الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ الذُّكر بالضم لا غير: الاسم والمصدر عند جميع أهل اللغة، وجعل بعضهم المصدر بالضم لا غير، والاسم بالضم والكسر.
فقوله: (إنَّ الذكر
…
) إلخ، هذا الفرق لبعضهم، والجمهور على أنهما سواء بالضم على أنَّ المصدر، وكذا اسم المصدر في المعنى سواء حقيقة.
وقوله: (وعلى تسليم
…
) إلخ، هذا اعتراف منه على أنه مصدر وأنه بالضم لا غير.
وقوله: (فما وجه إيراده
…
) إلخ لا يخفى عليك أن وجه إيراده تفسيره ذُكر بمعنى: تذكر، والفرق بينهما ظاهر، فإنه فسر المضموم بالمكسور، وكأنه اشتبه عليه أنه من باب الذُّكر بالضم، أو من باب الذِّكر بالكسر، فاعتمد الثاني، وفسر به، وهو غير صحيح.
وقوله: (فإنه لم يدَّعِ
…
) إلخ ممنوع، فإن تفسيره ذلك بـ (تذكر) دليل واضح على أنه قد ادعى أنه من المكسور لا من المضموم، فإنَّ ذلك قرينة على ما زعمه، وهو دائمًا يدعي في الكلام المجاز، ويستدل بقرائن الأحوال، وهنا لما لم يفهم القرينة من الكلام على ما ادعاه؛ فصح أنَّ ما فهمه صاحب «عمدة القاري» لم يفهمه غيره، بل خفي عليه، فقال ابن حجر ما قال، وتبعه العجلوني على هذا المقال؛ فافهم.
(في المسجد)؛ أي: حال كونه فيه، فالجار والمجرور حال، ويجوز أن يتعلق بـ (ذُكر)، والأول أظهر؛ فافهم، (أنَّه)؛ بفتح الهمزة وهي اسمها، وخبرها في محل نصب مفعول الذكر (جنب)؛ أي: ذكر الرجل أنَّ عليه جنابة، فالضمير في (أنه) عائد على الرجل المفهوم من (ذكر)؛ لأنَّ الذكر لا يكون إلا من ذي القلب؛ فافهم، وهو نائب فاعل.
قوله: (ذُكر) بالضم؛ فافهم.
وقوله: (يخرج)؛ بلفظ المضارع جواب (إذا)، وفي رواية:(خرج) بالماضي؛ يعني: أن حكمه أنه يخرج من المسجد على حالته، ولا يحتاج إلى التيمم، ولهذا قال:(كما هو)؛ أي: على هيئته وحالته جنبًا فورًا، وقوله:(ولا يتيمم)؛ أي: في المسجد توضيح وبيان لقوله: (كما هو)، كما في «عمدة القاري» .
قلت: وأشار بهذا الرد لما نقل عن الثوري وإسحاق: أنَّه يجب عليه في هذه الصورة التيمم، وعن بعض المالكية: أنه إذا نام في المسجد فاحتلم؛ قالوا: يتيمم قبل أن يخرج منه.
قلت: ولا فائدة في هذا التيمم؛ لأنَّ الواجب الاغتسال بالماء أو التيمم عند عدمه، وفي المساجد الماء كثير، ومع وجود الماء لا يصح التيمم، فإن كان الجنب مسافرًا، وقد مر على المسجد وفيه ماء؛ يتيمم ويدخل المسجد فيستسقي، ثم يخرج الماء من المسجد ويغتسل؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري» : وفي هذا وجوه من الإعراب:
الأول: أن تكون (ما
(1)
) موصولة، وهو مبتدأ وخبره محذوف؛ والتقدير: كالذي هو عليه من الجنابة.
الثاني: أن يكون (هو) خبرًا محذوف المبتدأ؛ والتقدير: أي كالذي هو هو، كما قيل في قوله تعالى:{اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؛ أي: كالذي هو لهم.
الثالث: أن تكون (ما) زائدة ملغاة، والكاف جارة، و (هو) ضمير مرفوع أنيب عن المجرور، كما في قولك: ما أنا كانت؛ والمعنى: يخرج في المستقبل مماثلًا لنفسه فيما مضى.
الرابع: أن تكون (ما) كافة، و (هو) مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: عليه أو كائن.
الخامس: أن تكون (ما) كافة، و (هو) فاعل، والأصل يخرج كما كان، ثم حذفت كانت، فانفصل الضمير، وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون (ما) مصدرية، انتهى.
