الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصير ونحوه، فالحديث محمول على وجود الحائل.
وردَّ بأنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا وشرعًا، وعادتهم الصلاة على الأرض بدون حائل؛ لأنَّه إذ ذاك لم يكن طنافس ولا سجاجيد.
واعترض بأنَّها شهادة نفي، وهي غير مقبولة، على أنَّه قد ثبت في «الصحيحين» عن أنس:(أنَّه عليه السلام صلى على حصير في دارهم).
ورُدَّ بأنَّ شهادة النفي غير مقبولة؛ إذا لم يكن النفي متواترًا، أما هنا؛ فقد تواترت الأخبار عنهم أنَّه لم يكن حائل، وحديث أنس مخصوص بدارهم، والدار غير مربض الغنم، فلا يردُّ، فافهم.
(ثم سمعته) أي: قال أبو التيَّاح: سمعت أنس بن مالك، فيكون الضمير عائدًا على أنس، وزعم ابن حجر أنَّ الضمير فيه يعود على أبي التياح، ويكون القائل:(ثم سمعته) هو شعبة، انتهى.
قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، ثم قال: (القائل هو أبو التيَّاح، سمع من أنس أولًا بالإطلاق، ثم سمع بقيد
…
إلى آخر كلامه)، وقد أنصف العجلوني ههنا؛ حيث ردَّ كلام ابن حجر فقال:(هو خلاف الظاهر) انتهى.
قلت: وهذا هو ظاهر اللفظ، فإنَّ ابن حجر قد صدر منه ذلك من غير تأمل، فإنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور كما لا يخفى، وأقربه أنس، والقائل أبو التياح؛ لأنَّه تابعي؛ فافهم، قال إمام الشَّارحين:(يعني: أبو التياح يقول: ثمَّ سمعت أنسًا).
(بعدُ) : بالبناء على الضمَّ؛ لنيَّة معنى الإضافة إليه؛ أي: بعد القول الأوَّل وهو: (كان يصلي في مرابض الغنم)، (يقول) أي: ثانيًا (كان) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (يُصلي في مرابِض الغنم قبل أن يُبنى) بضمِّ التحتية أو بفتحها على البناء للمفعول أو للفاعل (المسجد)؛ أي: النبوي، فأشار بذلك إلى قوله أوَّلًا: مطلق، وقوله ثانيًا: مقيَّد، فالحكم أنَّهما إذا وردا سواء يحمل المطلق على المقيد، عملًا بالدليلين، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: أنَّه يفهم من هذه الزيادة، أنَّه عليه السلام لم يصلِّ في مرابض الغنم بعد بناء المسجد، فيكون ذلك المطلق مقيدًا بهذا؛ للقاعدة الأصولية أنَّ المطلق يحمل على المقيد تقدم أو تأخر؛ عملًا بالدليلين؛ فليحفظ.
وزعم ابن حزم أنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنَّ فيه: (أنَّ ذلك كان قبل أن يبنى المسجد) فاقتضى أنَّه كان في أول الهجرة.
ورُدَّ عليه بما صحَّ عن عائشة: (أنَّه عليه السلام أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطيب وتُنظف)، رواه أبو داود، وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد:(وأن يطهرها)، قال: وهذا بعد بناء المسجد.
وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز، ثم المنع.
ويرُدَّ هذا: إذنه عليه السلام في الصلاة في مرابض الغنم، يدل عليه ما في «صحيح ابن حبان» : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم، وأعطان الإبل؛ فصلوا في مرابض الغنم» قال الترمذي والطوسي: حديث حسن صحيح، وعن أبي زرعة مرفوعًا:«الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها» ، ذكره النيسابوري في «تاريخه» ، وتمامه فيما تقدم في باب:(أبوال الإبل والدواب والغنم).
وتجوز الصلاة أيضًا في مراح البقر؛ لما في مسند عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن رجل حدثه عن ابن المغفل:(نهى النبيُّ عليه السلام أن يُصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلَّى في مراح الغنم والبقر) انتهى.
فإن قلت: ويعارضه ما في «مسند أحمد» من حديث ابن عمر؛ (أنَّ النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر).
