عن قتادة:(فأمرهم أن يلحقوا براعيه)، وعنده من رواية قتيبة عن حمَّاد:(فأمر لهم)؛ بزيادة اللام، ووجهها أن تكون (اللام) زائدة أو للاختصاص، وليست للتمليك، وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها:(أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله؛ قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا؛ فخرجنا إلى الإبل)، وللمؤلف من رواية وهيب عن أيُّوب:(أنهم قالوا: يا رسول الله؛ أبغنا رسلًا)؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال:«ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود» ، وفي رواية أبي رجاء:(هذه نعم لنا تخرج، فاخرجوا فيها)، وله في (المحاربين) عن موسى، عن وهيب بسنده:(فقالوا: إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فيه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده: (فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة)، وكذا في (الزكاة) من طريق شعبة، عن قتادة، وطريق التوفيق بين هذه الأحاديث: أنه عليه السلام كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة، وأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة؛ لاجتماعهم في موضع واحد، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم ابن حجر أن الجمع بينها أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبيِّ عليه السلام بلقاحه إلى المرعى، فطلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء؛ لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، انتهى.
قلت: وفيه نظر، وقال القاضي عياض:(اللقاح؛ بكسر اللام، ويقال: بفتحها: وهي ذوات الألبان)، وذكر ابن سعد والواقدي: أن عدد هذه اللقاح خمس عشرة
(1)
، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها: الحناء، وعند أبي عوانة: وكانت اللقاح ترعى بذي الجَدْر؛ بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة؛ ناحية قباء قريبًا من عين، بينها وبين المدينة ستة أميال.
وقوله: (وأن يشربوا) عطف على (لقاح)؛ نحو: أعجبني زيد ولبنه، وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: فأمرهم بالشرب (من ألبانها وأبوالها) وفي رواية: (من أبوالها وألبانها)؛ أي: فأمرهم بالشرب من أبوال الإبل وألبان اللقاح؛ لأجل التداوي، وفي رواية المؤلف عن أبي رجاء:(فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها)؛ بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة:(فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا)، (فانطلقوا)؛ أي: وشربوا منهما حتى صحُّوا لما أنها كانت ترعى الشيح والفيوم، فتدخل في علاج مرض الاستسقاء، فشرَّبهم لبن الصدقة؛ لكونهم أبناء سبيل، وشربهم لبن اللقاح الذي للنبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لكونه بإذن منه عليه السلام، ففيه: دليل على أنه لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بالإذن، ولو علم الرضا ولم يستأذن؛ لا يجوز؛ لأنَّ الرضا أمر موهوم والأحكام لا تُبْنَى إلا على اليقين؛ فافهم، (فلما صحُّوا)؛ بتشديد الحاء المهملة المضمومة، فيه حذف؛ تقديره: فشربوا من ألبانها وأبوالها، ويدل عليه رواية أبي رجاء:(فانطلقوا فشربوا من ألبانها وأبوالها)، وفي رواية وهيب:(وسمنوا)، وفي رواية الإسماعيلي من رواية ثابت:(ورجعت إليهم ألوانهم)؛ (قتلوا) جواب (لما)(راعي النبيِّ) الأعظم، وفي رواية:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم واسمه يَسار؛ بفتح التحتية أوله، وبالسين المهملة الخفيفة، وكان نونيًّا أصابه النبيُّ الأعظم عليه السلام في غزوة محارب،
(1)
في الأصل: (خمسة عشر)، ولعل المثبت هو الصواب.
فلما رآه يحسن الصَّلاة؛ أعتقه، وبعثه في اللقاح الذي له إلى الحرة، فكان بها إلى أن قتله العرنيون، وفي «طبقات ابن سعد» : (أرسل رسول الله عليه السلام في إثرهم كرز بن جابر الفهري، ومعه عشرون فارسًا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله عليه السلام، ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبيُّ عليه السلام كذلك، وأنزل عليه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
…
}؛ الآية [المائدة: 33]، فلم يسمل بعد ذلك عينًا)، وقال ابن عيينة:(كان أمير السرية سَعِيْد بن زيد بن عمر بن نفيل، وحمل يسار رضي الله عنه ميتًا، فدفن بقباء)، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي «مصنف عبد الرزاق» :(كانوا من بني فزارة)، وفي «كتاب ابن الطلاع» :(أنهم كانوا من بني سليم)، وفيه نظر؛ لأنَّ هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين، وفي «مسند الشاميين» للطبراني عن أنس:(كانوا سبعة؛ أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل)، فقيل: العرنيين؛ لأنَّ أكثرهم كان من عرينة، وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي قال: (قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحُّوا واشتدوا؛ قتلوا رعاة اللقاح، فبعثني رسول الله عليه السلام، فلما أدركناهم بعدما أشرفوا على بلادهم
…
)؛ فذكره إلى أن قال: (فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله عليه السلام، يقول: «النار النار») انتهى.
