الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أميرًا على المدينة
…
) إلخ؛ لا ينافي ذلك، فإنَّه قد دخل على مروان لأجل الشكاية إليه وإن لم يكن أميرًا، فإن كثيرًا من الناس إذا وقع في أمر؛ يشكو أمره أولًا لصاحبه أو صديقه أو قريبه ثم يشكو للحاكم، فيجوز أن يكون الوليد شكا أمره أولًا لمروان.
وقوله: (ولم يكن يومئذ شابًّا
…
) إلخ: كلام متناقض على أنَّه قد استوجهه؛ فافهم.
وقوله في الثالث: (إنَّه بعيد) : ليس كذلك؛ لأنَّه يجوز أن ينسب إلى ما ذكره؛ لشهرته به على طريقة المجاز، وهو سائغ في الكلام، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أن يجتاز)؛ بالجيم والزاي، من الجواز؛ أي: يمر، جملة محلها نصب مفعول (أراد) (بين يديه)؛ بالتثنية؛ أي: بين يدي أبي سعيد (فدفع) وفي بعض النُّسخ: (فدفعه)؛ بالضمير (أبو سعيد) أي: سعد بن مالك الخدري (في صدره) أي: في صدر الشاب المذكور (فنظر الشاب) يحتمل أنَّه نظر إليه متعجبًا من فعله به، ويحتمل أنَّه نظر طريقًا يمر فيه غيره، ويدل عليه قوله:(فلم يجد) أي: الشاب (مَسَاغًا)؛ بفتح الميم والسين المهملة، وبالغين المعجمة؛ أي: طريقًا يمكنه المرور منها، يقال: ساغ الشراب في الحلق؛ إذا نزل من غير ضرر، وساغ الشيء: طاب (إلا بين يديه) أي: أبي سعيد، (فعاد) أي: الشاب (ليجتاز) أي: ليمر بين يديه، (فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى)؛ أي: من المرة الأولى أو الدفعة الأولى، كما في «عمدة القاري» ، (فنال)؛ بالفاء والنُّون؛ أي: فأصاب (الشاب من أبي سعيد) : من عرضه بالشتم، وهو من النيل؛ وهو الإصابة، كذا قال الشراح.
قلت: وفيه: أن الشاب لم ينل من أبي سعيد شتمًا
(1)
في عرضه، وإنما أصابه منه شتم باليد المرة بعد أخرى.
(ثم) إن الشاب رجع ولم يمر بين يدي أبي سعيد حتى (دَخَل على مروان بن الحَكَم)؛ بفتحتين: الأموي أبو عبد الملك، يقال: إنَّه رأى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئًا، وتوفي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلموهو ابن ثمان سنين، توفي بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين عن ثلاث وستين سنة، وتقدم ذكره في باب (البزاق).
قلت: ودفن بباب الصغير رضي الله عنه.
(فشكى) أي: الشاب (إليه) أي: إلى مروان (ما لقِي)؛ بكسر القاف؛ أي: الذي لقيه (من أبي سعيد)؛ أي: من الدفع الذي دفعه أبو سعيد، وإنما شكى إليه؛ لأنَّه يحتمل أنَّه صديقه، أو صاحبه، أو لقرابته منه، ويحتمل أنَّه ابن زوجة مروان، وسماه ابنه مجازًا كما سبق، ويحتمل غير ذلك كما قدمنا؛ فليحفظ.
(ودخل أبو سعيد خلفه على مروان)؛ يعني: أن أبا سعيد لما رأى الشاب رجع وذهب إلى دار مروان؛ علم أنَّه يشتكي عليه إليه، فأتم صلاته وذهب خلفه حتى دخل على مروان؛ لأجل أن يعلمه أن المرور بين يدي المصلي غير جائز؛ لاحتمال أن الحديث لم يبلغهم؛ فافهم.
(فقال) أي: مروان (لأبي سعيد: ما لك ولابن أخيك) : وكلمة (ما) مبتدأ، و (لك) : خبره، (ولابن أخيك) : عطف عليه بإعادة الخافض، وأطلق الأخوة باعتبار أن المؤمنين إخوة، وإنما لم يقل: ولأخيك؛ بحذف (الابن)؛ نظرًا إلى أنَّه كان شابًّا أصغر منه، قاله الشَّارح، (يا با سعيد؟) وهذا يدل على أنَّ المارَّ بين يدي أبي سعيد الذي دفعه غير الوليد بن عقبة؛ لأنَّ أباه عقبة قتل كافرًا، قاله المحقق بدر الدين العيني الحنفي رضي الله تعالى عنه، آمين.