وزعم الكرماني أنَّ (ما) موصولة أو موصوفة، و (هو) مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: كالأمر الذي هو عليه، أو كحالة هو عليها، ومثل هذه (الكاف) تسمى: كاف المقارنة؛ أي: خرج مقارنًا لأمر، أو لحالة هو عليها.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال في الأول: (قلت: على كل تقدير هذه الجملة محلها نصب على الحال من الضمير الذي في «يخرج»)، وقال على الثاني:(قلت: تسميته هذه الكاف كاف المقارنة تصرف منه واصطلاح، بل الكاف هنا للتشبيه على أصله، ونظير ذلك قولك لشخص: كن كما أنت عليه؛ والمعنى: على ما أنت عليه) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر حيث قال: (فالتشبيه هنا ليس ممتنعًا؛ لأنَّه تعلق بحالتيه؛ أي: خرج في حالة شبيهة بحالته التي كان عليها قبل خروجه) انتهى.
قلت: وقوله: (فالتشبيه
…
) إلخ موافقة لصاحب «عمدة القاري» في اعتراضه على الكرماني، لكن قوله:(ليس ممتنعًا) فيه نظر، وكان حقه أن يقول: (فالتشبيه هنا واجب
…
) إلخ؛ لأنَّ المعنى عليه، كما لا يخفى.
وقال في «المغني» : تسمى مثل هذه الكاف: كاف المبادرة، وذلك إذا اتصلت بـ (ما)؛ نحو سلم كما تدخل. وصلِّ كما يدخل الوقت، ونقله عن ابن الخباز وغيره، وقال:(إنه غريب) انتهى.
قلت: وهذا اصطلاح منه، وقد تبرأ منه ابن هشام، وقال:(إنه غريب)؛ يعني: بل الكاف للتشبيه على الأصل، والمعنى سلم على الحالة الشبيهة
(2)
بحالة الدخول وصل على الحال الشبيهة بحالة دخول الوقت، فالتحقيق أن الكاف لا تخرج عن التشبيه، وتسميتها بالمبادرة أو غيرها اصطلاح، وتصرف، وتفنن في الألفاظ، وهو لا عبرة به لقوله:(وهو غريب)؛ أي: عند النحويين ضعيف لا يعتمد عليه؛ فافهم، وقد خبط العجلوني هنا فاجتنبه؛ فليحفظ.
[حديث: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قيامًا]
275 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمَّد) : هو الجعفي المسندي (قال: حدثنا عُثمان بن عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة فيهما: هو ابن فارس أبو محمَّد البصري المتوفى سنة ثمان ومئتين، (قال: حدثنا يونس) : هو ابن يزيد، (عن الزُّهري) : هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتح السين المهملة واللام: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال) أي: أبو هريرة: (أُقيمت)؛ بضمِّ الهمزة، فعل ماض مبني للمجهول؛ معناه: إذا نادى المؤذن بالإقامة، فأقيم المسبب مقام السبب، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري» ، وزعم الكرماني أنَّ المراد من الإقامة ذكر الألفاظ المخصوصة المشهورة المشعرة بالشروع في الصَّلاة وهي أخت الأذان.
قلت: ولا يخفى صحة الأول، وفساد الثاني؛ لأنَّ الإقامة اسم لهذه الألفاظ المعلومة، وأنَّ المؤذن نادى بصوته بها على أنَّ قوله: (ذكر
…
) إلخ ممنوع، فإنه ليس المراد ذكرها، بل النداء بها بصوت عال.
وقوله: (المشعرة) ممنوع، بل هي مشعرة بالقيام إلى الصَّلاة، كما لا يخفى (الصَّلاةُ) بالرفع نائب فاعل، وهي صلاة الفجر، (وعُدِّلتِ)؛ بضمِّ العين المهملة، وتشديد الدال المهملة؛ أي: سُوِّيت، وتعديل الشيء تقويمه، يقال: عدَّله فاعتدل؛ أي: قومه فاستقام، ومنه قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، وفي رواية:(فعُدِّلت)؛ بالفاء (الصفوفُ)؛ بالرفع نائب فاعل؛ أي: قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بينه المؤلف في (الصَّلاة) من رواية صالح بن كيسان:(أنه كان قبل أن يكبر النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (قيامًا) جمع قائم؛ كتِجار؛ بكسر الفوقية جمع: تاجر، ويجوز أن يكون مصدرًا جازمًا على حقيقته، وقال الكرماني:(هو تمييز أو مجهول على اسم الفاعل؛ فهو حال)، ورده صاحب «عمدة القاري» ، فقال: (إذا كان لفظ «قيامًا» مصدرًا
(3)
؛ يكون منصوبًا على التمييز؛ لأنَّ قوله: «وعدلت الصفوف» فيه إيهام، فيفسره قوله:«قيامًا» ؛ أي: من حيث القيام، وإذا كان جمعًا لـ «قائم» ؛ يكون انتصابه على الحالية، وذو الحال محذوف، تقديره: وعدل القوم الصفوف حال كونهم قائمين) انتهى.
وما زعمه العجلوني معترضًا على القسطلاني ليس بشيء، كما لا يخفى.
(فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: بعد أن أقيمت الصَّلاة وعدلت الصفوف، (فلما قام في مُصلَّاه)؛ بضمِّ الميم: وهو موضع صلاته؛ (ذُكر)؛ بضمِّ الذال المعجمة، قال في «عمدة القاري» :(من باب الذُّكر؛ بضمِّ الذال، وهو الذكر القلبي، فلا يحتاج إلى تفسير ذكر؛ بمعنى: تذكَّر، كما فسره به بعضهم) انتهى.
قلت: والمراد بهذا البعض ابن حجر، وتبعه العجلوني، فإنه قد خفي عليهما، فجعلاه
(4)
من باب (التفعُّل)، ولا يخفى فساده؛ لما قدمناه؛ فافهم؛ والمعنى: أنه عليه السلام ذكر في قلبه قبل أن يشرع في الصَّلاة (أنَّه جنب)، وإنَّما
(1)
في الأصل: (ماء)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (الشبية)، ولعله تحريف.
(3)
في الأصل: (مصدر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (فجعلا)، ولعل المثبت هو الصواب.
علم أبو هريرة أنَّه جنب مع أن الذكر لا يطلع عليه أحد؛ لإعلامه عليه السلام له بذلك؛ لما في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة) وفي آخره: «قال: إنِّي خرجت إليكم جنبًا، وإنِّي نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة» ، ومثله في رواية الدارقطني، إذا علمت هذا؛ تعلم فساد ما زعمه العجلوني حيث قال:«وفهم أبو هريرة لذلك بالقرائن أو إعلامه له بَعد» انتهى، فإن كلامه يفيد الظن والاحتمال لا القطع؛ فليحفظ.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: بلفظه حقيقة أو إشارته (لنا) معاشر الصحابة، وفي رواية الإسماعيلي:«فأشار بيده» (مكانكم)؛ بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا مكانكم، وجوز البرماوي أن يكون اسم فعل، والأول أظهر.
قال في «عمدة القاري» : إذا ثبت أنه تكلم بقوله: «مكانكم» ؛ فالإشارة لماذا؟
وأجيب: بأنه يحتمل أنه جمع بين الكلام والإشارة، أو يكون الراوي روى أحدهما بالمعنى، انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم أنه لو قال: إن ثبت؛ لكان مناسبًا، فإنه يحتمل أن يكون قول:«مكانكم» بالإشارة لا باللفظ، وجوابه بقوله: يحتمل
…
إلخ ليس فيه بيان حكمة الإشارة، ويمكن الجمع بينهما.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإن قوله: لو قال
…
إلخ؛ ممنوع بل تعبيره بـ (إذا ثبت) هو المناسب؛ لأنَّ (إذا) تدل على تحقُّق مدخولها غالبًا، ومنه قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، و (إن) تدل على أنَّ مدخولها مشكوك فيه غالبًا، ومنه قوله تعالى:{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6]، وههنا القول محقق؛ لأنَّه ثابت في الصحيح محقق الوجود والوقوع بخلاف (إن)، فإنها ليست كذلك، ألا ترى أنَّ الصَّلاة محققة الوجود، وأنَّ الجنابة قد لا توجد أصلًا؛ فليحفظ، فإنه قد خفي هذا على هذا القائل، كما لا يخفى.
وقوله: فإنه يحتمل
…
إلخ ممنوع، وهذا الاحتمال باطل؛ لأنَّ قوله:(فقال: مكانكم) يدل على أنَّه باللفظ قطعًا لا بالإشارة، وهو ظاهر، كما لا يخفى.
وقوله: وجوابه
…
إلخ ممنوع، فإن قوله:(إنَّه جمع بين الكلام والإشارة) يفيد أنه عليه السلام لما قام في مكانه وذكر أنه جنب؛ التفت وقال لهم: (مكانكم)؛ باللفظ، ثم لما مشى عن مكانه؛ أشار لباقي القوم الذين لم يسمعوا اللفظ، فأشار إليهم، فهذا الجمع بين الكلام والإشارة هو بيان حكمة الإشارة، ولم يجنح إلى هذا
(1)
العجلوني، فقال: ويمكن الجمع بينهما، فرجع إلى ما قاله إمام الشارحين، والمعترض حقه أن يأتي بجواب سالم عن ذلك؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنَّ فيه إطلاق القول على الفعل، بل القول على حاله، ورواية الإسماعيلي لا تستلزم ذلك؛ لاحتمال الجمع بين الكلام والإشارة، انتهى.
ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: إذا كان القول على بابه؛ فيكون واقعًا في الصَّلاة، كما ثبت في الصحيح، انتهى.
قلت: قد علمت ما قدمناه؛ فافهم.
(ثم رجع)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى حجرته الشريفة، (فاغتسل)؛ أي: من الجنابة، (ثم خرج إلينا) معشر الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أن التراخي هنا وفي قوله:(ثم رجع) مرادٌ على بابه، واستظهر العجلوني أنه مراد هنا بخلافه في (ثم رجع).
