الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الراوي، والمراد بالعصا: عود صغير طول ذراع فأكثر في غلظ الإبهام فأكثر، وإنَّما قلنا هذا؛ ليحصل الفرق [بين] العصا والعكازة؛ لأنها وإن كان الغالب فيها زج حديد إلا أنَّها تكون بدونه، وهي يعتمد عليها في المشي والقيام ونحوهما، بخلاف العصا، فإنَّه لا يعتمد عليها؛ لعدم قوتها فتنكسر؛ فافهم، (أو عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة والنُّون والزاي رواية الأكثرين، ففيه المطابقة للتَّرجمة، قال إمام الشَّارحين:(وفي رواية المستملي والحموي: «أو غَيْره»؛ بالغين المعجمة، وسكون التحتية، وبالرَّاء المهملة، فإن صح هذا؛ فليس فيه ما يطابق التَّرجمة، والضمير فيه يرجع إلى غير العكازة والعصا؛ والتقدير: أو غير كل واحد منهما) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ هذه الرواية تصحيف.
وردَّه الشَّارح، فقال:(كيف يكون تصحيفًا وهي رواية المستملي والحموي، فكأنَّ هذا القائل ارتكب هذا؛ لئلا يقال: إنَّ الحديث لا يطابق التَّرجمة) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ القاضي عياض قال: (الصَّواب: الرواية الأولى؛ لموافقتها للأمهات)، قال:(وبه يندفع الاعتراض، وقد يقال: إنَّ المطابقة حاصلة على هذه الرواية أيضًا؛ لأنَّ «أو غيره»؛ -أي: غير المذكور من العصا والعكازة- يشمل العنزة، أو هي في معنى أحد المذكورات) انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، وقول القاضي: (الصَّواب
…
) إلخ: لا يدفع هذا الاعتراض؛ لأنَّ فيه تسليم الرواية الثانية غاية ما فيه ترجيح الرواية الأولى، وهو غير دافع، على أنَّ المقرر عند المحدثين: أنَّ المستملي أحفظ الرواة، فكيف يقال فيه أنَّه مصحف مع رواية الحموي مثله؟ فالقول بأنَّهما تصحفا الرواية قول صادر من غير تأمل، ولا يعول عليه، ويجب اجتنابه.
وقوله: (وقد يقال
…
) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه على ما زعمه، وإن كان يشمل العنزة على بُعْدٍ، لكنه غير مذكور في الحديث، وعليه فلا يطابق التَّرجمة، كما لا يخفى على أنَّه أتى بالعكازة والعصا بالتنكير، وهو يدل على الجنس، فيكون قوله:(أو غيره) على الرواية الثانية؛ أي: غير المذكور من جنس العصا والعكاز، وهو لا يشمل العنزة، فلا يطابق.
وقوله: (أو هي
…
) إلخ: ممنوع أيضًا؛ لأنَّ كونها في معنى المذكورات هي العصا والعكاز نفسهما غير أنَّه يحتمل التخالف في أنواع الشجر؛ كالعود من الرمان، أو الزيتون، أو النخل، أو نحوها، وعليه فلا مطابقة للتَّرجمة أيضًا، وهذا صريح في تسليمه عدم المطابقة، وعلى كل حال العنزة على الرواية الثانية غير مذكورة قطعًا، فلا مطابقة فيه للتَّرجمة؛ فافهم.
(ومعنا إِدَاوة)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف الدَّال المهملة: إناء صغير من جلد؛ كالسطيحة مملوءة ماء، والجملة حالية أو مستأنفة (فإذا فرغ) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (من حاجته)؛ أي: البول والغائط؛ أي: قضائها؛ (ناولناه الإِداوة)؛ أي: ليتوضأ بالماء الذي فيها بعد استنجائه بالأحجار، ويحتمل أنَّه ليستنجي بالماء، والظَّاهر: الأول؛ لأنَّه عليه السلام من عادته الدوام على الوضوء؛ لمناجاة ربه، فلا يمكث على غير طهارة، وبقضاء حاجته انتقضت طهارته؛ فلذا أخذ الإداوة لأجل الوضوء، كما لا يخفى، واستظهر العجلوني تبعًا لابن الملقن الثاني تعصبًا، قال:(لأنَّ العادة في الوضوء الصب على اليد) انتهى.
