الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وهم راكعون)؛ يعني: حقيقة، أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، (فقال) أي: الرجل: (هو يشهد) : أراد به نفسه، ولكن عبر عنها بلفظ الغيبة على سبيل التجريد، باب جرد من نفسه شخصًا، أو على طريقة الالتفات، أو نقل الراوي كلامه بالمعنى، ويؤيده الرواية في باب (الإيمان) بلفظ:(أشهد)(أنَّه صلى) أي: العصر (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: بالمدينة، (وأنَّه) عليه السلام (توجه) في صلاته (نحو) جهة (الكعبة) وللأربعة: (وأنَّه نحو الكعبة)، (فتحرف القوم) : الذين صلُّوا العصر نحو بيت المقدس (حتى) أي: إلى أن (توجهوا)
(1)
؛ أي: في استدارتهم (نحو) أي: جهة (الكعبة) وهم في صلاتهم، فأتموها لجهة الكعبة.
ففيه: المطابقة للترجمة حيث توجه نحو الكعبة التي استقرت قبلة أبدًا في أي حالة كان المصلي صلاة الفرض.
وفيه: جواز التحري والاجتهاد في أمر القبلة، فلو تحرى لجهة وشرع في الصلاة، ثم تبدل اجتهاده وهو في الصلاة لجهة أخرى؛ استدار وأتم صلاته، ولو صلى الظهر مثلًا كل ركعة إلى جهة بالتحري؛ جازت صلاته، كما لا يخفى.
وفيه: بيان شرف النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه؛ حيث أعطاه ما أحب واختار.
وفي الحديث: أنه عليه السلام صلى العصر، ويدل عليه الرواية في الباب السابق، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر؛ أي: متوجهًا للكعبة، وعند ابن سعد في «الطبقات» :(أنه عليه السلام صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون)، وعند ابن سعد:(أنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى عليه السلام لأصحابه ركعتين، ثم أمر، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي: مسجد القبلتين).
قلت: والظاهر من هذا أنه عليه السلام وقع له ذلك مرات متعددة، ويحتمل أنه عليه السلام صلى الظهر في آخر وقتها، أو قدم صلاة العصر على وقتها المستحب، فالراوي رآه يصلي صلاة الظهر قرب العصر، فظن أنها العصر، فعبر بما رآه، أو رآه يصلي في أول وقت العصر مقدمها على وقتها المستحب، فظن أنها العصر، فعبر عنها، ويحتمل أنه عليه السلام صلى في بيت أم بشر ناسيًا، فأمر بالاستقبال، وقول ابن سعد عن الواقدي:(صلاة الظهر أثبت عندنا)؛ ليس بشيء بعد تصريح الإمام البخاري في باب (الصلاة) عن البراء: (أنه عليه السلام صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر)؛ أي: متوجهًا إلى الكعبة، ولا شك أن ذلك أثبت؛ لأنَّ صاحب الدار أدرى؛ فليحفظ.
وجاء في رواية ابن عمر في «البخاري» ، و «مسلم» ، و «النسائي» :(أنه عليه السلام صلى الصبح)، قال إمام الشَّارحين:(والتوفيق بينها وبين رواية الباب أن هذا الخبر وصل إلى قوم كانوا يصلون في نفس المدينة صلاة العصر، ثم وصل إلى أهل قباء في صبح اليوم الثاني؛ لأنَّهم كانوا خارجين عن المدينة؛ لأنَّ قباء من جملة سوادها، وفي حكم رساتيقها) انتهى.
وفيه: جواز نسخ الأحكام عند الجمهور إلا طائفة لا يقولون به، ولا يعبأ بهم؛ لموافقتهم لليهود، واختلف في صلاته عليه السلام إلى بيت المقدس وهو بالمدينة كمكة؛ فقال جماعة: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، ثم لما قدم المدينة؛ استقبل بيت المقدس، ثم نسخ، وزعم البيضاوي في تفسير قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]؛ أي: الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فإنه كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر؛ أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود، وقال قوم: كان لبيت المقدس، وفي حديث عند ابن ماجه:(صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين)، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وكذلك في المدينة، فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ؛ والمعنى: أنَّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على نسخ السنة بالقرآن عند الإمام الأعظم والجمهور، وهو حجة على الشافعي؛ حيث منعه.
وفيه: دليل على قبول خبر الواحد.
وفيه: وجوب الصلاة إلى القبلة، وتقرر الإجماع على أنها الكعبة.
وفيه: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين أو جهات، كما قدمنا.
وفيه: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، وفي هذا الباب أبحاث تقدمت
(2)
في باب (الصلاة من الإيمان)، والله تعالى أعلم.
[حديث: كان رسول الله يصلي على راحلته حيث توجهت]
400 -
وبالسند إليه قال: (حدثنا مسلم) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم) : هو أبو عمرو البصري الأزدي الفراهيدي القصاب (قال: حدثنا هشام) زاد الأصيلي: (ابن أبي عبد الله) : هو سندر الربعي الدستوائي البصري (قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير)؛ بالمثلثة: هو صالح بن المتوكل الطائي مولاهم العطار، (عن محمد بن عبد الرحمن) : هو ابن ثوبان المدني العامري، قال إمام الشَّارحين:(وليس له في «الصحيح» عن جابر غير هذا الحديث، وفي طبقته محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ولم يخرج له البخاري عن جابر شيئًا) انتهى.