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لا بد من وجود مهلة بين قوله: «مكانكم» ورجوعه ولو وقفة خفيفة؛ لأجل إعلامهم بأنه يعود إلى الصَّلاة حتى لا يذهب منهم أحد، فالتراخي في كلٍّ منهما مراد؛ فافهم.
(ورأسه يقطر)؛ أي: من ماء الغُسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من قبيل ذكر المحل وإردة الحال، والجملة اسمية وقعت حالًا على أصلها بالواو كذا قاله في «عمدة القاري» .
وزعم العجلوني أنَّ نسبة القطر إلى الرأس من المجاورة؛ لأنَّ الذي يقطر الماء) انتهى.
قلت: وهذا ليس بمجاورة؛ لأنَّها قرب الشيء من الشيء، وهنا استعمال الماء في الرأس وهو ليس من المجاورة، بل من إطلاق المحل وإرادة الحال، فهو مجاز؛ فافهم، والله أعلم.
(فكبر)؛ أي: لصلاة الفجر، قال صاحب «عمدة القاري» :(فإن قلت: هل اقتصر على الإقامة الأولى أو إنشاء إقامة ثانية؟ قلت: لم يصح فيه نقل، ولو فعله؛ لنقل) انتهى.
قلت: أفاد كلامه أنه اقتصر على الإقامة الأولى وهو الظاهر، ويدل له أن (الفاء) للتعقيب، ولأن تكرار الإقامة غير مشروع وهو حجة لمذهب الإمام الأعظم والجمهور في جواز الفصل بينهما، سواء كان لمصلحة الصَّلاة أم لا، طال أم لا، ومثله الفعل بشرط كونه من مصالحها.
قال في «الفتاوى القنية» : (ولو صلى السنة بعد الإقامة أو حضر الإمام بعدها بساعة؛ لا يعيدها)، ومثله في «الفتاوى البزازية» كما في «منح الغفار» لما رواه المؤلف عن أنس في (الصَّلاة) قال:(أقيمت الصَّلاة، فعرض للنبيِّ صلى الله عليه وسلم رجل فحبسه بعد ما أقيمت الصَّلاة)، زاد هشام في روايته:(حتى نعس بعض القوم)، فهذا يدل على أنَّ الفصل بينهما ولو طويلًا؛ جائز، خلافًا لمن قيده بالقصير، فإنه لا دليل يدل عليه، وحديث الباب يرد عليه؛ لأنَّ الاشتغال بالغُسل من الفصل الطويل، كما لا يخفى.
قال الإمام الشُّمنِّي: (وفي هذا رد على من قال: إذا قال المؤذن: «قد قامت الصَّلاة»؛ وجب على الإمام تكبير الإحرام)؛ يعني: أنَّه لا يجوز الفصل بينهما، وتأولوا الحديث بأن معناه: كبر بعد رعاية وظائف الصَّلاة؛ كالإقامة، أو يؤول أقيمت أولًا بغير الإقامة الاصطلاحية.
قلت: وهذا كله خروج عن الظاهر، ومكابرة، فأي دليل دل على أنه أتى بها ثانيًا؟ وأي دليل على أن الأولى كانت بغير الاصطلاحية؟ بل الدليل الظاهر على أنه لم يأت بها ثانيًا، ولو أتى بها؛ لنقل عنه، فعدم النقل عنه دليل على عدم الإتيان بها؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، والتأويل الثاني أبعد من الأول؛ لأنَّ الإقامة لغة واصطلاحًا وعرفًا اسم لهذه الألفاظ المشهورة، فكيف تذكر ويراد غيرها؟! وما هو إلا مكابرة؛ لأنَّها لم تأت بمعنى غير هذا، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
وفي قوله: (فلما قام في مصلاه
…
) إلخ دليل على أنه لم يدخل في الصَّلاة، وأصرح منه ما في رواية المؤلف (قبل أن يكبر).
قال في «عمدة القاري» : (فإن قلت: في رواية ابن ماجه: (قام إلى الصَّلاة وكبَّر، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»).
وفي رواية للدارقطني من حديث أنس: (دخل في الصَّلاة فكبَّر وكبَّرنا معه، ثم أشار إليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماءً فصلى بهم، فلما انصرف؛ قال: «إني خرجت إليكم جنبًا وإني نسيت حتى قمت إلى الصَّلاة»)، وفي رواية للدارقطني من حديث أنس:(دخل في الصَّلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم كما أنتم).
وفي رواية لأحمد من حديث عليٍّ: (كان قائمًا فصلى بهم إذا انصرف).
وفي رواية لأبي ذر من حديث أبي بكرة: (دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده: أن مكانكم).
وفي أخرى: (ثم جاء رأسه يقطر فصلى بهم).
وفي أخرى له مرسلة: (فكبَّر، ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا).
