الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وقوله تعالى:{إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} على طريق الشرط والجزاء؛ يعني: المهر).
وقال جماعة: بل كانت عنده موهوبة، فقيل: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، وقيل: هي ميمونة بنت الحارث، وقيل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقيل هي خولة بنت حكيم من بني سليم، فقوله تعالى:{إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} دليل على جواز النكاح بلفظ الهبة له ولأمته عليه السلام، وزعم الشافعية أنه مخصوص به عليه السلام، فقالوا: معناه: إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خصائصك.
ورد بأن اللفظ عام يشمله عليه السلام وأمته، وبأن الخصوصية لا بد لها من من دليل ولم يوجد، وقال الأئمة الحنفية: معناه تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبدًا بالتزويج، فالنكاح ينعقد بلفظ الهبة إذا طلب الزوج منها النكاح والتمكين من الوطء، فقالت: وهبت نفسي منك، وقبل الزوج؛ يكون نكاحًا، ويدل عليه هذه الآية، فإنها قد دلت على إحلال الواهبة وصحة نكاحها بلفظ (الهبة).
وقد تقرر أنه عليه السلام وأمته سواء في الأحكام إلا ما خصه الدليل، ولا دلالة في قوله (خالصة) لك على كون النكاح بلفظ (الهبة) من خصائصه عليه السلام؛ لما سبق من أن معناه كون الواهبة من أمهات المؤمنين لا تحل لأحد بعده أبدًا، فلو وهبت نفسها من أحد من غير مهر وقبل الزوج بمحضر الشهود؛ يصح النكاح ولها مهر مثلها، هذا هو الصواب، وبه قال إبراهيم النخعي وعلماء الكوفة وغيرهم.
واختلف هل كان يحل للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية أو النصرانية بالمهر؟ فذهب جماعة إلى أنه لا يحل له ذلك لقوله: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} ، وذهب جماعة أنه يحل له ذلك، وقال معنى الآية وهي {اللَاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}؛ أي: الإسلام؛ أي: أسلمن معك، فيدل ذلك على أنه يحل له نكاح غير المسلمة، والله أعلم.
(حتى إذا كان)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بالطريق) وذلك أنه جاء في «الصحيح» فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء، وهي قرية جامعة من عمل الفرع لمزينة على نحو أربعين ميلًا من المدينة أو نحوها، والروحاء بفتح الراء وبالحاء المهملة ممدود، كذا في عمدة القاري؛ (جهزتها له أم سليم)؛ بضم السين المهملة، وهي أم أنس بن مالك، (فأهدتها)؛ أي: زفتها (له) عليه السلام، ومعناه: أهدت أم سليم صفية للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (من الليل) وفي بعض الروايات: (فهدتها)، قيل: وهي الصواب قاله الكرماني وتبعه البرماوي، ويدل عليه قول الجوهري:(الهداء) مصدر قولك هديت أنا المرأة إلى زوجها هذا، كذا في «عمدة القاري» .
(فأصبح النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم عروسًا) على وزن (فعول) يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما، يقال رجل وامرأة عروس، وجمع الرجل عرس، وجمع المرأة عرائس، وفي المثل كاد العروس أن يكون ملكًا، والعروس اسم لحصن باليمن، وقول العامة: العروس للمرأة والعريس للرجل ليس له أصل، قاله إمام الشَّارحين.
وفي رواية «الصحيح» أنه عليه السلام أقام عليها بطريق خيبر ثلاثة أيام حين أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب، وفي رواية:(أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام فبنى بصفية)، كذا في «عمدة القاري» .
ويدل لهذا قوله (فقال) عليه السلام؛ أي: لأصحابه: (من كان عنده شيء)؛ أي: من الطعام؛ (فليجئ به) إلى مكاننا، وفي رواية:(فليجئني) بنون الوقاية، (وبَسَطَ)؛ بفتحات، (نِطعًا)؛ بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وهو الذي اختاره ثعلب في الفصيح، وهو في رواية «الفرع» وغيره.