(عن جابر) زاد الأصيلي: (ابن عبد الله) : هو الأنصاري رضي الله تعالى عنه (قال: كان النبيُّ) الأعظم، وفي رواية:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم وإفادة (كان) الدوام والاستمرار (يصلي) : صلاة النافلة، والجملة فعلية محلها نصب خبر (كان) (على راحلته) : الراحلة: الناقة التي تصلح لأن تركب، وكذلك الرحول، ويقال الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، كذا في «عمدة القاري» (حيث توجهت به)؛ أي: الراحلة؛ يعني: توجه صاحب الراحلة؛ لأنَّها تابعة لقصد توجهه بنفسها من غير أن يسوقها أو يديرها، فإن ساقها أو حولها؛ بطلت صلاته، وظاهر الحديث بل صريحه أنه عليه السلام كان يتركها حيثما سارت؛ لتوجهها أول الصلاة إلى المكان المقصود له، فلا يحتاج إلى تحويلها إن دارت، وسيأتي بيانه؛ فافهم.
وفي حديث ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائي قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر)، وفي حديث جابر عند الترمذي وأبي داود قال:(بعثني النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض من الركوع)، قال الترمذي:(حسن صحيح)، كذا في «عمدة القاري» .
(فإذا أراد) عليه السلام أن يصلي (الفريضة)؛ أي: صلاة الفرض العملي والعلمي؛ (نزل)؛ أي: عن راحلته إلى الأرض (فاستقبل القِبلة)؛ أي: توجه إلى الكعبة، وصلى الفرض والوتر، وهذا يدل على عدم ترك استقبال القِبلة في الفريضة، وهو إجماع، ولكن رخص في شدة الخوف.
(1)
في الأصل: (توجوا)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (تقدم)، وليس بصحيح.
قال في «خلاصة الفتاوى» : (أمَّا صلاة الفرض على الدابة بالعذر؛ فجائزة، ومن الأعذار المطر، إذا كان في السفر، فأمطرت السماء، فلم يجد مكانًا يابسًا ينزل للصلاة؛ فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة، ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه؛ يصلي مستدبر القبلة، وهذا إذا كان الطين بحال يغيب وجهه فيه، فإن لم يكن بهذه المثابة لكن الأرض ندية؛ صلى هنالك)، ثم قال:(وهذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها، أمَّا إذا سيرها صاحبها؛ فلا يجوز صلاته مطلقًا فرضًا أو نفلًا، ومن الأعذار كون الدابة جموحًا لو نزل؛ لا يمكنه الركوب، ومنها اللص والمرض، وكونه شيخًا كبيرًا لا يجد من يركبه، ومنها الخوف من سَبُع) انتهى.
وصرح صاحب «المحيط» : (بأنَّ الصلاة على الدابة في هذه الأعذار جائزة، ولا يلزمه الإعادة بعد زوال العذر، وهذا كله إذا كان خارج المصر) انتهى.
قلت: أمَّا عدم لزوم الإعادة؛ للقاعدة الأصولية: (أن الساقط لا يعود)، فمتى صحت صلاته بوجه؛ لا يجب عليه إعادتها، وأمَّا كونه خارج المصر؛ لأنَّه لو كان في المصر؛ لا تصح صلاته هذه؛ لأنَّ المصر ليس فيه شيء من هذه الأعذار؛ كما لا يخفى، ومثل صلاة الفرض صلاة الوتر الواجب، والمنذور، والعيدين، وما شرع فيه نفلًا فأفسده، وصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة التي تلاها على الأرض، كما صرح به في «إمداد الفتاح» ، وفيه:(والصلاة في المحمل، وهو على الدابة كالصلاة على الدابة، سواء كانت سائرة أو واقفة، ولو أوقفها وجعل تحت المحمل خشبة ونحوها حتى بقي قرار المحمل على الأرض؛ كان المحمل بمنزلة الأرض، فتصح الفريضة فيه قائمًا) انتهى.
وأمَّا التنفل على الدابة؛ فلا يجوز إلا إذا كان خارج المصر، وهو المكان الذي يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة، وقيل: قدر فرسخين، وقيل: قدر ميل، والأول هو الأصح، وهذا قول الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن الزبير، وأبي ذر، وأنس، وابن عمر، وبه قال طاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك، والليث، فلا يشترط أن يكون السفر طويلًا، بل لكل من كان خارج المصر؛ فله الصلاة على الدابة، واشترط مالك مسافة القصر، وهو إحدى قولي الشافعي.
وقال ابن بطال: (واستحب ابن حنبل وأبو ثور: أن يفتتحها متوجهًا إلى القبلة، ثم لا يبالي حيث توجهت، وزعمت الشافعية أن المنفرد في الركوب على الدابة إذا كانت سهلة يلزمه أن يدير رأسها عند الإحرام إلى القبلة على الأصح، وقيل: لا يلزمه كما لا يلزمه في القطار والدابة الضعيفة) انتهى.
