الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يتذكروا عبادته، فيجتهدوا في العبادة.
وقال القرطبي: (وذكر أنَّها صور الأنبياء عليهم السلام والعلماء، وكانت تصوَّر في المساجد؛ ليراها الناس؛ فيزدادوا عبادة واجتهادًا).
(أولئكَِ)؛ بكسر الكاف وفتحها (شِرار الخلق عند الله)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع (الشر)؛ كالخيار جمع (الخير)، والتجار جمع (التجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس:(واحدها شر)، أيضًا قال الأخفش:(شرِّير مثل يتيم وأيتام).
قال القرطبي: (إنَّما صوَّروا أوائلهم الصور؛ ليتأنَّسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة؛ فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف وجهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّأسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسد الذرائع في قبره عليه السلام.
وكان ذلك في مرض موته؛ إشارة إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينسخ بعده، ولمَّا احتاجت الصَّحابة والتَّابعون رضي الله عنهم إلى زيادة مسجده عليه السلام؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصلِّ إليه العوام، فيؤدِّي إلى ذلك المحذور، ثمَّ بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرَّفوهما حتى التقيا، حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور»؛ لأنَّ الباب معقود في الصلاة في البيعة، وقد مرَّ أنَّها تكره الصلاة في البيعة إذا كانت فيها الصور) انتهى.
وزعم العجلوني والقسطلاني تبعًا لابن حجر أن وجه المطابقة في قوله: (بنوا على قبره مسجدًا)؛ فإن فيه الإشارة إلى نهي المسلم عن أن يصلي في الكنيسة؛ فيتخذها بصلاته مسجدًا، انتهى.
قلت: وهو قاصر؛ لأنَّ الباب معقود؛ لبيان جواز الصلاة في البيعة، مع عدم الكراهة إذا لم يكن فيها صور، وليس المراد منه النهي عن أن يتخذ المسلم الكنيسة بصلاته مسجدًا، فإنَّه لو كان كما قالوا؛ فلا دلالة في الحديث على الترجمة، فما قاله إمام الشَّارحين هو الصواب.
وفي الحديث: كراهة الصلاة في الكنيسة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومثلها البيعة، وبه قال الشافعية، وزعم الحنابلة أنَّ الصلاة غير مكروهة، والحديث حجة عليهم، وفيه النهي عن فعل التصاوير، وأنَّه حرام، سواء كان في حيوان أو غيره.
وفيه: منع بناء المساجد على القبور، وفيه: ذم فاعل المحرمات، وفيه: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: أنَّ الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل.
ومقتضى الأحاديث تدل على أنَّ الصور ممنوعة، ثم جاء:(إلا ما كان رقمًا في ثوب)؛ فخُصَّ من جملة الصور، ثم تثبت الكراهة فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب:«أخِّريه عني» ، وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» : وهو يدلُّ على المنع من التصوير بشيء؛ أي شيء كان، ويستثنى من ذلك لعب البنات؛ لما ثبت عن عائشة: أنَّه عليه السلام تزوجها وهي بنت سبع
(1)
، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع، ولُعَبُها معها، ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة، وعنها أيضًا قالت:(كنت ألعب بالبنات عند النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان عليه السلام إذا دخل؛ يتقمعن منه، فيسريهن إلي؛ فيلعبن معي) أخرجهما مسلم في «صحيحه» ، قال العلماء: وذلك للضرورة الداعية إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن، انتهى.
قلت: هذا أمر باق إلى يومنا هذا؛ فإن البنات يجعلن شيئًا من الخروق وغيره، ويجعلنه كالبنات ويلعبن فيه البنات؛ فهو مستثنًى من النهي للحاجة، والله تعالى أعلم.
(55)[باب....]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ثابت لأكثر الرواة، ساقط في رواية الأصيلي، ولم يذكر له ترجمة عند من أثبته، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وله تعلُّق بذاك، ووجه تعلُّقِه أنَّ كلًّا منهما مشتمل على الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، والتصوير مذكور هناك، وههنا يشير إلى أن اتخاذ القبور مساجد مذموم، سواء كان فعل ذلك بصور أم لا، كذا قرره إمام الشَّارحين.