وذكر في «المخصص» : فيه أربع لغات؛ الأولى: بفتح النون وسكون الطاء، الثانية: بفتحتين، الثالثة: بكسر النون وفتح الطاء، الرابعة: بكسر النون وسكون الطاء، وجمعه أنطاع ونطوع، زاد في «المحكم» : أنطع، وقال أبو عمرو الشيباني في «نوادره» :(النطع: هو المبناة والستارة)، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والظاهر أن النطع ثوب يشبه ستارة الباب، أو المحمل، أو يشبه اللباد يبسط
(1)
على الأرض.
(فجعل الرجل)؛ أي: من أصحابه الكرام (يجيء بالتمر وجعل الرجل يجيء بالسمن) إلى تلك النطع فجمعوه فيها، (قال)؛ أي: عبد العزيز بن صهيب: (وأحسبه)؛ أي: أحسب أنس بن مالك (قد ذكر السَّويق)؛ بفتح السين المهملة وهو الدقيق الملتوت بالسمن، وجزم عبد الوارث في روايته بذكر السويق وزعم الكرماني، ويحتمل أن يكون فاعل قال هو البخاري ويكون مقولًا للفربري، ومقول أحسب يعقوب، ورده إمام الشَّارحين بأنه غير ظاهر والأول هو الظاهر، كما لا يخفى، انتهى.
قلت: وهو كذلك فإن ما ذكره الكرماني بعيد غاية البعد لا يعول عليه؛ فافهم.
(قال) أي: الراوي (فحاسوا) بالحاء والسين المهملتين؛ أي: خلطوا أواتخذوا (حيسًا)؛ بفتح الحاء والسين المهملتين، بينهما مثناة تحتية ساكنة، وهو تمر يخلط بسمن وأقط، يقال: حاس الحيس يحسه؛ أي: يخلطه، وقال ابن سيده:(الحيس: هو الأقط يخلط بالتمر والسمن، وحاسه حيسًا وحيسه خلطه).
وقال الجوهري: الحيس الخلط، ومنه سمِّي الحيس، وقال الشاعر:
وإن تكن كريهة أدعى لها
…
وإذ يحاس الحيس يدعى جندب
وقال آخر: التمر والسمن جميعًا، والأقط: الحيس إلا أنه لم يخلط.
وفي «الغريبين» هو ثريد من أخلاط، قال الفارسي: الله أعلم بصحته، كذا في «عمدة القاري» .
(فكانت) بالفاء وفي رواية: (فكانوا) واسم كانت الضمير الذي فيه يرجع إلى الأشياء الثلاثة التي اتخذ منها الحيس، وعلى الثانية اسمها الواو؛ لأنَّ موضعه رفع وهو يعود إلى الأشياء المصنوعة.
وقوله: (وليمة)؛ بالنصب خبر كان على الوجهين (رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: طعام عرسه، والوليمة: عبارة عن الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من الولم، وهو الجمع؛ لأنَّ الزوجين يجتمعان فتكون الوليمة خاصة بطعام العرس، لأنَّه طعام الزفاف، والوكير: طعام البناء، والخرس: طعام الولادة، وما تطعمه النفساء نفسها خرسة، والإعذار: طعام الختان، والنقيعة: طعام القادم من سفره، وكل طعام صنع لدعوة:
(1)
في الأصل: (ببسط).
مأدبة ومأدبة جميعًا، والدعوة الخاصة: النقرى، والعامة: الجفلى والأجفلى، كذا في «عمدة القاري» .
وفيه: وهذا الحديث وصل الحديث الذي علقه البخاري فيما قبل [قليل] قريبًا، وهو قوله: وقال أنس: (حسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فخذه)، فإن قلت: ما كانت الفائدة بذكر هذا التعليق المقتطع من هذا الحديث المتصل قبل أن يذكر الحديث بكماله؟.