قلت: وظاهر حديث الباب بل صريحه يرد هذا؛ لأنَّه عليه السلام كان يصلي على راحلته حيث توجهت، ولأن في التزامه النزول والتوجه انقطاعًا عن النافلة أو القافلة، فيكون حرجًا، فالحديث حجة على من اشترط التوجه واستحبه؛ فليحفظ.
وأمَّا التنفل في المصر على الدابة؛ فمنعه الإمام الأعظم، والإمام محمد بن الحسن، والإصطخري من الشافعية، وجوزه الإمام قاضي القضاة أبو يوسف، وهو رواية عن الإمام محمد بن الحسن.
دليل المنع: أنَّ هذه الأحاديث الدالة على جواز التنفل على الدابة وردت في السفر؛ ففي رواية جابر بن عبد الله: كانت في غزوة أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وفي رواية:(أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره)، وفي رواية ابن عمر:(بطريق مكة)، وفي رواية:(متوجه إلى المدينة)، وفي رواية:(متوجه إلى خيبر).
والحاصل: أنها كانت مرات كلها في السفر.
ودليل الجواز: ما رواه أبو يوسف قال: حدثني فلان -وسماه- عن سالم عن ابن عمر: (أنه عليه السلام ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة، وكان يصلي وهو راكب).
وقال ابن بطال: (وروى أنس بن مالك: أنه عليه السلام صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماءً) انتهى.
قلت: وأجاب المانع عن الأول: بأنَّه شاذ، وهو فيما يعم به البلوى لا يكون حجة، وعن الثاني: بأن المراد من أزقة المدينة: الأزقة الخارجة عن المدينة؛ يعني: في أزقة البساتين في المدينة، والله تعالى أعلم.
[حديث: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به]
401 -
وبالسند إليه قال: (حدثنا عثمان) : هو ابن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان بن خواستى العبسي الكوفي (قال: حدثنا جرير) : هو ابن عبد الحميد بن قرط العبسي الكوفي، (عن منصور) : هو ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي، (عن إبراهيم) : هو ابن يزيد النخعي الكوفي، (عن علقمة) : هو ابن قيس النخعي الكوفي (قال: قال عبد الله) : هو ابن مسعود، أحد العبادلة الأربعة، وكان قصيرًا نحيفًا، وكان الريح يأخذه حين يمشي، فتنظر إليه الصحابة بحضرة الرسول عليه السلام، فحين يراهم النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ يقول:«لساق عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد» رضي الله عنه، وفي رواية أبي ذر:(عن عبد الله قال:)(صلى النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم : هذه الصلاة، قيل: العصر، وقيل: الظهر؛ يدل للأول: ما رواه الطبراني، من حديث طلحة بن مصرف، عن إبراهيم به: أنها العصر، فنقص في الرابعة، ولم يجلس حتى صلى الخامسة، ويدل للثاني: ما رواه من حديث شعبة عن حماد عن إبراهيم: أنها الظهر، وأنَّه صلاها خمسًا؛ كذا في «عمدة القاري» .
(قال إبراهيم) هو النخعي المذكور: (لا أدري زاد)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته، ولابن عساكر:(أزاد)؛ بهمزة الاستفهام (أو نقص) فيها؟ وهذا مدرج، وفي رواية أبي داود:(فلا أدري)؛ أي: فلا أعلم هل زاد النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته أو نقص فيها؟، والمقصود: أنَّ إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، وهل كان لأجل الزيادة أو النقصان؟ وهو مشتق من النقص المتعدي لا من النقصان اللازم، والصحيح كما قال الحميدي: أنه (زاد)، قاله إمام الشَّارحين.
(فلمَّا سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته ساهيًا؛ (قيل) لم يعلم اسم القائل (له: يا رسول الله؛ أَحَدَث)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة أو بالنقصان عنه، قاله الشَّارح.
قلت: وحاء (أَحَدَث)
مهملة مفتوحة، وكذلك الدال مهملة مفتوحة؛ أي: أوقع (في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؟ وأمَّا (حدُث) -بضم الدال-؛ فلا يستعمل في شيء من الكلام إلا في قولهم: أخذني ما قدُم وما حدُث؛ للازدواج.
(قال) عليه السلام للسائل: (وما ذاك؟) : سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يتبين عنده، ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم؛ حيث (قالوا) أي: الصحابة: (صليت كذا وكذا)؛ بالتكرار؛ كناية عما وقع إمَّا زائدًا على المعهود أو ناقصًا عنه، وهذا يدل على أنَّ سلامه من الصلاة كان سهوًا، وهو غير مفسد للصلاة؛ ولهذا قال:(فثنَى)؛ بتخفيف النون، مشتق من الثني؛ يعني: عطف عليه السلام (رجليه)؛ بالتثنية رواية الكشميهني والأصيلي، وفي رواية غيرهما:(رجله)؛ بالإفراد، والمقصود منه: فجلس كما هو هيئة القعود للتشهُّد، وليس المراد: أنه تحول عن جهة القبلة، بل ظاهره بل صريحه أنَّه بسط رجليه من غير تحويل عنها، وسمع كلامهم، ويحتمل أنه التفت بعنقه إليهم، ويحتمل أنه لم يلتفت، فالسلام للقطع لا يفسد الصلاة إذا كان ساهيًا، فيعود لسجود
(1)
السهو، فيسجده ما لم يتحول عن القبلة أو يتكلم؛ لأنَّهما مبطلان للتحريمة، وقيل: لا يقطع بالتحويل ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد، كذا في «الدرر» عن «النهاية» ؛ فافهم.