(قال)؛ أي: أبو سعيد لمروان والشاب: لم أفعل الدفع المذكور من تلقاء نفسي لغرض هوًى، وإنما فعلته اتِّباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأني (سمعت النَّبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجملة:(يقول) محلها نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ (سمعت) (إذا صلى أحدكم)؛ أي: في الصحراء أو في مسجد صغير دون أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا، كما قدمناه (إلى شيء يستره)؛ أي: كعنزة ونحوها مما طوله ذراع بغلظ إصبع (من الناس)؛ أي: من مرورهم بين يديه، أمَّا المسجد الكبير؛ فلا يحتاج المصلي فيه من السترة، كما سبق غير أنَّه إذا مر أحد بين يديه؛ يدفعه؛ فافهم، (فأراد أحد) من الناس (أن يجتاز) أي: يمر (بين يديه) أي: في موضع سجوده؛ (فليدفعه) وفي رواية مسلم: (فليدفع في نحره)؛ أي: بالأسهل والأخف، وقال القرطبي: بالإشارة ولطيف المنع، انتهى.
وهل الدفع المذكور مندوب أم واجب؟ قال النَّووي: وهذا الأمر أمر ندب متأكد، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أوجبه، واعترضه الشَّارح: بأن أهل الظَّاهر قالوا بوجوبه؛ لظاهر الأمر، فكأنَّ النَّووي ما اطَّلع على هذا.
وقال ابن بطال: اتفقوا على دفع المار إذا صلى إلى سترة، فأمَّا إذا صلى إلى غير سترة؛ فليس له؛ لأنَّ التصرف والمشي مباح لغيره في ذلك الموضع الذي يصلِّي فيه، فلم يستحق أن يمنعه إلا ما قام الدليل عليه وهي السنة التي وَرَدت السنة بمنعها، انتهى.
قلت: هذا ليس على إطلاقه؛ لأنَّ المصلي بمكان يملكه من موضع قدميه إلى موضع سجوده سواء كان يصلِّي إلى سترة أو لا، فإذا صلى إلى سترة؛ فظاهر، وأمَّا إذا صلى لغير سترة؛ فليس لأحد أن يمر بين يديه، وله دفعه مطلقًا، كما إذا صلى ونسي وضع السترة أو في مكان لا يظنُّ المرور فيه، فجاء مار؛ فله دفعه، كما لا يخفى، وقد سبق ذلك؛ فافهم.
وقال إمامنا الشَّارح: (ولا يجوز للمصلي المشي من موضعه ليَرُدَّ المار، وإنما يدافعه ويرده من موضعه؛ لأنَّ مفسدة الشيء في الصلاة أعظم من مروره بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه، وإنما يرده إذا كان بعيدًا منه بالإشارة والتسبيح، ولا يجمع بينهما) انتهى.
قلت: وظاهره أنَّ هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، لكن قد ذكر في «المنية» و «شرحها» للحلبي البرهان: أن المشي في الصلاة خطوة أو خطوتين لا يضرها ولا يفسدها، انتهى.
وفي «عمدة القاري» : وفي «الكافي» : يدفعه ويصر على ذلك، وقيل: يدفعه دفعًا شديدًا أشد من الدرء، ولا ينتهي إلى ما يفسده صلاته، وهذا هو المشهور عن مالك وأحمد، وقال أشهب: إن قَرُبَ منه؛ درأه ولا ينازعه، فإن مشى له ونازعه؛ لم تبطل صلاته، وإن تجاوزه؛ لا يَرُدُّه؛ لأنَّه مرور ثان، وكذا رواه ابن القاسم عن مالك، وبه قال الشَّافعي وأحمد، وقال ابن مسعود وسالم: يردُّه من حيث جاء، وإذا مر بين يديه ما لا يؤثر فيه الإشارة كالهرة؛ قال مالك: دفعه برجله أو ألصقه إلى السترة، انتهى.
(فإن أبى)؛ أي: امتنع المار من الرجوع؛ (فلِْيقاتله)؛ بكسر اللَّام الجازمة وسكونها؛ أي: يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول، قال القرطبي: وأجمعوا على أنَّه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح ولا بغيره؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها، والخشوع فيها، وقال القاضي عياض: أجمعوا على أنَّه لا يلزمه مقابلته بالسلاح، ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن دفعه بما يجوز، فهلك من ذلك؛ فلا قَوَدَ عليه باتفاق العلماء، وهل يجب ديته أم يكون هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان لمالك، وتجب الدية والكفارة عند سيدنا الإمام الأعظم؛ لأنَّ دم المسلم مضمون، والحديث محمول على التغليظ كما في آية الحج وحديثه، ولا دِية ولا كفارة عند الشَّافعي، وفيه الدية عند أحمد ابن حنبل، وقال ابن شعبان: عليه الدية في ماله كاملة، وقيل: هي على عاقلته، وقيل: هدر، والجمهور على أنَّ معنى:(فليقاتله) : الدفع بالقهر لا جواز القتل؛ لأنَّ المقصود المبالغة في كراهة المرور، وفي «التَّمهيد» : العمل القليل في الصلاة جائز؛ نحو: قتل برغوث، وحك جسد، وقتل عقرب بما خفَّ من الضرب ما لم يكن كثيرًا، فإن كثر؛ يفسد الصلاة، وشذ جماعة من الشَّافعية، فزعموا إلى أنَّه يقاتله حقيقة، وردَّه ابن العربي، فقال: المراد: المدافعة.