قلت: يحتمل أن المؤلف أراد به الإشارة إلى أن ما ذهب إليه أنس من أن الفخذ ليس بعورة؛ فلهذا ذكره بعد ذكر ما ذهب إليه ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش، انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فالمطابقة في هذا الحديث المتصل هو أن الفخذ ليس بعورة، ولا يخفى أن المطابقة في التعليق أظهر؛ لأنَّ الحديث يحتمل الوجهين في الفخذ، هل هو عورة أم لا؟ ويحتمل أن قول أنس ليس قطعة من هذا الحديث، بل موصول عند غير المؤلف، وأراد بذكره أن الفخذ ليس بعورة، وأراد بذكر الحديث أن الفخذ عورة؛ لأنَّ قوله (حُسِر) بصيغة المجهول يدل على أن الحسر كان بسبب الازدحام ونحوه؛ فليحفظ.
وقال إمام الشَّارحين: وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح، خلافًا لمن كرهه من بعض الشافعية.
الثاني: فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وفيه غير ما حديث.
الثالث: فيه استحباب التكبير والذكر عند الحرب وهو الموافق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45].
الرابع: فيه استحباب التثليث في التكبير؛ لقوله: قالها ثلاثًا؛ أي: ثلاث مرات.
الخامس: فيه جواز إجراء الفرس وأنه لا يخل بمراتب الكبير، لا سيما عند الحاجة أو لرياضة الدابة، أو لتدريب
(1)
النفس على القتال.
السادس: فيه أن الزفاف في الليل، وقد جاء أنه عليه السلام دخل عليها في النهار؛ ففيه جواز الأمرين.
السابع: فيه دلالة على مطلوبية الوليمة للعرس وأنها بعد الدخول، والمشهور عندنا أنها سنة، وقيل: واجبة، وعندنا إجابة الدعوة سنة سواء كانت وليمة عرس أو غيرها، وبه قال مالك في رواية، وقيل: تجوز الوليمة قبل الدخول، وظاهر الحديث يرده.
الثامن: فيه جواز إدلال الكبير لأصحابه وطلب طعامهم في نحو الوليمة وغيرها، ويستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في الوليمة بطعام من عندهم.
التاسع: فيه دليل على أن الوليمة تحصل بأي طعام كان ولا تتوقف على شاة، والسنة تقوم بغير اللحم، انتهى.
قلت: وهذا الحديث يدل لذلك، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
(13)
[باب في كم تصلي المرأة في الثياب]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف (في كم) ثوبًا (تصلي المرأة من الثياب) ولغير الأربعة: (في الثياب)، ولفظة (كم) لها الصدارة سواء كانت استفهامية أو خبرية، ولم تبطل صدارتها هنا؛ لأنَّ الجار والمجرور في حكم الكلمة الواحدة، ومميز (كم) محذوف تقديره: كم ثوبًا؟ قاله إمام الشَّارحين.
(وقال عِكْرمة)؛ بكسر العين وسكون الكاف هو مولى ابن عباس أحد فقهاء مكة وإمام تفسير القرآن: (لو وارت) أي: سترت وغطت المرأة (جسدها في ثوب) واحد وصلت فيه؛ (جاز) كذا للأربعة، وفي رواية الكشميهني:(لَأجَزْته)؛ بفتح لام التأكيد والجيم وسكون الزاي، من الإجزاء.
قال إمامنا الشَّارح: وهذا التعليق قد وصله عبد الرزاق، ولفظه: لو أخذت المرأة ثوبًا فتقنعت به حتى لا يرى من شعرها شيء؛ أجزأ عنها، وروى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: تصلي المرأة في درع وخمار خصيف، وروي أيضًا عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا بأس بالصلاة في القميص الواحد إذا كان صفيقًا، وذكر عن ميمونة أنها صلت في درع وخمار، ومن طريق أخرى صحيحة أنها اغتسلت في درع واحد فضلًا، وقد وضعت بعض كمها على رأسها.
ومن طريق مكحول عن عائشة وعلي رضي الله عنهما قالا: (تصلي في درع سابغ وخمار)، وكذا روي عن أم سلمة من طريق أم محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفد، ومن حديث الليث عن مجاهد قال:(لا تصلي المرأة في أقل من أربعة أثواب)، وعن الحكم:(في درع وخمار)، وعن حماد:(درع وملحفة تغطي رأسها) انتهى.