(واستقبل القبلة)؛ أي: برجليه؛ لأنَّه قد بسطهما، وليس المراد: أنه كان متحولًا عن القبلة، بل المراد: أنه استقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة؛ لأنَّه كان باسطًا لهما؛ فافهم.
(وسجد سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: للسهو، ففيه دليل على أنَّ سجود السهو سجدتان، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وعامة الفقهاء، وحكي عن الأوزاعي وابن أبي ليلى: أنه يلزمه لكل سهو سجدتان؛ لحديث في ذلك، وقال الحفاظ: إنه ضعيف لا يحتج به؛ فافهم.
(ثم سلَّم)؛ بتشديد اللام؛ أي: من صلاته، وهذا دليل قوي للإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم حيث ذهبوا إلى أن سجدتي السهو بعد السلام؛ لأنَّه عليه السلام سلَّم، ثم سجد، ثم سلَّم، وهو قول الصديق الأصغر علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، وهو قول سفيان الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
وهذا الحديث حجة على الشافعي، وأحمد، ومالك؛ حيث ذهبوا إلى أن السجود للسهو قبل السلام، وفي «المغني»
(2)
الحنبلي: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين
(3)
اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام؛ وهما إذا سلَّم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، وقال مالك وأبو ثور: إن كان السهو لنقص؛ فقبل السلام، وإن كان لزيادة؛ فبعد السلام.
قلت: وكل هذا ليس فيه دليل من الحديث، وإنما هو قياس، ولا يعمل بالقياس عند وجود النص، فحديث الباب حجة لنا وعلى من خالفنا؛ فافهم، فمذهبنا هو الصواب، فلو سجد المنفرد للسهو قبل السلام؛ جاز، ولكنه مكروه، هذه رواية الأصول، وفي رواية غيرها: لا يجوز؛ لأنَّه قد أداه قبل وقته، وقيل: إن الخلاف في الأولوية، فلو اقتدى حنفي بمخالف في السنن، فسجد الإمام للسهو قبل السلام؛ قيل: يتابعه، وقيل: لا يتابعه، وعليه الإعادة بعد السلام، كذا في «التجنيس» .
قلت: والظاهر الثاني؛ تحقيقًا للمخالفة؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعدد بتعدد أسبابه، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء؛ لأنَّه عليه السلام تكلم بعد أن سها واكتفى فيه بسجدتين، وقال بعض العلماء: يتعدد السجود بتعدد السهو، وظاهر الحديث يرده، وهو دليل الجمهور؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على أن سجود السهو في آخر الصلاة؛ لأنَّه عليه السلام لم يفعله إلا آخرها، وحكمته: أنه أخر؛ لاحتمال سهو آخر، فيكون جابرًا للكل، وفرع عليه الفقهاء: أنه لو سجد، ثم تبين أنه لم يكن في آخر الصلاة؛ لزمه إعادتها في آخرها، وفيه صورتان:
إحداهما
(4)
: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت وهو في السجود الآخر، فيلزمه إتمامه ظهرًا، ويعيد السجود.
والثانية: أن يكون مسافرًا، فيسجد للسهو، ويصل به إلى الوطن، أو ينوي الإقامة، فيتم، ثم يعيد السجود، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم الكرماني أنَّ قوله: (وسجد سجدتين) دليل على أنه لم ينقص شيئًا من الركعات، ولا من السجدات، وإلا لتداركها، فكيف صح أن يقول إبراهيم:(لا أدري؟) بل يعين أنه زاد، فإن النقصان لا يجبر بالسجدتين، بل لا بد من الإتيان بالمتروك؟
والجواب: أنَّ كل نقص لا يستلزم الإتيان به، بل كثيرًا منه ينجبر بمجرد السجدتين، ولفظ:(نقص) لا يوجب النقص في الركعة ونحوها، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: قد ذكرنا فيما مضى عن الحميدي أنه قال: (بل زاد)، وكانت زيادته أنه صلى الظهر خمسًا، كما ذكره الطبراني، فحينئذٍ كان سجوده لتأخير السلام، ولزيادته من جنس الصلاة.
وقوله: (فإن النقصان
…
) إلخ: غير مسلم؛ لأنَّ النقصان إذا كان في الواجبات، أو في تأخيرها عن محلها، أو في تأخير ركن من الأركان؛ ينجبر بالسجدتين.
وقوله: (بل لا بد
…
) إلخ: إنَّما يجب إذا كان المتروك ركنًا، وأمَّا إذا كان من الواجبات، أو من السنن التي في قوة الواجب؛ فلا يلزمه الإتيان بمثله، وإنما ينجبر بالسجدتين) انتهى.