وأبعد الباجي فزعم أن المراد بالمقاتلة: اللعن، وأنكره جماعة بأنه يستلزم التكلم في الصلاة؛ وهو مبطل، وأجاب بعضهم باحتمال أن يريد لعنه بالدعاء من غير خطاب، لكن فعل أبي سعيد يرده، وهو أدرى بالمراد.
قلت: وما هذا إلا خلاف الحق والصَّواب، فإنَّ لعن
(1)
في الأصل: (شتم)، وليس بصحيح.
الكافر المعين؛ لا يجوز، فكيف بلعن المسلم الموحد لله الشاهد بالرسالة للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإنَّ لعنه كبيرة من الكبائر، وكذلك لا يجوز لعنه بالدعاء من غير خطاب؛ لأنَّ اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ولا يستحق ذلك إلا من أشرك في الله تعالى، أمَّا المسلم؛ فلعنه حرام كبيرة تغمس صاحبها في جهنم؛ فانظر هذه الجرأة الوخيمة من هؤلاء الذين يستحقون من الله العذاب الأليم، وقد أعمى الله أبصارهم عن قوله تعالى في آية الحج:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} ، وعن قوله عليه السلام:(من استطاع منكم الحج ولم يحج، فإن شاء أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، فإن الأئمة أجمعوا على أنَّ المراد به: التغليظ لا الكفر حقيقة، وما نحن فيه مثله، فإن مراده عليه السلام بالمقاتلة المدافعة، كما ذكره جمهور العلماء؛ فليحفظ.
وقوله: (فإنما هو) أي: المار (شيطان) : بيان وتعليل للمقاتلة، قال في «عمدة القاري» : وهذا من باب التشبيه للمبالغة؛ أي: إنَّما هو كالشَّيطان، أو يراد به: شيطان الإنس، وإطلاق الشَّيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى:{شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].
وقال الخطابي: (معناه: أن الشَّيطان يحمله على ذلك، ويحركه إليه، وقد يكون أراد بالشَّيطان: المار بين يديه نفسه، وذلك أن الشَّيطان: هو المارد الخبيث من الجن والإنس).
وقال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه الحامل له على ذلك الشَّيطان، ويؤيده حديث ابن عمر عند مسلم:(لا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى؛ فليقاتله، فإن معه القرين)، ومثله عند ابن ماجه.
وقال ابن المنكدر: (فإنَّ معه العُزَّى، وقيل: معناه: إنَّما هو فعل الشَّيطان لشغل قلب المصلي، كما يخطر الشَّيطان بين المرء ونفسه) انتهى.
وفي الحديث: طلب اتخاذ السترة للمصلي، وفيه خلاف؛ ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: أنها مستحبة، وبه قال مالك والشَّافعي، ويجوز تركها عند مالك، وقال أحمد: إنها واجبة، فإن لم يجد؛ وضع خطًّا؛ لحديث ابن عمر الذي صححه الحاكم: (لا تصلوا إلا إلى سترة، ولا تدع أحدًا
(1)
يمر بين يديك)، وعند أبي نعيم: قال عمر بن الخطاب: (لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته؛ ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس)، وعند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أنَّه ليقطع نصف صلاة المرء المرور بين يديه، وقال بالاستحباب جماعة؛ إبراهيم النخعي، وعطاء، والقاسم، وسالم، رواه ابن أبي شيبة.
وحدُّها: من قدمي المصلي إلى موضع سجوده، واختار شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام، والإمام قاضي خان: أنَّه يكره المرور في موضع سجود المصلي، وقيل: مقدار صفين أو ثلاثة، وقيل: ثلاثة أذرع، وقيل: بأربعين ذراعًا، وقدره الشَّافعي وأحمد بثلاثة أذرع، ولم يحده مالك.
