الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الدليل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فيدل على عدم الدخول للنهي عن صوم الوصال، وقول القائل:«حفظت القرآن من أوله إلى آخره» يدل على الدخول؛ لكون الكلام مَسُوقًا لحفظ القرآن جميعِه، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين بخصوصه، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن) انتهى.
قال في «عمدة القاري» : (ويمكن أن يُسْتَدَلَّ لدخولها بفعله عليه السلام، ففي «الدارقطني» بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة وضوئه عليه السلام: «فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين»، وفيه أيضًا من حديث جابر: «كان عليه السلام إذا توضأ؛ أدار الماء على مرفقيه»، وفي «البزار» و «الطبراني» من حديث وائل بن حجر وفيه: «وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق»، وفي «الحافظ الطحاوي» و «الطبراني» من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: «ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه») انتهى.
قلت: فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، وقال ابن راهويه:({إلى} في الآية تحتمل الغاية ومعنى «مع»، فبيَّنت السنة أنَّها بمعنى «مع»).
وقال الشافعي في «الأم» : (لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء)، قال ابن حجر:(فعلى هذا؛ فزفر محجوج بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحًا، وإنما حكى عنه أشهب كلامًا محتملًا) انتهى.
قلت: وقوله: (لا أعلم مخالفًا) : ليس حكاية منه للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، ففي دعوى الإجماع نظر، ولذا قال العجلوني بعد كلام ابن حجر:(وأقول قول «الأم» لا ينافي وجود خلاف، فلا إجماع) انتهى، وقد نقل غير واحد عن أشهب عن مالك قولًا واحدًا: أن المِرْفق غير داخل في الوضوء، كما قاله الإمام زفر وداود، فقول ابن حجر:(ولم يثبت عن مالك) فيه نظر، وقد يقال: لم يثبت عن مالك في غير رواية أشهب، وأمَّا في رواية أشهب؛ فإنه يثبت القول بذلك؛ فافهم.
وقال في «شرح المنية» : (إنَّ غسل المرفقين والكعبين في الوضوء ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفر جاحده)، قال في «النهر» :(فلهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع) انتهى.
قلت: ولهذا لم يتعرض في «عمدة القاري» إلى دعوى الإجماع، بل استدلَّ بالأحاديث التي أوردناها؛ فافهم.
(ثم مسح رأسه) زاد ابن الصباغ في روايته: (كله)، كما في حديثه المروي عند ابن خزيمة في «صحيحه» ، وفي رواية خالد بن عبد الله:(مسح برأسه)؛ بزيادة الباء الموحدة، (بيديه)؛ بالتثنية، فاحتجَّ به مالك وأحمد في رواية على أنَّ مسح جميع الرأس فرض، واختلف أصحاب مالك؛ فقال أشهب:(يجوز مسح بعض الرأس)، وقال غيره:(والثلث فصاعدًا)، وعندنا وعند الشافعي:(الفرض مسح بعض الرأس)، فقال أئمتنا: وذلك البعض هو ربع الرأس؛ لحديث المغيرة بن شعبة: (أنه مسح على ناصيته)، والناصية: تبلغ ربع الرأس كما قاله أهل اللغة؛ لأنَّ الكتاب مجمل في حق المقدار فقط؛ لأنَّ الباء في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]؛ للإلصاق عند المحققين باعتبار أصل الوضع، وجميع معانيها ترجع إلى الإلصاق، فإذا قُرِنت بآلة المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى مسح المسح، فيتناول جميعه، كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله، وإذا قُرِنَتْ بمحلِّ المسح؛ يتعدَّى الفعل بها إلى الآلة، وهو لا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، بل يقتضي استيعاب اليد دون الرأس، واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبًا سوى ربعه، فتعين الربع مرادًا في الآية، وهو المطلوب، فالآية مجملة محتاجة للبيان، وقد بيَّنتها السنة، ففي «صحيح مسلم» من حديث المغيرة:(أنه عليه السلام توضأ، ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين).
فإن قلت: إنَّما استدللت بالحديث على أنَّ المقدار في المسح هو قدر الناصية، وتركت بقية الحديث وهو المسح على العمامة.
قلت: لو عملنا بكل الحديث؛ يلزم به الزيادة على النص؛ لأنَّ هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ؛ وهو لا يجوز، وأمَّا المسح على الرأس؛ فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، وأمَّا مسحه على العمامة؛ فأوَّله البعض بأن المراد به ما تحتها
(1)
، من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوَّله البعض: بأن الراوي كان بعيدًا عن النبي الأعظم عليه السلام، فمسح على رأسه ولم يضع العمامة من رأسه، فظنَّ الراوي أنه مسح على العمامة.