قلت: لا يعارضه؛ لأنَّ هذا الحديث سنده ضعيف كما قال الحفَّاظ، ولئن صح؛ فالأول أمر وهو قول، وهذا فعل، والقول مقدم على الفعل، كما قاله المحققون.
فإن قلت: في سند الأول مجهول.
قلت: قد روي بطرق مختلفة عن غير مجهول، وبها قد انتفى ذلك؛ فافهم.
قال ابن بطال: (وحديث الباب حجة على الشافعي؛ لأنَّ الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أنَّ مرابطها لا تسلم من البعر والبول، فدلَّ على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر، وفيه المطابقة للترجمة) انتهى.
واعترضه العجلوني؛ تعصبًا لمذهبه بأنَّ الأصل في مرابضها الطهارة في أمكنتها وإن كان الغالب عدمها، وإذا تعارضا؛ قدم الأصل، مع أنَّه لم يدلَّ الدليل على عدم الحائل، فلعله كان يفرش عليها شيئًا ثم يصلي فيه، انتهى.
قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الأصل في مرابضها ألا يخلو عن أبعارها وأبوالها، وقوله:(وإن كان الغالب عدمها) تناقض ظاهر وتسليم بأنَّ أمكنتها لا تسلم عن أبعارها، وليس في ذلك تعارض؛ لأنَّ الأدلة تضافرت
(1)
على إباحة الصلاة في مرابضها، ولم يوجد دليل على الحظر حتى يحصل التعارض، وقوله: (مع أنَّه لم يدل
…
) إلخ ممنوع؛ فإنَّ الدليل هو أنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا، وقوله:(فلعله كان يفرش) ممنوع؛ لأنَّه لم يدلَّ دليل على أنَّه كان يفرش في مرابضها شيئًا يصلي عليه، مع أنَّ الأصل عدمه، وتمامه فيما قدمناه، على أنَّه روى أبو داود مرفوعًا:«صلوا في مواطن الغنم؛ فإنَّها بركة» وروى البيهقي: «إنَّها من دواب الجنَّة» ، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يحب الصلاة في مرابضها، وهو دليل على جواز الصلاة فيها، وهو مذهب الجمهور، لكن مع الكراهة عند إمامنا الأعظم.
وزعم الشافعية أنَّها لا تصح في معاطن الغنم، والحديث حجة عليهم، كما قدمناه؛ فافهم.
(50)
[باب الصلاة في مواضع الإبل]
هذا (باب) حكم (الصلاة في مواضع)؛ بالجمع، وفي بعض الأصول:(موضع)؛ بالإفراد (الإبل) هي اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهي مؤنثة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، وقد تُسكَّن الباء؛ للتخفيف، والجمع: آبال.
قال إمام الشَّارحين: ثم إنَّ البخاري إن أراد من مواضع الإبل معاطنها؛ فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافًا لآخرين، وإن أراد بها أعمَّ من ذلك؛ فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف، وعلى كلا التقديرين لم يذكر في الباب حديثًا يدلُّ على أحد الفصلين، وإنَّما ذكر فيه الصلاة إلى البعير، وهو لا يطابق الترجمة، انتهى.
(1)
في الأصل: (تظافرت).
واعترضه العجلوني كعادته؛ بأنَّ نفيه الخلاف في الشق الثاني غير مسلم بلا خلاف؛ إذ من أفراده الصلاة في معاطنها، والخلاف فيه ثابت، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ مراده من (الأعم) : مواضعها حال غيبتها إذا كانت طاهرة، فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف؛ لأنَّ من جعل علة الكراهة نفادها؛ فهي غير موجودة، ومن جعلها النجاسة؛ فهي أيضًا غير موجودة، فالمراد بـ (الأعم) : المغايرة لا ما تحته أفراد؛ فافهم.
وتعبير المؤلف بـ (المواضع) أعم من (المعاطن)؛ لأنَّها تشمل مواضعها حال إقامتها عند الماء وغيره، حال حضورها، أو غيبتها، وهذا هو مراد المؤلف، فإنَّه لا يرى الكراهة فيها مطلقًا على الظاهر؛ لأنَّه لم يورد في الباب حديثًا يدلُّ على الكراهة، بل يدلُّ حديث الباب على عدمها، وليس مراده اختصاص الكراهة بالمعاطن، بل مراده الأعم، وأنَّه لا كراهة مطلقًا، وهذا ظاهر.
