الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقالوا: إن هذه الأحاديث قد وَرَدت على خاص من الشعر، وهو أن يكون فيه فحش وخنا.
وقال أبو نعيم الأصبهاني: (نُهِي عن تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين في المسجد، فأما أشعار الإسلام والمحقين؛ فواسع غير محظور).
وقال الشعبي: (المراد من الشعر الممنوع: هو الذي هجي به النَّبي عليه السلام، وقال أبو عبيد: (عندي غير ذلك؛ لأنَّ ما هجي به عليه السلام لو كان شطر بيت؛ لكان كفرًا، ولكن وجهه: أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر)، قيل: فيه نظر؛ لأنَّ الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفارًا، وهم في حال هجوهم موصوفون بالكفر من غير هجو، غاية ما في الباب قد زاد كفرهم وطغيانهم بهجوهم، والذي قاله الشعبي أوجه، وقال الإمام الطَّحاوي: (لو كان أريد بذلك ما هجي به رسول الله عليه السلام من الشعر؛ لم يكن لذلك الامتلاء معنًى؛ لأنَّ قليل ذلك وكثيره كفر، ولكن ذكر الامتلاء يدل على معنى في الامتلاء ليس فيما دونه، فهو على الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا ذكر ولا تسبيح ولا غيرها، فأما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك؛ فليس ممن يمتلئ جوفه شعرًا، فهو خارج من قوله عليه السلام: «لأن يمتلئ جوف أحدكم
…
»؛ الحديث).
وقال أبو عبد الملك: (كان حسان ينشد الشعر في المسجد في أول الإسلام، وكذا لعب الحبش
(1)
، وكان المشركون إذ ذاك يدخلون المسجد، فلما كمل الإسلام؛ زال ذلك كله)، قلت: أشار بذلك إلى النَّسخ، ولم يوافقه أحد على ذلك، كذا قاله في «عمدة القاري» .
ثم قال: (وقوله في حديث عمر: «قيحًا» ؛ منصوب على التمييز، وهو الصديد الذي يسيل من الدمل والجرح، وقوله:«حتى يريه» : من الوَرْي، وهو الداء، يقال: وَرِيَ يَرِي
(2)
، فهو مَوْرِيٌّ إذا أصاب جوفه الداء، وقيل: معناه: حتى يصيب رئته
(3)
، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه خلاف السياق.
وفي حديث الباب: جواز الانتصار من الكفار، وينبغي ألا يبدأ المشركون بالسب والهجاء؛ مخافةً من سبهم الإسلام وأهله، قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108]، ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كابتدائهم به؛ فيكف أذاهم أو نحوه كما فعله عليه السلام.
وفيه: استحباب الدعاء لمن قال شعرًا، مثل قصة حسان، وفيه: فضيلة حسان رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
وفي «المنحة» : (والحاصل: أن إنشاد الشعر جائز بلا كراهة إن كان حقًّا، ومكروه تحريمًا إن كان باطلًا، ومكروه تنزيهًا إذا غلب عليه اشتغال به عن القرآن والذكر) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ الشعر لا يخلو
(4)
إما أن يكون جائزًا أولا، والثاني مكروه تحريمًا، فكراهة التنزيه ليس لها محل؛ فافهم.
(69)
[باب أصحاب الحراب في المسجد]
هذا (باب) حكم لعب (أصحاب الحِراب) بحرابهم (في المسجد)؛ أي: في أي مسجد من المساجد، فـ (أل) فيه: للجنس، و (الحِراب) : بكسر الحاء المهملة: جمع حربة، كالقصاع جمع قصعة، والحِراب أيضًا: مصدر من حارب يحارب محاربة وحرابًا، والمراد هنا الأول، ونصال حرابهم: مشهورة، والمراد من أصحاب الحراب هنا: هم الذين يتشاققون بالسلاح كالحراب ونحوها؛ للاشتداد والقوة على الحرب مع أعداء الدين.