وكذلك يستحب في الصحراء أن يتخذ سترة، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم؛ فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد؛ فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا، ولا يضره ما مر أمامه» ، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، وقال القاضي عياض: هذا حديث ضعيف، وضعفه ابن عيينة، وإسماعيل بن أمية، والشَّافعي، والنَّووي.
ويستحب أن تكون السترة قدر ذراع، وأن يكون بغلظ إصبع؛ لأنَّ ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد، ويقرب المصلي من السترة، ويجعلها على أحد حاجبيه الأيمن أو على الأيسر، كما نص عليه أئمتنا الأعلام؛ لما روى أبو داود من حديث المقداد بن الأسود قال:(ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود، ولا عود، ولا شجر إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدًا)؛ يعني: لم يقصده قصدًا بالمواجهة، والصمد: القصد لغة، وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
والمعتبر عندنا الغرز دون الخط والإلقاء؛ لأنَّ المقصود هو الدرء بالخط، والإلقاء لا يُحصِّلُ المقصود، وقال شيخ الإسلام في «المبسوط» : إنَّما يغرز إذا كانت الأرض رخوة، أمَّا إذا كانت صلبة؛ فيضع وضعًا، لكن يضع طولًا لا عرضًا، وفي «المحيط» : الخط ليس بشيء، وهو قول الجمهور، وجوَّزه أشهب، وبه قال سعيد بن جبير، والأوزاعي، والشَّافعي بالعراق، ثم قال بمصر: لا يخط، وحديث أبي هريرة المار ضعَّفه جماعة؛ عبد الحق، وابن حزم، وغيرهما، ولا يضر وضع سترة مغصوبة، فإنَّها معتبرة عندنا، وعند أحمد تبطل الصلاة، ومثله الثوب المغصوب، انتهى وتمامه في «عمدة القاري» .
وفيه: أن المار كالشَّيطان في أنَّه يشغل قلب المصلي عن مناجاة ربه تعالى، وفيه: أنَّه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن في الدين: إنَّه شيطان، وفيه: أن الحكم للمعاني لا للأسماء؛ لأنَّه يستحيل أن يصير المار شيطانًا بمروره بين يديه، وفيه: أن دفع الأمور بالأسهل فالأسهل، وفيه: أن المنازعات لا بد [فيها] من الرفع للحاكم، ولا ينتقم الخصم بنفسه، وفيه: أن رواية العدل مقبولة، وإن كان الراوي له منتفعًا به، انتهى، والله أعلم.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
(101)
[باب إثم المار بين يدي المصلي]
هذا (باب) بيان (إِثم المار بين يدي المصلِّي)؛ بكسر اللَّام، وأصل (المار) : مارر، فأسكنت الرَّاء الأولى، وأدغمت في الثانية، والإدغام في مثله واجب، قاله الشَّارح، وهو من الكبائر إذا صلى إلى سترة في الصحراء، أو في المسجد الصغير، وكذا إذا صلى إلى غير سترة في المسجد الكبير، وإنما كان كبيرة؛ لذكر الوعيد عليه في الأحاديث؛ منها: حديث الباب، ومنها: حديث أنس بن مالك عند الترمذي: «لأَنْ يقف أحدكم مئة عام؛ خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلِّي» ، ومنها: ما رواه ابن عبد البر موقوفًا: (لأن يكون الرجل رمادًا يذرى به؛ خير له من أن يمر بين يديه رجل متعمدًا وهو يصلِّي) انتهى، وهذا يدل على أنَّ المرور مكروه تحريمًا، فإن صلى إلى غير سترة في الصحراء أو في المسجد الصغير؛ فإن الكراهة تعود على المصلي دون المار؛ لتقصير المصلي في عدم السترة، وقد يقال: إنهما يشتركان في الإثم؛ لأنَّ المصلي مقصر كما علمت، وكذلك المار يكون مقصرًا؛ لأنَّه علم المصلي أنَّه في الصلاة ومر بين يديه، وكذا إذا مر في موضع سجوده في المسجد الكبير؛ فإن الإثم على المار كما قررناه، وتمامه في شرحنا على «القدوري» .