قلت: وما ذكره في التعليق هو معنى ما ذكره عبد الرزاق، والمراد بالثوب: الواسع، يدل عليه رواية عبد الرزاق: (حتى لا يرى
…
) إلى آخره، وهذا لا يكون إلا واسعًا، فهو حينئذ كثوبين؛ لأنَّ المقصود: الستر وهو يحصل بالواحد الواسع وبالاثنين، لكن المستحب للمرأة ثلاثة أثواب درع، وخمار، ومقنعة؛ فإنه أستر لها، وما ذكره هنا اقتصار بدون الأفضل، والأفضل الثلاثة، والله تعالى أعلم.
[حديث: لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء]
372 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليمان) : هو الحكم بن نافع الحمصي (قال: حدثنا شعيب) : هو ابن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري) : هو محمد بن مسلم ابن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة)؛ بضم العين المهملة: هو ابن الزبير بن العوام: (أن عائشة) الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما (قالت) والله: (لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـ (اللام) فيه جواب قسم محذوف، كما قدرناه (يصلي الفجر)؛ أي: يصلي صلاة الفجر في بعض أحيانه، لا يقال: إنَّ (كان) تدل على الاستمرار والدوام؛ لأنَّا نقول: إن التي تدل على هذا هي الناقصة، وهنا (كان) تامة؛ بمعنى: حض، أو وقع، أو وجد، فهي تدل على تلك المرة فقط؛ وهو ذلك الحين التي أخبرت به أنه يصلي في مسجده النبوي، (فيشهد) أي: فيحضر (معه)؛ وفي رواية: (فتشهد)؛ أي: فتحضر معه (نساءٌ)؛ بالتنكير، والتنوين فيه للتنويع، وهو جمع امرأة، لا واحد له من لفظه (من المؤمنات) هو لبيان الواقع (مُتَلفِّعاتٍ)؛ بالنصب على الحال من النساء، وهو بضم الميم وفتح المثناة الفوقية، وبالعين المهملة بعد الفاء المشددة، من التلفع؛ بالفاء والعين المهملة؛ أي: متلحفات، وفي رواية:(متلففات) بالفاء المكررة بدل العين؛ وهي رواية الأصيلي في غير «الفرع» ، وله في «الفرع» (متلفعاتٌ) بالرفع صفة للنساء، والأكثر على خلافه.
قال الأصمعي: (التلفع بالثوب: هو أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهذا اشتمال الصماء عند العرب؛ لأنَّه لم يرفع جانبًا منه فيكون فرجة فيه)، وهو عند الفقهاء: مثل الاضطباع إلا أنه في ثوب واحد.
وعن يعقوب: (اللفاع: الثوب تلتفع به المرأة؛ أي: تلتحف به فيغيبها)، وعن كراع:(هو الملفع أيضًا)، وعن ابن دريد:(اللفاع: هو الملحفة أو الكساء)، وقال أبو عمر
(2)
: (هو الكساء).
وعن صاحب «العين» : (تلفع بثوبه: إذا اضطبع به، وتلفع الرجل بالشيب كأنه غطى سواد رأسه ولحيته).
وفي «شرح الموطأ» : (التلفع: أن تلقي الثوب على رأسه، ثم يلتف به، ولا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال: الالتفاع مثل الاشتمال، وأما التلفف؛ فيكون مع تغطية الرأس وكشفه).
وفي «المحكم» : (الملفعة: ما يلفع به من رداء،
(1)
في الأصل: (لتدريث)، وهو تصحيف.
(2)
في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
أو لحاف، أو قناع).
وفي «المغيث» : (وقيل: اللفاع: النطع، وقيل: الكساء الغليظ).
وفي «الصحاح» : (لفع رأسه تلفيعًا: غطاه)، كذا في «عمدة القاري» .
(في مروطهن) المروط: جمع مِرط؛ بكسر الميم، قال القزاز:(المرط: ملحفة يتزر بها، والجمع أمراط ومروط)، وقيل: يكون المرط كساء من خز، أو صوف، أو كتان.
وفي «الصحاح» : (المِرط بالكسر)، وفي «المحكم» :(وقيل: هو الثوب الأخضر)، وفي «مجمع الغرائب» :(أكيسة من شعر أسود)، وعن الخليل:(هي أكيسة معلمة)، وقال ابن الأعرابي:(هو الإزار).
