الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلو زاد عليهما بتسليمة واحدة؛ جاز، وتصير الصلاة جميعها نفلًا، وتكفي عن التحية؛ لأنَّ المراد الصلاة، وقد حصلت؛ فافهم، (قبل أن يجلس)؛ فإذا جلس؛ هل تفوت أم لا؟ ومفهوم الترجمة: أنَّها تفوت، لكن هذا التقييد اتفاقي أغلبي، فإذا جلس؛ لا تفوت، فيصليهما، ولكن الأفضل فعلهما قبله، كما صرَّح بذلك أئمتنا الأعلام، وسيأتي بيانه، وقوله:(فليركع)؛ المراد به: فليُصلِّ؛ فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ فافهم، وقوله:(قبل أن يجلس) ثابت عند ابن عساكر، ساقط عند غيره.
[حديث: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس]
444 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل، المتوفى سنة ثمان عشرة ومئتين، وفي (يوسُف) : تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني (عن عامر بن عبد الله بن الزُّبَير)؛ بضمِّ الزاي، وفتح الوحدة: هو ابن العوام القرشي المدني أبو الحارث؛ بالمثلثة، كان عالمًا عابدًا (عن عَمْرو)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الميم (ابن سُلَيْم)؛ بضمِّ السين المهملة، وسكون التحتية (الزُّرَقي)؛ بضمِّ الزاي، وفتح الراء: هو الأنصاري المدني (عن أبي قَتادة)؛ بفتح القاف: هو الحارث -بالمثلثة- ابن رِبْعيٍّ؛ بكسر الراء، وسكون الموحدة، وبالعين المهملة، وبالتحتية المشددة (السَّلَمي)؛ بفتح السين المهملة واللام، كذا للأصيلي والجياني، وقال القاضي عياض:(أهل العربية يفتحون اللام؛ كراهة توالي الكسرات، وأمَّا الأكثرون من أصحاب الحديث؛ فضبطوها بكسر اللام؛ نسبة إلى سِلمة؛ بكسرها)، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفى بالمدينة سنة أربع وخمسين، قاله ابن الأثير، وقال في «التقريب» :(أبو قتادة الأنصاري: هو الحارث، ويقال: أبو عمرو، أو النعمان، بن ربعي بن بلدمة، السَّلَمي المدني، شهد أُحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا).
وقال إمام الشَّارحين: (وقال الدارقطني: رواه شيخ يقال له: سعيد بن عيسى، عن عبد الله بن إدريس، عن زكريا، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي قتادة، ولم يتابع عليه، وسعيد هذا ضعيف، وليس هو من حديث زكريا، ولا من حديث الشعبي، والمحفوظ قول مالك ومن تابعه: وقال سهيل بن أبي صالح، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم، عن جابر بن عبد الله؛ فَوَهِم بذكره جابرًا)، وقال الطوسي في «الأحكام» ، والترمذي في «الجامع» :(حديث سهيل غير محفوظ)، وقال علي بن المديني:(حديث سهيل خطأ)، وقال ابن ماجه:(رواه الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن عامر، عن أبي قتادة، وهو وهم) انتهى.
قلت: والحاصل: أنَّ سهيلًا
(1)
رواه عن جابر بدل عن أبي قتادة، وهو خطأ، والمحفوظ عن أبي قتادة؛ فافهم.
(أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد)؛ أي: وهو متوضئ، أو هو مُحدث، لكنه توضَّأ قبل جلوسه وبعده، كما سيأتي، و (أل) فيه للجنس؛ فيشمل كلَّ مسجد ولو مُصلَّى عيد وجنازة؛ (فليركع)؛ أي: فليصلِّ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، والأمر فيه ليس للفرض، بل للسنيَّة والاستحباب (ركعتين) تحية المسجد؛ فإنَّها حقُّ المسجد.