وفي مرسل ابن سيرين، وعطاء، والربيع، عن أنس:(كبر، ثم أومأ إلى القوم: أن اجلسوا).
قلت: هذا كلام لا يقاوم الذي في «الصحيح» ، وأيضًا في حديث أبي هريرة هذا:(ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر)، فلو كان كبر أولًا؛ لما كان يكبر ثانيًا على أنه اختلف في الجمع بين هذه الروايات، فقيل: أريد بقوله: (كبر)؛ أراد أن يكبر عملًا برواية «الصحيح» : (قبل أن يكبر).
وفي رواية أخرى للبخاري: (فانتظرنا تكبيره)، وقيل: إنهما قضيتان أبداه القرطبي احتمالًا، واستظهره النووي، وأبداه ابن حبان في «صحيحه» ، فقال: (بعد أن أخرج الروايتين من حديث أبي هريرة: هذان فعلان في
(1)
في الأصل: (هذا إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.
موضعين متباينين، خرج عليه السلام مرة فكبر، ثم ذكر أنه جنب، فانصرف فاغتسل، ثم جاء فاستأنف بقيام الصَّلاة، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب فانصرف فاغتسل، وجاء مرة أخرى، فلما وقف ليكبر؛ ذكر أنه جنب قبل أن يكبر، فذهب فاغتسل، ثم رجع فأقام بهم الصَّلاة من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاتر، فإنَّ قول أبي بكرة:(فصلى بهم)؛ أراد بذلك أنَّه بدأ بتكبير مُحْدَثٍ لا أنَّه رجع فبنى على صلاته، إذ محال أن يذهب عليه السلام ليغتسل ويبقي الناس كلهم قيامًا على حالهم من غير إمام إلى أن يرجع) انتهى.
قال في «عمدة القاري» : (وروي عند بعض أصحابنا: أن انتظارهم له هذا الزمن الطويل بعد أن كبروا من قبيل العمل اليسير، فيجوز مثله، فإن قلت: كيف قلت: كبروا؟ قلت: لأنَّ العادة جارية بأن تكبير المأمومين يقع عقب تكبير إمامهم، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الوسوسة، فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام لم يكبر، فكيف كبروا؟ وأيضًا فكيف أشار إليهم ولم يتكلموا، ولم انتظروه قيامًا؟ قلت: أمَّا تكبيرهم؛ ففي رواية: (تكبيره عليه السلام، وأمَّا قولك: ولم يتكلم؛ فيرده قوله: «مكانكم») انتهى.
قلت: وقوله: (من أهل الوسوسة)؛ فإنا قد شاهدنا كثيرًا من المتعصبين من الشافعية يجيء أحدهم إلى خلف إمامه فيكبر الإمام ويجتهد المأموم بالنية، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسلم، ويتعوذ من الشيطان، ثم يكبر، وهكذا إلى أن يفرغ الإمام من صلاته، فيجيء إلى إمام آخر، ويفعل مثل الأول، ثم يفرغ الإمام من صلاته، وهو لم يشرع معه ثم يذهب ويصلي إمامًا، وما هذا إلا من شدة اتصال الشيطان به، وقالوا: الوسوسة إما من خلل في العقل أو في الدين، وعلى كلٍّ؛ فهي بدعة منكرة، وهذا الفعل مذموم شرعًا، ففي زعمه أنه من الصالحين، والحال أنه من جند إبليس رئيس الشياطين، والله تعالى أعلم.
(فصلينا) معشر الصحابة (معه)؛ أي: مع النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، كما في حديث أبي بكرة المصرح به
(1)
، ففي الحديث طلب تعديل الصفوف وهو مستحب بالإجماع، وشذ ابن حزم، فزعم أنه فرض على المأمومين، الأول فالأول والتراص والمحاذاة بالمناكب والأرجل.
قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: في رواية: «أقيمت الصَّلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج فكيف هذا» ، وقد جاء:«إذا أقيمت الصَّلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني» ، قلت: لعله كان مرة أو مرتين؛ لبيان الجواز، أو لعذر، أو لعل قوله:«فلا تقوموا حتى تروني» بعد ذلك، والحكمة في هذا النهي؛ لئلا يطول عليهم القيام، ولأنَّه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه.
وفي الحديث: وهو قول الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو ظاهر فإن في رواية ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفي رواية الدارقطني من حديث أنس، وفي رواية أبي بكرة:(دخل في صلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إليهم، فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف)، فقوله:(فصلى بهم)؛ معناه: أتم صلاته بالتكبير الأول، وهو ظاهر الحديث؛ لأنَّه لو كان كبر ثانيًا؛ لصرح به، فعدم تصريحه به دليل على عدم وجوده؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولا مانع من بقاء الناس قيامًا على حالهم من غير إمام؛ لأنَّ هذا الانتظار عفوٌ؛ لأنَّه من قبيل العمل اليسير، ويدل لهذا قوله في الروايات:(ثم أشار إليهم فمكثوا)؛ معناه: وقفوا قيامًا على حالهم الأول، أو مكثوا قعودًا، ويدل له ما في بعض الروايات السابقة:(فأومأ إليهم أن اجلسوا)، والحكمة لهذه الإشارة عدم وقوع مُفسِد منهم للصلاة من تحوُّلٍ عن القبلة أو تنحنح أو غيرهما، فرجع عليه السلام وبنى على صلاته وهو ظاهر، وبما قررناه ظهر فساد ما قدمناه عن ابن حبان؛ فافهم والله أعلم.