وقال النضر بن شميل: (لا يكون المرط إلا درعًا، وهو من خز أخضر، ولا يسمى المرط إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء).
وقال عبد الملك في «شرح الموطأ» : (هو كساء صوف رقيق خفيف مربع، كان
(1)
النساء في ذلك الزمان يتزرن به ويتلففن)، كذا قاله الشَّارح.
(ثم يرجعن) يعني: يصلين مع النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، ثم يرجعن من المسجد (إلى بيوتهن)؛ أي: بيوت أزواجهن، فالإضافة فيه من حيث سكناهن في البيوت، ويحتمل أنه على الحقيقة، لكن الظاهر الأول؛ لأنَّ السكنى على الزوج شرعًا من جملة النفقة الواجبة عليه لها (ما يعرفهن أحد)؛ أي: من الغلس، كما عند المؤلف في (المواقيت) وفي «سنن ابن
(2)
ماجه» : (يعني من الغلس)، وعند مسلم:(ما يعرفن من الغلس)، وعدم معرفتهن يحتمل أن تكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيتهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معناه ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال: ما يعرفهن أحد؛ أي: أنساء هن أم رجال؟ وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: ووجه مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (متلفعات في مروطهن)؛ لأنَّ المستفاد منه صلاتهن في مروط، والمرط: ثوب واحد، ففي الحديث أن المرأة إذا صلت في ثوب واحد بالالتفاع؛ جازت صلاتها، وهو الذي ترجم له؛ لأنَّه استدل به على ذلك.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى، فلا يتم له الاستدلال به؟
قلت: الحديث ساكت عن هذا بحسب الظاهر، ولكن الأصل عدم الزيادة على ما أشار إليه؛ على أنه لم يصرح بشيء، واختياره يؤخذ في عادته من الآثار التي يترجم بها، انتهى كلامه، وتبعه ابن حجر وغيره.
قلت: ولا ريب أن الأصل عدم الزيادة، والتفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى قول بعيد؛ لأنَّه لم يكن عند النساء وكذا الرجال إلا ثوب واحد، يدل عليه حديث أبي هريرة الذي تقدم في باب (الصلاة في القميص)، وفيه: قام رجل إلى النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال:«أَوَكلكم يجد ثوبين؟» ؛ يعني: لا يجد كل واحد منكم ثوبين ونحوه عند الحافظ الطحاوي والطبراني، فهذا إخبار عما كان يعلمه عليه السلام من حالهم في العدم وضيق الثياب؛ والمعنى: أنه ليس لكل واحد منكم ثوبان، وإذا كان هذا حال الرجال؛ فالنساء أولى، فهذا الحديث وإن كان ليس فيه تقييد بذلك لكن المعنى عليه، والمطلق محمول على المقيد، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا؛ فتأمل.
وفي «عمدة القاري» : واختلف في عدد ما تصلي فيه المرأة من الثياب؛ فقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس:(تصلي في درع وخمار).
وقال عطاء: (تصلي في ثلاثة: درع، وإزار، وخمار).
وقال ابن سيرين: (في أربعة؛ الثلاثة المذكورة وملحفة).
وقال ابن المنذر: (عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، سواء سترته بثوب واحد أو أكثر).
ولا أحسب ما روي عن المتقدمين: من الأمر بثلاثة أو أربعة إلا من طريق الاستحباب.
وقال الإمام الأعظم وسفيان الثوري: (قدم المرأة ليست
(3)
بعورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة؛ صحت صلاتها)، وفي رواية عن الإمام الأعظم:(فسدت صلاتها)، وزعم أبو بكر بن عبد الرحمن أن كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهو رواية عن أحمد.
وقال مالك وابن إدريس: قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة؛ أعادت في الوقت عند مالك، وكذلك إذا صلت وشعرها مكشوف، وعند ابن إدريس تعيد أبدًا) انتهى.