وقد يقال: إن كانت عبارة إمام الشَّارحين على ظاهرها، وأراد بالأعم: ما تحته أفراد؛ فبيَّن أولًا: أنَّ الصلاة في المعاطن مكروهة عند قوم خلافًا لآخرين، وبيَّن ثانيًا: أنَّ الصلاة فيما عدا المعاطن غير مكروهة بلا خلاف؛ حيث إنَّه لم يعتبر خلاف بعض الناس، أو إنَّه أراد بنفي الخلاف عدم وجود علة النهي من النجاسة أو النفاد؛ فافهم.
وفسر القسطلاني (المواضع) بـ (المعاطن) تبعًا لابن حجر، واعترضه العجلوني بأنَّ إبقاء المواضع على عمومها أولى، فإنَّ الحكم أعم.
قلت: وهو مردود، فإنَّه إذا لم تكره الصلاة في المواطن؛ ففي غيرها من باب أولى، لكن يقال عليه: إنَّ ظاهر ترجمة المؤلف أنَّ مراده: الأعم؛ وهو عدم الكراهة مطلقًا، فالأولى له أن يُبيِّن الحكم فيه، كما فعل إمام الشَّارحين؛ فافهم.
والمناسبة بين البابين من حيث إنَّ الباب السابق في بيان جواز الصلاة في مرابض الغنم، وههنا جواز الصلاة في مرابض الإبل، وكلاهما حكم من أحكام الصلاة؛ فافهم.
[حديث: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره]
430 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا صدقة بن الفضل) هو المروزي (قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت: (حدثنا)(سُليمان) بضمِّ المهملة (بن حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتية، وبالنون، يجوز فيه الصرف وعدمه، وهو أبو خالد الأحمر الأزدي، الجعفري
(1)
، الكوفي، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا)(عُبيد الله) بضمِّ العين المهملة؛ مصغَّرًا؛ هو ابن عبد الله -بالتكبير- ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي كان من سادات أهل المدينة فضلًا وعبادةً، توفي سنة سبع وأربعين ومئة، (عن نافع) هو مولى ابن عمر (قال: رأيت) مولاي (ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (يُصلي) أي: الفرض وغيره (إلى بعيره) أي: إلى جانب بعيره، وفي «المحكم» :(البعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى، حكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعيرٌ لي، والجمع: أبعِرَة وأباعِر وأباعِير، وبُعران، وبَعران)، وفي «المخصص» :(قال الفارسي: أباعر؛ جمع أبعرة، كأسقية وأساق)، وفي «الجامع» :(البعير بمنزلة الإنسان بجمع المذكر والمؤنث من الناس، إذا رأيت جملًا على البعد؛ تقول: هذا بعير، فإذا استثبته؛ تقول: هذا جمل أو ناقة).
