الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ذلك؛ لتنجيس الماء بذلك) انتهى.
قلت: أما قوله: (تخصيصه الحكم
…
) إلخ مسلَّمٌ، ولا نسلِّم التفصيل الذي ذكره بقوله: (وأمَّا إذا كان الماء قليلًا
…
) إلخ؛ لأنَّه في هذه الحالة أقبح بلا ريب؛ لتنجيس الماء الطاهر، فإنَّ تنجيس كلِّ طاهر حرام، فهو أقبح بلا شبهة.
وحاصله: أنه لا اختصاص بالبول، بل الغائط مثله، بل هو أقبح، وكذا الاختصاص ببول نفسه؛ لأنَّه لا فرق في بول الآدمي بين الفاعل وغيره، وآدميٍ وآدميٍ آخر إلا الأنبياء عليهم السلام، وكذا لا اختصاص للبائل إذا بال في إناء، فإن كلَّ ذلك عامٌّ، حكمه حكم البول في الماء؛ لأنَّ المراد به حصول النَّجاسة، وقد وُجدت، وهو قبيح؛ لأنَّ تنجيس الطاهر حرام، كما لا يخفى على أولي الألباب.
وفي الحديث: دليل على نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يُؤْكَل لحمه؛ لأنَّه عليه السلام أضاف البول إلى الآدمي، وهو غير مأكول اللحم، فالحيوان الذي لا يؤكل لحمه بوله كبوله، فاستفيد من الحديث: أن بول ما يُؤْكَل لحمه له حكمٌ خاصٌّ غير هذا، فذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف أنه نجس مخفَّف، وذهب الإمام محمَّد إلى أنَّه طاهر، كما قدَّمناه.
وزعم العجلوني أن في الحديث دليلًا
(1)
على نجاسة بول الآدمي وغيره ولو من مأكول اللحم.
قلت: نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يؤكل لحمه مسلَّمٌ، ولا نسلِّم أن بول مأكول اللحم نجس بدلالة الحديث؛ لأنَّ الحديث لا يدل على ذلك؛ لأنَّه عليه السلام قال:«لا يبولنَّ أحدكم» ، فأضاف البول إلى الآدمي، فدل على المغايرة بينهما؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين: إن المذكور في الحديث الغسل من الجنابة، فيلحق به الاغتسال من الحيض والنفاس، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والعيدين، والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما، فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ؛ فلا إلحاق عنده، كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس؛ فمن زعم أن العلة الاستعمال؛ فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث؛ فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الثاني بين الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد في كون الماء مستعملًا، انتهى.
وزعم العجلوني أن الغسل عامٌّ، وكان تخصيصه بما ذكره؛ لأنَّه المتبادر، فليس في الحديث تخصيص.
قلت: بل فيه تخصيص من حيث إنه عليه السلام قد صرح بالغسل من الجنابة، ففي «مسلم» عن أبي هريرة بلفظ:«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ، فالتخصيص بالجنابة مصرَّح به في الحديث بنصِّه عليه السلام، فبقية الاغتسالات بطريق الإلحاق لا بطريق العموم، فإن الحديث ليس من العامِّ في شيء، فإن المراد بالغسل إنَّما هو من الجنابة، لا سيما وقد فسره النبيُّ الأعظم عليه السلام بأنَّه من الجنابة، فهو من الخصوص قطعًا، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
(69)
[باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته]