وقال القاضي عياض: (وأحسن ما حَمَلَ عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة: أنه عليه السلام لعلَّه كان به مرض في رأسه، فمنعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة).
وقال ابن حجر: (فإن قيل: فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في السفر، وهو مظنَّة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر سياق مسلم من حديث المغيرة؛ قلنا: قد رُوِيَ عنه مسح مُقَدَّم الرأس من غير مسح العمامة، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء: «أنه عليه السلام توضأ، فحَسَرَ العمامة عن رأسه، ومسح مقدَّم رأسه»، وهو مرسل، لكنه اعتضد من وجه آخر موصولًا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة) انتهى، وتبعه القسطلاني.
واعترضهما في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قول هذا القائل من أعجب العجائب؛ لأنَّه يدَّعي أن المرسل غير حجة عند إمامه، ثم يدَّعي أنه اعتضد بحديث موصول ضعيف باعترافه هو، ثم يقول: وحصلت القوة من الصورة المجموعة، فكيف تحصل القوة من شيء ليس بحجة، وشيء ضعيف؟! فإذا كان المرسل غير حجة؛ يكون في حكم العدم، ولا بقي إلا الحديث الضعيف وحده، فكيف تكون الصورة المجموعة قوية؟!) انتهى، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام» .
وقول ابن حجر: (فلعلَّه اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنَّه كان في سفر) : ممنوع؛ لأنَّ حديث المغيرة صريح في أنه عليه السلام لم يكن في السفر، ولفظه:(أنه عليه السلام أتى سباطة قوم، فبال، وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفَّيه)، رواه ابن ماجه والنسائي، وروى أبو داود عن أنس قال:(رأيت النبي عليه السلام يتوضَّأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه)، وروى البيهقي عن عطاء:(أنه عليه السلام توضأ، فحسر العمامة، ومسح مقدَّم رأسه، أو قال: ناصيته)، وكل هذه الأحاديث تدل على بطلان ما زعمه ابن حجر، على أن دعوى العذر ممنوعة؛ لأنَّ حالة العذر حالة ضرورة، وفي حالة الضرورة تقدَّر بقدرها، فهي دعوى باطلة لا دليل عليها، وهي بعضها متصل وبعضها مرسل، وهو حجَّة عندنا لا سيما وقد اعتضد بالمتصل.
واعترض بأن الباء المتنازعة فيها موجودة في حديث مسلم، فيبقى النزاع، كما في الآية.
قلت: لا نزاع في الحديث أصلًا؛ لأنَّ رواية أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم: بدون الباء، وهي أحاديث متصلة، وحديث مسلم وإن كان في روايته زيادة الباء؛ فهي زيادة من الراوي زادها موافقة للفظ الآية، وإلا فلفظ الحديث بدون الباء كما رواه الجمهور، ولو سُلِّم وجودها؛ فما قيل في معنى الباء التي في الآية؛ يقال فيها أيضًا، وتعداد الرواة في حديث مسح الناصية وتعدُّد طرقه يدلُّ صريحًا على أنه عليه السلام من حين نزول الآية كان يمسح على الناصية، فهو بيان لإجمالٍ في الآية، وهو ما قرَّره المحققون.
وقال الشافعي: (الباء في الآية معناها: التبعيض، فيُطْلَقُ على أدنى ما يُطْلَقُ عليه المسح، وهو يتأدَّى بشعرة أو شعرتين).
واعترض بأن أهل اللغة قد أنكروا كون الباء للتبعيض، وقال ابن برهان:(من زعم أن الباء تفيد التبعيض، فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه)، وقد جعل المحقِّق الجرجاني معنى الإلصاق في الباء أصلًا، وإن كانت
(2)
تجيء لمعان كثيرة، فإنها ترجع إلى الإلصاق؛ لأنَّه
(1)
في الأصل: (تحته).
(2)
في الأصل: (كان).
معناها الأصلي عند المحققين.
وقال ابن هشام: أَثْبَتَ مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، وابن مالك، وجعلوا منه قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6]، قيل: ومنه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ، والظاهر: أن الباء فيهما للإلصاق، ويدل لذلك قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [البقرة: 29]، والطواف لا يصح بالبعض إجماعًا، فكذا هذا، وقيل: الباء في الآية للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا، فإنَّ «مسح» يتعدى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء، فالأصل: امسحوا رؤوسكم؛ بالماء
(1)
.