قال الأصمعي: (إذا وضعت الناقة ولدها ساعة تضعه؛ سليل قبل أن يُعلم أذكر هو أم أنثى؟ فإذا عُلم؛ فإن كان ذكرًا؛ فهو: سقب وأُمُّه مسقب، وقد أذكرت؛ فهي: مذكر، وإن كانت أنثى؛ فهي: حائل، وأمها أم حائل، فإذا مشى؛ فهو: راشح، والأمُّ مرشح، فإذا ارتفع عن الراشح؛ فهو: جادل، فإذا حمل في سنامه شحمًا؛ فهو: مُجذ
(2)
ومُكعِر، وهو في هذا كله حوار، فإذا اشتدَّ؛ قيل: ربع، والجمع: أرباع ورباع، والأنثى: ربعة، فلا يزال ربعًا حتى يأكل الشجر، ويعين على نفسه، ثم هو فصيل وهبع، والأنثى: فصيلة، والجمع: فُصْلان وفِصْلان؛ لأنَّه فُصل عن أمه، فإذا استكمل الحول، ودخل في الثاني؛ فهو: ابن مخاض، والأنثى: بنت مخاض، فإذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة؛ فهو: ابن لبون، والأنثى: بنت لبون، فإذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة؛ فهو: حقٌّ، والأنثى: حقَّة، سمي به؛ لأنَّه استحق أن يحمل عليه ويركب، فإذا مضت الرابعة ودخل في الخامسة؛ فهو: جذع، والأنثى: جذعة، فإذا مضت الخامسة ودخل في السادسة، وألقى ثنيته؛ فهو: ثنيٌّ، والأنثى: ثنيَّة، فإذا مضت السادسة ودخل في السابعة؛ فهو: رباع، والأنثى: رباعيَّة، فإذا مضت السابعة ودخل في الثامنة وألقى السن؛ فهو: سديس وسدس؛ لغتان، وكذا يقال للأنثى، فإذا مضت الثامنة ودخل في التاسعة؛ فهو: فاطر وبازل؛ لأنَّه فطر نابه وطلع، وكذا يقال للأنثى، فإذا مضت التاسعة ودخل في العاشرة؛ فهو: مخلف، ثمَّ ليس له اسم بعد ذلك بلا خلاف، لكن يقال له: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد على ذلك، فإذا كبر؛ فهو: عوذ، والأنثى: عوذة، فإذا ارتفع عن ذلك؛ فهو قحر، والجمع: أقحر وقحور)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(وقال) ولأبي ذر (فقال) : أي: ابن عمر: (رأيت النبيَّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم يفعله) أي: يُصلي الفرض وغيره والبعير في طرف قبلته، ورواه الترمذي أيضًا عن ابن عمر:(أنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعيره أو راحلته، وكان يصلي إلى راحلته حيثما توجهت به)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه البزار في «مسنده» عن أبي الدرداء قال:(صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم)، وذكر مالك في «الموطأ» أنَّه بلغه:(أن ابن عمر كان يستتر براحلته في السفر إذا صلى)، ووصله ابن أبي شيبة في «مصنفه» .
ففي الحديث جواز الصلاة إلى الحيوان، ونقل ابن التين عن مالك: أنه لا يُصلى إلى الجمل والحمير؛ لنجاسة أبوالها.
وفيه جواز الصلاة بقرب البعير، وأنَّه لا بأس أن يستتر المصلي بالراحلة والبعير في الصلاة، وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم: أنَّهم لا يرون به بأسًا، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن أنس:(أنَّه صلَّى وبينه وبين القبلة بعير عليه محمله)، وروي أيضًا الاستتار بالبعير عن سويد بن غفلة، والأسود بن يزيد، وعطاء بن أبي رباح
(1)
في الأصل: (الجعفي)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
(2)
في الأصل: (محذ)، وهو تصحيف.
والقاسم، وسالم، وعن الحسن:(لا بأس أن يستتر بالبعير)، وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» :(لا أعلم فيه- أي: في الاستتار بالراحلة- خلافًا)، وقال ابن حزم:(من منع الصلاة إلى البعير؛ فهو مبطل) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا الحديث يخبر أنَّه عليه السلام صلى إلى البعير لا في موضعه، فلا يطابق للترجمة)، وعن هذا قال الإسماعيلي:(ليس في هذا الحديث بيان أنَّه صلى في مواضع الإبل، وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه، وليس إذا أنيخ بعير في موضع؛ صار ذلك الموضع عطنًا، أو مأوًى للإبل) انتهى.