(فلما أقبل علينا بوجهه)؛ يعني: فلما فرغ من صلاته، واستقبال القبلة؛ انحرف، وتوجه إلى أصحابه بوجهه الشريف عليه السلام (قال: إنَّه) أي: الشأن (لو حدث في الصلاة شيء)؛ أي: من الوحي مما يوجب التغيير بزيادة أو نقصان؛ (لنبأتكم) أي: لأخبرتكم (به)؛ أي: بالشيء الحادث أو بالحدوث الذي دل عليه قوله: (لو حدث)؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 9]، ونبأتكم من باب (نبَّأ) -بتشديد الباء الموحدة-: وهو ما ينصب ثلاثة مفاعيل، وكذلك (أنبأ) من باب (أفعل)، والثلاثي
(1)
في الأصل: (للسجود)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (المفتي)، وهو تحريف.
(3)
في الأصل: (موضعين).
(4)
في الأصل: (أحدهما)، وليس بصحيح.
نبأ، والمصدر: النبأ؛ ومعناه: الخبر، تقول: نبأ وأنبأ ونبأ؛ أي: أخبر، ومنه أخذ: النبيء؛ لأنَّه أنبأ عن الله تعالى؛ أي: أخبر، واللام فيه لام الجواب، وتفيد التأكيد أيضًا.
فإن قلت: أين المفاعيل الثلاثة هنا؟
قلت: الأول: ضمير المخاطبين، والثاني: الجار والمجرور؛ أعني: لفظة (به)، والثالث: محذوف، أفاده إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أنَّ اللام بعد (لو) لام جواب قسم مقدر.
قلت: وهو ليس بشيء؛ لتصريح النحاة بأنها لام الجواب، وتفيد التأكيد؛ فافهم.
قال الشَّارح: (وفيه دلالة على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة؛ لقوله عليه السلام: «لو حدث في الصلاة شيء؛ لنبأتكم به»)؛ فافهم.
(ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم) : لا نزاع أنَّ كلمة (إنما) للحصر، لكن تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، ومعنى الحصر في الحديث: أنه بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء، فإنَّ للرسول عليه السلام أوصافًا أخر، قاله إمام الشَّارحين.
(أنسى كما تنسون)؛ والنسيان في اللغة: خلاف الذِّكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان: غفلة القلب عن الشيء، ويجيء النسيان بمعنى: الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {وَلَا
(1)
تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، انتهى.
وأَنسى -بهمزة مفتوحة، وسين مهملة مخففة- قال الزركشي:(ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه؛ لم يناسب التشبيه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن ضم الأول هو المناسب؛ لحديث: «لا تقل: نسيت، وإنما قل: أُنسيت» ؛ بضم الهمزة؛ لأنَّ النسيان منسوب إلى الشيطان، قال تعالى:{وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، وهنا غير مذكور، فتعين ضم الهمزة، وكونه لا يناسب التشبيه بعيد؛ لأنَّ (تنسون) مأخوذ من لفظ (أنسيت الأمر)؛ والمعنى: أنسى كما ينسى أحدكم، لكن بين اللفظين تغاير من حيث إنه أتى به بصيغة المتكلم وحده مع جمع المخاطبين؛ فافهم.
(فإذا نسيت) في الصلاة؛ (فذكروني)؛ أي: في الصلاة بالتسبيح ونحوه، ففيه جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، واتفقوا على أنَّهم لا يقرون عليه، بل يعلمهم الله تعالى به، وقال الأكثرون:(شرطه تنبيهه عليه السلام على الفور متصلًا بالحادثة)، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته.
والفرق بين النسيان والسهو: أن النسيان: غفلة القلب عن الشيء، والسهو: غفلة الشيء عن القلب، وعن هذا قال قوم: كان عليه السلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النسيان في حديث ذي اليدين بقوله:«لم أنسَ» ؛ لأنَّ فيه غفلة، ولم يفعل.
وقال القشيري: (الفرق بينهما بعيد، كما في استعمال اللغة، وكأنه يلوح من اللفظ على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).
وقال القرطبي: (لا نسلم الفرق، ولئن سلمنا؛ فقد أضاف عليه السلام النسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني»).
وقال القاضي عياض: (إنما أنكر عليه السلام «نسيت» المضاف إليه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي»، وقد قال أيضًا: «لا أنسى» على النفي، «ولكن لأُنسَّى»، وقد شك بعض الرواة في روايته، فقال: «أنسى أو أُنسَّى»، وأنَّ «أو» للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك في حديث ذي اليدين؛ أنكره، وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّنٌ، وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي، ولكن الله أنساني)، وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال:(وفي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام في الأفعال).
وقال ابن دقيق العيد: (وهو قول عامة العلماء، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وهذا الحديث يرد عليهم)، ورده إمام الشَّارحين فقال:(هم منعوا السهو عليه في الأفعال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك: بأن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه؛ لم تحصل منه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرائيني).
وقال القاضي عياض: (واختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور، وأمَّا السهو في الأقوال البلاغية؛ فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على تعمده امتناع تعمده، وأمَّا السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي؛ فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه).