هذا (باب إذا أُلقي)؛ بضمِّ الهمزة، مبني للمجهول؛ أي: طرح (على ظهر المصلي) : أي صلاة كانت وهو في صلاته (قذَر)؛ بفتح الذال المعجمة: ضد النظافة، يقال: قذِرت الشيء؛ بالكسر؛ إذا كرهته، كذا في «عمدة القاري» ، فهو لغة: الشيء المستقذر، والمراد به هنا: النجس؛ لأنَّه مستقذر شرعًا، (أو جيفة) : وهي جثَّة الميت المريحة، وجملة:(لم تفسُد)؛ بضمِّ السين؛ أي: لم تبطل، قاله العجلوني، وفيه نظر؛ لأنَّ الفساد والبطلان في العبادات سيَّان لا فرق بينهما، فكيف فسَّر الفساد بالبطلان؟ وما هو إلا لعدم فهم معاني الكلام؛ (عليه صلاته) : جواب (إذا)، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ الباب الأول يشتمل على حكم وصول النَّجاسة الماء، وهذا الباب يشتمل على حكم وصولها المصلي وهو في الصَّلاة، وهذا المقدار يتلمَّح به في وجه الترتيب وإن كان حكمها مختلفًا، فإن في الباب الأول: وصول البول إلى الماء الراكد ينجسه كما ذكرناه، وفي هذا الباب: وصول النَّجاسة المصلي لا تفسد صلاته على ما زعم البخاري، فإنه وضع هذا الباب لهذا المعنى، ولهذا صرَّح بقوله:(لم تفسد عليه صلاته)، وهذا إنَّما يتمشى على مذهب من يرى عدم اشتراط إزالة النَّجاسة؛ لصحة الصَّلاة، لا على مذهب من يقول: إنَّ من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء؛ لا تبطل صلاته.
وزعم ابن حجر: بأنَّ قوله: (لم تفسد
…
) إلخ محله ما إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقًا على قول من يذهب إلى أنَّ اجتناب النَّجاسة في الصَّلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه ميل المصنف.
وردَّه إمام الشارحين فقال: (قلت: من أين علم ميل المصنف إلى القول الثاني، وقد وضع هذا الباب وترجم له بعدم الفساد مطلقًا، ولم يقيده بشيء مما ذكره هذا القائل؟ على أنَّه قد أكَّد ما ذهب إليه من الإطلاق بما روي عن عبد الله بن عمر، وسَعِيْد بن المسيِّب، وعامر الشعبي رضي الله عنهم، على أنَّ فيه نظرًا على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى) انتهى.
وزعم العجلوني أنَّ ظاهر كلام المصنف يدلُّ لما قاله ابن حجر، فإن تقييده عدم الفساد للصلاة بما إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ يقتضي التفصيل المذكور، انتهى.
قلت: وهذا فهم فاسد، فإنَّ ظاهر كلام المصنف والمتبادر منه يدلُّ لما قاله إمام الشارحين، فإن قول المؤلف: (إذا ألقي على ظهر المصلي
…
) إلخ ليس تقييد لعدم الفساد، بل هو بيان كيفية وصول النَّجاسة [إلى] المصلي، وهو عامٌّ مطلقًا يشمل الابتداء والانتهاء، فهذا ليس بقيد، بل بيان الكيفية في وصول النَّجاسة إلى المصلي، فكلامه يقتضي عدم التفصيل، وهو ظاهر كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فقد زاد في الطنبور نغمة على ابن حجر.
ثم زعم ابن حجر أن القول بالمنع يخرج عليه صنيع الصحابي الذي استمر في الصَّلاة بعد أن سالت منه الدماء برمْي من رماه.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا الصحابي من حديث جابر رواه أبو داود في «سننه» ، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: في غزوة ذات الرقاع-
…
)؛ الحديث، وفيه: (فنزل عليه السلام منزلًا، وقال:«ما من رجل يكلؤنا؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخصه؛ عرف أنه ريبة للقوم فرماه بسهم، فوضعه فيه، ونزعه حتى قضى ثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد
…
)؛ الحديث، وتخريج هذا القائل صنيع هذا الصحابي على ما ذكره غير صحيح؛ لأنَّ هذا فعل واحد من الصحابة، ولعلَّه ذهل عنه، أو كان غير عالم بحاله، والتحقيق فيه: أن الدَّم حين خرج أصاب بدنه وثوبه، فكان ينبغي أن يخرج من الصَّلاة ولم يخرج، فلما لم يدل مضيُّه في الصَّلاة على جواز الصَّلاة مع النَّجاسة؛ لا يدل مضيُّه فيها على أنَّ خروج الدم لا يَنْقُضُ الوضوء، انتهى.