وما قدَّرنا أولى من تقدير العجلوني الجواز؛ لأنَّ الحكم أعم وأشمل، وكذا هو أولى من تقدير ابن حجر والقسطلاني: جواز دخولهم، كما لا يخفى؛ لأنَّ دخول أصحاب الحراب المسجد لا يسع أحدًا أن يقول: غير جائز، وإنما المقصود هنا: بيان حكم لعبهم بالحراب في المسجد، هل هو جائز أم لا؟ وحديث الباب يدل على جوازه في المسجد وغيره؛ لأنَّه يعين على قتال أعداء الدين.
وقال المهلب: (المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال الجامعة لمنفعة الدين وأهله؛ فهو جائز في المسجد وغيره، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب، وهو من الاستعداد للعدو، والقوة على الحرب) انتهى.
وذكر نحوه ابن بطال، وذلك لتكون كلمة الله العليا
(5)
، وهو على نصرهم إذا يشاء قدير.
وزعم ابن حجر أن البخاري أشار إلى تخصيص الحديث السَّابق في النَّهي عن المرور في المسجد بالنصل غير معمود، والفرق بينهما: أن التحفظ في هذه الصورة سهل، بخلاف مجرد المرور، فإنَّه قد يقع بغتة، فلا يتحفظ منه، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن البخاري ليس مراده بهذا الباب تخصيص الحديث السَّابق، وليس في كلامه الإشارة إلى ذلك أصلًا، فمن أين علم ذلك؟ بل قصد البخاري في هذا الباب والتَّرجمة: بيان حكم مستقل لا تعلق فيه بما قبله، وما ذكره من الفرق ممنوع؛ لأنَّ التحفظ باللعب بالحراب أمر صعب كما هو مشاهد لكل بصير؛ لأنَّه تارة يقف، وتارة يرجع يمينًا، وتارة شمالًا، وتارة جنوبًا، وتارة خلفًا، ولابد من وجود أناس معهم، فالغالب في ذلك وجود العطب، أما حال المرور في المسجد؛ فالتحفظ ممكن؛ لأنَّه ليس له شيء يشغله، فدائمًا متحفظ وآخذ بالنصل؛ مخافة أن يصيب أحدًا من المسلمين؛ فانظر إلى ما زعمه هذا القائل تجده غير صواب، والله أعلم.
[حديث: لقد رأيت رسول الله يومًا على باب حجرتي]
454 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله) : هو ابن يحيى أبو القاسم القرشي العامري المدني (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين المهملة: هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، (عن صالح) زاد الأصيلي:(ابن كيسان) : هو أبو محمَّد المؤدب التَّابعي، [مؤدب] ولد عمر بن عبد العزيز الأموي، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني التَّابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ العين المهملة في الأول، وضم الزاي المعجمة في الثاني: هو ابن العوام المدني التَّابعي: (أن) بفتح الهمزة (عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (قالت: لقد رأيت)؛ أي: والله لقد أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُهِم معنى القسم من اللَّام و (قد) اللتان تدلان على التأكيد، و (رأيت) بمعنى: أبصرت؛ فلذلك اقتصر على مفعول واحد (يومًا) بالنصب على الظرفية (على باب حجرتي)؛ بِضَمِّ الحاء المهملة، وفي رواية:(في باب حجرتي)؛ وهي البيت الذي يُنَام فيه، وهي: الأدورة
(6)
(والحبشة) : هي جنس من السودان مشهور (يلعبون في المسجد)؛ أي: بحرابهم، والجملة محلها نصب على الحال من الفاعل أو المفعول، وجملة (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني) محلها نصب على الحال أيضًا، قال إمام الشَّارحين: (وهذا يدل على أنَّ هذا كان بعد نزول
(1)
في الأصل: (الجيش)، وهو تصحيف.
(2)
في الأصل: (يورى).
(3)
في الأصل: (ريبة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (يخل)، وليس بصحيح.