[حديث: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]
435 -
436 - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليَمان)؛ بفتح التحتية: هو الحَكَم-بفتحتين- ابن نافع الحمصي، البهراني، مولى امرأة من بهراء، المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين (قال أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة؛ بالمهملة، والزاي، دينار القرشي، الأموي، مولاهم: أبو بشر، (عن الزهري) هو محمد بن مسلم ابن شهاب المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عتْبة) بسكون الفوقية، هو ابن مسعود:(أن عائشة)؛ بفتح الهمزة، هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (وعبد الله بن عبَّاس) بالنصب عطفًا على عائشة رضي الله عنهم (قالا) بالتثنية:(لما نزل)؛ بفتحتين، على صيغة المعلوم، في رواية أبي ذر، وفاعله محذوف؛ أي: الموت، وفي رواية غيره: بضمِّ النون، وكسر الزاي على صيغة المجهول.
وقوله: (برسول الله صلى الله عليه وسلم نائب فاعل، والنزلة كالزكام، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ في تمثيله بالزكام سوء أدب في حقه عليه السلام؛ لأنَّه يلزم منه نزول أنفه عليه السلام، فربما يأنف منه من رآه، فيقع في محظور، وإنَّما النزلة مثل وجع رأس، أو ظهر، أو قلب، مما لم ينفر من رآه؛ فافهم.
وقوله: (طفِق) جواب (لمَّا) وهي بكسر الفاء، وقد تفتح
(2)
، وقد تبدل باء موحدة.
قال إمام الشَّارحين: (وهو من أفعال المقاربة: وهي على ثلاثة أنواع؛ منها: ما وضع للدلالة على الشروع في الخبر، وأفعاله: أنشأ وطفق وجعل وعلق واحد، وتعمل هذه الأفعال عمل كان إلا أن خبرهن يجب كونه جملة، وحكى الأخفش طَفَق يَطْفِق، مثل ضرَب يضرِب
(1)
في الأصل: (تسع)، والمثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (تكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.
وطَفِق يَطْفَق، مثل علِم يعلَم، ولم يستعمل له اسم فاعل، واستعمل له مصدرًا، حكى الأخفش: طفوقًا؛ عمن قال: طَفق بالفتح، وطِفقًا بالكسر، ومعناه ههنا: جعل) انتهى.
قلت: واسمها عائد للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخبرها جملة قوله:(يطرح خميصة)؛ بالنصب مفعول (يطرح)؛ وهي كساء له أعلام، أو علمان أسود مربع (له) جار ومجرور محله النصب صفة لـ (خميصة) (على وجهه) متعلق بقوله: يطرح، (فإذا اغتمَّ) بالغين المعجمة؛ أي: صار له غم، وأخذ بنفسه من شدة الحر الحاصل من طرحها على وجهه، وفي «القاموس»؛ الغم: شدة الحر كاد يأخذ بالنفس، انتهى.
قلت: فتفسير الشراح له: (تسخن) تفسيرٌ باللازم، قال الكرماني: ويقال: غمَّ يومنا؛ إذا كان يأخذ بالنفس من شدة الحر، انتهى؛ فافهم
(كشفها) أي: الخميصة (عن وجهه) الشريف، قلت: والظاهر أنَّها الكفية التي يستعملها الأعراب، والبغداديون، والمسافرون؛ لأجل دفع حر الشمس؛ فافهم.
(فقال) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (وهو كذلك) أي: وهو في تلك الحالة؛ أي: حالة الطرح والكشف عن وجهه، وهذا مقول الراوي.
وزعم ابن حجر ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا بعيد جدًّا لا يخفى على الفطن) انتهى.
قلت: ووجه بعده: أنَّ ظاهر لفظ الحديث يرده ويخالفه؛ لقوله: (فإذا اغتم؛ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك) حيث أتى بـ (الفاء) التي للتعقيب، فعقب القول بالكشف على أنَّ هذا فيما ذكر في باب (هل تنبش قبور مشركي الجاهلية) والقصة هناك غير القصة ههنا، بدليل أنَّ التي ذكرت هناك هي أم سلمة وأم حبيبة، وههنا ذكرت عائشة وابن عبَّاس، مع اختلاف الألفاظ، فالتباين بينهما ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم
ولا يقال: إنَّه قد ذكر ذلك في باب (الصلاة في البيعة)؛ لأنَّه حين ذكرت أم سلمة الكنيسة؛ فقال: «أولئك
…
» إلى آخره وهذا غير ذاك كما لا يخفى.