واعترضه العجلوني تعصبًا، فزعم أن كونه فِعْل واحد من الصحابة، واحتمال ذهوله، أو عدم علمه لا ينافي أنَّه عليه السلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من الله تعالى أو من غيره، بل هو الظاهر؛ لأنَّه عليه السلام كان في تلك الغزاة قطعًا؛ لقول الصحابي: (خرجنا مع رسول الله عليه السلام، ودعواه أن التحقيق ما ذكره لا يخفى ما فيها، فإن جزمه بأنَّ الدم أصاب بدنه أو ثوبه لا مستند له إلا الاحتمال الذي يحتمل خلافه، وقوله: (فلما لم يدل مضيُّه
…
) إلخ هو محل النزاع؛ إذ الخصم يقول: إنًّها صحيحة؛ للاحتمالين اللذين أبداهما، بل يحتمل أنه لم يصبه شيء من الدم يمنع صحتها، وإذا كان كذلك، فيلزم عدم النقض بخروج الدم، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد، واعتراض بارد، فإن كونه فِعْل واحد من الصحابة، وذهوله، أو عدم علمه ينافي أنه عليه السلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من ربه أو من غيره؛ ممنوع؛ لأنَّ اطَّلاعه عليه السلام عليه في هذه الحالة لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من غيرهم، على أنه لو فرض اطلاعه
(2)
عليه السلام عليه؛ لكان إمَّا أقره على ذلك أو منعه منه، بل المنع هو الظاهر.
وقوله: (بل هو الظاهر
…
) إلخ ممنوع، فأيُّ ظاهر ظهر له أنَّه أخبره ربه أو غيره؟ وما هو إلا دعوى باطلة، ومسندة فارغة.
وقوله: (لأنَّه عليه السلام كان في تلك الغزاة
…
) إلخ لا يدل على أنه اطلع
(3)
عليه؛ لأنَّه عليه السلام لم يتفقد
(1)
في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
جميع أفعال أصحابه؛ لأنَّ ذلك أمر عسر، ولأن الغزوة حال فرار لا حال قرار، بل الظاهر: أن الصحابي كان بعيدًا عن النبيِّ عليه السلام والقوم؛ بدليل أن الصحابة إذا أراد أحدهم البراز أو الغائط؛ ذهب بعيدًا عن الناس، فالصحابي أبعد عن القوم، وفعَلَ ذلك إمَّا على طريق الذهول أو كان غير عالم وهو الظاهر، ولعله علم بعد ذلك بسؤال النبيِّ عليه السلام عن ذلك، وقضى صلاته، وهو الظاهر من حاله، كما لا يخفى.
وقوله: (ودعواه أن التحقيق
…
) إلخ ممنوع، بل هذا هو الصواب؛ لأنَّ الدم لا يخلو إمَّا أن يصيب البدن أو الثوب، ولا ثالث لهما أصلًا، فهو لا يحتمل خلافه، فهذا دليل على أنه قد تلطَّخ بالدم في بدنه وثوبه؛ لأنَّ خروج الدم وسيلانه لا بدَّ إلا أن يصيب البدن والثوب، كما لا يخفى.
فقوله: (لا مستند له
…
) إلخ، بل هو دليل ظاهر، وحجَّة قويَّة لما قاله، وأيُّ دليل ومسند هذا القائل الذي قال ولا يدري ما يقول؟
وقوله: (إلا الاحتمال
…
) إل، بل هذا الاحتمال هو الصواب، ولا يوجد احتمال يخالفه، ومن ادَّعاه؛ فهو تعصُّب وتعنُّت.
وقوله: (هو من محل النزاع
…
) إلخ ممنوع، فإن الخصم يزعم أن الصَّلاة والدم في الثوب والبدن غير صحيحة.
