الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك، قبل أن تهاجرا إلى المدينة، وفي رواية: ذكرها القسطلاني ولم يَعْزُها لأحد: (رأياها)؛ بمثناة تحتية.
قلت: والظاهر: أنَّها تحريف من النساخ، والحاصل: أن الأكثر: (رأينها)؛ بنون جمع يحتمل على أن أقل الجمع اثنان، ويحتمل على أنَّه كان معهما غيرهما من النسوة، وهو الظاهر، والرواية الثانية بمثناة فوقية وضمير التثنية على الأصل، والرواية الثالثة الله أعلم بصحتها.
(فيها تصاوير)؛ أي: تماثيل، جمع (تِمثال)؛ بكسر المثناة الفوقية، قيل: كانت من زجاج، ونحاس، ورخام، وقيل: طلمسات كان يعملها، ويحرم على كل مُضرٍّ أن يتجاوزها، فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالًا
(1)
للذباب، أو للبعوض، أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوها، فلا يتجاوزه واحد أبدًا مادام ذلك التمثال، والجملة اسمية محلها نصب؛ صفة لكنيسة، (فذكرتا ذلك للنبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: ذكرتا هذه التصاوير في تلك الكنيسة، وقيل: إنَّها صور الأنبياء عليهم السلام، والعلماء، والعباد، وغيرهم، ويدلُّ لذلك قوله:(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لهما: (إنَّ أولئكِ)؛ بكسر الكاف؛ لأنَّ الخطاب لمؤنث، وقد تفتح الكاف (إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات)؛ عطف على (كان)، وجواب (إذا) قوله:(بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تِيْك الصور)؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفي رواية أبي ذر وابن عساكر:(تلك)؛ باللام بدل المثناة التحتية؛ يعني: كانت تصور في معابدهم؛ ليراها الناس، فيزدادوا
(2)
في العبادة، ويجتهدوا فيها، ويتذكروا عبادتهم، وهذا يدلُّ على أنَّ التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، وقد نسخ ذلك في شرعنا، ويدلُّ على ذلك قوله عليه السلام:(فأولئكِ)؛ بكسر الكاف خطاب للمؤنث، وقد تفتح، وفي رواية:(وأولئك)؛ بالواو (شِرار الخلق عند الله يوم القيامة)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع:(الشر)؛ كخيار جمع: (خير)، وتِجَار جمع:(تجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس:(واحدها: شر أيضًا).
وقال السفاقسي: (جمع شر كزند وأزناد).
وقال الأخفش: (شرير؛ مثل يتيم وأيتام).
قال القرطبي: (إنما صوَّر أوائلهم الصور؛ ليستأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّ أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظِّمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسدُّ الذرائع في قبره الشريف عليه السلام، وكان ذلك في يوم مرض موته؛ إشارةً إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينتسخ بعده، ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى زيادة مسجده المعظَّم صلى الله عليه وسلم؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصل إليه العوام، فيؤدِّي ذلك إلى المحذور، ثم بنوا على القبر جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرفوهما حتى التقيا حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر الشريف) انتهى.
وقال البيضاوي: (لَّما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجَّهون في الصلاة نحوها، واتَّخذوها أوثانًا؛ لعنهم النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومنع المسلمين عن ذلك، فأمَّا من اتَّخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرُّك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجُّه إليه؛ فلا يدخل في الوعيد المذكور)، وقال ابن بطال:(وفي الحديث نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير، وإنما نهي عنه؛ لاتخاذهم القبور والصور آلهة، وفيه دليل على تحريم التصوير للحيوان خصوصًا الآدمي الصالح، وفيه منع بناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟) انتهى.
قلت: ويستثنى من النهي عن اتخاذ القبور مساجد ما إذا كانت المقبرة دائرة، فبناء المسجد عليها؛ ليصلَّى فيه لا بأس بذلك، وبه صرَّح الإمام الجليل قاضيخان من أهل المذهب المعظم، وبه صرَّح البندنجي من الشافعية، وذلك لأنَّ المقابر وقف، وكذا المسجد، فمعناهما واحد، كما لا يخفى، وقوله:(وفيه النهي عن فعل التصاوير) يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق يقول: إنِّي وكِّلت بثلاث: بكل جبارعنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا
(3)
آخر، والمصورين»، رواه الترمذي، وقال:(هذا حديث حسن غريب صحيح)، وفي «البخاري «و «مسلم» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» ، وهذا يدلُّ على المنع من تصوير شيء أيُّ شيء كان، قال تعالى:{مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60].
وقوله: (وفيه منع بناء المساجد
…
) إلى آخره؛ يعني: أن يسوَّى القبر أو القبور مسجدًا
(4)
يصلَّى فيه، وهذا مكروه، وهو ليس على إطلاقه، وفيه تفصيل، فإن كانت المقبرة للكفار؛ فيجوز نبشها، واتِّخاذ مكانها مسجدًا، وقد ترجم له المؤلف فيما مضى، وإن كانت للمسلمين؛ فيحرم ذلك، سواء كان فيها قبور أحد الأنبياء أو المسلمين؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، وفي ذلك إهانة له، فيحرم ذلك، كما لا يخفى، إلا إذا كانت المقبرة دائرة؛ فلا بأس بأن يجعل عليها مسجدًا
(5)
يصلى فيه؛ لأنَّ كل ذلك وقف منفعة للمسلمين.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: ذم الفاعل للمحرمات، وفيه: أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل) انتهى.