فإن قلت: أليس في التيمم حكم المسح ثبت بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6]، ثم الاستيعاب فيه شرط؟
قلت: عُرِف الاستيعاب فيه إما بإشارة الكتاب؛ وهو أن الله أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره، والاستيعاب فرض بالنصِّ وكذا فيما قام مقامه، أو عُرشف ذلك بالسنة؛ وهو قوله عليه السلام لعمار رضي الله عنه:«يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربة للذراعين» ، وأما على رواية الحسن عن الإمام الأعظم: أنه لا يُشْتَرَطُ الاستيعاب، فلا يردشيء، وجاحدُ أصل المسحِ كافر؛ لأنَّه قطعي، وجاحدُ المقدار لا يُكفَّر؛ لأنَّه في حق المقدار ظنَّي، وتمامه فيما أوردناه في آية الوضوء؛ فافهم.
(فأقبل بهما) أي: بيديه (وأدبر)؛ أي: بهما، وقوله:(بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما) أي: بيديه (إلى قفاه ثم ردَّهما) أي: يديه (إلى المكان الذي بدأ منه)؛ بيان لقوله: (فأقبل وأدبر)، فلذا لم تدخل الواو عليه، وهذا من الحديث، وليس مُدْرَجًا من كلام مالك، كذا في «عمدة القاري» ، ففيه: أنَّ السنة البداءة بمُقَدَّم الرأس حالة المسح، والذهاب بهما إلى القفا، وردهما إلى المقدَّم، وهذه الكيفية المسنونة شاملة لمن كان على رأسه شعر، أو محلوقه، أو غيره؛ لأنَّ لفظ الحديث عام لم يفصل بينهما، لا يقال: إن هذه الكيفية خاصَّة بمن على رأسه
(2)
شعر دون غيره ينقلب لطوله كما كان له عليه السلام، بخلاف غيره ممن ليس له شعر، فلا يسن ردُّ اليدين إلى المبدأ؛ لأنَّا نقول: لفظ الحديث عام لم يفصِّل بين ما كان على رأسه شعر أو لم يكن، وتخصيص هذه الكيفية بمن كان على رأسه شعر تخصيص بلا مخصِّص؛ لأنَّه لم يرد ذلك في الأحاديث، وكون النبي الأعظم عليه السلام فعل ذلك والحال أن على رأسه الشريف شعر لا يدل على التخصيص؛ لأنَّه عليه السلام قد ورد عنه أنَّه قال:«احلقوه كلَّه أو اتركوه كلَّه» ، فخيَّر بين الحلق والترك، فكأنَّه عليه السلام بيَّن هذه الكيفية، وخيَّر في الحلق وعدمه، فدلَّ ذلك على العموم من غير تفصيل، ولا يقال: إن الماء صار مستعملًا حيث إنه ردَّ اليدين إلى المكان الذي بدأ به منه؛ لأنَّ الماء لا يُحْكَم عليه بالاستعمال إلَّا أن ينفصل عن العضو، وهنا لم ينفصل، فبقي على أصل الطهارة والطهورية؛ فافهم.
وزعم ابن حجر: (وهذه الكيفية حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمُؤَخَّر الرأس إلى أن ينتهي إلى مُقَدَّمِه).
وردَّه في «عمدة القاري» بأنه لا يقال: إن مثل هذا حجة عليه؛ لأنَّه ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد:(ثم مسح رأسه بيده، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)، وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع:(بدأ بمؤخره ثم ردَّ يديه على ناصيته)، وعند الطبراني:(بدأ بمؤخر رأسه، ثم جرَّه إلى قفاه، ثم جرَّه إلى مؤخره)، وعند أبي داود:(يبدأ بمؤخره، ثم بمقدمه، وبأذنيه كليهما)، وفي لفظ:(مسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته)، وفي لفظ:(مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه)، وعند البزار من حديث أبي بكرة يرفعه:(توضأ ثلاثًا ثلاثًا)، وفيه:(مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه)، وعند ابن قانع من حديث أبي هريرة:(وضع يده على النصف من رأسه، ثم جرَّهما إلى مقدم رأسه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه)، وعند أبي داود من حديث أنس:(أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه)، وفي «كتاب ابن السكن» :(فمسح باطن لحيته وقفاه)، وفي «معجم البغوي» و «ابن أبي خيثمة» :(مسح رأسه إلى ما سالفته)، وعند النسائي عن عائشة وصفت وضوءه عليه السلام:(فوضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت إلى مؤخره، ثم مدت بيديها بأذنيها، ثم مدت على الخدين)، فهذه أوجه كثيرة يختار المتوضئ أيها شاء، واختار أئمتنا الأعلام رواية عبد الله بن زيد، فالذي قال:(السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس) اختار الوجه الذي فيه البداءة بمؤخر الرأس، وله أيضًا أن يقول:(هذا الوجه حجة عليك أيها المختار في البداءة بالمقدم) انتهى؛ فافهم.