قال القاضي: (والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا
(2)
، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضًى ولا في غضب، وأمَّا جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا؛ فغير ممتنع) انتهى، والله أعلم.
(وإذا شك أحدكم في صلاته)؛ الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر؛ فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر؛ فهو أكبر الظن وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، انتهى.
(فليتحرى
(3)
الصواب) : التحرِّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي رواية مسلم:(فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، وفي رواية:(فليتحرَّى الذي يرى أنه صواب)، ويعلم من هذا أن التحرِّي: طلب أحد الأمرين وأولاهما بالصواب، قاله في «عمدة القاري» .
(فليتم) بانيًا (عليه)؛ أي: على ما هو الصواب، ولولا تضمين الإتمام معنى البناء؛ لما جاز استعماله بكلمة الاستعلاء، وقصد الصواب في البناء على غالب الظن عند الإمام
(1)
في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
(2)
في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.
الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ لأنَّه بمنزلة اليقين، وهو صريح الحديث، وزعم الشافعية أنه الأخذ باليقين.
قلت: وهو مردود؛ لأنَّه لم يعلم اليقين حتى يأخذ به، ولهذا قال عليه السلام:«فليتحرَّى الصواب» ، وهو الأخذ بغالب الظن، ولو كان مراده اليقين؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما قال:«فليتحرَّى الصواب» ، والتحري: الاجتهاد في طلب أحد الأمرين؛ علم منه أن المراد بالتحري غلبة الظن؛ فليحفظ.
(ثم يسلم)؛ أي: للخروج من الصلاة، وهو واجب، (ثم يسجد) أي: للسهو وجوبًا (سجدتين)؛ بالتثنية؛ أي: جبرًا لما حصل في صلاته من الخلل، وفي رواية غير أبي ذر:(ثم ليسلم)؛ بلام الأمر، وفي رواية الأصيلي:(وليسجد)؛ بلام الأمر، وهذا يدل على أن التحري والسجود واجبان للأمر في ذلك، والأمر المطلق يدل على الوجوب، وزعم القسطلاني أن الأمر محمول على الندب، وعليه الإجماع، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإن الأمر فيه للوجوب عند إمامنا الأعظم وأصحابه، وبه قال مالك وأحمد، فالحمل على الندب باطل؛ لأنَّ الأمر المطلق يدل على الوجوب، ودعوى الإجماع باطلة؛ لأنَّه لا دليل يدل عليها، فإن كان مراده إجماع المجتهدين؛ فباطل؛ لأنَّ رأس المجتهدين الإمام الأعظم ومالك بن أنس وأحمد ابن حنبل قالوا بالوجوب، وإن كان مراده إجماع أهل مذهبه؛ فغير صحيح؛ لأنَّ اجتماع أهل المذهب على أمر يقال له: اتفاق، وهو غير لازم لغيرهم، وعلى كلٍّ؛ فهذا كلام من لم يذق شيئًا من العلم؛ فافهم.
وزاد في الطنبور نغمة الكرماني، فزعم أنه إنَّما عبر بلفظ الخبر في (يسلِّم) و (يسجد)، وبلفظ الأمر في (فليتحرَّى) و (ليتم)؛ لأنَّ السلام والسجود كانا ثابتين يومئذٍ، بخلاف التحري والإتمام؛ فإنَّهما ثبتا بهذا الأمر، وللإشعار بأنَّهما ليسا بواجبين؛ كالتحري والإتمام، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: الفصاحة في التفنُّن في أساليب الكلام، والنبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لا يجارى في فصاحته، فلهذا عدل عن لفظ الأمر إلى الخبر، وغير أسلوب الكلام.
وقوله: (أو للإشعار
…
) إلى آخره: غير مسلم، بل هما واجبان؛ لمقتضى الأمر المطلق، وهو قوله عليه السلام:«من شك في صلاته؛ فليسجد سجدتين» ، والصحيح من المذهب هو الوجوب، ذكره صاحب «المحيط» ، و «المبسوط» ، و «الذخيرة» ، و «البدائع» ، وبه قال مالك وأحمد، وعلى رواية:«فليتحرَّى الصواب، فليتم، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» ؛ لا يرد هذا السؤال، ولا يحتاج إلى الجواب، انتهى.
قلت: ورواية: (ثم ليسلم)؛ بلام الأمر رواية الأكثرين، وعند أبي ذر:(يسلم)؛ بدونها، وكذلك:(ثم ليسجد)؛ بلام الأمر عند الأكثرين، وعند الأصيلي بدونها.
وقوله: (فليتحرَّى)؛ بلام الأمر عند جميع الرواة، وكذلك:(فليتم)؛ بلام الأمر عند جميعهم أيضًا؛ فانظر كيف لحظ لروايةٍ الله أعلم بثبوتها، واعترض وسأل ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وما هذا إلا دأب المتعصبين؛ فافهم.