(5)
في الأصل: (العلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
(6)
في الأصل: (الأوددة)، وهو تحريف.
الحجاب) (برِدائه)؛ بكسر الرَّاء: هو ما يستر النصف الأعلى من البدن؛ حتى لا يراني أحد من الأجانب (أنظر إلى لعبهم)؛ أي: بحرابهم، وهو يستلزم النَّظر إلى ذواتهم، ففيه دليل واضح على
(1)
جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهن عنهم، وهذا مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنه، والجمهور من العلماء، وخالفهم الشَّافعي؛ فزعم أن نظر الأجنبية إلى الأجنبي حرام، والحديث حجة عليه.
وزعم ابن حجر أن حديث الباب لا يدل على جواز النَّظر؛ لأنَّ عائشة نظرت لعبهم وحرابهم لا وجوههم وأبدانهم، ولا يلزم منه تعمد نظر البدن، وإن وقع بلا قصد؛ صَرَفَتْه حالًا، ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء، ولأنه عليه السلام أمر ميمونة وأم سلمة وقد رآهما تنظران لابن أم مكتوم بالاحتجاب منه، فقالت له أم سلمة: أليس هو أعمى لا يبصر؟ فقال: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» كذا زعمه العجلوني.
قلت: وهذا الاستدلال فاسد وبعيد عن الأفهام؛ لأنَّ عائشة كانت تنظر إلى لعبهم بالحراب، وهو يستلزم النَّظر إلى أبدانهم وذواتهم ضرورة، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم ينهها أن تنظر ذواتهم وأبدانهم، بل أطلق لها إباحة النَّظر في لعبهم وأبدانهم وذواتهم، فبقي الحكم على العموم، ويدل لذلك ما ذكره البخاري في باب (إذا كان الثوب ضيقًا)، عن سهل الساعدي، وفيه قال النَّبي صلى الله عليه وسلم للنساء:«لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا» ، وعند أحمد، وأبي داود بلفظ:«فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم» ؛ كراهة أن يرين عورات الرجال، انتهى، فهذا يدل على إباحة نظر النساء للرجال؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما أباح لهن الصلاة خلف الرجال، وبين في الحديث أن النَّهي في رفع رؤوسهن؛ خشية رؤيتهن عورات الرجال، وهو يدل على أنَّ رؤية ذوات الرجال وأبدانهم للنساء جائز لا محظور فيه، ويدل لذلك إباحة خروج النساء للجماعات في المساجد، وكذلك خروجهن للحمامات ولأجل شراء الأكل ونحوه من الرجال الأجانب في الأسواق، ويلزم على ما زعمه الحرج في ذلك، وهو مدفوع بالنص.
وقوله: (ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول الحجاب) : ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما كان عليه السلام يسترها، فستره لها دليل على أنَّه كان ذلك بعد نزول الحجاب، ولهذا كان يدخل على زوجاته عليه السلام البر والفاجر في ابتداء الإسلام كما قال عمر بن الخطاب، وسأله أن يحجب نساءه، فأنزلت آية الحجاب، فلو كان ذلك قبل نزولها؛ لما سترها عليه السلام بردائه.
وقوله: (أو عائشة لم تبلغ مبلغ النساء) : ممنوع أيضًا؛ لأنَّ قولها: (يسترني بردائه) يدل على أنَّها كانت وقتئذ بالغة مبلغ النساء.