(لعنة الله) مبتدأ ومضاف إليه، وخبره: قوله (على اليهود والنصارى) واللعنة: الطرد والإبعاد عن الرحمة، يقال: لعنه الله، يلعنه لعنًا فهو ملعون، ولعين، ويقال: رجل لُعَنة؛ بفتح العين المهملة؛ أي: كثير اللعن، ولعْنة؛ بسكونها؛ أي: تلعنه الناس، وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} [البقرة: 159] قال: (دواب الأرض تلعنهم)، وقال ابن عبَّاس:(اللاعنون: كل شيء إلا الإنس والجن)، وقال قتادة:(هم الملائكة)، وقال عطاء:(الإنس والجن)، وقوله عليه السلام:«من أخفر مسلمًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، وقوله عليه السلام:«اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق» ، سميت ملاعن؛ لأنَّ الناس يلعنون فاعل ذلك، فهي مواضع لعن، وقال تعالى:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] هي: الشديدة من شدائد الدهر، ثم أتبعه عليه السلام ببيان سبب لعنهم فقال:(اتخذوا) أي: اليهود والنصارى (قبور أنبيائهم مساجد) فهي جملة مستأنفة بيانية لموجب لعنهم، وقال إمام الشَّارحين: كأنَّه جواب عن سؤال سائل، ما سبب لعنهم؟ فأجيب عنه بقوله:(اتخذوا)؛ يعني: القبور مساجد يعبدون أنبياءهم المدفونة بها.
وقوله: (يُحذِّر)؛ بتشديد الذال المعجمة المكسورة، وضم التحتية أوله، والفاعل
(1)
هو النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (أمته) أي: أمة الإجابة لا الدعوة؛ بدليل قوله: (ما صنعوا) أي: من اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، لا من كلامه عليه السلام، وإنَّما كان يحذرهم من ذلك الصنيع؛ لئلا يفعل بقبره الشريف مثله، ولعلَّ الحكمة فيه: أنَّه يصير بالتدريج شبيهًا بعبادة الأصنام، وكلمة (ما) موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد إليه محذوف تقديره:(صنعوه)، كما ثبت في نسخة، في محل نصب على المفعول الثاني لـ (يحذر)، ومفعوله الأول: محذوف يقدر بما قلناه، وضمير المرفوع عائد إلى اليهود والنصارى.
فإن قلت: استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنَّهم ليس لهم نبي إلا عيسى، ولا قبر له؛ لأنَّه حي في السماء.
قلت: يحتمل أنَّه من باب التغليب؛ حيث غلَّب اليهود على النصارى بجامع الكفر في كل منهما.
ويحتمل كونه على حذف جملة تقديره: اتخذت اليهود قبور أنبيائهم مساجد، واتخذت النصارى أمكنة عيسى مساجد، فإنَّهم قد اتخذوا مكان ولادته في بيت لحم، ومكان النخلة، ومكان مهده، وغير ذلك مساجد.
ويحتمل أنَّهم اتخذوا قبور الأنبياء السابقة مساجد؛ كداود وسليمان.
ويحتمل أنَّ المراد: الأنبياء وصالحو
(2)
أتباعهم؛ حيث اكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر صالحيهم على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: 81]، ويؤيده ما في رواية مسلم من طريق جندب:«كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم» ، ولهذا قال في النصارى حين أفردهم:«إذا مات فيهم الرجل الصالح» ، وقال في اليهود حين أفردهم:«اتخذوا قبور أنبيائهم» .
ويحتمل أنَّ المراد بالاتخاذ أعم من كونه ابتداعيًّا أو اتباعيًّا؛ لأنَّ اليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أنَّ النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود؛ فتأمل.
وزعم ابن حجر فأجاب: بأنَّ للنصارى أنبياء غير عيسى، لكنهم ليسوا برسل؛ كالحواريين ومريم في قول.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه نظر؛ لأنَّه جاء في رواية عن عكرمة وقتادة والزهري «أنَّ الثلاثة الذين أتوا إلى أنطاكية المذكورين في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] كانوا رسلًا من الله تعالى، وهم: صادق ومصدوق وشلوم» ، وعن قتادة أنَّهم كانوا رسلًا من عيسى عليه السلام، فعلى هذا؛ لم يكونوا أنبياء، فضلًا عن أن يكونوا رسلًا من الله تعالى، وأما مريم؛ فزعم ابن حزم وآخرون أنَّها نبية، وكذلك سارة أم إسحاق وأم موسى عليهم السلام، وعند الجمهور كما حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة أنَّ النبوة مختصة بالرجال،
(1)
زيد في الأصل: (نائب)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (وصالحي)، ولعل المثبت هو الصواب.