وعلله إمام الشَّارحين بأنَّ (العطن) : اسم لمبرك الإبل عند الماء؛ لتشرب عللًا بعد نهل، فإذا استوفت؛ رُدَّت إلى المراعي، انتهى.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فأجاب بأنَّ المؤلف يشير إلى أنَّ الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، لكن لها طرق قوية؛ منها: حديث جابر بن سمرة عند مسلم، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند الترمذي، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه، وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل، فمراد المؤلف: الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك؛ وهي كونها من الشياطين، كأنه يقول: لو كان ذلك مانعًا من صحَّة الصلاة؛ لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة راكبها، وقد ثبت أنَّه عليه السلام كان يصلي النافلة وهو على بعيره، انتهى كلامه
وقد ردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «إن المؤلف يشير إلى أنَّ الأحاديث
…
» إلى آخره - ليت شعري- ما وجه هذه الإشارة؟! وبم دلَّ على ما ذكره؟
وقوله: «وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل» ليس كذلك، فإنَّ المذكور في حديث جابر بن سمرة عند مسلم، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود:«مبارك الإبل» ، والمبارك غير المعاطن؛ لأنَّ المبرك أعمُّ؛ فافهم
وقوله: «فمراد المؤلف: الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي
…
» : إلى آخره ممنوع، وسبحان الله! ما أبعد هذا الجواب عن موقع الخطاب! فإنَّه متى ذكر علَّة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه؟! ولم يذكر شيئًا في كتابه من أحاديث النهي في ذلك، وإنما ذكره غيره:
فمسلم في «صحيحه» ذكر حديث جابر بن سمرة من رواية جعفر بن أبي ثور عنه: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت؛ توضأ، وإن شئت؛ فلا تتوضأ» ، قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «فتوضأ من لحوم الإبل» ، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم» ، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» .
وأبو داود ذكر حديث البراء من رواية ابن أبي ليلى وفيه: سئل عن الصلاة في مبارك الإبل، قال:«لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنَّها من الشياطين» .
والترمذي ذكر حديث أبي هريرة من حديث ابن سيرين عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل» .
وابن ماجه ذكر حديث سبرة بن معبد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني، أخبرني أبي عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلَّى في أعطان الإبل، ويصلَّى في مراح الغنم» .
وذكر ابن ماجه أيضًا حديث عبد الله بن مغفل من رواية الحسن عنه قال: قال النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل؛ فإنَّها خلقت من الشياطين» .
وذكر أيضًا حديث ابن عمر من حديث محارب بن دثار يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توضؤوا من لحوم الإبل
…
»؛ الحديث، وفيه:«ولا تصلوا في معاطن الإبل» .
وذكر الطبراني في «الأوسط» حديث أسيد بن خضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضَّؤوا من لحوم الإبل، ولا تصلُّوا في مناخها» .
وأخرج أيضًا في «الكبير» حديث سليك الغطفاني عن النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «توضَّؤوا من لحوم الإبل، ولا توضَّؤوا من لحوم الغنم، وصلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في مبارك الإبل» .
وذكر أحمد في «مسنده» حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر» .
وأخرجه الطبراني في «الكبير» أيضًا، ولفظه:«لا تصلوا في أعطان الإبل، وصلوا في مراح الغنم» .
وذكر الطبراني أيضًا حديث عقبة بن عامر في «الكبير» ، و «الأوسط» عن النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم قال:«صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ومبارك الإبل» .
وذكر أحمد والطبراني أيضًا حديث يعيش الجهني، المعروف بذي الغرة من رواية ابن أبي ليلى عنه قال: «عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
»؛ الحديث، وفيه:«تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل، فنصلِّي فيها؟ فقال عليه السلام: لا» ، وأخرجه أحمد أيضًا.
فهذا كله كما رأيت وقع في موضع: «مبارك الإبل» ، وفي موضع:«مناخ الإبل» ، وفي مواضع:«مرابد الإبل» ، ووقع عند الطحاوي في حديث جابر بن سمرة «أن رجلًا قال: يا رسول الله؛ أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا»، و «المباءة» : المنزل الذي تؤويإليه الإبل، و «الأعطان» : جمع عطن؛ وهو الموضع الذي يناخ فيه عند ورودها الماء، و «المبارك» : جمع مبرك، وهو موضع بروك الجمل في أي موضع كان، و «المُناخ»؛ بضمِّ الميم: المكان الذي تناخ فيه الإبل، و «المرابد»؛ بالمهملة: الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم، فكل عطن مبرك، وليس كل مبرك عطنًا؛ لأنَّ العطن الموضع الذي يناخ فيه عند ورودها الماء فقط، والمبرك أعم؛ لأنَّه الموضع المتخذ لها في كل حال، فإذا كان كذلك؛ فتكره الصلاة في مبارك الإبل ومواضعها، سواء كانت عطنًا، أو مناخًا، أو مباءة، أو مرابد، وغير ذلك.