وقوله: (بل يحتمل
…
) إلخ هذا ممنوع قطعًا؛ لأنَّه متى خرج الدم من بدن الإنسان لا بدَّ وأن يصيبه منه شيء لبدنه وثوبه لا سيما الجراحة والكلام فيها، فإنه قطعًا يحصل للشخص تلطُّخ بالدماء في أثوابه وغالب بدنه، وهذا كالمتحقق لا يحتمل خلافه.
وقوله: (وإذا كان
…
) إلخ ممنوع، فإنَّه بهذه الحالة يلزم النقض بخروج الدم؛ لأنَّه لا يلزم من مضيِّه فيها عدم النقض بخروجه.
والتحقيق: أن يقال: إنَّه لم يعلم بخروج الدم حتى فرغ من صلاته، فلمَّا رآه؛ قضى صلاته؛ لفسادها بطروء الناقض بسؤاله عليه السلام عن ذلك، والله تعالى أعلم.
(وكان) وفي رواية: (قال: وكان)(ابن عمر)؛ أي: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والضمير في (قال) يعود إلى المؤلف رحمه الله تعالى، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح:(إذا رأى في ثوبه) الذي هو لابسه (دمًا)؛ زائدًا على قدر الدرهم (وهو يصلي) : الواو للحال؛ أي: والحال أنه في الصَّلاة؛ (وضعه)؛ أي: ألقى ثوبه عنه، (ومضى في صلاته)؛ أي: بنى عليها، ففيه: دليل ظاهر على جواز البناء في الصَّلاة، وقال في «عمدة القاري» : هذا الأثر لا يطابق الترجمة؛ لأنَّ فيها ما إذا أصاب المصلي نجاسة وهو في الصَّلاة لا تفسد، وهذا الأثر يدل على أنَّ ابن عمر كان إذا رأى في ثوبه دمًا وهو في الصَّلاة؛ وضع ثوبه -بمعنى: ألقاه- ومضى في صلاته، فهذا صريح على أنَّ ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه، والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه ابن أبي شيبة من طريق برد من سنان، عن نافع، عن ابن عمر:(أنه كان إذا كان في الصَّلاة فرأى في ثوبه دمًا فاستطاع أن يضعه؛ وضعه، وإن لم يستطع؛ خرج فغسله، ثم جاء يبني على ما كان صلى) انتهى.
قلت: وهذا ظاهر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
لكنْ زعم ابن حجر تعصبًا: أن هذا الأثر يقتضي أن ابن عمر كان يرى التفرقة بين الابتداء والدوام.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يقتضي هذا أصلًا، وإنما يدل على أنَّه كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام، وهذا حجَّة قويَّة للإمام الثاني أبي يوسف قاضي القضاة فيما ذهب إليه من أن المصلي إذا انتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ ينصرف، ويغسله، ويبني على صلاته، وكذلك إذا ضرب رأسه أو صدمه شيء، فسال منه الدم) انتهى؛ أي: فإنه يبني على صلاته، فزعْمُ هذا الزاعم فاسد.
وزعم العجلوني أنَّ المفهوم من الأثر أنَّه إذا رأى قبل دخوله في الصَّلاة لا يفعل ما ذكر، بل لا يدخل أصلًا؛ لوجود النَّجاسة، وأمَّا إذا كان فيها؛ فإن سهل عليه إلقاؤه فورًا؛ ألقاه واستمر في صلاته، وإلا؛ قطعها؛ ليغسل تلك النَّجاسة، ثم يعود، فيبني.
قلت: وهذا زعم فاسد، وفهم بارد؛ لأنَّ الأثر المذكور الذي علمته لا يدل على هذا التفصيل أصلًا، فمن أين فهمه هذا الزاعم؟! وما هو إلا فهم فاسد، وإنما المفهوم صريحًا أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه.