زعم الكرماني فإن قلت: السجدة مسلم أنها ليست بواجبة، لكن السلام واجب، قلت: وجوبه بوصف كونه قبل السجدتين؛ ممنوع، وأما نفس وجوبه؛ فمعلوم من موضع آخر، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: وقوله: (السجدة مسلم
…
) إلى آخره: غير مسلم؛ لما ذكرنا؛ أي: من قوله عليه السلام: «ثم ليسجد سجدتين» ، فإن الأمر المطلق فيه يدل على الوجوب عند المحققين.
وقوله: (قلت
…
) إلى آخره: غير ممنوع؛ لأنَّ محل السلام الذي هو للصلاة في آخرها متصلًا بها، فوجب بهذا الوصف، ولا يمتنع أن يكون الشيء
(1)
واجبًا من جهتين؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: آخر الحديث يدل على أن سجود السهو بعد السلام وأوله على عكسه، قلت: ومذهب الشافعي: أنه يسن قبل السلام، وتأول آخر الحديث بأنه قول، والأول فعل، والفعل مقدم على القول؛ لأنَّه أدل على المقصود، أو أنه عليه السلام أمر بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز، وفعل نفسه قبل السلام؛ لأنَّه أفضل، انتهى.
ورده إما م الشَّارحين فقال: (لا نسلم أن الفعل مقدم على القول؛ لأنَّ مطلق القول يدل على الوجوب على أنَّا نقول: يحتمل أن يكون سلم قبل أن يسجد سجدتين، ثم سلم سلام سجود السهو، فالراوي اختصره، ولأن في السجود بعد السلام تضاعف الأجر، وهو الأجر الحاصل من سلام الصلاة ومن سلام سجود السهو، ولأنه شرع جبرًا للنقص أو للزيادة التي في غير محلها، وهي أيضًا نقص كالإصبع الزائدة، والجبر لا يكون إلا بعد تمام المجبور، وما بقي عليه سلام الصلاة، فهو في الصلاة) انتهى.
قلت: ويدل عليه قولهم: إذا اقتدى بالإمام وهو في سجود السهو؛ صح اقتداؤه؛ لأنَّه عاد إلى حرمة الصلاة، وما زعمه الكرماني متناقض؛ لأنَّ قوله: (فإن قلت
…
) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّ أول الحديث وآخره يدل على أن سجود السهو بعد السلام؛ لأنَّ أول الحديث: (صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما سلم؛ قيل: يا رسول الله
…
) إلى آخره، فاكتفى بهذا السلام، ولهذا سجد سجدتي السهو، ثم سلم.
وقوله: (وتأول آخر الحديث
…
) إلى آخره: هذا التأويل باطل؛ لأنَّ القول مقدم على الفعل عند المحققين؛ لأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، ويحتمل الندب، والإباحة، والسنية، والخصوصية بخلاف القول؛ فإنه لا يحتمل إلا الوجوب، كما لا يخفى، ولهذا قال العلماء: النظر للقول لا للفعل؛ فافهم.
وما زعمه من أنه أمر عليه السلام بأن يسجد بعد السلام؛ بيانًا للجواز؛ ممنوع، فإن هذا ليس سبيله بيان الجواز، فإن عادته عليه السلام على الدوام والاستمرار السجود للسهو بعد السلام قولًا وفعلًا، ففعله هذا ليس لبيان الجواز، بل على سبيل الوجوب؛ للعادة فيه، يدل علىه قوله عليه السلام:«ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» ، فثبت بهذا أن السهو متكرر منه عليه السلام، وأنه يسجد بعد السلام؛ فافهم.
وقوله: (وفعل نفسه
…
) إلى آخره: هذا رجوع؛ لدلالة الحديث على وجوب سجود السهو بعد السلام، كما لا يخفى.
وقوله: (لأنه أفضل) : تناقض، بل هو واجب، كما لا يخفى، وفي الحديث: دليل على أن الإمام أو المأموم إذا شك في صلاته؛ يرجع إلى قول غيره من المأمومين؛ لأنَّه عليه السلام قد
(1)
في الأصل: (شيء)، والمثبت هو الصواب.
رجع إلى قول أصحابه وبنى عليه، وهو حجة على الشافعية حيث زعموا أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه.
وأجاب الكرماني: (بأنه عليه السلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، وأنَّ قول السائل أحدث شكًّا عنده عليه السلام، فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعًا إلا إلى حال نفسه).
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام فيه تناقض؛ لأنَّ قوله: (سألهم
…
) إلى قوله: (فبنى عليه) رجوع إلى قول الغير بلا نزاع، وقوله:(لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير) : يناقض ذلك، وقوله:(فسجد بسبب حصول الشك) : غير مسلم؛ لأنَّ سجوده إنَّما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم؛ لأنَّه لو شك؛ لكان تردُّدًا
(1)
؛ إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم:«صليت كذا وكذا» ؛ ثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين) انتهى.
يعني: فيكون رجوعًا إلى قول الغير.