وقوله: (ولأنه عليه السلام أمر ميمونة
…
) إلى آخره؛ هذا حديث ضعيف، كما قاله الثقات، ولئن صح؛ فهو لا يقاوم الصَّحيح على أنَّه محتمل؛ لأنَّ أم سلمة وميمونة كانتا غير متسترتين
(2)
كما يستتر النساء من الرجال، فأمرهما بالاحتجاب؛ لكونهما كانتا مكشوفتين، ويدل لذلك قول أم سلمة:(أليس هو أعمى؟)؛ أي: لا يبصرنا، ونحن كذلك، ويحتمل أنَّه أمرهما بذلك؛ لأجل أن الخلوة بالمرأة الأجنبية حرام، فالنَّهي إنَّما كان لأجل الخلوة، لا لأجل النَّظر إليه، ويحتمل أن ابن أم مكتوم كان ذا
(3)
ثوب واحد مستتر فيه، فخشي عليه السلام أن ينظرن إلى عورته، ويحتمل غير ذلك، والدليل إذا طرقه الاحتمالات؛ سقط الاستدلال به، فبقي الحكم؛ وهو حل نظر النساء للرجال بدون شهوة، وهو الصَّواب، وما عداه مكابرة وعناد، والحق أحق أن يتبع.
وفي الحديث: دليل على جواز النَّظر إلى اللعب باللهو المباح، بل هذا في الحقيقة طاعة؛ لأنَّه مما ينتفع به في الجهاد وإن كان لعبًا صورة، ولهذا جاز اللعب في المسجد، وقد ترك عليه السلام عائشة تنظر إلى لعبهم؛ لتضبط السُّنَة في ذلك، وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين، وتعرفهم بذلك.
وفيه: حسن خلقه عليه السلام، ومعاشرته لأهله، وفضيلة عائشة، وعِظَم منزلتها عنده عليه وعليها السَّلام، والله أعلم.
455 -
(زاد) ولأبي الوقت: (وزاد)(إبراهيم بن المنذر) : هو ابن عبد الله الأسدي الحزامي؛ نسبة لجده حزام، وقول العجلوني والقسطلاني: الحازمي؛ خطأ ظاهر، كما لا يخفى؛ فاعرفه، (قال: حدثنا) ولأبي الوقت وابن عساكر: (حدثني)؛ بالإفراد، وفي القسطلاني: وفي رواية: (حدثه)، قال العجلوني: هو عليها من الالتفات على رأي السكَّاكي، قلت: لكن لم يعزها لأحد من الرواة، فالظَّاهر أنها تحريف، ولئن صحت؛ فهو من باب التجريد؛ بأن جرد من نفسه شخصًا فخاطبه؛ فافهم، (ابن وهب) : هو عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي مولاهم، المصري، وقول العجلوني: هو عبد الله بن مسلم، خطأ؛ فاجتنبه، (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) : هو ابن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب) : هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني (عن عروة) هو ابن الزُّبير بن العوام، (عن عائشة)؛ أي: الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهماأنها (قالت: رأيت) أي: أبصرت (النَّبي) الأعظم، وفي رواية:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم؛ أي: في المسجد النَّبوي (والحبشة) : هم جنس من السودان (يلعبون بحرابهم) الجار والمجرور مفعول لقوله: (زاد ابن المنذر)؛ وهو فاعل (قال)، يعني: أن رواية إبراهيم بن المنذر مثل رواية صالح بن كيسان لكن بزيادة لفظة: (بحرابهم)، فيحصل بها المطابقة للتَّرجمة.
وقال الكرماني: (يحتمل قوله: «زاد إبراهيم» التَّعليق)، واعترضه إمام الشَّارحين فقال:(هو تعليق بلا احتمال، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس) انتهى.
وفي هذا دليل على جواز نظر النساء إلى الرجال، ووجوب استتارهنَّ عنهم.
وفيه: جواز اللعب بالحراب في المسجد على الوجه الذي ذكرناه، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة؛ أما القرآن؛ فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} [النور: 36]، وأما السنة؛ فحديث واثلة بن الأسقع الذي أخرجه ابن ماجه:«جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ، ورُدَّ بأنَّ الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادَّعاه، ولا عُرف التاريخ حتى يثبت النَّسخ، انتهى.
قال العجلوني: (وقد يقال: إن الحديث بنحو ما رواه البخاري في «التاريخ الأوسط» بلفظ: «جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم، وشرائكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم،
(1)
في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (متسترين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.