وقد سبق: أنَّ الصلاة في المقبرة لا تصحُّ عند أحمد، والظاهرية، وأبي ثور، وتصحُّ وتكره عند الإمام الأعظم، والثوري، والأوزاعي، ومالك بن أنس، والشافعي فيما قاله الرافعي، وتصحُّ بدون كراهة عند الحسن البصري، وتبعه القاضي حسين، وهو مروي عن ابن عمر، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
[حديث: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا]
428 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد)؛ هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ هو ابن سعيد التميمي البصري، (عن أبي التَيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره حاء مهملة، هو يزيد بن حميد، الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي:(ابن مالك)، هو الأنصاري أنَّه (قال: قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم المدينة)، قال الحاكم:(تواترت الأخبار بوروده عليه والسلام قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول)، وقال محمد بن موسى الخوارزمي: (وكان ذلك اليوم الخميس الرابع من تيرماه، ومن شهور الروم العاشر
(1)
في الأصل: (تمثال)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (فيزداد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (إله)، وليس بصحيح.
(4)
في الأصل: (مسجد)، وليس بصحيح.
(5)
في الأصل: (مساجد)، وليس بصحيح.
من أيلول سنة سبعمئة وثلاث وثلاثين لذي القرنين).
وقال الخوارزمي: (من حين ولد إلى حين أسري به أحد وخمسون سنة، وسبعة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، ومنه إلى اليوم الذي هاجر سنة وشهران ويوم، فذلك ثلاث وخمسون سنة، وكان ذلك يوم الخميس).
وقال ابن سعد في «الطبقات» : (إنَّه عليه السلام خرج من الغار ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول، فأقام يوم الثلاثاء بقديد، وقدم على بني عمرو بن عوف لليلتين خلتا من ربيع الأول، ويقال: لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فنزل على كلثوم بن هدم، وهو السبت عندنا).
وذكر البرقي: (أنَّه عليه السلام قدم المدينة ليلًا)، وعن جابر:(لما قدم المدينة نحر جزورًا)، كذا في «عمدة القاري» .
(فنزل أعلى) وللأصيلي: (في أعلى)(المدينة)، وفي رواية أبي داود:(فنزل في عُلوِّ المدينة)؛ بالضم، وهي العالية (في حيٍّ)؛ بتشديد التحتية، وهي القبيلة، وجمعها أحياء، كذا قاله إمام الشَّارحين، (يقال لهم: بنو عَمرو بن عَوف)؛ بفتح العين المهملة فيهما، وبالفاء في الأخير، (فأقام النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم فيهم) أي: في بني عمرو (أربع عشرة ليلة)، هذه رواية الأكثرين، وكذا في رواية أبي داود عن شيخه مسدد، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت ونسبها إمام الشَّارحين للمستملي والحمُّوي:(أربعًا وعشرين ليلة)، وعن الزهري:(أقام فيهم بضع عشرة ليلة)، وعن عويمر بن ساعدة: لبث فيهم ثماني عشرة ليلة، ثم خرج، كذا قاله إمام الشَّارحين، (ثم أرسل) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو في بني عمرو (إلى بني النجَّار)؛ بتشديد الجيم، أبو قبيلة من الأنصار، وبنو النجار هم: بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجموح، والنجار: قبيل كثير من الأنصار منه بطون، وعمائر، وأفخاذ، وقفائل، وتيم اللات: هو النجار، سمي بذلك؛ لأنَّه اختتن بقدُّوم، وقيل: بل ضرب رجلًا بقدُّوم، فجرحه، ذكره الكلبي وأبو عبيدة، وإنما طلب بني النجار؛ لأنَّهم كانوا أخواله عليه السلام؛ لأنَّ هاشمًا جده تزوج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار بالمدينة، فولدت له عبد المطلب، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ولأجل هذا خصَّهم عليه السلام بالإرسال عن غيرهم، (فجاؤوا متقلدي السيوف)؛ بالجِّر وحذف نون (متقلِّدين)، وإضافة (المتقلدين) إلى (السيوف)، هكذا في رواية كريمة، وفي رواية الأكثرين:(متقلدين السيوفَ)؛ بنصب السيوف وثبوت النون؛ لعدم الإضافة، وعلى كل حالٍ هو منصوب على الحال من الضمير الذي في (فجاؤوا)، والتقلُّد: جَعْلُ نِجاد السيف على المنكب؛ كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والمعنى: جاؤوا جاعلين سيوفهم على مناكبهم؛ خوفًا من اليهود، وليروه