وفي الحديث: ما استدل به المؤلف على الجنب إذا دخل في المسجد ناسيًا فذكر أنه جنب؛ يخرج منه، ولا يتيمم، فلذلك ذكر في الترجمة قوله:(يخرج كما هو ولا يتيمم).
وقال ابن بطال: (من التابعين من يقول: إنَّ الجنب إذا نسي فدخل المسجد، فإنه يتيمم ويخرج، قال: والحديث يردُّ عليهم).
قال في «عمدة القاري» : (قلت: من الذين ذهبوا إلى التيمم الإمام الأعظم، فإنه قال: (الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء، فإنه يتيمم، ويدخل المسجد فيستسقي، ثم يُخرج الماء من المسجد)، وبه قال إسحاق، والنووي، وفي «نوادر ابن أبي زيد» :(من نام في المسجد، ثم احتلم؛ ينبغي أن يتيمم لخروجه)، وقال ابن بطال:(والحديث يدل على خلافه؛ لأنَّه لما لم يلزمه التيمم للخروج كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا؛ لا يحتاج إلى التيمم).
قلت: دلالة الحديث ظاهرة مما تقدم قريبًا.
وقوله: (لأنَّه لما لم
…
) إلخ هذا قياس مع الفارق؛ لأنَّه إنَّما لم يلزمه التيمم للخروج؛ لأنَّ الواجب عليه الخروج فورًا عند ذكره أنه جنب، فلو ألزمناه بالتيمم؛ يلزمه المكث ضرورة، وهو ممنوع منه، والنسيان قد رفع عنه الإثم فلا يلزمه التيمم، وأمَّا من كان خارج المسجد وهو جنب؛ فإنه لا ضرورة له لدخوله إلا أن يكون جنبًا مسافرًا، وهو متمكن من التيمم؛ حيث إنه خارج المسجد وبعيد عن الماء فلما علم بوجود الماء في المسجد؛ يلزمه التيمم لدخوله؛ لأنَّه لا ضرورة تَدْعُو
(2)
إلى دخوله إلا الماء لفقده في الأسفار، وهذا ظاهر من الآية، فالقياس غير صحيح، كما لا يخفى.
واختلف في المرور للجنب والحائض في المسجد، فمنعه الإمام الأعظم، والجمهور، ومالك؛ لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال:«وجهوا هذه البيوت، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ، ورواه المؤلف في «تاريخه الكبير» ، وأخرج الترمذي عن أبي سَعِيْد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عليُّ؛ لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك» ، وقال: حديث حسن.
وأخرج القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» : (أنه عليه السلام لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وهو مرسل قوي، كما قاله الحفاظ)، ولقوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى..} ؛ الآية [النساء: 43]، فقد نقل الرازي عن ابن عمر، وابن عباس: أنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ} : المسافريعدم الماء يتيمم ويصلي، والتيمم لا يرفع الجنابة، فأبيح لهم الصَّلاة تخفيفًا، فالمراد بالآية نفس الصَّلاة، وحملها على مكانها مجاز على أنا نحمله على عمومه، فنقول: لا تقربوا الصَّلاة ولا مكانها على هذه الحالة إلا أن تكونوا مسافرين، فتيمموا واقربوا ذلك فصلوا، كذا قاله صاحب «عمدة القاري» .
وقد قال الزجاج في «معاني
(3)
القرآن» : (إنَّ المراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ} : المسافر)، وقال جماعة من العلماء: إنَّ (إلا) في الآية بمعنى: (ولا)؛ والمعنى: ولا جنبًا ولا عابري سبيل، ونظيره قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا} [النساء: 92]، فإن معناه: ولا خطأ، كما لا يخفى، وعلم مما تقدم أن دخوله عليه السلام ودخول عليٍّ المسجد جنبًا ومكثه فيه من خواصهما، وأمَّا جوازه لأهل البيت، وكلبس الحرير لهم؛ فهو اختلاق من الشيعة وغيرهم من أهل الضلال والزيغ؛ فافهم، وقد بسطه صاحب «البحر» ، والله أعلم.