فإن قلت: الشرط: سبب للجزاء؛ فما السبب ههنا؟ هل هو الركوع، أم الأمر بالركوع؟
قلت: إن أريد بالأمر تعلُّق الأمر؛ فهو الجزاء، وإلا؛ فالجزاء هو لازم الأمر؛ وهو الركوع، والمراد من الركعتين: تحية المسجد، ولا يتأدَّى هذا بأقل من الركعتين؛ لأنَّ هذا العدد المفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح: اعتبارهما، قاله إمام الشَّارحين.
(قبل أن يجلس)؛ تعظيمًا للبقعة، فلو جلس؛ هل يشرع له التدارك أو لا؟ صرَّح أئمتنا الأعلام بأنَّها لا تفوت بالجلوس، فيصليها ولو جلس، ولكنَّ الأفضل فعلها قبله، ولهذا قال عامة العلماء: يصليها كلما
(2)
دخل، وقال بعضهم: يجلس ثم يقوم، فيصليها، ويدلُّ لما قلناه: ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» : عن أبي ذر قال: (دخلت المسجد؛ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فقال: «يا أبا ذر؛ إنَّ للمسجد تحيةً، وإنَّ تحيته ركعتان، فقم فاركعهما»، قال: فقمت، فركعتهما).
قال صاحب «البحر» : (وإذا تكرر دخوله؛ يكفيه ركعتان في اليوم، وقال في «الإمداد» : (وأداء الفرض ينوب عنها)، قاله فخر الدين الزيلعي، وذلك بأن دخل المسجد، فرأى القوم شرعوا في صلاة الفرض، أو قَرُب قيام القوم، وهو يريد الصلاة معهم، فإنَّه يصلي معهم، وتندرج التحية في الفرض وإن لم ينوِها، وصرَّح في «البدائع» : أن كل صلاة صلاها فقد حصَّل التحية، انتهى.
قلت: إلا أنَّه يُستثنى سجدة التلاوة، وصلاة الجنازة، فإنَّها لا تكفي؛ لأنَّها ليست
(3)
صلاةً حقيقية، وتكره التحية للداخل والخطيبُ على المنبر؛ لأنَّه ممنوع من الصلاة وقتئذٍ، وكذلك يكره فعلها عند إقامة الصلاة المكتوبة؛ لقوله عليه السلام:«إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة» ، رواه الشيخان، ولا تسنُّ لداخل المسجد الحرام؛ لاشتغاله بالطواف، واندراجها تحت ركعتيه، وإنَّما تسنُّ التحية إذا دخل في غير وقت كراهة، أما إذا دخل في الأوقات الثلاثة المنهي عن الصلاة فيها؛ فلا يصليها، بل يؤخرها؛ ولهذا قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي:(من دخل المسجد في أوقات النهي؛ فليس بداخل في أمره عليه السلام بالركوع عند دخوله المسجد) انتهى.
قلت: يعني: فإن الأمر لا يشملها؛ لأنَّ حديث الباب وإن كان مطلقًا
(4)
إلا أنَّه مقيَّد في الأحاديث غيره؛ ففي حديث عقبة بن عامر: (ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وحين تضيف
(5)
للغروب حتى تغرب)، رواه مسلم وغيره.
قال ابن حجر: (وهما عمومان تعارضا؛ الأمر بالصلاة لكل داخل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة؛ فلا بد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص الأمر وتعميم النهي، وهو قول الحنفية والمالكية، وذهب جمع إلى عكسه، وهو الأصحُّ عند الشافعية) انتهى.
قلت: وبقول الحنفية قالت الحنابلة، وقد يقال: إنَّ الأمر بالصلاة لكل داخل وإن كان مطلقًا
(6)
فهو محمول على المقيد في أحاديث
(7)
النهي؛ فليس فيهما عمومان، بل عموم واحد؛ وهو الأمر بالصلاة لكل داخل سوى الأوقات المنهية.
وقال ابن بطال: (اتفق أئمة الفتوى على أنَّ الأمر محمول على الندب، والاستحباب، والإرشاد، مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد؛ لما روي: أنَّ
(1)
في الأصل: (سهيل)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (كما).
(3)
في الأصل: (ليس).
(4)
في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
(5)
في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.
(6)
في الأصل: (مطلق)، وليس بصحيح.
(7)
في الأصل: (الأحاديث).
كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون)، وأوجب أهل الظاهر فرضًا على كلِّ مسلم داخل في وقت تجوز فيه الصلاة الركعتين، وزعم ابن حجر: واجب في كل وقت؛ لأنَّ فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له، انتهى.
قلت: وهو كلام فاسد الاعتبار؛ فإن الصلاة في الأوقات المنهي عنها ليس هو فعل خير، ألا ترى إلى قوله عليه السلام:«إنَّ الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت؛ فارقها، ثم إذا استوت؛ قارنها، فإذا زالت؛ فارقها، فإذا دَنَت للغروب؛ قارنها، فإذا غربت؛ فارقها» ، ونهى عن الصلاة في تلك الساعات، رواه مالك في «الموطأ» ، والنسائي، وغيرهما، ولا ريب أنَّ هذا دليل لا معارض له؛ لأنَّه قطعي، كما علم فيالأصول، وقال الحافظ الطحاوي: ويدلُّ لعدم الوجوب: قوله عليه السلام للذي رآه يتخطى: «اجلس، فقد آذيت» ، ولم يأمره بصلاة، انتهى.
واعترضه ابن حجر بأنَّ الأمر بالجلوس حتى لا يتخطى؛ فلا ينافي أنَّه يصلي في مجلسه، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء؛ فإنَّ أمره عليه السلام بالجلوس أعم من ألَّا يتخطى وألَّا يصلي في مجلسه؛ لأنَّه لو كان مراده الصلاة؛ لقال له عليه السلام: صلِّ مكانك، على أنَّ فيه أنَّه لم يأمره بالصلاة، فهو دليل واضح لما قلناه، فإنَّه لو كان الوقت وقت صلاة؛ لأمره بالصلاة، فقُدِّم ذلك دليل على أنَّه ليس بواجب عليه؛ فافهم.
وزعم ابن حجر معترضًا على ابن بطال بنقله الوجوب عن أهل الظاهر؛ فقال: الذي صرَّح به ابن حزم عدمه، انتهى.
قلت: ابن حزم-وإن كان لا يقول بالوجوب- لا ينافي أنَّه ليس واجبًا عند أهل الظاهر، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثبِت مُقدَّمٌ على النافي؛ فافهم.
واعلم أن حديث الباب قد ورد على سبب؛ وهو أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له:«ما منعك أن تركع؟» قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال:«فإذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين» ، أخرجه مسلم وغيره، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» من وجه آخر حسن عن أبي قتادة:«أعطوا المساجد حقَّها» ، قيل: يا رسول الله؛ وما حقها؟ قال: «ركعتين قبل أن تجلس» ، وزاد أبو أحمد الجرجاني:(وإذا دخل بيته؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيرًا)، لكن قال:(وإسناده منكر)، ونقل أبو محمد الإشبيلي عن البخاري: أن هذه الزيادة لا أصل لها، وأنكر ذلك ابن قطان، وزعم أنَّه لا يصحُّ نسبته إليه، وروى ابن حبان في «صحيحه» حديث التحية عن أبي قتادة يرفعه بزيادة:(قبل أن يجلس أو يستخير)، قال العجلوني:(ولينظر معنى: «أو يستخير») انتهى.
قلت: معناه: قبل أن يستخير موضعًا لصلاته وجلوسه؛ لأنَّ الداخل في المسجد ينظر موضعًا يكون نظيفًا خاليًا عن الزحمة وغيرها، فأمره عليه السلام قبل أن يجلس أو يستخير موضعًا لصلاته المفروضة ولجلوسه: أن يركع ركعتين، هذا ما ظهر لي، والعلم عند الله.
وقال السفاقسي: (وفقهاء الأمصار حملوا الأمر في الحديث على الندب؛ لقوله عليه السلام للذي سأله عن الصلوات الخمس: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع»، ولو قلنا بوجوب الركعتين؛ لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل بذلك، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء؛ لزم منه أنَّه لا يجب عليه سجودهما، فإن قصد دخول المسجد ليصلي فيه في الأوقات المكروهة؛ فلا يجوز له ذلك عند الشافعي)، وردَّه النووي فقال:(هي سنة بالإجماع؛ فإن من دخل في وقت كراهة؛ يكره له أن يصليهما في قول أبي حنيفة وأصحابه، وحكي ذلك عن الشافعي، والصحيح: أنه لا كراهة) انتهى.
قلت: وفي دعواه الإجماع نظر، فقد قال القاضي عياض: وظاهر مذهب مالك: أنَّهما من النوافل، وقيل: من السنن، فإذا دخل مجتازًا؛ فهل يؤمر بهما؟ خفف مالك في ذلك، وعن بعض أصحابه: أنَّ من تكرَّر دخوله المسجد سقطتا عنه، انتهى، وهذا يدلُّ على أنَّها ليست سنة، فأين الإجماع؟!
واستدلَّ ابن حجر بقوله: (قبل أن يجلس) على أنَّه إذا خالف وجلس؛ لا يشرع له التدارك، ونقله القسطلاني عن جماعة من الشافعية.
قلت: وردَّه إمام الشَّارحين بما رواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي ذر: (أنَّه دخل المسجد، فقال له النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «أركعت ركعتين؟» فقال: لا، قال: «قم فاركعهما»)، وترجم عليه ابن حبان:(باب تحية المسجد لا تفوت بالجلوس)، وقال الطبري:(يحتمل أن يقال: فِعلُهما قبل الجلوس فضيلة، وبعده جواز، ويحتمل أن يقال: فعلهما قبله أداء، وبعده قضاء، ويحتمل أنَّ مشروعيتهما بعد الجلوس إذا لم يَطُل الفصل) انتهى.
قلت: الاحتمال الأول هو الصواب، أمَّا الثاني؛ ففيه نظر؛ لأنَّ النفل لا يوصف بأداء ولا قضاء، فإذا فات وقت النافلة؛ لا تقضى، وأمَّا الثالث؛ ففيه نظر أيضًا؛ لأنَّ ظاهر الأحاديث أن مشروعيتهما من وقت الدخول، ويستمر إلى ما بعد الجلوس إلى أن يؤديها أو يصلِّي فريضة أو نافلة غيرها، أو يخرج من المسجد، وقال فقهاؤنا الأعلام: ومن دخل المسجد ولم يتمكن من صلاة التحية؛ فليقل أربع مرات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنَّها الباقيات الصالحات، وصلاة الحيوانات والجمادات.
ويكره دخول المسجد على سبيل المرور من غير صلاة؛ فإن اضطرَّ إلى ذلك؛ فلينو الاعتكاف ويدخل، فإنَّه يجوز وإن لم يجلس؛ لأنَّ بوضع القدم على الأرض يحصل ذلك، فإنَّ أدنى الاعتكاف لحظة من الزمن، وهي فائدة عظيمة تخفى على كثير ممن يدَّعي العلم، وأمَّا الجلوس في المسجد للمحدث [حدثًا] أصغر؛ فيجوز إجماعًا ولو لغير غرض، ولا كراهة فيه، وحديث:«إنما بُنِيت المساجد لذكر الله» ؛ فضعيف، وهذا بخلاف ما يفعله أهل زماننا من الجلوس في المسجد والتكلم بكلام الناس مع الغيبة وغيرها؛ فحرام قطعًا؛ لأنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات؛ كما تأكل النار الحطب، كما ورد في الحديث، فهذا في المباح، فما بالك في الغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(61)
[باب الحدث في المسجد]
هذا (باب) حكم (الحدث) الحاصل (في المسجد)