قلت: هذا مشكل؛ لأنَّ قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست، كما ذكرنا، وإسلام جرير في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديمًا، فإن صح ما قالاه؛ فلا إشكال، كذا في «عمدة القاري» .
(واستاقوا) من الاستياق؛ وهو السوق؛ بالسين المهملة (النَّعَم)؛ بفتحتين، واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، كذا في «عمدة القاري» ، وفي «القاموس» :(النَّعَم؛ بفتحتين، وقد تسكن عينه: الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، والجمع أنعام، وجمع الجمع أناعيم) انتهى.
وبهذا ظهر فساد ما زعمه ابن حجر من أن النعم الإبل والبقر والغنم؛ فتأمل.
وفي القسطلاني وفي بعض النسخ: (واستاقوا إبلهم) انتهى، فهو يعين أن النعم خاص بالإبل؛ فافهم.
(فجاء الخبر في أول النهار) وفي رواية وهيب عن أيُّوب: (فجاء الصريخ)؛ بالصاد المهملة، والخاء المعجمة، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيَين، كما ثبت في «صحيح أبي عوانة» من رواية معاوية بن قرة عن أنس، وقد أخرج إسناده، ولفظه:(فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: فقتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل)، كذا في «عمدة القاري» ، وقدمنا عنه أن اسم المقتول يسار مولى رسول الله عليه السلام، وأما الآتي بالخبر؛ فقال: لم يُعلَم اسمه، والذي يظهر أنه راعي إبل الصدقة، وذكر مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس:(ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم بالجمع)، وكذا ذكره ابن حبَّان، والطبري كما مر قريبًا، فالظاهر: أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتلوا بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على ذكر راعي النبيِّ الأعظم عليه السلام؛ لأنَّه أشهر وأشرف، ولم يذكروا بقية الرعاة المقتولين، وزعم ابن حجر أن من عبر بالجمع؛ فتسمح وهو الأرجح؛ لأنَّ أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فإن الروايات التي رواها مسلم، وابن حبان، والطبري، وغيرهم بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع لا فرد.
وقوله: (إن من عبر
…
) إلخ؛ فاسد؛ لأنَّ في مثل هذا لا يقال: إنه تسمح، وأي دليل على ذلك؟ وما هو إلا خبط وتخمين.
وقوله: (لأن أصحاب المغازي
…
) إلخ؛ مردود وفاسد، فإن عدم ذكرهم غيره لا يستلزم عدم وجوده مطلقًا، بل إنَّما ذكروا يسارًا؛ لشهرته، وتركوا بقية الرعاة؛ لعدم شهرتهم، كما يقال: جاء الأمير، والحال أنه جاء مع حَشَمِه وخَدَمِه.
وقوله: (الأرجح
…
) إلخ؛ هذا فاسد، فكيف يكون أرجح؟ وأي دليل على أرجحيته؟ ويدل على فساده ما ذكره مسلم، وابن حبان، والطبري من التعبير بالجمع، وهو يقتضي أن المقتولين جمع فذكروا يسارًا؛ لشهرته وشرفه، وتركوا غيره؛ لعدمها؛ فليحفظ.