وفيه: أن في الحديث دلالة على جواز خروج النساء للصلاة في المسجد بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن، وكرهه بعضهم للشواب، وقال الإمام الأعظم:(تخرج العجائز لغير الظهر والعصر؛ يعني: لصلاة الفجر والعشاءين)، وقال الإمام أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن:(يخرجن لجميع الصلوات، لكن اليوم يكره خروجهن للجميع للعجائز والشواب؛ لظهور الفساد وعموم الفتنة) انتهى.
قلت: ولو نظر الإمام الأعظم ما يترتب على خروجهن من الفساد والفتنة؛ لقال: بحرمة خروجهن مطلقًا، فإن الذي يشاهد منهن في ديارنا الشريفة الشامية؛ يوجب القول بالحرمة والمنع من خروجهن مطلقًا؛ فافهم.
واستدل بهذا الحديث مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق على أن الأفضل في صلاة الصبح التغليس، ولا حجة لهم فيه؛ لأنَّه عليه السلام فعل ذلك مرة، ثم صار يصليها في وقت الإسفار، كما يأتي.
وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور من التابعين، وغيرهم:(إن الأفضل في صلاة الفجر الإسفار)، واستدل على ذلك بأحاديث كثيرة في هذا الباب رويت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم: رافع بن خديج، روى أبو داود عن محمود بن لبيد عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجركم، أو أعظم للأجر» ، ورواه الترمذي أيضًا، وقال:(حديث حسن صحيح)، ورواه ابن ماجه والنسائي أيضًا، وفي رواية:(أصبحوا بالفجر)؛ ومعناه: نوروا بصلاة الفجر، ورواه ابن حبان في «صحيحه» ، ولفظه:«أسفروا بصلاة الصبح؛ فإنه أعظم للأجر» ، وفي لفظ له:«فكلما أصبحتم بالصبح؛ فإنه أعظم لأجركم» ، وفي لفظ للطبراني:«فكلما أسفرتم بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر» .
ومنهم: محمود بن لبيد روى حديثه الإمام أحمد ابن حنبل في «مسنده» عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبحوا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجركم» ، ولم يذكر فيه رافع بن خديج، ومحمود بن لبيد صحابي مشهور.
وقال المزي: (محمود بن لبيد بن عصمة بن رافع بن امرئ القيس الأوسي، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحبته خلاف) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ذكره مسلم في التابعين في الطبقة الثانية، وذكر ابن أبي حاتم: أن البخاري قال: له صحبة، وقال أبي: لا يعرف له صحبة، وقال أبو عمرو: قول البخاري: «له صحبة» : أولى وأجدر، فعلى هذا؛ يحتمل
(1)
في الأصل: (كن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (أبي)، ولعله تحريف.
(3)
في الأصل: (ليس).
أنه سمع هذا الحديث من رافع أولًا فرواه عنه، ثم سمعه من النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فرواه عنه) انتهى.
قلت: وعلى فرض كونه أسقط رافعًا
(1)
؛ فهو مرسل، وهو حجة عندنا والجمهور، لكن الظاهر أنه رواه مرتين كما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
ومنهم: بلال رضي الله عنه، روى حديثه البزار في «مسنده» نحو حديث رافع، ومنهم: قتادة بن النعمان، روى حديثه الطبراني في «معجمه» من حديث عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن أبيه، عن جده مرفوعًا نحوه، ورواه البزار أيضًا، ومنهم: ابن مسعود رضي الله عنه، روى حديثه الطبراني أيضًا عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه، روى حديثه ابن حبان عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم رجال من الأنصار أخرج حديثهم النسائي من حديث محمود بن لبيد عن رجال من قومه من الأنصار: أن النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «أسفروا بالصبح؛ فإنه أعظم للأجر» ، ومنهم أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنه، أخرج حديثهما الطبراني من حديث حفص بن سليمان عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بالفجر» ، ومنهم: أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرج حديثه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد من حديث أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم قال:«أسفروا بالفجر تفقهوا» ، ومنهم: حواء الأنصارية، أخرج حديثها الطبراني من حديث أبي بجيد الحارثي عن جدته حواء الأنصارية، وكانت من المبايعات، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر» ، وابن بُجَيْد؛ بضم الموحدة، وفتح الجيم، بعدها تحتية ساكنة، ذكره ابن حبان في «الثقات» ، وجدته حواء بنت زيد بن السكن، أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون الإسفار واجبًا لمقتضى الأوامر فيه.