عليه السلام ما أعدُّوه؛ لنصرتهم من شجاعتهم وقوتهم، قال أنس بن مالك:(كأني أنظر إلي النبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم على راحلته)؛ أي: ناقته التي تسمى: القصواء، فإنَّ الرَّاحلة: المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: وفي بعض النسخ: (وكأني)؛ بالواو، وفي بعضها:(فكأني)؛ بالفاء، والمعنى: وكأني الآن، فالتشبيه باعتبارين، و (كأنَّ)؛ للتحقيق؛ كقوله: كأن الأرض ليس بها هلال (وأبو بكر)؛ أي: الصديق الأكبر، عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهما (ردفه)؛ الجملة اسمية محلها نصب على الحال من (النبي)، أو من فاعل (أنظر)؛ أي: راكب خلفه، فإنَّ الرِّدْف -بكسر الراء وسكون الدال المهملتين-: المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب، وأردفته أنا: إذا أركبته معك، وذاك الموضع الذي يركبه: رِدَاف، وكل شيء يتبع سببًا؛ فهو ردفه، وكان لأبي بكر ناقة، فلعلَّه تركها في بني عمرو بن عوف؛ لمرض أو غيره، ويجوز أن يكون ردَّها إلى مكة؛ ليحمل عليها أهله، وثَمَّ وجه آخر حسن: وهو أنَّ ناقته كانت معه، ولكنَّه ما ركبها؛ لشرف الإرداف خلفه، فإنَّه تابعه، والخليفة بعده، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(ومَلَأ)؛ بفتحتين آخره همزة من غير مد (بني النجار حوله) عليه السلام؛ إكرامًا له، وأدبًا معه، وافتخارًا به، والملأ: أشراف القوم ورؤساؤهم، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم ملأى
(1)
بالرأي والغنى، والملأ: الجماعة، والجمع: أملاء، قال ابن سيده: (وليس الملأ من بني «رهط» وإن كانا اسمين؛ لأنَّ «رهطًا» لا واحد له من لفظه، والملأ: رجل مالئ جليل ملأ العين بجهرته، فهو كالعرب والرَّوَح
(2)
، وحكى ملأته على الأمر: املأه، ومالأته كذلك؛ أي: شاورته، وما كان هذا الأمر عن ملأ منَّا؛ أي: عن تشاور واجتماع)، كذا في «عمدة القاري» ، والجملة اسمية حالية أيضًا، (حتى ألقى) أي: حتى طرح النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم رحله، فهو مبني للفاعل، ويحتمل للمفعول، كذا زعمه العجلوني.
قلت: وهذا الاحتمال بأنَّه مبني للمفعول غير ظاهر؛ لأنَّ أنسًا أخبر عنه عليه السلام بأنَّه ألقى رحله، فيتعين أن يكون مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، وهو الرحل، يقال: ألقيت الشيء: إذا طرحته.
(بفِناء) بكسر الفاء مع المد: سعة أمام الدار، والجمع: أفنية، وفي «المجمل» :(فناء الدار: ما امتد من جوانبها)، وفي «المحكم» :(وتبدل الموحدة من الفاء).
(أبي أيوب) أي دار أبي أيوب، واسمه: خالد بن زيد الأنصاري، جعل جبار بن صخر يَنخَسُها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار؛ أَعَنْ منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام؛ لضربتك بالسيف.
قال إمام الشَّارحين: (جبار بن صخر بن أمية بن خنساء السلمي، ويقال: جابر بن صخر الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا، وهو صحابي كبير، روى محمد بن إسحاق: عن أبي سعد الخطمي، سمع جابرًا بن عبد الله قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وجابر بن صخر، فإمامنا خلفه، والصحيح: أنَّ اسمه جبار بن صخر، وذكر محمد بن إسحاق في كتاب «المبتدأ وقصص الأنبياء عليهم السلام» : «أن تُبَّعًا؛ وهو ابن حسان، لمَّا قدم مكة قبل مولده عليه السلام بألف عام، وخرج منها إلى يثرب، وكان معه أربع مئة رجل من الحكماء؛ فاجتمعوا وتعاقدوا على ألا يخرجوا منها، فسألهم تُبَّع عن سر ذلك، فقالوا: إنَّا نجد في كتبنا أنَّ نبينا اسمه محمد، هذه دار مهاجره، فنحن نقيم بها لعل أن نلقاه، فأراد تُبَّع الإقامة معهم، ثمَّ بنى لكل واحد من أولئك دارًا، واشترى له جارية، وزوجها منه، وأعطاهم مالًا جزيلًا، وكتب كتابًا فيه إسلامه، وقوله:
شهدت على أحمد أنَّه
…
رسول من الله بارئ النسم
في أبيات، وختمه بالذهب، ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى محمد عليه السلام إن أدركه، وإلا؛ من أدركه من ولده، وبنى للنبي عليه السلام دارًا ينزلها إذا قدم المدينة، فتداور الدار المُلَّاك إلى أن صارت إلى
(1)
في الأصل: (مليء)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (كالعزب والزوج)، ولعل المثبت هو الصواب.