(فبعث)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومفعوله محذوف؛ أي: الطلب، كما جاء في رواية الأوزاعي (في آثارهم)؛ جمع إِثْر؛ بكسر الهمزة، وسكون المثلثة، يقال: خرجت في إثره؛ إذا خرجت وراءه، وفي حديث سَلَمَة ابن الأكوع كما ذكره ابن إسحاق وغيره:(فبعث في آثارهم خيلًا من المسلمين أميرهم كُرْز بن جابر الفهري)، وكُرْز؛ بضمِّ الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي معجمة، وعند ابن عُقْبَة:(أنه سعد بن زيد)، وعند «النسائي» :(فبعث في طلبهم قافة)؛ وهو جمع قائف، وعند «مسلم» : (أنهم شبان من الأنصار قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصُّ آثارهم، ولم يُعْلَم اسم هذا القائف، ولا اسم واحد من العشرين، لكن ذكر الواقدي: أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمَّى منهم جماعة من المهاجرين منهم؛ يزيد بن الخطيب وسَلَمَة ابن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وغيرهم، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم ابن حجر أن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ما للواقدي وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد؟ والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه!) انتهى.
واعترضه العجلوني: بأن الأكثر على تجريحه وهو مقدم على التعديل، وكونه أحد مشايخ إمامه لا يلزم أن يروي عنه، انتهى.
قلت: وهو فاسد، فإن الجمهور على أنه عدل ثقة مقبول، ولا سيما قد وثقه حافظ السنة الإمام أحمد ابن حنبل، والتعديل مقدم على الجَرْح لا كما زعم أنه بالعكس، فإن العدالة أصل مثبت، ونافيها مطالب بالدليل ولم يوجد.
وقوله: (وكونه
…
) إلخ؛ فاسد أيضًا، فإنه إذا كان من مشايخ إمامه؛ يلزمه التأدب معه، وهو يسلتزم أن يكون قد روى عنه، فإن الشيخ لا يسمَّى شيخًا إلا إذا أخذ عنه وروى عنه، وهذا كذلك، فهذا الاعتراض مردود عليه، وما هو إلا خبط وخلط؛ فافهم ذلك ولا تغترَّ بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ فليحفظ.
(فلما ارتفع النهار) فيه حذف قبل (الفاء)، وتسمَّى الفصيحة؛ تقديره: فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا فلما ارتفع النهار؛ (جيء بهم)؛ أي: النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وهم أسارى، فأمر بمعاقبتهم على حسب جنايتهم، (فقطع أيديهم وأرجلهم) أي: من خلاف؛ كما في آية (المائدة) المنزلة في القضية، كما رواه ابنا جرير وحاتم، وغيرهما إسناد الفعل فيه إلى النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم مجاز، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى:(فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم) جمع يد، وجمع رجل، فإما أن يُراد بها أقل الجمع الذي هو اثنان عن بعض العلماء؛ لأنَّ لكل منهم يدين ورجلين، وإما أن يراد التوسيع عليهم بأن يقطع من كل واحد
(1)
منهم يد واحدة، ورجل واحدة، والجمع في مقابلة الجمع يفيد التوزيع، كذا في «عمدة القاري» ، وعند المؤلف من رواية الأوزاعي:(ولم يحسمهم)؛
(1)
في الأصل: (واحدة)، ولعل المثبت هو الصواب.
بالحاء المهملة، قال الجوهري:(حسمته: قطعته فانحسم، ومنه: حسم العرق)، وفي الحديث: أتيبسارق
(1)
فقال: «احسموه» ؛ أي: اكووه بالنار؛ لينقطع الدم، ذكره في الحاء، وتبعه في «القاموس» ، وهذه الرواية الظاهر أنها تحريف، وأصلها: وحسمهم
(2)
، فلفظة (ما
(3)
) زائدة، ويدل لذلك ما عند المؤلف في (المحاربين) :«إن عاد؛ فاقطعوه» ، وعليه الإجماع، ولأنَّه إذا لم يحسم وتركه ينزف الدم منه؛ لتلف ومات، وهو خلاف المقصود، ولم يبق لقوله:«إن عاد؛ فاقطعوه» معنًى، فالحسم واجب؛ لكي ينقطع الدم، ولعل رواية الأوزاعي كانت من الراوي حين لم يَرَ أنه لم يحسمهم، والحال أن الصحابة حسموهم ولم يَعْلَمْ بذلك الراوي فعبَّرَ بما رأى بدليل أن الأكثر من الروايات لم يذكر أحد الحسم، فدل على التحريف، أو على التأويل، والله تعالى أعلم العليم الجليل.