وقوله: (وأما إذا كان فيها
…
) إلخ ممنوع، فأيُّ دليل يدلُّ على هذا التفصيل، وإنما الذي دلَّ عليه الأثر المذكور: أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام.
وقوله: (وإلا قطعها
…
) إلخ هذا لا يُفهم من الأثر المذكور أصلًا، فمن أين ظهر له هذا التفصيل الفاسد؟! فإنه ليس في الأثر دليل على القطع، بل فيه دليل صريح على البناء وجوازه في الصَّلاة، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فالفهم المذكور إنَّما نشأ للعجلوني من العصبية الباردة، والتعنت الزائدة.
وقد يقال: إن الأثر المذكور يفهم منه شيئان؛ أحدهما: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا جامدًا زائدًا على قدر الدرهم وهو في الصَّلاة، فحين رآه؛ ألقاه عنه، فهو جائز، قال في «الظهيرية» :(لو ألقى الثوب المتنجس من غير حدثه وعليه غيره؛ أجزأه)، كذا في «البحر» ، والثاني: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا من جرح أصابه وهو في الصَّلاة، فبنى على صلاته، فهو جائز عند الإمام أبي يوسف، وأما عند الإمام الأعظم والإمام محمَّد: لا يبني، والفرق بينهم: أن الحدث إذا كان بصنع العباد؛ فإنه لا يبني عندهما، ويبني عنده، وما كان بغير صنع العباد؛ يبني اتفاقًا، فلو عضَّه زنبور مثلًا، أو أصابته شجَّةٌ، فسال منه دم؛ لا يبني؛ لأنَّه بصنع العباد، وعند أبي يوسف: يبني؛ لعدم صنع نفسه، ولو وقعت طوبة من سطح، أو سفرجلة من شجرة، أو تعثَّر بشيء موضوع في المسجد، فأدماه؛ قيل: يبني اتفاقًا؛ لعدم صنع العباد، وقيل: هو على الخلاف أيضًا، كذا في «التبيين» وغيره، ولو عطس أو تنحنح فسبقه الحدث بقوَّته؛ قيل: يبني، وقيل: لا يبني، وهو الصحيح، كما في «القهستاني» عن «الظهيريَّة» .
واعلم: أن مسائل البناء عند سبق الحدث مروية عن عائشة، وابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وهؤلاء صحابة، وعن علقمة، وطاووس، وسالم بن عبد الله، وسَعِيْد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومكحول، وسَعِيْد بن المسيِّب رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء تابعون، وكفى بهم قدوة، كما أوضحه الإمام المحقق حيث أطلق كمال الدين بن الهمام في «فتح القدير» رضي الله عنه ورحمه، والله أعلم.
وزعم الشافعية أنه لا يبني، بل يستأنف، وهو مذهب مالك وأحمد، لكنْ قيَّده مالك بالوقت، فإن خرج؛ فلا قضاء.
وزعم العجلوني أن جماعة فرَّقوا بين الابتداء والدوام؛ كمُجَاهِد، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، فقالوا: إذا صلى بنجس لم يَعْلَمْه، ثم علمه بعد الصَّلاة؛ لا يعيد، وكذا إذا أصابه في الصَّلاة وهو يعلمه، واستدلوا بحديث أبي سَعِيْد الذي رواه أبو داود بسند صحيح، وقال الحاكم: إنه على شرط مسلم: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه؛ إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك؛ ألقَوا نعالهم، فلما قضى النبيُّ عليه السلام صلاته؛ قال:«ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: يا رسول الله؛ رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا» انتهى.
قلت: وهذا ذكره ابن بطال، فنقله هذا القائل عنه، والناقل والمنقول عنه مشهوران بالنَّقل الضعيف، فإنَّ هؤلاء الجماعة لم يثبت عنهم هذا الفرق الذي ذكره هذا القائل، بل المنقول المشهور عنهم: أن النَّجاسة تمنع صحة الصَّلاة سواء كانت في الابتداء أو في الدوام،