فدلَّ هذا كله على أنَّ علة النهي فيه كونها خلقت من الشياطين، ولا سيَّما فإنَّه عليه السلام علل ذلك بقوله:«فإنَّها خلقت من الشياطين» وقد مرَّ في رواية أبي داود: «فإنَّها من الشياطين» ، وفي رواية ابن ماجه:«فإنَّها خلقت من الشياطين» وهذا يدلُّ على أنَّ الإبل مخلوقة من الجن؛ لأنَّ الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال، وعن هذا قال يحيى بن آدم: «جاء النهي من قبل أنَّ الإبل يخاف وثوبها، فتعطب
من تلاقي حينئذ، ألا ترى أنَّه يقول: إنَّها جنٌّ من جنٍّ خُلقت»، واستصوب هذا أيضًا القاضي عياض) انتهى.
قلت: والحاصل: أنَّ العلة في النهي؛ ما يخاف من وثوبها وعطب من يلاقيها، فيشغل البال، ويخلُّ بالخشوع، فالصلاة عندها مكروهة؛ لأنَّها خُلقت من الشياطين، فيخاف منها كما يخاف منهم، وهذا هو الأظهر.
وقال ابن حبان: (معنى حديث: «فإنَّها خُلقت من الشياطين» أي: خلقت معها بدليل: صلاته عليه السلام عليها الوتر والنافلة).
ورُدَّ ما قاله بأنَّه إن أريد خَلقها معها حقيقة؛ لم يصحَّ؛ لأنَّ الجن خُلقوا قبل الإنس والحيوان بأزمنة كثيرة، وإن أريد المبالغة في نفورها وشرودها؛ اتجه ما قاله، انتهى.
قلت: وصريح حديث ابن ماجه أنها خلقت من الشياطين، وكذا حديث أبي داود:(فإنَّها من الشياطين)، وفي حديث:(أنَّ على سنام كل واحد منها شياطين)، يدلُّ على أنها مخلوقة من الجن؛ لأنَّ الشياطين من الجن على الصحيح، ولأنَّ خصالها من خصال الشياطين، فإنَّ كلمة (من) في الأحاديث: للتبعيض، فهي مخلوقة منهم، وذلك بأن خلقت أولًا حقيقة من الشياطين، ثم خلقت ثانيًا بهذه الهيئة الموصوفة بها الآن، فهي مشوبة بالخلقة الأصلية من حيث نفارها، وشرودها، وعطب صاحبها؛ كنهشه وضربه برجلها وغير ذلك، وصلاته عليه السلام عليها الوتر والنافلة كان للضرورة؛ حيث كان يصلي عليها ليلًا في القافلة وهي سائرة، فلم يتيسَّر له عليه السلام النزول عنها، وكان له أعداء كثيرة، ومعلوم أنَّ ذلك كان في مبدأ الإسلام.
على أنَّ تأويل ابن حبان غير صحيح، فإنَّه لو كان كما قاله؛ يلزم عليه عدم النهي الوارد في الأحاديث الصحاح من النهي عن الصلاة في أعطانها ونحوه؛ لأنَّه سبحانه قد خلق أجناسًا كثيرة في زمن واحد؛ إنسًا وجنًّا وحيوانًا، وجعل كل جنس على خِلقَة وصفة مخصوصة لا يتجاوزها إلى غيرها من المخلوقين، فيلزم عليه عدم فائدة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عندها، وكلامه عليه السلام مُصان عن اللغو وعدم الفائدة، فليُحفظ.
وقد انتصر العجلوني لابن حجر، فأجاب عما قاله إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «ليت شعري ما وجه هذه الإشارة
…
» إلى آخره، لعل وجه الإشارة إفراد الصلاة في مواضع الإبل بترجمة؛ كترجمة مرابض الغنم؛ كراهة الصلاة فيها، فلو ثبتت عنده على شرطه؛ لذكر الكراهة فيها.