قال الكرماني: (وفي الاستدلال بذلك على وجوب مسح الجميع نظر؛ إذ ليس كل ما ذكر واجبًا كالمضمضة والاستنشاق، ومن أوجبهما؛ فمحجوج بأمور بعضها سبق وبعضها يأتي، ولئن سلَّمنا؛ فالتثليث والتثنية في البعض مذكورات ولا يجبان اتفاقًا، ولا يقال: هو بيان للآية، وهو واجب، فبيانه واجب؛ لأنَّا نقول: كان يجب الرد إلى المكان الذي بدأ منه، ولا يجب اتفاقًا، ويلزم أن يكون التثنية والتثليث واجبين أيضًا؛ لأنَّهما بيان أيضًا؛ لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، وأيضًا لو كان التعميم واجبًا؛ لما جاز الاكتفاء بمسح الناصية، وقد ثبت في الأحاديث الصحاح: أنه مسح على ناصيته، فالحق: أنه أمر بإيجاد ماهية المسح سواء كان في ضمن الجميع أو الناصية، وهذا الحديث إنَّما ورد في كمال الوضوء بدليل الأحاديث الأخر التي ليس فيها إقبال ولا إدبار) انتهى.
(ثم غسل رجليه) أطلق الغسل فيهما، ولم يذكر تثليثًا ولا تثنية -كما مر- إشارة إلى أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة، وبعضه بمرتين، وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل؛ ففعله عليه السلام ذلك في بعض الأحيان دليل للجواز، فهو أفضل في حقه، وإن كان عدم التثليث في حقنا لغير عذر؛ مكروه، والبيان وإن أمكن بالقول لكن الفعل أوقع في النفس وأبعد من التأويل لبيان الحكم.
وفي رواية: (إلى الكعبين)؛ تثنية كعب، وهو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، هذا تفسير أهل اللغة، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الحسن، والإمام زفر، والجمهور.
وروى ابن القاسم عن مالك: (أنَّه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك)، ونسب جماعة من المتعصبين هذا القول إلى الإمام الأعظم، وهو خطأ ظاهر، وافتراء من مكابر، فإنه لم يقل به الإمام الأعظم ولا أصحابه أصلًا قطعًا، وإنما ذكر الإمام محمد في المُحْرِم: أنه إذا لم يجد النعلين؛ فليقطع الخفين إلى الكعبين، وفسَّر الكعب في ذلك، فأخذ تلميذه هشام ذلك، ونقله إلى الوضوء، وقد أجمع عامة أهل المذهب متونًا، وشروحًا، وفتاوًى على تخطئة هشام، وأن مراد الإمام محمد ذلك في المُحْرِم، كما هو مصرَّح به في كتابه «السير الكبير» ، وكذا في «السير الصغير» ، و «الجامع الكبير» ، و «الجامع الصغير» ، وغيرها المسماة بكتب ظاهر الرواية، فهؤلاء المتعصبون يتفقدوا قولًا إما شاذًّا أولا أصل له عن الإمام الأعظم، وينسبونه إليه، ويطيلون ألسنتهم الحداد عليه، ولا غروَ؛ فإنَّ مثل هذا الإمام الذي هو رئيس المجتهدين وسيِّدهم التابعي الجليل، بحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ونقيٌّ لا يغيِّره مقل الذباب، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولله درُّ القائل:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ
…
أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
وفي الحديث فوائد؛ منها: جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، وأن الاغتراف من الماء القليل لا يصيِّر الماء مستعملًا؛ لأنَّ في رواية وهيب وغيره:(ثم أدخل يده)، وتمامه في «عمدة القاري» ، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم الحليم.
(39)
[باب غسل الرجلين إلى الكعبين]
هذا (باب: غسل الرجلين إلى الكعبين)؛ أي: في الوضوء.
[حديث عبد الله بن زيد في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]
186 -
وبالسند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) أي: التبوذكي (قال: حدثنا وهيب)؛ بالتصغير، ابن خالد الباهلي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين؛ أي: ابن يحيى السابق، (عن أبيه)؛ أي: يحيى بن عمارة بن أبي حَسن -بفتح الحاء- أنه قال: (شهدت) أي: حضرت (عمرو بن أبي حَسن) بفتح الحاء، هذا جدُّ
(1)
في الأصل: (بالباء)، ولعله تحريف عن المثبت.
(2)
في الأصل: (رأس).