قلت: الأمر إنَّما يدل على الوجوب إذا كان مطلقًا مجردًا عن القرائن الصارفة له إلى غيره، وهذه الأوامر ليست كذلك، فلا يدل إلا على الاستحباب.
فإن قلت: قد يؤول (الإسفار) في هذه الأحاديث بظهور الفجر، وقد قال الترمذي: وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: معنى الإسفار: أن يصبح الفجر، ولم يشك فيه، ولم يروا أن الإسفار تأخير الصلاة.
قلت: هذا التأويل غير صحيح، فإن الغلس الذي يقولون به: هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار، كما ذكره أهل اللغة، وقيل: ظهور الفجر، ولا تصح صلاة الصبح، فثبت أن المراد بالإسفار: إنَّما هو التنوير، وهو التأخير عن الغلس، وزوال الظلمة، وأيضًا فقوله عليه السلام:«أعظم للأجر» : يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت.
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، وإسحاق ابن راهويه، وأبو داود الطيالسي في «مسانيدهم» ، والطبراني في «معجمه» من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «يا بلال؛ نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع ليلهم من الإسفار» .
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب «غريب الحديث» من حديث أبي سعيد بيان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر) انتهى.
يقال: فسح البصر وانفسح؛ إذا رأى الشيء عن بعد؛ يعني به: إسفار الصبح.
فإن قلت: قيل: إن الأمر بالإسفار إنَّما جاء في الليالي المقمرة؛ لأنَّ الصبح لا يتبين فيها جدًّا، فأمرهم بزيادة التبيين؛ استظهارًا باليقين في الصلاة.
قلت: هذا تخصيص بلا مخصص، وهو باطل، ويرده أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال:(ما اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا في «معاني الآثار» بسند صحيح، ثم قال:(ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول الله عليه السلام عليه).
فإن قلت: قد زعم ابن حزم أن خبر الأمر بالإسفار صحيح، إلا أنه لا حجة فيه للحنفية إذا أضيف إلى الثابت من فعله عليه السلام في التغليس حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن.
قلت: الثابت من فعله عليه السلام في التغليس لا يدل على الأفضلية؛ لأنَّه يجوز أن يكون غيره أفضل منه، وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر؛ لأنَّ قوله عليه السلام:«أعظم للأجر» : أفعل التفضيل، فيقتضي أجرين؛ أحدهما: أكمل من الآخر؛ لأنَّ صيغة (أفعل) تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذٍ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت، انتهى.
قلت: وما زعمه ابن حزم تناقض؛ لأنَّه قال: (خبر الأمر بالإسفار صحيح إلا أنه لا حجة فيه
…
) إلى آخره، وما هذا إلا تناقض، فإن قوله:(خبر الأمر بالإسفار صحيح) وهو كذلك، ويلزم منه أن يكون حجة للحنفية؛ لأنَّهم يقولون: إن الأفضل في صلاة الفجر الإسفار، وقد صح الحديث به، فهو حجة لهم.
وقوله: (إلا أنه لا حجة فيه
…
) إلى آخره: ممنوع، فإنه متى صح الأمر؛ يكون حجة لمن قال بذلك، وقوله: (إذا أضيف
…
) إلى آخره: ممنوع، فإنه قد ثبت ذلك في بعض الأحيان وهو لا يقاوم ما كان عادة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يدل عليه ما أخرجه الحافظ أبو جعفر الطحاوي من حديث إبراهيم النخعي قال:(ما اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وسنده صحيح، فهذا يدل على أن عادتهم في صلاة الفجر الإسفار.
ولا ريب أن ذلك هو ما فعله النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أشد اتباعًا له عليه السلام، فثبت أن التغليس إنَّما كان في بعض الأحيان، وهو محمول على بيان الجواز لأجل التشريع، وثبت أن الأفضل في صلاة الصبح الإسفار، وأنه الثابت من فعله عليه السلام على الدوام
(1)
في الأصل: (رافع)، ولعل المثبت هو الصواب.