وقوله: «سبحان الله! ما أبعد هذا الجواب
…
» إلى آخره، ليس الجواب لابن حجر حتى ينسبه إليه، ولئن سلم؛ فلا يُردُّ عليه؛ لأنَّه لم يدَّعِ أنَّه هو الذَّاكر لعلَّة النهي؛ لأنَّ «ذكر» يحتمل أنه مبني للمفعول، لا للفاعل، وقد يقال عليه: إنه ليس الغرض بيان صحة الصلاة إليها وعدمها فقط؛ بل المراد: بيان كراهتها وعدمها، فلو زاد في الجواب: أو كان ذلك مقتضيًا للكراهة؛ لاقتضاها في جعلها أمامه، فإنَّ الخلاف بين العلماء في الأمرين معًا ظاهر) انتهى.
قلت: وكلام شيخ عجلون فاسد الاعتبار؛ لأنَّ كون وجه الإشارة ما ذكره غير صحيح، فإنَّ المؤلف غرضه بيان الأحكام: فبيَّن أولًا حكم الصلاة في مرابض الغنم وذكر حديثها، ثم ذكر حكم الصلاة في معاطن الإبل وذكر حديثها، وليس مراده: بإفراد أحدهما عن الآخر الإشارةَ إلى الأحاديث التي ليست على شرطه، الفارقة بين حكم الصلاة فيهما، فلو كان مراده هذا؛ لم يذكر في الباب حديثًا؛ بل اقتصر على الإشارة، وهذا من أبعد البعيد أن يترجم لشيء، ويشير إلى أحاديث لم تذكر في كتابه، ولا سيما أنها لم تكن على شرطه، فهي لا يحتجُّ بها عنده، فكيف يشير إليها ويحتجُّ بها؟ وما هذا إلا قول صادر من غير تأمُّل.
على أنَّه ظاهر تعبير المؤلف بـ (المواضع) الأعم من المعاطن أنه لا يرى الكراهة فيهما مطلقًا؛ لأنَّه لم يورد في الباب ما يدلُّ للكراهة؛ بل يدلُّ على عدمها، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس مراده الإشارة إلى الأحاديث الفارقة التي ليست على شرطه، وعلى كلِّ حال؛ لا يصحُّ جعل بيان التراجم الإشارة المذكورة؛ لأنَّه ليس مراده الإشارة إليها؛ بل بيان الأحكام من كراهة الصلاة وعدمها، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقوله: (ليس الجواب لابن حجر
…
) إلى آخره؛ ممنوع وفاسد؛ فإن ابن حجر قال في «فتحه» : (هكذا قلت
…
) إلى آخره، فنسبة الجواب إليه صحيح، كما دلَّ عليه كتابه وكلامه، وهذا يظهر لمن اطلع
(1)
على كتابه.
وقوله: (ولئن سلم
…
) إلى آخره؛ ممنوع، بل هو وارد عليه؛ لأنَّه قد ادعى في أول كلامه، أنه هو الذاكر لعلة النهي.
وقوله: (لأن «ذكر»
…
) إلخ: كلام بارد من ذهن شارد
(2)
مقول بالاحتمال، وهو باطل، فإن (ذكر) مبني للفاعل قطعًا؛ لأنَّه فهم من الأحاديث علة النهي، ثم قال: (ومراده -أي: المؤلف- الإشارة إلى ما -أي: الذي- ذكر-أي: ذكرناه- من علة النهي
…
) إلى آخره.
وقوله: (وقد يقال
…
) إلى آخره: هذا تنزل في الجواب، وهو يدل على أنَّ عبارة ابن حجر قاصرة، وفيها تناقض، فإن مراد المؤلف: بيان كراهة الصلاة وعدمها، لا صحتها وعدمها، وعلى كون ابن حجر زاد في الجواب ما ذكره، كذلك فاسد؛ فإن الأحاديث التي ليست على شرطه وإن كان مقتضاها ذلك، لكن المؤلف لم يحتجَّ بها، ولم يستدل بها، وهذا أيضًا ليس بمراد للمؤلف.
وقول ابن حجر: (وقد ثبت أنَّه عليه السلام كان يصلي النافلة وهو على بعيره) أخذه من كلام ابن حبان، وقد علمت ردَّه، وهذا دأبه يأخذ كلام غيره، وينسبه لنفسه، فإن كان صوابًا؛ اعتمد عليه، وإن خطأ؛ تبرأ منه، وليس هذا من دأب المحصلين الفاضلين، بل من دأب قليلين البضاعةَ المحاولين؛ فافهم ذلك.
(1)
في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (سارد)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.