قلت: هذا ممنوع؛ لأنَّ عادته عليه السلام أخذ الإداوة بيده، ويصب على الأخرى، فيجمع الماء فيها ويتوضأ، وهذه عادة شائعة عند الخاص والعام، وكون العادة في الوضوء الصب؛ ممنوع؛ لأنَّه فعل المترفهين المتكبرين لا يليق بالمتعبدين، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، ويدل عليه الحديث المرفوع:«أنا لا أستعين في وضوء بأحد» ، قاله عليه السلام لعمر بن الخطاب وقد بادر لصب الماء عليه؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (فيه الاستنجاء بالماء).
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا ليس بصريح؛ لأنَّ قوله: «فإذا فرغ من حاجته» يشمل الاستنجاء بالحجر، ويكون مناولة الماء لأجل الوضوء) انتهى.
قلت: وهذا هو الظَّاهر، كما قدمناه.
واعترضه العجلوني بأنَّه غير وارد؛ لأنَّه لم يدَّعِ الصراحة، انتهى.
قلت: ممنوع، بل هو وارد؛ لأنَّ اللَّفظ أعم شامل لكل منهما، وإن كان الظَّاهر الوضوء، وابن بطال لما جزم بقوله: (وفيه
…
) إلخ؛ دل هذا على دعواه الصراحة، على أنَّ إمامنا الشَّارح مراده أنَّ لفظ الحديث أعم، واقتصاره عليه دليل على أنَّه مدعي الصراحة؛ فافهم، ولا تغتر بكلام العجلوني، فإنَّه رأس المتعصبين؛ فاجتنبه.
وقال ابن بطال: (فيه: خدمة السلطان والعالم).
واعترضه الشَّارح، فقال:(حصره في الاثنين لا وجه له، والأحسن أن يقال: فيه خدمة الكبير) انتهى.
قال العجلوني: (تأمل قوله: «والأحسن» مع قوله: «لا وجه له») انتهى.
قلت: هذا القائل لم يقف على معاني الكلام، فإنَّ معنى قوله: (الأحسن
…
) إلخ؛ أي: الحسن والصَّواب، و (أفعل) التفضيل ليس على بابه، وليس في كلام ابن بطال حسن أصلًا؛ لأنَّه قاصر، والتعبير بالكبير هو الصَّواب؛ لأنَّه أعم وأشمل، وانظر تقديم السلطان على العالم، فإنَّ فيه سوء الأدب بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهم الحكام على السلاطين والأمراء، كما لا يخفى.
وفي الحديث: استحباب اتخاذ العنزة ونحوها مع قاضي الحاجة؛ لأجل أن ينبش بها الأرض الصلبة؛ لئلا يعود عليه شيء من الرشاش، ولأجل أن يركزها المصلي أمامه يستتر بها عن المارين كما فعله عليه السلام.
ومذهب الإمام الأعظم رئيس الأئمة المجتهدين: يستحب للمصلي أن يغرز سترة؛ لما تقدم من الأحاديث، وتكون طول ذراع فصاعدًا؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:«يجزئ من السترة قدر مؤخر الرحل، ولو بِدِقَّةِ شعر» ، رواه الحاكم على شرط الشيخين، وتكون في غلظ الإصبع؛ لأنَّه أدنى ما يظهر للناظر، والمقصود أن يظهر للمارين، وفي أقل من ذلكلا يحصل، وقوله عليه السلام:«ولو بدقة شعر» خرج مخرج النادر على سبيل المبالغة في وضع السترة، يدل عليه حديث:«ليستتر أحدكم ولو بسهم» ، فإن لم يجد ما ينصبه؛ فليَخُطَّ خطًّا بالعرض مثل الهلال؛ لما في السنن مرفوعًا:«إن لم يكن معه عصا؛ فليخط خطًّا» ، وقيل: يخط مدور كالمحراب، كما في «شرح النقاية» للقهستاني و «الإمداد» ، ومثله في «شرح المشكاة» لإمام المحدثين المنلا القاري.