[حديث: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان
أن يقف أربعين]
510 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون الضَّاد المعجمة: هو سالم بن أبي أمية (مولى عُمر بن عُبيد الله) بِضَمِّ العين المهملة فيهما، (عن بُسْر) بِضَمِّ الباء الموحَّدة، وسكون السين المهملة (بن سعيد)؛ بالتحتية بعد العين المهملة مكبرًا: هو الحضرمي المدني الزاهد التَّابعي الثِّقة، المتوفى سنة مئة، ولم يخلف كفنًا، قلت: والبسر: أوله طلع؛ ثم خَلال -بالفتح-، ثم بَلَح -بفتحتين-، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، وبابه (نصر) :(أنَّ زيد بن خالد)؛ بفتح الهمزة: هو الجهني الصَّحابي رضي الله عنه (أرسله)؛ أي: جعله رسولًا؛ يعني: جعل زيدٌ بُسرًا رسولًا برسالته، كذا في «الصِّحاح» ، فما فسره العجلوني:(أي: بعثه)؛ مخالف للُّغة؛ فافهم، (إلى أبي جُهَيم)؛ بِضَمِّ الجيم، وفتح الهاء: هو عبد الله بن جُهَيم، قال إمامنا الشَّارح: أبو جُهَيم -بالتصغير- -مر في باب (التيمم في الحضر) - ابن عبد البر راوي حديث التيمم هو غير راوي حديث المرور، وقال الكلاباذي: أبو جهيم، ويقال: أبو جهم بن الحارث، روى عنه البخاري في (الصلاة) و (التيمم)، وقال النَّووي: أبو جهيم راوي حديث المرور وحديث التيمم، عن أبي الجهم -مكبرًا- المذكور في حديث الخميصة والإنبجانية؛ لأنَّ اسمه عبد الله وهو أنصاري، واسم ذلك عامر وهو عدوي، وقال الذهبي:(أبو الجهيم، ويقال: أبو الجهم بن الحارث بن الصمة، كان أبوه من كبار الصَّحابة)، ثم قال: (أبو جهيم: عبد الله بن جهيم، جعله وابن الصمة واحدًا أبو نعيم وابن منده، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه، وجعلهما ابن عبد البر اثنين، وهو أشبه،
(1)
في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.
لكن متن الحديث واحد) انتهى، قلت: وما ذكر من أنَّ المرسِل زيد، والمرسَل بسر، والمرسل إليه أبو جهيم في هذا الحديث هو ما ذكره في «الموطأ» لم يختلف فيه، وتابعه سفيان الثَّوري عن أبي النَّضر عند مسلم، وابن ماجه، وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النَّضر فقال: عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله
…
؛ فذكر هذا الحديث، قال ابن عبد البر: انقلب على ابن عيينة، وقال ابن معين: إنَّه خطأ، واعترضه ابن القطان، فقال: ليس بخطأ؛ لاحتمال أن يكون أبو جُهيم بعث بسرًا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جُهيم، انتهى، قلت: وفيه أنَّه لم يذكر ذلك في المتن، فالاحتمال بعيد.
وزعم ابن حجر أن قولهم: أخطأ فلان، مبني على غلبة الظن، ولا يشترط الخطأ في نفس الأمر، انتهى.
قلت: لا يخفى أن غلبة الظن منزَّلة منزلة اليقين عند المحققين، وأمَّا نفس الأمر؛ فلا يطَّلع عليه إلا رب العزة جلَّ وعلا؛ فافهم، والله أعلم.
(يسأله) أي: يسأل أبا جُهيم: (ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: عن الذي سمعه (في) حكم الشخص (المار بين يدي المصلي؟)؛ أي: أمامه في موضع سجوده، أو بينه وبينه ثلاثة أذرع أو رمية حجر؛ أقوال للعلماء، والصَّواب: الأول كما علمت، (فقال أبو جُهيم) بالتصغير:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: في حق المار المذكور: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)؛ أي: من الإثم والخطيئة، وفي رواية الكشميهني:(ماذا عليه من الإثم)، وليست
(1)
هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، وكذا في «الموطأ» ليست هذه الزيادة، وكذا في سائر المستندات والمستخرجات غير أنَّه وقع في «مصنف ابن أبي شيبة» :(ماذا عليه)؛ يعني: من الإثم، وعيب على الطَّبري؛ حيث عزا هذه الزيادة في (الأحكام) للبخاري، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال القسطلاني:(هذه الزيادة ثابتة في «اليونينية» من غير عزو) انتهى، وأنكر ابن الصلاح على من أثبتها، لكن قال النَّووي: في رواية رويناها في «الأربعين» : (ماذا عليه من الإثم) انتهى، قلت: وعلى كل فهي ثابتة، والمثبت مقدم على النافي.
وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن هذه الزيادة ذكرت في أصل «البخاري» حاشية، فظنها الكشميهني من الأصل؛ لأنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، بل كان راوية، انتهى.
قلت: هذا متعسف؛ لأنَّه حيث ذكرت في الأصل؛ فلا ريب أنَّها منه، وظن الكشميهني معتبر، ويقال له: غلبة الظن، وهو بمنزلة اليقين، وكيف يزعم هذا القائل أنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، وقد ذكر المحدثون: أن الرواي لا بد فيه من العدالة والإتقان والحفظ، فنفي العلم يستلزم الجهل، ونفي الحفظ يستلزم البلادة، وهما ينافي الراوي، وعليه فلا يجوز الرواية عنه، فكيف رُويت عنه الأحاديث الصَّحيحة؛ فانظر ما زعمه هذا القائل.