وجوَّزه الشافعي من غير لبث سواء كانت له حاجة أم لا، وحمل الآية على المجاز؛ وتقديره: لا تقربوا مواضع الصَّلاة جنبًا إلا عابري سبيل، فالعبور قرينة لذلك، وقد سمي المسجد باسم الصَّلاة في قوله تعالى:{لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وجوَّز أحمد جلوس الجنب في المسجد ومروره فيه إذا توضأ، واعترض الكرماني على من منعه، فزعم إذا وجدت القرينة؛ يجب القول بالمجاز، وهنا العبور قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة، ثم الحمل على العموم ممتنع؛ إذ يلزم منه إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد، ولا يجوز ذلك عندهم) انتهى.
قلت: وهو ممنوع، ولقد أكثروا من حمل الأحكام على المجاز، وتركوا الحقيقة، فإن قوله:
(1)
في الأصل: (بها)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (تدعى).
(3)
في الأصل: (معان).
(إذا وجدت
…
) إلخ؛ انظر ما معناه؟ وهل هذا الوجوب شرعي أو اصطلاحي؟ فإن كان الأول؛ فغير مسلم؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في المنع مطلقًا، وإن كان الثاني؛ فغير مسلَّم أيضًا؛ لأنَّه ليس من الأدلة الشرعية، وكيف يصار إلى المجاز مع وجود الحقيقة، على أن العبور المذكور هو مرور المسافر، كما فسره ابني عمر وعباس رضي الله عنهما.
وقوله: (ثم الحمل
…
) إلخ هذا ممنوع ولا يلزم ما ذكره؛ لأنَّ المراد بعموم المجاز أن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز وهذا منه، فليس فيه أنه يلزم إرادة معنى الحقيقة والمجاز بإطلاق واحد؛ لأنا لم نرد كل واحد منهما، بل نريد المجموع وإدراج فرد الحقيقة تحت أفراد المجاز، فلا يقال: إنه مجاز، ولا إنه حقيقة، بل هو من باب عموم المجاز، كما هو مقرر في الأصول، وقد أشار إليه في «عمدة القاري» فلا عجب عليه؛ فافهم.
وفي الحديث: طهارة الماء المستعمل؛ لأنَّه خرج ورأسه يقطر، وفي رواية أخرى:(ينطف)، وهي معناها. وفيه: جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام في العبادات، وفي الحديث: حجة لما قاله الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد، ومالك: إن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام وهو قول عامة الفقهاء.
وقال ابن بطال: (إنَّه قول الإمام الأعظم)، ورده صاحب «عمدة القاري» ، فقال:(هو غير صحيح؛ لأنَّ مذهب الإمام الأعظم أن المأموم يكبر مع الإمام مقارنًا، والخلاف قيل في: الوجوب، وقيل: في الأفضلية) انتهى.
قلت: والصحيح أنَّ الخلاف في الأفضلية؛ لما في «إمداد الفتاح» وغيره، ولا خلاف في الجواز على الصحيح، بل في الأولوية، انتهى.
وأشار شيخ الإسلام إلى أن المقارنة في التكبير أفضل اتفاقًا، وقال بعضهم: المختار للفتوى في التحريمة أفضلية التعقيب وتمامه في الحواشي، وأجاز الشافعي تكبير المأموم قبل إمامه؛ أي: فيما إذ أحرم منفردًا، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصَّلاة؛ لأنَّه روى حديث أبي هريرة على ما رواه مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن أبي يسار:(أنه عليه السلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده: أن امكثوا، فلما قدم؛ كبر)، ورُدَّ بأنَّ الشافعي لا يقول بالمرسل، ومالك الذي رواه لم يعمل به؛ لأنَّه قد صح عنده أنه لم يكبر، وذكر ابن حبيب عن مالك: أنه لما رأى هذا الحديث مخالفًا لأصل الصَّلاة؛ قال: إنه خاص بالنبيِّ عليه السلام، ولعله أمرهم بنقض إحرامهم الأول، وابتداء الإحرام بعد إحرامه الثاني، وهكذا فسره مطرف، وابن الماجشون، وغيرهما، وهو قول مالك.
وقوله: (وقد سمى المسجد باسم الصَّلاة
…
) إلخ ممنوع، فإن صدر الآية:{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]، فالصوامع: صوامع الرهبان، والبِيَع: بِيَعُ النصارى، والصلوات: كنائس اليهود، وسميت بها؛ لأنَّ أصلها صلوتٌ
(1)
بالعبرانية، فعرِّبت، فذكرها تعالى بصيغة العبرانية؛ إلزامًا لهم، والمساجد: مساجد المسلمين.