وفي يوم السبت مات أحد أعدائي المشهورين، وقد استجاب الله تعالى دعائي، ولله الحمد، في خامس ربيع الثاني سنة سبع وسبعين، وفيه سافر شيخنا الشيخ عبد الله أفندي الحلبي، وشيخنا السيد عمر أفندي الغزي، وكذا عبد الهادي العمري، ومحمَّد طاهر أفندي المفتي، وعبد الله بيك، وابنه علي بيك عظم، وأحمد أفندي النقيب العجلاني، وعبد الله بيك ناصيف باشا، وأحمد أفندي الحسيبي، وابنه أبو السعود، وغيرهم، والله تعالى أعلم.
(وسُمرت أعينهم)؛ بضمِّ السين المهملة، وتخفيف الميم وتشديدها؛ أي: كحلت بمسامير محمية، وفي رواية:(سملت)؛ بـ (اللام) بدل (الراء)، يقال: سُمِلَت عينه بصيغة المجهول ثلاثيًّا؛ إذا فُقِئت بحديدة محماة، وقيل: هما بمعنًى واحد، ولم تختلف روايات البخاري كلُّها بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز:(وسلمت)؛ بالتخفيف، واللام، وللبخاري من رواية وهيب عن أيُّوب، ومن رواية الأوزاعي عن يحيى؛ كلاهما عن أبي قلابة:(ثم أمر بمسامير فأحميت، فكحلهم بها)، ولا يخالف هذا رواية السمل؛ لأنَّه فقأ العين بأي شيء كان، كذا في «عمدة القاري» ، ثم قال: وما وجه تعذيبهم بما ذكر، وقد نهى النبيُّ الأعظم عليه السلام عن التعذيب بالنار؟
وأجاب: بأنه كان قبل نزول الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة، فهو منسوخ، وقيل: ليس بمنسوخ، وإنما فعل النبيُّ الأعظم عليه السلام بما فعل قصاصًا؛ لأنَّهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه ولم يذكره المؤلف، قال المهلَّب: وإنما لم يذكره؛ لأنَّه ليس على شرطه، ويقال: فلذلك بوَّب المؤلف في كتابه، فقال: باب إذا حرق المشركون هل يحرق؟ أو وجهه أنه عليه السلام لما سمل أعينهم -وهو تحريق بالنار-؛ استدل به من أنه لو جاز تحريق أعينهم بالنار، ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاة بالنار؛ أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم، وقال ابن المنيِّر:(وكأن البخاري جمع بين حديث: «لا تعذبوا بعذاب الله»، وبين هذا بحمل الأول على غير سبب، والثاني على مقابلة السببية بمثلها من الجهة العامةوإن لم يكن من نوعها الخاص، وإلا؛ فما في هذا الحديث أن العرنيين فعلوا ذلك بالرعاة، وقيل: النهي عن المثلة نهي تنزيه لا نهي تحريم) انتهى كلامه، (وأُلقوا)؛ بضمِّ الهمزة، مبني للمجهول (في الحَرَّة)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء؛ وهي الأرض ذات الحجارة السود، وتجمع على حر، وحرار، وحرات، وحرين، وأحرين، وهو من الجموع النادرة؛ كتبين وقلين في جمع تبنة وقلة، والمراد من الحرة: هذه الأرض الحرة التي هي بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، بها حجارة سود كثيرة، وكانت بها وقعة مشهورة أيام يزيد بن معاوية رضي الله عنه، كذا في «عمدة القاري» ، وزعم البرماوي تبعًا للكرماني بأنه يحتمل أن يراد بها حرارة الشمس، وزعم العجلوني أنه ربما يؤيده رواية أبي رجاء:(ثم نبذهم في الشمس) انتهى.
قلت: وهذا فاسد، والاحتمال باطل، فإن المراد من الحرة الأرض ذات الحجارة السود، كما علمت، وهذه الرواية لا تأييد بها لذلك؛ لأنَّ المراد منها أنه نبذهم في الشمس في هذه الأرض المسماة بالحرة، على أنه لو كان المراد بها حرارة الشمس؛ لقال: وألقوا في الشمس، فتصريحه بكونهم في الحرة دليل واضح على أنهم ألقوا في هذه الأرض المعلومة، وكانت عليهم الشمس؛ فافهم واحفظ، والبرماوي كالكرماني والعجلوني لهم احتمالات بعيدة عن العقل، والعادة، والنقول، والرواية؛ فافهم.