وقال إمامنا الشَّارح: (وكلمة «ما» : استفهام، ومحلها الرفع على الابتداء، وكلمة «ذا» : إشارة خبره، والأَولى أن تكون «ذا» موصولة؛ بدليل افتقاره إلى شيء بعده؛ لأنَّ تقديره: ماذا عليه من الإثم؟ ثم إن «ماذا عليه» : في محل نصبٍ سدَّ مسدَّ المفعولين لقوله: «لو يعلم»، وقد علق عمله بالاستفهام) انتهى.
قلت: وإنما أبهم الإثم في رواية الصَّحيح إشارة إلى أنَّ هذا الإثم عظيم كبير، لا يتقدر بقدر، ولا يوصف بوصف، ولا يدخل تحت عبارة؛ فافهم.
وما ذكره العجلوني هنا غير سديد؛ لأنَّ فيه خلطًا وخبطًا؛ فاجتنبه.
وقوله: (لكان أن يقف أربعين) : جواب (لو)، وكلمة (أن) : مصدرية؛ والتقدير: لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي؛ لكان وقوفه أربعين خيرًا له من أن يمر؛ أي: مروره بين يديه، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أنَّ جواب (لو) ليس المذكور؛ إذ التقدير: لو يعلم ماذا عليه؛ لوقف أربعين، ولو وقف أربعين؛ لكان خيرًا له.
وردَّه الشَّارح بأنَّه لا ضرورة إلى هذا التقدير، وهو تصرف فيه تعسف، وحق التركيب ما ذكرناه؛ فافهم، انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما ذكره الكرماني أدق وأتم في الارتباط، والمعنى يدل عليه، نعم؛ ليس هو بمتعين كما في «الفتح» ، انتهى.
قلت: اعتراض الناقل والمنقول عنه؛ كلاهما غير صواب؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ يدل لما قاله إمامنا الشَّارح، بل الظَّاهر أنَّه متعين ههنا، وعليه المعنى ظاهر، وأمَّا ما زعمه الكرماني؛ فإنَّه قاصر فاسد التركيب، غير مرتبط كلامًا ومعنًى، فما زعمه العجلوني تبعًا لابن حجر تعصب بارد من ذهن شارد؛ فافهم.
(خيرًا له) قال الشَّارح: (فيه روايتان النصب والرفع؛ أمَّا النصب؛ فظاهر؛ لأنَّه خبر لـ «كان»، واسم «كان» هو قوله: «أن يقف»؛ لأنا قلنا: إن كلمة «أن» مصدرية، وأن التقدير: لكان وقوفه خيرًا له أربعين، وأمَّا الرفع؛ فقد قال ابن العربي: هو اسم «كان»، ولم يذكر خبره ما هو، وخبره هو قوله: «أن يقف»؛ والتقدير: لو يعلم المار ماذا عليه؛ لكان خير وقوفه أربعين) انتهى.
وزعم ابن حجر: (يحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها)، وردَّه الشَّارح: بأنَّه تعسف، واعترضه العجلوني بأن لا تعسف، بل كل في مركزه، ولا إخبار عن النكرة بمعرفة، وتقدير ضمير الشأن متداول، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه فاسد الاعتبار والتركيب مع خفاء المعنى المراد منه، على أنَّه ليس كل في مركزه، كما لا يخفى، وليس فيه الإخبار عن النكرة بمعرفة مع أنَّه جائز عند جماعة، وضمير الشأن وإن كان تقديره متداولًا، لكنه في غير هذا، أمَّا ههنا؛ فغير متداول، بل غير ظاهر المعنى مع ما فيه من الخفاء وعدم ظهورالمراد؛ فافهم.
(من أن يمر)؛ أي: المار، متعلق بقوله:(خيرًا)، وكلمة (من) : هي الجارة للمفضل عليه (بين يديه)؛ أي: يدي المصلي؛ أي: أمامه بالقرب منه، وإنما عبر باليدين؛ إمَّا لكون أكثر الشغل يقع بهما، وإمَّا لأنَّ المار يمر قرب يدي المصلي، فللقرب المذكور عبَّر بهما؛ فليحفظ، وإنما خص الوقوف -وهو تعذيب- جزاءً لفعله وهو أهون؛ لأنَّ عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة.