قلت: وظاهر الحديث يدل على أن هذا رجوع إلى قول الغير؛ لأنَّه قال السائل: (يا رسول الله؛ أحَدَث في الصلاة شيء؟)؛ أي: من الوحي، فقال عليه السلام له:«وما ذاك؟» ، وهو سؤال من لم يشعر بما وقع منه، فقالوا:(صليت كذا وكذا)؛ كناية عما وقع، فاعتمد على قولهم، وثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، فكان سجوده عليه السلام عملًا بقولهم، ورجوعًا إلى ما قالوه له، ولو كان كما زعمه الكرماني من أنه سألهم ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه؛ لكان قوله:«وما ذاك؟» لا فائدة فيه، وكذلك قوله:(قالوا: صليت كذا وكذا)، فإنه لو كان عالمًا بالسهو؛ لكان حين قال السائل له:(أحدث في الصلاة شيء؟)؛ تذكر، ولم يسألهم، فسؤاله
(2)
لهم دليل على أنه عليه السلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، ويدل عليه الفاء التعقيبية في قوله:(فثنى)، فإنها أفادت أنه حين سمع قولهم:(صليت كذا وكذا)؛ عقب ذلك بالثني لرجليه، ولم يتذكر، ولو كان في ذكره شيء؛ لما احتاج إلى سؤالهم وجوابهم، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم.
وما زعمه من قول السائل: (أحَدَث
…
) إلى آخره: ممنوع، فإن سجود السهو شرع في الزيادة أو النقصان لا للشك، فسجوده عليه السلام كان لأجل الزيادة، يدل عليه قول السائل:(أحَدَث)؛ أي: شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة، وصرح الحميدي:(أنه عليه السلام قد زاد في صلاته)، فثبت أن السجود كان للزيادة؛ فافهم.
وأجاب النووي عن الحديث: (بأنه عليه السلام سألهم؛ ليتذكر؛ فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه لا أنه رجع إلى قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو اليدين حتى قال عليه السلام: «لم تقصر ولم أنس»).
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه)؛ فافهم.
قلت: وكأن الكرماني أخذ كلامه من كلام النووي، ونسبه لنفسه، وكلامهما باطل ومحاولة وعدول عن الظاهر؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، والحق أن حديث الباب حجة عليهم؛ لأنَّه مصرح بأنه عليه السلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، كما قدمناه لك؛ فافهم.
وزعم الكرماني فإن قلت: الصواب غير معلوم، وإلا؛ لما كان ثمة شك، فكيف يتحرى الصواب؟ قلت: المراد منه المتحقق المتيقن؛ أي: فليأخذ باليقين.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الذي قاله بناء على ما ذهب إليه إمامه، فإنه فسر «الصواب» : الأخذ باليقين، وأما عند الإمام الأعظم؛ فالمراد منه: البناء على غالب الظن واليقين
(3)
في أين ههنا؟) انتهى.
قلت: وما زعمه الكرماني باطل؛ لأنَّ المراد من قوله عليه السلام: «فليتحرَّى الصواب» : غلبة الظن؛ لأنَّ التحري: طلب إحدى الأمرين وأولاهما بالصواب، وغلبة الظن: هو صواب الأمرين، ويدل عليه رواية مسلم: (فليتحرَّ
(4)
الذي يرى أنه صواب)، وفي أخرى:(فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، فعلم من ذلك أن الصواب معلوم، وهو غلبة الظن، وأما المتيقن؛ فليس يفهم من الحديث؛ لأنَّه لو كان مراده بـ (الصواب) : المتيقن؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما عدل عنه إلى قوله:(فليتحرَّى)؛ علم أن المراد بـ (الصواب) : غلبة الظن؛ فإنه بمنزلة اليقين، فإن اليقين لم يعلم ههنا، والعناد بعد ذلك مكابرة، فقام لنا الدليل على أن المراد بقوله:(فليتحرَّى الصواب) : البناء على غالب الظن؛ فليحفظ.
وفي الحديث: حجة قوية، ومحجة مستقيمة للإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والكوفيين: على أن من شك في صلاته في عدد ركعاتها؛ تحرى؛ لقوله عليه السلام: «فليتحرى الصواب» ، وبنى على غالب ظنه، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل، وهو حجة على الشافعي في قوله: من شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا مثلًا؛ لزمه البناء على اليقين، وهو الأقل.
فإن قلت: أمر الشَّارع بالتحري، وهو القصد بالصواب، وهو لا يكون إلا بالأخذ بالأقل الذي هو اليقين على ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري: أنَّه عليه السلام قال: «إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؛ فليبن على اليقين، ويدع الشك
…
»؛ الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قلت: هذا محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، ففي هذا نقول: يبني على الأقل؛ لأنَّ حديثه هذا قد ورد في الشك؛ وهو ما استوى طرفاه ولم يترجح له أحد الطرفين، ففي هذا يبني على الأقل بالإجماع، انتهى قاله في «عمدة القاري» .
قلت: ويدل لما قاله ما رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني عنه عليه السلام أنه قال: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلى أو ثنتين؛ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا؛ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؛ فليبن على ثلاث
…
»؛ الحديث، فأفاد أن المصلي إذا لم يقع تحريه على شيء؛ يبني على الأقل، أمَّا إذا تحرى ووقع تحريه على شيء؛ وجب الأخذ به؛ لقوله عليه السلام:«فليتحرى الصواب، فليتم» ، فالحديث
(1)
في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
(3)
في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم» .