أبي أيوب رضي الله عنه، وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، قال: وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربع مئة، ويزعم بعضهم: أنَّهم كانوا الأوس والخزرج، ولمَّا خرج عليه السلام؛ أرسلوا إليه كتاب تُبَّع مع رجل يسمى أبا ليلى، فلما رآه عليه السلام؛ قال:«أنت أبو ليلى، ومعك كتاب تُبَّع الأول» ، فبقي أبو ليلى متفكرًا، ولم يعرف النبيَّ عليه السلام، فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنَّه ساحر، فقال:«أنا محمد، هات الكتاب» ، فلما قرأه؛ قال:«مرحبًا بتبع الأخ الصالح» ثلاث مرات»، وفي «سير ابن إسحاق» :«أنَّ اسمه تبان أسعد أبو كرب، وهو الذي كسا البيت الحرام» ، وفي «مغايص الجوهر في أنساب حمير» :«كان يدين بالزبور» ، وفي «معجم الطبراني» مرفوعًا:«لا تسبوا تبَّعًا» ، وقال الثعلبي بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه: أنَّه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبوا تبعًا؛ فإنَّه كان قد أسلم» ، وأخرجه أحمد في «مسنده» :«وتُبَّع -بضمِّ المثناة الفوقية، وفتح الموحدة المشددة، آخره عين مهملة- لقب لكلِّ من ملَك اليمن؛ مثل كسرى لقب لكل من ملَك الفرس، وقيصر لكل من ملَك الروم» ، وقال عكرمة:«إنَّما سُمي تُبَّعًا؛ لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار، فأسلم، قال: وهذا تبع الأوسط، وأقام مَلِكًا ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل: ثمانين سنة» ، وقال ابن سيرين:«هو أول من كسا البيت وملك الدنيا والأقاليم بأسرها» ، وحكى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أنَّه قال:«كان إذا عرض الخيل؛ قاموا صفًّا من دمشق إلى صنعاء» ، وهذا بعيد إن أراد به صنعاء اليمن؛ لأنَّ بينها وبين دمشق أكثر من شهرين، والظاهر: أنَّه أراد بها صنعاء دمشق، وهي قرية على باب دمشق من ناحية باب الفراديس، واتصلت حيطانها بالعقيبة، وهي محلة عظيمة بظاهر دمشق، وذكر ابن عساكر في كتابه:«أنَّ تُبَّعًا هذا لمَّا قدم مكة، وكسا الكعبة، وخرج إلى يثرب؛ كان في مئة ألف وثلاثين ألفًا من الفرسان، ومئة ألف وثلاثة عشر ألفًا من الرجالة» ، وذكر أيضًا:«أنَّ تُبَّعًا لمَّا خرج من يثرب؛ مات في بلاد الهند» ، وذكر السهيلي:«أنَّ دار أبي أيوب هذه صارت بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب، فاشتراها منه بعد ما خربت المغيرةُ بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بعد حيلة احتالها عليه المغيرة، فأصلحه المغيرة، وتصدق بها على أهل بيت فقراء بالمدينة» ) انتهى.
(وكان) أي النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة) فلا يخص مكانًا بصلاته، بل يصلي في أي مكان حضرت الصلاة فيه؛ لأنَّه عليه السلام قد جعلت له الأرض كلُّها مسجدًا وطهورًا، فهو من خصائصه دون سائر الأنبياء عليهم السلام، ولأنَّ في ذلك تكثير الشهود للمصلي؛ لأنَّ الأرض تشهد بالصلاة لمن صلى عليها، ففيه: أنَّ المسلم يكره له أن يخصَّ موضعًا للصلاة فيه دون غيره؛ لأنَّ في اختصاصه بموضع مخصوص رياءً وسمعة وغير ذلك؛ فافهم، وهذا أكبر ردٍّ على من اعتاد في زماننا اختيار مكان مخصوص للصلاة وراء الإمام من الشافعية، ويزعم أنَّ الصلاة في الصف الأول خلف الإمام أفضل، فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، فإنَّ الصف الأول من المشرق إلى المغرب، وكله خلف الإمام، ولكنَّه هو يقصد مكانًا مخصوصًا خلف الإمام حتى يقال: إنَّه رجل صالح متعبد، بل هو طالح مخالف للسنة؛ لأنَّ في ذلك رياء وسمعة، وهو مكروه؛ فافهم.
(ويصلي في مرابض الغنم) جمع مِربِض؛ بكسر الموحدة والميم، بينهما راء مهملة ساكنة، آخره معجمة، والمراد: مأواها، وهو عطف على قوله:(وكان يحب) من عطف الخاص على العام؛ يعني: أنَّه كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ولو كان في مرابض الغنم، وعلى هذا؛ فليس يحب الصلاة في مرابض الغنم إلا إذا أدركته الصلاة فيها، وقد يقال: هو عطف على (أن يصلي) والمعنى: وكان يحب أن يصلي في مرابض الغنم، وسبب محبته؛ لأنَّه قد أدركته الصلاة فيها، فالمحبة ليست للمكان، بل لإقامة الصلاة في وقتها؛ محافظة عليها في أول الوقت، وهذا هو الظاهر، فعلى الأول: فقوله: (ويصلي) مرفوع، وعلى الثاني: منصوب عطفًا على (أن يصلي)، وهو الأظهر؛ فافهم.
(وإنَّه)؛ بكسر الهمزة؛ لأنَّه كلام مستقل بذاته؛ وفي «الفرع» : بفتح الهمزة، والجملة مستأنفة أو حال؛ أي: أنَّ النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (أَمر)؛ بفتح الهمزة؛ مبنيًا للفاعل، وفي رواية: بضمِّها؛ مبنيًّا للمجهول، وعلى هذا؛ يكون الضمير في (إنه) للشأن، قاله إمامنا الشَّارح.
(ببناء المسجد)؛ بكسر الجيم وفتحها؛ وهو الموضع الذي يسجد فيه، وفي «الصحاح» :(المسجَد؛ بفتح الجيم: موضع السجود، وبكسرها: البيت الذي يصلى فيه، ومن العرب من يفتح في كلا الوجهين، وعن الفراء: «سمعت المسجِّد؛ بالكسر والفتح، والفتح جائز وإن لم نسمعه»، وقال الزجاج: «كل موضع يتعبد فيه مسجد») انتهى.
(فأرسل) عليه السلام (إلى ملأ) أي: جماعة (من بني النجار) وللأربعة: (إلى ملأ بني النجار) بإسقاط كلمة (من) الجارة؛ هم أشرافهم، (فقال) عليه السلام لهم:(يا بني النجار) خطاب لبعضهم، وأطلق عليهم باعتبار الشرف والرئاسة؛ (ثامنوني)؛ بالمثلثة بعدها ألف، فميم، فنون، بينهما واو، من ثامنت الرجل في البيع أثامنه: إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه وشرائه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «شرحه على سنن أبي داود» ، وزعم ابن حجر أنَّ معناه:(اذكروا لي ثمنه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس دالًّا على المقصود؛ لأنَّ ذكر الثمن لا يدل على البيع، فقد يطلب الرجل ثمن متاعه وليس مقصوده بيعه.
وزعم الكرماني أنَّ معناه: بيعونيه بالثمن.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ المساومة ليس معناها طلب البيع، بل المقاولة على الثمن.
وقال صاحب «التوضيح» : (معناه: قدِّروا لي ثمنه؛ لأشتريه منكم، وبايعوني فيه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ذكر قدر الثمن ليس يفيد المقصود، بل قد يذكر قدر الثمن ولا يراد البيع، وهذا معنى ما زعمه ابن حجر، فكأنَّه أخذه من كلام صاحب «التوضيح» ، ونسبه لنفسه، وإمامنا الشَّارح قد سرد كلام هؤلاء الثلاثة، وقال: (كل ذلك ليس تفسيرًا لموضوع
هذه المادة، والتفسير هو الذي ذكرته) انتهى.
قلت: والمعنى: أنِّي أريد الشراء منكم، فقولوا لي عن ثمنه حتى أشتريه منكم.
(بحائطكم) أي: بستانكم؛ لأنَّ الحائط ههنا: البستان، يدل عليه قوله:(وفيه نخل)، وفي لفظ:(كان مربدًا)؛ وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمر؛ لينشف.
قلت: والمعنى واحد.
(هذا) وكان موضع مسجده الشريف النبوي، (قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) عز وجل؛ أي: من الله؛ كما في رواية الإسماعيلي، وقد جاء في كلام العرب: أنَّ (إلى) بمعنى (من)؛ للابتداء كقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
فلا يروي إليَّ ابن أحمرا
أي: مني، وزعم العجلوني (أنَّه يكون قد تمَّ الكلام عند ثمنه، و «إلا» بمعنى «لكن»؛ أي: لكن الأمر فيه إلى الله).
قلت: وهذا تعسف وبعد عن الظاهر؛ لأنَّ قولهم: (والله لا نطلب ثمنه) يرد ما قاله، فكيف يقول:(قد تم الكلام عند ثمنه)؟ فإنَّهم لم يذكروا له ثمنه، ولم يتمَّ الكلام، وكون (إلا) بمعنى (لكن) غير ظاهر؛ لأنَّها لا تأتي بمعناها، على أنَّ الكلام لا يحتاج إلى استعارتها لمعناها؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّا لا نطلب ثمنه المصرف في سبيل الله، وأطلق الثمن عليه؛ للمشاكلة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تعسف مع تطويل المعنى، بل المعنى: لا نطلب الثمن إلا من الله، كما في رواية الإسماعيلي، ويجوز أن يكون «إلى» ههنا على معناها؛ لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: ننهي طلب الثمن إلى الله، كما في قولهم: أحمد إليك الله، والمعنى: أنهي حمده إليك، والمعنى: لا نطلب منك الثمن، بل نتبرع به، ونطلب الثمن؛ أي: الأجر من الله تعالى، وهذا هو المشهور في «الصحيحين»)، قال:(وذكر محمد بن سعد في «الطبقات» عن الواقدي: «أنه عليه السلام اشتراه منهم بعشرة دنانير دفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويقال: كان ذلك مربدًا ليتيمين، فدعاهما عليه السلام، فساومهما؛ ليتخذه مسجده، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك»، وفي «المغازي» لأبي معشر: «فاشتراه أبو أيوب منهما، وأعطاهما الثمن، وبناه مسجدًا، واليتيمان هما: سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو من بني النجار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقيل: معاذ بن عفراء، وقال معاذ: يا رسول الله؛ أنا أرضيهما، فاتخذه مسجدًا، وقال: إنَّ بني النجار جعلوا حائطهم وقفًا، فأجازه النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم»)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قال ابن بطال: (واستدل بهذا على صحة وقف المشاع، وقال: وقف المشاع جائز عند مالك، وهو قول أبي يوسف والشافعي خلافًا لمحمد بن الحسن) انتهى.
قلت: وقف المشاع الذي لا تمكن قسمته؛ كالحمام والبئر جائز عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن، واختلفا في الممكن قسمته، فأجازه الإمام أبو يوسف، وبه أخذ أئمة بلخ، وأبطله الإمام محمد، فلو وقف أحد الشريكين حصته من أرض؛ جاز، كما في «الإسعاف» ، فما زعمه ابن بطال فيه نظر؛ لأنَّ ما ذكره ليس على إطلاقه، ومع هذا قال إمام الشَّارحين:(والصحيح: أنَّ بني النجار لم يوقفوا شيئًا، بل باعوه بالثمن، ووقفه النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجعله مسجدًا، فليس هو وقف مشاع) انتهى.
(فقال) ولابن عساكر: (قال)(أنس) هو ابن مالك الأنصاري: (فكان فيه) أي: الحائط المذكور (ما أقول لكم)، وكلمة (ما) موصولة؛ بمعنى: الذي، والعائد محذوف تقديره: أقوله لكم، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة (قبور المشركين)؛ بالرفع بدل أو بيان لقوله:(ما أقول لكم)، كذا اقتصر عليه إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويجوز أن يكون مرفوعًا على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو قبور، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: قبور المشركين فيه، وزعم العجلوني أنَّه يجوز نصبه بـ (أعني).
قلت: الرواية بالرفع، فلا يجوز التجاوز عنها، أمَّا من حيث العربية؛ فيجوز النصب في مثل هذا التركيب، أما هنا؛ فلا يجوز.
(وفيه خرب)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء المهملة، بعدها موحدة، جمع خربة، كما يقال: كلم وكلمة، وهذا هو الرواية المعروفة، قاله أبو الفرج ابن الجوزي، وقال أبو سليمان:(حدثناه: بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء المهملة، جمع خربة؛ كـ (عنب وعنبة)؛ وهو ما يخرب من البناء في لغة بني تميم، وهما لغتان صحيحتان مرويتان)، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: الأولى رواية الأكثرين ههنا، وكذا ضبطه في «سنن أبي داود» ، ويجوز أن يكون اسم جمع، والثانية رواية أبي ذر، وزعم الخطابي:(لعل صوابه: خُرب -بضمِّ الخاء المعجمة- جمع خربة؛ وهي الخروق في الأرض، إلا أنَّهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة في أرض أو جدار)، قال: ولعل الرواية جرْف -بالجيم- جمع جِرِفَة، وهي جمع جُرُف، كما يقال: حرج وحرجة، وترس ترسة، وأبين من ذلك إن ساعدته الرواية أن يكون حَدَبًا جمع حَدَبَة -بالمهملة- وهو الذي يليق بقوله:(فسويت)، وإنَّما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه خروق وهدوم، فأمَّا الخرب؛ فإنَّها تعمر ولا تسوى.
قلت: وهذا غير ظاهر، فإنَّ الخرب هو ما يخرب من البناء، كما مر، ولا ريب أنَّ الخرب تبنى وتعمر وتسوى حتى تصير مستوية؛ كالأرض الملسة، ولهذا اعترضه صاحب «المصابيح» ، فقال:(وما ذكره ليس بشيء؛ لأنَّ خربًا لا يمنع تسويتها؛ لاحتمال أن يكون فيها بناء تهدم، ونقض منع من اصطحاب الأرض واستقرائها، ولا يدفع الرواية الصحيحة بما قاله) انتهى.
واعترضه أيضًا القاضي عياض قال: لا حاجة إلى هذا التكليف، فإنَّ الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أمر بقطع النخل؛ لتسوية الأرض؛ أمر بالخرب، فرفعت رسومها، وسويت مواضعها؛ لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فعل بالقبور، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح:(فأمر بالحرث، فحرث)، وهو الذي
زعمه ابن الأثيرأنَّه روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد: الموضع المحروث للزراعة، انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي رواية الكشميهني: «حَرْث»؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء بعدها مثلثة، ولكن قيل: إنه وهم) انتهى.
قلت: الذي قال: (إنَّه وهم) ابن حجر، وهو من انتهاء الجهالة إليه، وعدم تعرفه في المعاني، فإنَّ هذه الرواية هي رواية حماد بن سلمة عن أبي التياح، وكذلك هي في رواية ابن أبي شيبة، كما سبق قريبًا، والمعنى عليه صحيح؛ لأنَّ الحرث؛ بالمهملة والمثلثة: الموضع المحروث للزراعة، كما قاله ابن الأثير، فيكون المراد: أنَّه أمر بتسوية موضع الحرث وبسطها متسوية للمصلين، وقال ابن الأثير:(قد روي بالحاء المهملة والمثلثة) كما مر، وعلى هذا؛ فلا وهم في هذه الرواية، إنَّما الواهم ابن حجر، وقد علل كلامه بأنَّ رواية البخاري عن عبد الوارث عن أبي التياح لا من رواية حماد عنه.
قلت: وهذا تعسف وبُعْدٌ عن الظاهر، فإنَّه لا يلزم من رواية المؤلف عن عبد الوارث أنَّه تكون رواية حماد عنه وهمًا
(1)
؛ لأنَّ الشيخ واحد وهو أبو التياح، فروى عنه حماد: أنَّه بالمهملة والمثلثة، وروى عنه عبد الوارث: بالمعجمة والموحدة، وهذا لا مانع منه، فيحتمل أنَّ عبد الوارث روى عنه هكذا وهكذا، فأخذ الكشميهني بالمهملة والمثلثة، وهذا ليس فيه وهم، وقد نقل عبارته العجلوني، ولم يعترضه؛ لأنَّه يتعصب له دائمًا أبدًا، وإمامنا الشَّارح لم يعترضه من أدبه وحفظه وعلمه بأنَّ الرواية ثابتة، فلا حاجة إلى ردِّ ما يقال فيها؛ فافهم.
(وفيه نخل) أي: في الحائط المذكور، وزعم العجلوني أي: في الخرب.
قلت: وهو تعسف بعيد؛ لأنَّ الخرب لا يزرع عليها نخل ولا غيره، فهي محتاجة للتعمير والبسط، فكيف قال هذا القائل هذا الكلام الذي هو صادر عن غير تأمُّل؟
(فأمر النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين) متعلق بـ (أمر)؛ يعني: التي في الحائط، (فنبشت)؛ أي: حفرت وغُيِّبت عظامها، وزعم العجلوني أي: أخرجت العظام ورميت في غير موضع.