وقد قال إمام الشَّارحين: وروى ابن ماجه عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «لأنْ يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه» ، قال سفيان: فلا أدري أربعين سنة، أو شهرًا، أو صباحًا، أو ساعةً، وفي «مسند البزار» :«لأنْ يقوم أربعين خريفًا خير له» ، وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضًا في الصلاة؛ كان لأن يقيم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها» ، وفي «الأوسط» للطبراني عن عبد الله بن عَمرو مرفوعًا:«إن الذي يمر بين يدي المصلي عمدًا؛ يتمنى يوم القيامة أنَّه شجرة يابسة» ، وفي «المصنف» عن عبد الحميد عاملِ عمر بن عبد العزيز: قال عليه السلام: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه؛ لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه» ، وقال ابن مسعود:(المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه، وكان إذا مر أحد بين يديه؛ التزمه حتى يرده)، وقال ابن بطال: قال عمر رضي الله عنه: (لكان يقوم حولًا خير له من مروره)، وقال كعب الأحبار: لكان أن يُخسَف به خير له من أن يمر بين يديه، انتهى.
قلت: فهذا كله يدل على الوعيد
(1)
في الأصل: (وليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
الشديد، ولهذا قال الشَّارح: وفي الحديث: أن المرور بين يدي المصلي مذموم، وفاعله مرتكب الإثم.
وقال النَّووي: فيه: دليل على تحريم المرور، فإنَّ في الحديث النَّهي الأكيد، والوعيد الشديد، فيدل على ذلك.
قلت: فعلى ما ذكره ينبغي أن يكون المرور بين يدي المصلي من الكبائر، اختلف في تحديد ذلك؛ فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقيل: بينهما قدر رمية حجر، وقد مر الكلام فيه، انتهى، قلت: والقول الأول هو الصَّواب، وعليه الجمهور من أولي الألباب.
(قال أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون، وسكون المعجمة: هو سالم بن أبي أمية المذكور في السند السَّابق: (لا أدري أقال)؛ بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر: بإسقاطها، لكنها مقدرة، وفاعله بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك.
وزعم الكرماني أن فاعله بسر أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما من كلام مالك؛ فهو مسند، وإما تعليق من البخاري.
وردَّه إمامنا الشَّارح، فقال:(الظَّاهر من اللَّفظ: أنَّه بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك وليس من تعليق البخاري؛ لأنَّه ثابت في «الموطأ» من جميع الطرق، وكذلك هو ثابت في رواية النَّووي وابن عيينة) انتهى، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني؛ فليحفظ.
(أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟) : وللبزار: (خريفًا)، ولابن ماجه:(أربعين سنة أو شهرًا أو صباحًا أو ساعة)، ولابن حبان:(مئة عام)، كما قدمناه، وإنما ذكر هذا؛ لأنَّه ذكر العدد؛ أعني:(أربعين)، ولا بد له من مميز؛ لأنَّه لا يخلو عن هذه الأشياء، وقد أبهم ذلك ههنا، فإن قلت: ما الحكمة فيه؟ قلت: قال الكرماني: وأبهم الأمر؛ ليدل على الفخامة، وأنَّه مما لا يقادر قدره، ولا يدخل تحت العبارة، انتهى.
وردَّه الشَّارح، فقال: (الإبهام ههنا من الراوي، وفي نفس الأمر العدد معين، ألا ترى كيف تعين فيما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: «لكان أن يقف مئة عام
…
»؛ الحديث؟ وكذا عيَّن في «مسند البزار» من طريق سفيان بن عيينة: «لكان أن يقف أربعين خريفًا» ) انتهى.
وقال الكرماني: (فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة؟ قلت: هي أسرار، وأمثالها لا يعلمها إلا الشَّارع، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين؛ كأطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنة، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد؛ لأنَّ أجزاءه هي عشرة، ومن العشرات المئات، ومنها الألوف، فلما أريد التكثير؛ ضوعف كل واحد إلى عشرة أمثاله) انتهى.
واعترضه الشَّارح، فقال:(غفل الكرماني عن رواية المئة حيث قصر في بيان الحكمة على الأربعين).
وزعم ابن حجر في التنكيت على الكرماني: بأن هذه الرواية تشعر بأن إطلاق (الأربعين) للمبالغة في تعظيم الأمور لا لخصوص عدد معين.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا ينافي رواية المئة بيان وجه الحكمة في الأربعين، بل ينبغي أن يطلب وجه الحكمة في كل منهما؛ لأنَّ لقائل أن يقول: لم أطلق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر؟ ولِمَ لَمْ يذكر الخمسين أو الستين أو نحو ذلك؟ والجواب الشافي في ذلك: أن تعيين الأربعين الوجه الذي ذكره الكرماني، وأمَّا وجه ذكر المئة؛ فما ذكره الحافظ الطَّحاوي: أنَّه قيد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؛ لزيادة في تعظيم الأمر على المار؛ لأنَّ المقام مقام زجر، وتخويف، وتشديد.