وقوله: (يذكر
…
) إلخ صفة لـ {مَسَاجِدُ} خصت بها تفضيلًا على غيرها، فالمراد بالصلوات: الكنائس بدليل عطف المساجد عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ولأنَّ ذلك لغة العبرانية، فذكرت على لغتهم، فالاستدلال غير صحيح، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري» : (قال الشافعي: للجنب العبور في المسجد من غير لبث، كانت له حاجة أم لا)، وروي مثله عن الحسن وابن المسيب وأحمد، وعن الشافعي: له المكث فيه مطلقًا، واعتبروه بالمشرك، وتعلقوا بما روي عنه عليه السلام:«المؤمن لا ينجس» ، وروى سَعِيْد بن منصور في «سننه» عن عطاء:(رأيت رجالًا من الصحابة يجلسون في المسجد وعليهم الجنابة إذا توضؤوا للصلاة)، وحديث وفد ثقيف وإنزالهم في المسجد وأهل الصفة وغيرهم كانوا يبيتون في المسجد، وكان أحمد ابن حنبل يقول:(يجلس الجنب فيه ويمر فيه إذا توضأ) انتهى.
قلت: والأحاديث السابقة صريحة في المنع مطلقًا، سواء كان للعبور أو غيره، وسواء كان متوضئًا أو لا، فهي صريحة في العموم، واعتبارهم له بالمشرك غير صحيح؛ لأنَّه عندهم نجس حقيقي، فكيف يقَيْسونه
(2)
عليه وما هو إلا قياس مع الفارق؟
وقوله: (تعلقوا
…
) إلخ هذا لا يساعد مدَّعاهم؛ لأنَّ معناه: لا ينجس حقيقة بدليل أنه لو حمله إنسان وصلى معه؛ تصح صلاته، بل هو نجس معنًى؛ بحيث لا يجوز له دخول المسجد، ولا الصَّلاة، ولا قراءة القرآن.
وقوله: (وروى سَعِيْد
…
) إلخ هذا لا يصلح دليلًا لهم؛ لأنَّه موقوف على عطاء، وهو ليس بحجة عندهم على أنه يحتاج لإثبات كونهم عليهم جنابة؛ لاحتمال أنهم غير جنبين، و (حديث وفد ثقيف
…
) إلخ لا يدل لمدَّعاهم؛ لاحتمال أنهم لم تصبهم جنابة أصلًا وهو ممكن، ويحتمل أن هذا كله قبل ورود النهي، فهو منسوخ بالأحاديث الصريحة في النهي مطلقًا، كما قدمنا من أنه عليه السلام لم يأذن لأحد جنب وحائض أن يدخل المسجد مطلقًا، على أنَّه يكره النوم للمقيم الطاهر في المسجد، فغير الطاهر بالأولى أنه يمنع من دخوله، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
واختلف العلماء متى يقوم الناس إلى الصَّلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟ فذهب الإمام الأعظم والكوفيون: إلى أنَّ السنة أنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن: حي على الصَّلاة، فإذا قال: قد قامت الصَّلاة؛ كبر الإمام وهو قول سويد بن عقلة، وحمَّاد، وقَيْس بن أبي سَلَمَة، وقال الإمام زفر:(إذا قال المؤذن: قد قامت الصَّلاة؛ قاموا، وإذا قالها ثانيًا؛ افتتحوا)، وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، وقال مالك:(يشرع الإمام في الصَّلاة بعد فراغ المؤذن من الإقامة، وبداية استواء الصف)، وعندنا: يشرع الإمام عند التلفظ بقوله: قد قامت الصَّلاة، وذهب الشافعي: أنه لا يقوم أحد حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وبه قال أحمد، وتمامه في «عمدة القاري» ، والله أعلم.
(تابعه) أي: تابع عثمان بن عمر المتقدم (عبد الأعلى)؛ هو ابن عبد الأعلى السامي-بالسين المهملة، والميم-البصري، (عن مَعمَر)؛ بفتح الميم؛ هو ابن راشد، (عن الزُّهري)؛ هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، وهذه متابعة ناقصة، وهو تعليق من المؤلف، وهو موصول عند أحمد، عن عبد الأعلى، ووقع عند مسلم أن عثمان أيضًا تابعه عبد الله بن وهب متابعة تامة؛ فافهم.
(ورواه) أي: روى هذا الحديث عبد الرحمن (الأوزاعي، عن) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (الزُّهري) وروايته موصولة عند المؤلف في أوائل أبواب (الإمامة) كما سيأتي، فهو تعليق أيضًا، وزعم ابن حجر فقال:(ظن بعضهم أن السبب في التفرقة بين قوله: (تابعه) وبين قوله: (ورواه) كون المتابعة وقعت بلفظه، والرواية بمعناه، وليس كما ظن، بل هو من التفنن في العبارة) انتهى.
واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: أراد بقوله: (ظن بعضهم) : الكرماني، فإنه قال في «شرحه» : فإن قلت: لم قال أولًا: (تابعه)، وثانيًا:(رواه)؟ قلت: لم يقل: وتابعه الأزواعي، إمَّا لأنَّه لم ينقل لفظ الحديث بعينه،
(1)
في الأصل: (صلوتًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (يقيسوه)، وليس بصحيح.