قلت: هذا بإطلاقه ممنوع، فإن كان مراده أنَّ العظام أخرجت ودفنت في موضع آخر؛ فمسلم أنَّه جائز، وإن كان مراده إخراجها ورميها غير مدفونة؛ فغير جائز، والظاهر: أنَّ هذا مراده؛ لأنَّ قوله: (ورُميت) معناه: أُلقيت غير مدفونة، وهذا غير جائز؛ لأنَّ أجزاء الآدمي ولو كافرًا محترمةٌ، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وإكرامه: دفنه تحت الأرض، كما لا يخفى، (ثم) أمر عليه السلام (بالخِرَب)؛ بكسر المعجمة وفتح المهملة، أو بفتح المعجمة وكسر المهملة، (فسُوِّيت)؛ يعني: ألقي عليها التراب وغيره حتى بسطت، وسُطِّحت، وصارت سهلة، وليس معناه: أزيل ما كان فيها، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ الخرب خروق وفرج في الأرض، وليس فيها شيء حتى يزال، بل تحتاج إلى وضع تراب أو مدر حتى تبسط، كما لا يخفى؛ فافهم.
(و) أمر عليه السلام (بالنخل، فقطع) أي: من أصله حتى لا ينبت، فيؤذي المسجد، (فصفوا النخل قبلة المسجد) من صففت الشيء صفًّا: إذا وضعته مصفوفًا؛ أي: جعلوا موضع النخل جهة القبلة للمسجد، وقيل: المعنى: جعلوا النخل في جهة قبلة المسجد.
قال إمام الشَّارحين: (وفي «مغازي ابن أبي بكر»، عن ابن إسحاق: جعل قبلة المسجد من اللَّبِن، ويقال: من حجارة منضودة بعضها على بعض)، وسيأتي في «الصحيح» : (أن المسجد كان على عهده عليه السلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا
…
)؛ الحديث.
قال إمام الشَّارحين: ولعل المراد بالقبلة: جهتها لا القبلة المعهودة اليوم، فإنَّ ذلك لم يكن ذلك الوقت، وورد أيضًا: أنَّه كان في موضع المسجد الغرقد، فأمر أن يقطع، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها عليه السلام، فنُبشت، وأمر بالعظام أن تُغيَّب، وكان في المربد ماء مستنجل، فسيَّروه حتى ذهب، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مئة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مُرَبع، ويقال: كان أقلَّ من المئة، وجعلوا الأساس قريبًا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللَّبِن، وجعل النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِن والحجارة بنفسه، ويقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر
(2)
…
هذا أبر ربنا وأطهر
وجعل عليه السلام قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له: باب الرحمة؛ وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة، والثالث: الذي يدخل منه عليه السلام؛ وهو الباب العثماني، وجعل طول الجدار قامة وبسطة، وعُمُده الجذوع، وسقفه جريدًا، فقيل له: ألا تسقفه، فقال:«عريش كعريش موسى خَشيبات» ، وتمام الأمر أعجل من ذلك، وسيجيء في الكتاب عن ابن عمر أنَّ المسجد كان على عهده عليه السلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعُمُده خشب
(3)
النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهده عليه السلام باللبن والجريد، وإنَّما دعمه خشبًا، ثمَّ غيره عثمان بن عفان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة، وجعل عمده حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وفي «الإكليل» :(ثمَّ بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز)، وفي «الروض» :(ثمَّ بناه المهدي، ثم زاد فيه المأمون، ثمَّ لم يبلغنا تغيره إلى الآن) انتهى.
قلت: وقد بلغني تغيره، وهو أنَّ السلطان عبد المجيد بن محمود العثماني قد زاد فيه زيادة كثيرة، وبناه بالحجارة المرمر، وفتح له بابًا سماه: الباب المجيدي، وإذا شاء الله تعالى أن يتفضل عليَّ بالزيارة؛ نحقق ذلك بمنه تعالى وكرمه.
(وجعلوا عضادتيه الحِجَارة)؛ بكسر الحاء
(1)
في الأصل: (وهم)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (خبير)، وهو تحريف.
(3)
في الأصل: (الخشب)، وليس بصحيح.
المهملة وفتح الجيم، وعضادتيه: تثنية عِضادة -بكسر العين المهملة، وبالضاد المعجمة المفتوحة- قال أبو عمرو:(هي جانب الحوض)، وقال صاحب «العين» :(أعضاد كل شيء: ما يشدده من حواليه من البناء وغيره مثل عضاد الحوض: وهي صفائح من حجارة يُنصبن على شفيرة، وعضادتا الباب: ما كان عليهما يطبق الباب؛ إذا أصفق)، وقال الأزهري:(عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله)، زاد القزار:(فوقهما العارضة) انتهى.
قلت: والمعروف: أنَّ العضادة هي التي على يمين الباب، وأخرى عن يساره، يعلوهما قوس يُبنون من الحجارة، فالباب مركب منهما، ولكنَّ ظاهر اللفظ يدلُّ على أنَّهم جعلوا عضادتي المسجد حجارة، وهما حائطان كل واحد منهما بموضع واحد مربع البناء عال يوضع عليهما الأقواس؛ لأجل السقف؛ فافهم.
(وجعلوا ينقلون الصخر)؛ بالمعجمة: الحجارة الكبار، وضمائر الرفع السابقة واللاحقة ههنا ترجع للصحابة رضي الله عنه (وهم يرتجزون)؛ أي: ينشدون أشعار الرجز؛ تنشيطًا لنفوسهم؛ ليسهل عليهم العمل، والرجز: ضَرْبٌ من الشعر، وقد رجز الراجز وارتجزه.
(والنبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم يرتجز معهم) والجملة حالية، وإنَّما كان يفعل ذلك؛ تطييبًا لخاطرهم وتنشيطًا لعملهم (وهو) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام (يقول) والجملة أيضًا حالية: (اللهم) أي: يا الله، وقال الكوفيون:(أصله: الله آمنا بخير؛ أي: اقصدنا، فخُفِف، فصار: اللهم، وقال البصريون: (اللهم: دعاء لله بجميع أسمائه؛ لأنَّ الميم تُشعِر بالجمع، كما في «عليهم»).
قلت: وما قاله الكوفيون هو الظاهر؛ لأنَّ أصله عندهم: الله آمنا، فهو دعاء بالخير من الله تعالى، وما زعمه البصريون ليس بشيء؛ لأنَّه ليس فيه ما يدل على أنَّه دعاء بجميع أسماء الله تعالى؛ لأنَّ الميم للتفخيم لا للجمع، كما زعموا، يدل عليه أنَّ أصله: يا الله، فحذفت ياء، وعُوِّض عنها
(1)
الميم؛ للتفخيم، وليدل على المحذوف؛ فافهم.
(لا خير إلا خير الآخرة)، وفي رواية أبي داود:(اللهم؛ إنَّ الخير خير الآخرة)(فاغفر للأنصار)؛ كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي:(فاغفر الأنصار)؛ بحذف اللام، ووجهه: أن يضمن (اغفر) معنى (استر) أو (ارحم)، وفي رواية أبي داود:(فانصر الأنصار)، والأنصار: جمع نصير؛ كـ (الأشراف) : جمع شريف، والنصير والناصر: من نصره الله على عدوه، ينصره نصرًا، والاسم: النصرة، وسموا بذلك؛ لأنَّهم أعانوا النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وشدوا منه، وهم الأوس والخزرج، كذا في «عمدة القاري» .
(والمهاجرة) أي: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية؛ محبة فيه عليه السلام، وطلبًا للآخرة، والهجرة في الأصل: من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجرًا وهجرانًا، ثمَّ غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية، يقال: منه هاجر مهاجرة، قاله إمام الشَّارحين.
فإن قلت: الشِّعر حرام على النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بنص القرآن، قال تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فكيف كان ينشد الرجز من الشعر مع أصحابه؟ كما في حديث الباب، وقوله: يوم حنين وغيره:
هل أنتِ إلا إصبع دَمِيت
…
وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله:
أنا النبيُّ لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
وما هذا إلا يرد على الآية الكريمة.
قلت: لا يرد على الآية شيء من ذلك، فإنَّ العروضيين
(2)
وأهل الأدب اتفقوا على أنَّ الرجز لا يكون شعرًا، وعليه يحمل ما جاء عنه عليه السلام من ذلك، كذا أجاب إمامنا الشَّارح.
قلت: ويدل عليه أنَّ الخليل قد أنكر كون الرجز من الشعر، وزعم القرطبي أنَّ الصحيح في الرجز: أنَّه من الشعر، وإنَّما أخرجه من الشعر من أشكل عليه إنشاده عليه السلام إياه، فقال:(لو كان شعرًا؛ لما عَلِمَه)، قال:(وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ من أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على وجه الندور؛ لم يستحق اسم شاعر، ولا يقال فيه: إنَّه يعلم الشعر ولا ينسب إليه) انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء، فإنَّ من أنشد الشعر ولو قليلًا يقال: إنَّه شاعر يعلم الشعر، وكذلك من قاله، أو تمثل به ولو كان على وجه الندور، فيقال: إنَّه شاعر، ويدلُّ عليه ما قاله الحسن بن أبي الحسن: أنشد عليه السلام: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا» ، فقال أبو بكر: يا نبي الله؛ إنَّما قال الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديًا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنَّك رسول الله، يقول الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، فهذا يدلُّ على أنَّ إنشاد الشعر ولو قليلًا يقال لمنشده شاعر؛ بدليل أنَّه عليه السلام لم يقل ذلك على الوجه الموزون، بل غيره، كما لا يخفى، وأيضًا فإنَّه عليه السلام قد أنشد قول طرفة، فقال:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ لم يقل هكذا، وإنَّما قال:
. . . . . . . . . . . . . . .
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال: أشهد أنَّك رسول الله، وأنَّك لست بشاعر، ولا تحسنه، وهذا يردُّ أيضًا على من زعم أنَّ البيت الواحد ليس بشعر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقاله عليه السلام على طبق ما قاله الشاعر، ولم يغيره، فهذا يدلُّ على أنَّ من أنشد الشعر ولو بيتًا واحدًا؛ يقال له: إنَّه شاعر، وقال ابن التين:(لا ينطلق على الرجز شعر، وإنَّما هو كلام مسجع؛ بدليل أنَّه يقال لصانعه: راجز، ولا يقال: شاعر، ويقال: أنشد الرجز، ولا يقال: أنشد شعرًا، وقيل: إنَّما قاله الشَّارع ليس برجز ولا موزون).
واختلف هل يحل له الشعر؟ فعلى القول بنفي الجواز: هل يحكي بيتًا واحدا؟ فقيل: إنه لا يتمه إلا متغيرًا، ويدل عليه
(1)
في الأصل: (عنه).
(2)
في الأصل: (العرضيين)، والمثبت هو الصواب.