وقال ابن بطال: (وقال مالك: أقل ما يجزئ المصلي من السترة غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قَدْر عظم الذراع، ولا يجيز الخط غير الشَّافعي) انتهى.
قلت: وحصره ممنوع، فإنَّ إمامنا الأعظم يقول به
كما قدمناه للحديث، وهو قول أحمد ابن حنبل كما صرح به صاحب «المنتهى» ، والسترة عنده؛ كما عند الحنفية والشَّافعية، وهو قول الثَّوري وعطاء، ومن المعلوم أنَّ الصلاة بدون سترة صحيحة، لكنها مكروهة؛ فانظر كيف حصر ابن بطال الجواز في الشَّافعي من عدم اطلاعه على الأحكام في المذاهب، وقدمنا الكلام عليه فيما سبق؛ فافهم.
(94)
[باب السترة بمكة وغيرها]
هذا (باب) حكم (السترة) المركوزة بين المصلى وبين الكعبة (بمكة وغيرها)؛ أي: من سائر الأماكن؛ لدرء المارين عنه، والمراد بالحكم الاستحباب؛ لحديث الباب.
قال إمام الشَّارحين: (إنَّما قيد بمكة؛ دفعًا لما يتوهم أنَّ السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة، وكل من يصلِّي في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا أن يصلِّي بمسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن لأحد المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة؛ إذ قبلة مكة سترة له، فإن صلى في مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه، أو في سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبهها؛ فينبغي له أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه، كما فعل الشَّارع حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة) انتهى.
[حديث: خرج رسول الله بالهاجرة فصلى بالبطحاء]
501 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب) بفتح المهملة، وسكون الرَّاء، ضد الصلح (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عتيبة -بالتصغير-، التَّابعي الصغير الكوفي، (عن أبي جُحيفة)؛ بِضَمِّ الجيم مصغرًا: هو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي (قال) وفي رواية: (يقول) : (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحتمل أنَّه من حجرته أو من مكة، وفي رواية تقدمت في باب (استعمال فضل وضوء الناس) : أنَّ خروجه كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح (بالهاجرة)؛ أي: في سفر؛ وهي وقت اشتداد الحر في وسط النهار، (فصلى بالبطحاء)؛ أي: بطحاء مكة، ويقال: الأبطح أيضًا، وهو خارج مكة (الظُّهر والعصر)؛ أي: أنَّه صلى الظُّهر أولًا، ثم دخل وقت العصر فصلاه؛ لأنَّ خروجه ووضوءه وصلاته الظُّهر يحتاج إلى مدة طويلة تستغرق وقت الظُّهر، فلما فرغ منها أو في أثنائها؛ دخل وقت العصر فصلاه، فليس فيه أنَّه جمع بينهما كما زعمه بعض الناس؛ لأنَّه مخالف لعادته عليه السلام؛ فافهم، وقوله:(ركعتين) : يتعلق بكل واحد من الظُّهر والعصر؛ أي: كل واحدة منهما ركعتين قصرًا للسفر، (ونَصَبَ)؛ أي: أمر أن ينصب، وفي نسخة: بالبناء للمفعول (بين يديه) بالتثنية؛ أي: أمامه (عَنَزَة)؛ بفتح المهملة والنُّون والزاي: أقصر من الرمح، وأطول من العصا، وفيها زُجٌّ كزج الرمح، وإنَّما صلى إليها؛ لأنَّه عليه السلام كان في الصحراء، فإنَّ الصلاة في المسجد الكبير لا تحتاج إلى سترة، غاية ما فيه أنَّه يحرم المرور في موضع سجوده، وحد المسجد: أن يكون أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا؛ فافهم.
(وتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، ويحتمل في هذه الواو أن تكون للحال، ويحتمل أن تكون للعطف، وعلى الثاني لا يقال: كيف نصب العنزة والوضوء قبل الصلاة؟ فكيف عكس؟ لأنَّا نقول: إنَّ الواو للعطف لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبًا، ولا تعقيبًا، ولا معية؛ كما هي الأصل، كما في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
…
}؛ الآية [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
…
}؛ الآية [آل عمران: 55]، وأمثال ذلك في الفصيح كثير، (فجعل الناس) أي: الصَّحابة (يتمسحون بوَضوئه)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنَّهم اقتسموه بينهم، أو كانوا يتناولون من الذي يتقاطر حين التوضؤ، والأول أظهر بالسياق، وإنَّما كان تمسحهم به؛ لأجل التَّبرك به؛ لكونه مس جسده الشَّريف المقدس، ففيه: بيان أنَّ الماء المستعمل طاهر، وعلى الأول فالماء طاهر مع ما حصل له من التَّشريف والبركة بوضع يده فيه، والتَّمسح تفعل، كأنَّ كل واحد منهم مسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى؛ كقوله تعالى:{يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17]؛ أي: يشربه جرعة بعد أخرى، أو هو من باب التكلف؛ لأنَّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعنَّى لتحصيله، ويتكلف بتناوله، كـ (تشجَّع) و (تصبَّر)، وجملة (يتمسحون) : في محل نصب خبر (جعل) الذي هو من أفعال المقاربة.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من قوله: (فصلى بالبطحاء)؛ لأنَّها في مكة، ولمَّا كان فضاء؛ نُصِب له بين يديه عنزة، فصلى إليها، وقد سبق في الباب قبله وفي باب (استعمال فضل وضوء الناس).
وفيه: التَّبرك بآثار الصالحين.
وفيه: استحباب وضع العنزة أمام المصلي في الصحراء؛ لدرء المارِّين.
قال ابن بطال: (المعنى في السترة للمصلي: دفع المارِّ بين يديه، فمن صلى في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة أو غيرها، ويكره له ترك ذلك) انتهى.
وزعم ابن حجر: (إنَّ الذي أظنه أنَّ البخاري أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق بـ «باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء»، ثم أخرج عن المطلب أنَّه قال: «رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم -أي: الناس- سترة»، وأخرجه أيضًا أصحاب «السنن»، وهو معلول وإن كان رجاله موثَّقين فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث، وأنَّه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، وهذا هو المعروف عند الشَّافعية، ولا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة: جواز ذلك في جميع مكة) انتهى.
قلت: وفيه نظر، فإنَّ المؤلف في بيان أحكام سترة المصلي، ومن جملة المصلين المصلي بمكة، فأشار بترجمته إلى دفع ما يتوهم أنَّ مكة لا يحتاج المصلي فيها إلى سترة؛ لقرب القبلة إليه، وأراد أنَّه لا فرق في وضع السترة بين مكة وغيرها.
وكونه أشار إلى ضعف الحديث؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يشر إليه في شيء، فهو بعيد عن النَّظر على أنَّه كيف يقول: رجاله موثَّقون، ويقول: إنَّه معلول، فهذا تناقض في الكلام والمعاني، وكون ما ذكره المعروف عند الشَّافعية، كذلك هو المعروف عند الأئمة الحنفية والمالكية، وإنَّما اغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين، لم يبين ما هم، ولعل وجهه أن المسجد كبير حينئذٍ لا يحتاج إلى سترة، أو أنهم يصلُّون في مكان من جهة القبلة بحيث لا سبيل للمارِّين إليه، وتعليله بالضرورة فيه نظر؛ إذ لا ضرورة فيه، والله أعلم.
(95)
[باب الصلاة إلى الأسطوانة]
هذا (باب) حكم (الصلاة) مطلقًا (إلى) جهة (الأُسْطُوانة) إذا كان في موضع فيه أُسطُوانة، وهي بِضَمِّ الهمزة والطاء المهملة، وسكون المهملة بينهما؛ وهي السارية، معرَّب أستون، قال إمام الشَّارحين: