الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(و) الثاني منها: (من أحب عبدًا) وفي الرواية السابقة: (أن يحب المرءَ)(لا يحبه إلا لله) زاد في رواية: عز وجل (و) الثالث منها: (من يكره أن يعود) أي: العود (في الكفر بعد إذ أنقذه الله)؛ أي: خلَّصه ونجَّاه، زاد في رواية:(منه)(كما يكره أن يلقى في النار) وفي الرواية السابقة: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف فيالنار)، ولا تكرير في سياق الحديث هنا؛ لأنَّ المبوّب له حلاوة الإيمان فيما سبق، وهنا المحبة لله وكراهة الكفر؛ فتأمل، وفيه دليل واضح لإمامنا الإمام الأعظم ومَن قال بقوله، على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنَّما الذي يزيد وينقص ثمراته، مثال ذلك: أن المؤمن الفاسق بارتكابه المعاصي إيمانه كإيمان العالم، لكن الفاسق لا يجد حلاوته؛ بسبب ارتكابه المعاصي، وأما العالم؛ فيجد حلاوته؛ بسبب امتثاله أوامر الله تعالى، وذلك كالبيضة الفضة التي عليها الوسخ فإنَّها سوداء، فإذا جُليت مرة؛ تضيء شيئًا قليلًا، وفي المرة [الثانية] يظهر نورها أكثر من الأول
…
؛ وهكذا، فالإيمان كالفضة، وظهور نوره وحلاوته بأداء الطاعات، وعدم ذلك بارتكاب المعاصي، كما لا يخفى على من له أدنى حظٌّ في العلم؛ فليُحفظ.
(15)
[باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال]
(باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) التي هي ثمرات الإيمان، فالتفاضل الحاصل بسبب الأعمال، وسقط لفظ (باب) عند الأصيلي.
[حديث: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار]
22 -
وبه قال: (حدَّثنا إسماعيل) بن أبي أويس بن عبد الله الأصبحي المدني، ابن أخت الإمام مالك، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين، وقد تُكُلِّم فيه؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه الله، (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس، (عن عمرو بن يحيى) بن عمارة -بفتح العين عَمرو- (المازني) المدني، المتوفى سنة أربعين ومئة، (عن أبيه) يحيى، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخُدري) بالدال المهملة رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه (قال: يدخل أهل الجنة الجنة)؛ أي: فيها، وعبر بالمضارع العاري عن سين الاستقبال المتمحض للحال؛ لتحقق وقوع الإدخال، (و) يدخل (أهل النار النار)؛ أي: فيها، (ثم) بعد دخولهم فيها (يقول الله تعالى) وفي رواية: عز وجل، للملائكة:(أخرجوا)؛ بهمزة قطع مفتوحة: أمر من الإخراج، زاد في رواية:(من النار)(مَن) أي: الذي (كان في قلبه) زيادة على أصل التوحيد (مثقال حبة) وقد جاء في «الصحيح» بيان ذلك، ففي رواية فيه:«أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن كذا» ، ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد.
قال الإمام القاضي عِياض: هذا هو الصحيح؛ لأنَّ معنى الخير هنا أمر زائد على الإيمان؛ لأنَّ مجرَّده لا يتجزَّأ، وإنما ينجزئ الأمر الزائد عليه؛ وهي الأعمال الصالحة؛ من ذكر خفي، أو شفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، ونية صادقة في عمل؛ كذا في «عمدة القاري» ، وهذه الجملة محلها النصب مفعولَ (أخرجوا) و (مَن) موصولة، وقوله: (كان في
…
) إلى آخره صلتها، و (مثقال حبة) كلام إضافي مرفوع؛ لأنَّه اسم (كان)، وخبره قوله:(في قلبه) مقدَّمًا، ويجوز أن يكون (اخرجوا) بضم الهمزة من الخروج، وعليه يكون (مَن) منادى حذف منه حرف النداء، والتقدير: اُخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة، (من خردل من إيمان)؛ بالتنكير؛ لأنَّ المقام يقتضي التقليل، والقلة هنا: باعتبار انتفاء الزيادة على ما يكفي، لا لأنَّ الإيمان ببعض ما يحب الإيمان به كافٍ؛ لأنَّه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية:(من الإيمان) بالتعريف.
وهذا قوله: (من خردل من إيمان)، من باب التمثيل، فيكون عيارًا في المعرفة وليس عيارًا في الوزن؛ لأنَّ الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل، لكن ما يشكل من المعقول قد يُرَدُّ إلى عيار محسوس؛ ليُفهم، ويُشبَّه به؛ ليُعلم، والتحقيق فيه: أن يُجعل عمل العبد وهو عرَض في جسم على مقدار العمل عنده تعالى، ثم يُوزن، ويدلُّ عليه ما جاء مبينًا في قوله:(وكان في قلبه من الخير ما يزن برة)، أو تُمثَّل الأعمال بجواهر؛ فتُجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، أو الموزون الخواتيم، فإن كانت خاتمة عمله حسنًا؛ جوزي بخير، وإن كانت خاتمة عمله شرًّا؛ جُوزي بشر.
وذكر القاضي عياض: أن المعنى في قوله: (من إيمان) ومن خير وما جاء منه؛ أي: من اليقين، إلَّا أنَّه قال: المراد الثواب؛ أي: ثواب الإيمان الذي هو التصديق، وبه يقع التفاضل، فإن أتبعه بالعمل؛ عظم ثوابه، وإن كان على خلاف ذلك؛ نقص ثوابه، فإن قيل: كيف تعلمون
(1)
ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان ومقداره؟ قلت: لعله بعلامات؛ كما يعلمون أنهم من أهل التوحيد؛ كذا في «عمدة القاري» .
قال القسطلاني: قال الغزالي: من أيقن بالإيمان وحال بينه وبين النطق به الموت؛ فهو ناج مستدلًا بقوله: (أخرجوا
…
) إلى آخره، وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه؛ فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فلا يخلد في النار، ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله:(في قلبه) فيقدر فيه محذوف تقديره: منضمًا إلى النطق به مع القدرة عليه.
ومنشأ الاحتمالين: الخلاف في أن النطق بالإيمان شطر، فلا يتم الإيمان إلَّا به؛ وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط؛ وهو مذهب جمهور المحققين؛ وهو اختيار الشيخ الإمام أبي منصور، والنصوص معاضدة لذلك، قاله المحقق الثاني سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى.
(فيخرجون منها)؛ أي: من النار حال كونهم (قد اسودوا)؛ أي: صاروا سودًا من تأثير النار (فيُلقون)؛ بضم المثناة التحتية: مبنيًّا للمفعول (في نهر الحيا) بالقصر، وفي رواية: بالمد، قيل: ولا معنى له؛ أي: المطر (أو الحياة) بالمثناة الفوقية آخره؛ وهو النهر الذي مَن غُمس فيه حيي، وهو غير الكوثر، كما لا يخفى، (شك مالك) وفي رواية:(يشك) بالمثناة التحتية أوله؛ أي: في أيهما الرواية، وجملة (شك) اعتراض بين قوله:(فيلقون في نهر الحياة) السابق، وبين لاحقه؛ وهو قوله:(فينبتون) ثانيًا (كما تنبت الحِبة)؛ بكسر المهملة وتشديد الموحدة؛ أي: كنبات بزر العشب، فـ (أل) للجنس أو للعهد، والمراد: البقلة الحمقاء؛ لأنها تنبت سريعًا، (في جانب السيل، ألم تر) خطابٌ لكل من يأتي منه الرؤية (أنها تخرج) حال كونها (صفراء) تسر الناظر، وحال كونها (ملتوية) متمثلة منثنية، فالتشبيه؛ من حيث الإسراع والحسن، والمعنى: من كان في قلبه مثقالُ حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متنجدًا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذٍ فيتعين كون (أل) في الحبة للجنس؛ كذا قيل؛ فتأمل.
وبه قال: (قال وُهَيب)؛ بضم أوله، وفتح ثانيه مصغَّرًا، آخره موحدة: ابن خالد بن عجلان الباهلي البصري: (حدثنا عمرو)؛ بفتح العين: ابن يحيى المازني السابق: (الحياةِ) بالجر على الحكاية؛ وهو موافق لمالك في روايته لهذا الحديث، عن عمرو بن يحيى بسنده، ولم يشك كما شك مالك أيضًا.
(وقال) وهيب أيضًا في روايته: مثقال حبة من (خردل من خير) بدل من إيمان، فخالف مالكًا في هذه اللفظة؛ وهذا من تعاليق المؤلف، أخرجه في (الرقاق)، وفيه الرد على المرجئة القائلين: بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، فلا يدخل النار العاصي، وعلى المعتزلة القائلين بأن المعاصي موجبة للخلود في النار.
[حديث: بينا أنا نايم رأيت الناس يعرضون علي]
23 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن عبيد الله) مصغرًا: ابن محمد بن زيد القرشي الأموي المدني، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة، التابعي، المدني، المتوفى ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومئة، (عن صالح) أبي محمد بن كيسان الغفاري المدني التابعي، المتوفى بعد أن بلغ من [العمر] مئة وستين سنة، وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين، (عن ابن شهاب) : هو الزهري (عن أبي أُمامة)؛ بضم الهمزة: أسعد المختلَف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذُكر في الصحابة لشرف الرؤية (بن سهل) وفي رواية: زيادة: (ابن حُنيف)؛ بضم المهملة، المتوفى سنة مئة عن نيف وتسعين سنة:(أنه سمع أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه حال كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا)؛ بغير ميم، أصله:(بين)؛ أشبعت الفتحة فصارت ألفًا، (أنا نائم؛ رأيت الناس) من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤيا البصرية فتطلب مفعولًا واحدًا؛ وهو (الناس)، وحينئذٍ فيكون قوله:(يعرضون علي) جملة حالية، أو علميَّة من الرأي، وحينئذٍ فتطلب مفعولين؛ وهما:(الناس يعرضون علي)؛ أي: يظهرون لي، (وعليهم قُمُص)؛ بضم الأَوَّلَين جمع (قميص) والواو للحال، (منها)؛ أي: من القمص (ما)؛ أي: الذي (يبلغ الثُّدِيَّ)؛ بضم المثلثة، وكسر المهملة، وتشديد المثناة التحتية: جمع (ثدي)، يذكر ويؤنث للمرأة والرجل، والحديث يردُّ على خَصِّه بالمرأة، وهو منصوب مفعول (يبلغ)، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وفي رواية:(الثَّدْي) بفتح المثلثة وإسكان الدال، (ومنها)؛ أي: من القمص (ما دون ذلك)؛ أي: لم يصل للثدي لقصره.
(وعُرِض علي)؛ بضم العين وكسر الراء: مبنيًّا للمفعول (عمر بن الخطاب) بالرفع نائب عن الفاعل، رضي الله تعالى عنه (وعليه قميص يجرُّه)؛ لطوله (قالوا)؛ أي: الصحابة، وفي رواية: قال؛ أي: عمر بن الخطاب أو غيره (فما أوَّلتَ)؛ أي: فما عبَّرت
(1)
في الأصل: (تعملون).
(ذلك يا رسول الله؟ قال) عليه السلام: أولت (الدينَ)؛ بالنصب: معمول (أولت).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (يلزم من الحديث أن يكون عمر أفضل من الصدِّيق؛ لأنَّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان دينه أكثر؛ فثوابه أكثر، وهو خلاف الإجماع، قال: قلت: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، وعلى تقدير الحصر؛ فلم يخص الفاروق بالثالث ولم يقصره عليه، ولئن سلمنا التخصيص؛ فهو معارَض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصدِّيق، فلا تعارضها الآحاد، ولئن سلمنا التساوي بين الدليلين؛ لكن إجماع أهل السنة والجماعة على أفضليته، وهو قطع، فلا يعارضه الظني، وقد أنكر ذلك الشيعة والخوارج، قلنا: لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال، والأصل إجماع أهل السنة والجماعة) انتهى.
وفي الحديث: التشبيه البليغ؛ وهو تشبيه الدين بالقميص؛ لأنَّه يستر العورة، وكذلك الدين يستره من النار، وفيه التفاضل في أهل الإيمان بالأعمال، والله أعلم.
(16)
[باب الحياء من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين: (الحياءَ) بالمد والرفع، مبتدأ، خبره (من الإيمان)، وحديثه سبق، وفائدة سياقه هنا: أنه ذكر الحياء هناك بالتبعية وهنا بالقصد، مع فائدة تغاير الطريق، أفاده في «عمدة القاري» .
[حديث: دعه فإن الحياء من الإيمان]
24 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي السابق (قال: أخبرنا)، وفي رواية:(حدثنا)(مالك) وفي رواية: (مالك بن أنس)، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، التابعي، المتوفى بالمدينة سنة ست ومئة، (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) أي: اجتاز (على رجل من الأنصار وهو) أي: حال كونه (يعظ أخاه) من الدين، والرجلان لم يسمَّيا (في) شأن (الحياء) بالمد؛ وهو تغير وانكسار يحصل عند خوفِ ما يُعاب أو يذم، وهو من خصائص الإنسان، والوعظ: النصح، والتخويف، والتذكير، ومعناه كما قال التميمي: الزجر؛ أي: يزجره ويقول له: لا تستحي؛ لأنَّه كان كثير الحياء، وذلك يمنعه من استيفاء حقه، فوعظه أخوه على ذلك، ووقع هنا كلام بين ابن حجر وإمامنا الشيخ بدر الدين العيني في الرواية؛ كما بينه القسطلاني.
(فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه)؛ أي: اتركه على حيائه، (فإن الحياء من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعب الإيمان، فـ (مِن) للتبعيض؛ كما مر، فالحياء يمنع من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسُمِّي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.
فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان، فإذا انتفى الحياء؛ انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان؛ انتفت
(1)
حقيقة الإيمان؛ فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عن من لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر.
قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة الإيمان؛ لأنَّ المعنى: فإنَّ الحياء من مكملات الإيمان، وفي الكمال لا يستلزم الحقيقة، نعم؛ الإشكال قائم على قول من يقول: الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون؛ كما قدمناه، أفاده في «عمدة القاري» .
(17)
[باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}]
(باب) بالتنوين والإضافة كما في «فرع اليونينية» ، قال ابن حجر: والتقدير: (بابٌ في تفسير قوله)، و (بابُ تفسير قوله)، ونظر فيه إمامنا الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن المصنف لم يضع الباب لتفسير الآية، بل غرضه بيان أمور الإيمان، وبيان أن الأعمال من الإيمان، مستدلًّا على ذلك بالآية والحديث، فـ (باب) بمفرده لا يستحق إعرابًا؛ لأنَّه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلَّا بعد العقد والتركيب، اهـ، وقد سلمه القسطلاني؛ فليحفظ.
({فَإِن تَابُوا})؛ أي: المشركون عن شركهم بالإيمان، ({وَأَقَامُوا}) أي: أدوا ({الصَّلاةَ}) على وجهها المعهود، ({وَآتَوُا الزَّكَاةَ}) أعطوها؛ ({فَخَلُّوا}) أي: أطلقوا ({سَبِيلَهُمْ})[التوبة: 5] جواب شرط؛ أعني: {فإن تابوا} ، والمعنى: كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم؛ لأنَّهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى الإسلام وشرائعه، وفيه الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير محتاج إلى الأعمال.
[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله]
25 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد)؛ أي: ابن عبد الله، زاد في رواية:(المُسنَدي)؛ بضم الميم وفتح النون؛ وقد مر، (قال: حدثنا أبو رَوْح)؛ بفتح الراء وسكون الواو، واسمه (الحَرَمِي)؛ بفتح الحاء والراء المهملتين، وكسر الميم، وتشديد المثناة التحتية بلفظ النسبة، تثبت فيه (أل) وتحذف، وليس نسبة إلى الحرم؛ كما تُوُهِّم، (بن عُمارة)؛ بضم العين المهملة وتخفيف الميم؛ ابن أبي حفصة نابت؛ بالنون، العتكي البصري، المتوفى سنة إحدى وثمانين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن واقد بن محمد) بالقاف، زاد في رواية:(يعني: ابن زيد بن عبد الله بن عمر)، (قال: سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله (يحدث عن ابن عمر) بن الخطاب، عبد الله رضي الله عنهما، فواقد روى هنا عن أبيه عن جد أبيه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت)؛ بضم الهمزة، مبنيٌّ لما لم يُسم فاعله (أنْ)؛ أي: أمرني الله تعالى بأن (أقاتل الناس)؛ أي: بمقاتلة الناس؛ وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بـ (الناس) : المشركون، ويدل له رواية النسائي بلفظ:«أمرت أن أقاتل المشركين» ، أو المراد: أهل الكتاب (حتى) أي: إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، والتصديق بالرسالة يتضمن التصديق بكل ما جاء به، (و) حتى (يقيموا الصلاة)؛ أي: يؤدوها بشروطها، (و) حتى (يؤتوا الزكاة)؛ أي: يعطوها لمستحقها.
وفي (الجهاد) الاقتصار على قول: (لا إله إلا الله)، قاله وقت قتاله للمشركين الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما حديث الباب؛ ففي أهل الكتاب المُقرِّين به الجاحدين لنبوته، وأما في (أبواب القِبلة) :«وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قِبلتَنا، وذبحوا ذبيحتنا» ؛ ففي مَن دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتَلوا حتى يرجعوا.
(فإذا فعلوا ذلك) أو أعطوا الجزية، وأطلق الفعل على القول؛ لأنَّه فعل اللسان أو من باب التغليب؛ (عصموا)؛ أي: حفظوا ومنعوا (مني دماءهم وأموالهم)، فلا تُهدر دماؤهم، ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإسلام (إلا بحق الإسلام) مِنْ قتْلِ نفس، أو حدٍّ، أو غرامة، (وحسابهم) بعد ذلك (على الله) في أمر سرائرهم، وأما نحن؛ فإنَّما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، وأما أمور الآخرة؛ فمفوَّضٌ إلى الله، ولفظة (على) مشعرةٌ بالإيجاب؛ فظاهره غير مراد، فإما أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع، لا أنَّه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين: بوجوب الحساب عقلًا، واقتُصر على الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الأولى بدنيَّة عماد الدين، والثانية مالية قنطرة الإسلام.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها بترك فرض واحد؛ يُقتل حدًّا، وهو مذهب الشافعي، وفيه أنه لا يصح الاستدلال؛ لأنَّ المأمور فيه هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأنَّ المفاعلة تستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولم يقل: مانع الزكاة، مع أن الحديث يشمله، ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين: أن تارك الصلاة يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل.
(18)
[باب من قال: إنَّ الإيمان هو العمل]
(باب) مضاف إلى ما بعده، ولا يجوز غيره، وارتفاعه؛ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب (من قال: إنَّ الإيمان هو العمل) ردًّا على المرجئة القائلين: بأن الإيمان قول بلا عمل (لقوله تعالى) وفي رواية: عز وجل : ({وَتِلْكَ}) مبتدأ، خبره قوله:({الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا})؛ أي: صُيِّرت لكم ميراثًا، فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء؛ لتحقق الاستحقاق، أو المورِّث الكافر وكان له نصيب منه؛ ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن، ({بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}) [الزخرف: 72]؛ أي: تؤمنون، و (ما) مصدرية؛ أي: بعملكم، أو موصولة؛ أي: بالذي كنتم تعملونه، و (الباء) للملابسة؛ أي: أورثتموها ملابسة لأعمالكم؛ أي: لثوابها، أو للمقابلة؛ نحو: أُعطيت الشاة بالدرهم، ولا تنافي بين ما في الآية وبين حديث:«لن يدخل أحد الجنة بعمله» ؛ لأنَّ المثبَت في الآية: الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقبول من رحمة الله، فرجع الأمر إلى أن الدخول برحمته تعالى.
(وقال عِدَّة)؛ بكسر العين وتشديد الدال؛ أي: عدد (من أهل العلم) كأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومجاهد، (في قوله تعالى) وفي رواية: عز وجل : ({فَوَرَبِّكَ}) يا محمد ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ})؛ أي: المقتسمين، وجواب القسم مؤكدًا باللام ({أَجْمَعِينَ}) [الحجر: 92] تأكيد للضمير في {لَنَسْأَلنَّهُمْ} مع الشمول في إفراد المخصوصين ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93]؛ عن لا إله إلا الله) وفي رواية: (عن قول: لا إله إلا الله).
قال النووي: المعنى: لنسألنَّهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، اهـ.
قلت: وردَّ عليه ابن حجر في «فتحه» ، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وحاصله: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تُقبل؛ لأنَّ الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، فإن استدل بحديث الترمذي؛ فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله:(أجمعين) حتى يدخل فيه المسلم
(1)
في الأصل: (انتفى).