فإن قلت: من أين علم أن التقييد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؟
قلت: وقوعهما معًا مستبعد؛ لأنَّ المئة أكثر عددًا من الأربعين، وكذا وقوع الأربعين بعد المئة؛ لعدم الفائدة، وكلام الشَّارع كله حكمة وفائدة، والمناسبة أيضًا تقتضي تأخير المئة عن الأربعين.
فإن قلت: قد علم وجه الحكمة في الأربعين، فما وجه الحكمة في تعيين المئة؟
قلت: المئة وسط بالنسبة إلى العشرات والألوف، وخير الأمور أوساطها، وهذا مما تفردت به) انتهى كلام إمامنا الشَّارح الحافظ بدر الدين العيني قدس سره العزيز، ونفعنا به في الدارين.
ثم قال: (وفي الحديث: عموم النَّهي لكل مُصلٍّ، وتخصيص بعضهم بالإمام والمنفرد؛ لا دليل عليه، وفيه: طلب العلم، والإرسال لأجله، وفيه: جواز الاستنابة، وفيه: أخذ العلماء بعضهم من بعض، وفيه: الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو؛ لإرسال زيد بن خالد بُسَر بن سعيد إلى أبي جُهيم، ولو طلب العلو؛ لسعى هو بنفسه إلى أبي جُهيم، وفيه: قبول خبر الواحد) انتهى.
ومراده بقوله: (وتخصيص بعضهم
…
) إلى آخره: بعض المالكية؛ لأنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه فانتفى
(1)
المأموم، ورُدَّ بأنَّه لا يطابق المدعى؛ لأنَّ السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد.
وقال ابن بطال: فُهِم من قوله: (لو يعلم) : أن الإثم يختص بمن يعلم بالمنهي وارتكبه، واعترضه ابن حجر: بأنَّه بعيد.
وردَّه الشَّارح: بأنَّه ليس فيه بُعد؛ لأنَّ (لو) للشرط، فلا يترتب الحكم المذكور إلا عند وجود العلم، انتهى.
قلت: ويدل عليه قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه» ؛ ومعناه: رفع الإثم عند الجمهور، فالذي لم يعلم مخطئ بالفعل المذكور، وهو غير مؤاخذ به؛ لعدم علمه، لا يقال: يعارضه قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]؛ لأنَّا نقول: إن معناه: فاسألوهم حين وجودهم، أمَّا عند عدم وجودهم؛ فالإثم مرفوع؛ للحرج، كما إذا كان في مفازة، أو في الصحراء، أو مسافرًا، أو في قرية، أو نحوها، وفي هذه الأماكن لا يوجد من أهل الذكر أحد، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فرفع عنه الإثم للحرج، كما لا يخفى.
وزعم ابن حجر أنَّ ظاهر الحديث أن الوعيد يختص بمن مر، لا بمن وقف عامدًا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة التشويش على المصلي؛ فهو في معنى المار، انتهى.
قلت: ظاهر الحديث يخالفه، فإن من وقف بين يديه، أو جاء وقعد، أو جاء ورقد؛ فهو مار حقيقة وزيادة، فإن المار عابر سبيل، أمَّا هذا؛ فقد زاد؛ لأنَّه مر بين يديه، وزاد عليه الوقوف أو القعود أو الرقود، فهو مَارٌّ حقيقة، وليس العلة كما زعمه، وإنَّما العلة ما قاله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم:«فإنَّما هو شيطان» ، كما سبق.
وذكر ابن دقيق العيد: أنَّ بعض المالكية قَسَّم أحوال المار والمصلي أربعة أقسام؛ الأول: أن يصلِّي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة؛ فيأثم المار دون المصلي، الثاني: أن يصلِّي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدًا عن السترة ولا يجد المار مندوحة؛ فيأثم المصلي دون المار، الثالث: أن يصلِّي بغير سترة ويجد المار مندوحة؛ فيأثمان جميعًا، الرابع: أن يصلِّي إلى سترة، لكن لا يجد المار مندوحة؛ فلا يأثمان جميعًا، انتهى.
قلت: ونقل ذلك المحقق ابن أمير حاج الحلبي في «شرحه على المنية» ، ثم قال: وقواعدنا لا تأباه، قلت: لكن في الصورة الرابعة ينبغي أن يأثم المار فقط؛ لأنَّه يمكنه
(1)
في الأصل: (فانتقى)، وهو تصحيف.