(يَستسقون)؛ بفتح المثناة التحتية أوله، مبني للفاعل من الاستسقاء؛ وهو طلب السقي، وطلب السقيا أيضًا، وهو المطر؛ (فلا يُسقَون)؛ بضمِّ المثناة التحتية، وفتح القاف، قال في «عمدة القاري» : زاد وهيب والأوزاعي: (حتى ماتوا)، وفي رواية سَعِيْد:(يعضون الحجارة)، وفي رواية أبي رجاء:(ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا)، وفي (الطب) من رواية ثابت قال أنس:(فرأيت رجلًا منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت)، ولأبي عوانة من هذا الوجه:(يعضُّ الأرض؛ ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة)، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، ولم يثبت ذلك في الروايات الصحيحة، انتهى فافهم، لكن عند أبي عوانة، عن أنس:(فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين)، فذكر ستة فقط، فإن كان محفوظًا؛ فعقوبتهم موزعة؛ فتأمَّل.
ثم قال: والمنع من السقي مع أن الإجماع قام على من وجب عليه القتل فاستسقى الماء؛ أنه لا يمنع منه؛ لئلا يجتمع عليه عذابان.
وأجاب: بأنه إنَّما لم يسقوا هنا؛ معاقبة لجنايتهم، ولأنَّه عليه السلام دعا عليهم، فقال:«عطَّشَ الله من عطَّشَ آل محمَّد الليلة» ، أخرجه النسائي، فأجاب الله تعالى دعاءه، وكان ذلك بسبب أنهم منعوا في تلك الليلة إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النبيِّ الأعظم عليه السلام من لقاحه في كل ليلة، كما ذكره ابن سعد، ولأنَّهم ارتدوا، فلا حرمة لهم، وقال القاضي عياض:(لم يقع نهي من النبيِّ عليه السلام عن سقيهم، وفيه نظر؛ لأنَّه عليه السلام اطَّلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم)، وقال النووي:(المحارب لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته؛ ليس له أن يسقيه المرتد، ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا)، وزعم الخطابي: إنَّما فعل النبيُّ عليه السلام لهم ذلك؛ لأنَّه أراد لهم الموت بذلك، وفيه نظر لا يخفى، وقيل: الحكمة في تعطيشهم كونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجزع والوخم، وفيه ضعف، كذا في «عمدة القاري» .
ثم قال: إن مالكًا استدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال الإمام محمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل، والإصطخري، والرُّوياني من أصحاب الشافعي، وهو قول الشعبي، وعطاء، والنخعي، والزُّهري، وابن سيرين، والحكم، والثوري، وقال داود، وابن علية: بول كل حيوان ونحوه، وإن كان لا يؤكل لحمه؛ طاهر غير بول الآدمي، وقال الإمام الأعظم، وأبو يوسف، وأبو ثور، والشافعي، والجمهور: الأبوال كلها نجسة إلا ما عُفِيَ عنه، وأجابوا عنه: بأن ما في الحديث قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه مباح في غير حال الضرورة؛ لأنَّ ثمة أشياء أبيحت للضرورة ولم تُبَحْ في غيرها؛ كما في لبس الحرير، فإنه حرام للرجال، وقد أبيح لبسه في الحرب، وللحكة، أو لشدة إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع.
والجواب المقنع في ذلك: أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي شفاءهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقُّن بحصول الشفاء؛ كتناول الميتة للمخمصة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح ما لم يَسْتيقن حصول الشفاء به، وقال ابن حزم:(صحَّ يقينًا أن رسول الله عليه السلام إنَّما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة، وقد قال عز وجل: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فما اضطر المرء إليه؛ فهو غير محرم عليه من المأكل والشراب)، وقال شمس الأئمَّة: (حديث أنس رضي الله عنه قد رواه قتادة: أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار
(1)
في الأصل: (سارق)، ولعله تحريف.
(2)
في الأصل: (وحمسهم)، وكذا في الموضع اللاحق:(لم يحمس)، ولعله تحريف.
(3)
في الأصل: (لا)، ولعل المثبت هو الصواب.