الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(54)
[باب الصلاة في البيعة]
هذا (باب) حكم (الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (في البِيعة) بكسر الموحدة: معبد النصارى، والكنيسة: معبد اليهود.
فإن قلتَ: إذا كان كذلك؛ فكيف عقد الباب للصلاة في البيعة، والمذكور في الحديث هو الكنيسة؟
قلتُ: عقد الباب هكذا على قول من لم يفرِّق بينهما؛ فإن الجوهري قال: (الكنيسة والبيعة للنصارى)، ويقال البيعة:(صومعة الراهب) ذكره في «المحكم» ، ويقال: البيعة، والكنيسة: للنصارى، والصلوات: لليهود، والصوامع: للرهبان، وقال الداودي:(البيع: لليهود، والصلوات: للصابئين، وقيل: كالمساجد للمسلمين)، وقال القاضي عياض:(وأنكر بعض أهل اللغة هذه المقالة)، وقال الجواليقي:(جعل بعض العلماء البيعة والكنيسة فارسيتين معرَّبتين)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وحاصله: أنَّه اختلف أهل اللغة في ذلك، فقال بعضهم: البيعة للنصارى، والكنيسة لليهود، وقال بعضهم: البيعة والكنيسة للنصارى، والصلوات لليهود، والصوامع للرهبان.
وزعم ابن حجر أنَّ المعتمد الثاني، ويدخل في حكم البيعة: الكنيسة وبيت المدراس، والصومعة وبيت الصنم، وبيت النار ونحو ذلك، انتهى.
قلت: ولم يقل أحد من أهل اللغة أنَّ المعتمد الثاني، بل ذكروا هذا وهذا، فهو اعتماد من عنده، وهو مردود، على أن كلامه فيه تناقض؛ لأنَّه قال:(ويدخل في حكم البيعة: الكنيسة)؛ فجعل الكنيسة غير البيعة؛ فافهم.
وفي «القاموس» : (أنَّ الكنيسة والبيعة للنصارى)، وعليه؛ فتحصل المطابقة بين الترجمة والحديث، قال العجلوني:(ويقال قاس البيعة في الترجمة، على الكنيسة في الحديث) انتهى.
قلت: ولم يبين الجامع بينهما، وقد يقال: الجامع بينهما هو وجود التماثيل في كلٍّ، لكن يقال عليه: إنَّ التماثيل في البيعة فقط؛ لأنَّ النصارى هم الذين يصورون صور عبادهم من الرهبان، بخلاف اليهود، فإنَّهم لا يصورون ولا يضعون الصور في كنائسهم؛ فافهم.
والظاهر: هو الأول، يدل عليه قوله تعالى:{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] فالصوامع: جمع (صومعة)؛ وهو موضع يتعبد فيه الرهبان، والبيع: جمع (بيعة)؛ وهي للنصارى، وصلوات كنائس اليهود، والصلوات معرَّبة أصلها بالعبرانية: صلواث بالمثلثة، وهي في لغتهم بمعنى: المصلى؛ فافهم.
وقال المهلب: (هذا باب ليس معارضًا لباب: من صلى وقدامه نار أو تنور؛ لأنَّ الاختيار ألَّا يبتدئ بالصلاة إلى شيء من معبودات الكفار، إلا أن يعرض له، كما في حديث صلاة الخسوف، وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (تقرير معنى المعارضة بين البابين أن في هذا الباب كراهة الصلاة أو تحريمها، وفي ذلك الباب جوازها مع عدم الكراهة، وتقرير الجواب: أن ما كان في ذاك الباب بغير الاختيار، وما في هذا الباب من قول عمر: «إنَّا لا ندخل كنائسكم»؛ يعني: بالاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعو إلى ذلك) انتهى.
وأراد المؤلف بهذه الترجمة؛ على أنَّ الصلاة في البيع، والكنائس، ونحوهما مكروهة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله عنهم، وذلك لأنَّ في الصلاة عندهم يجلب الاستهزاء بعبادتنا، ويلزم عليه المجادلة، وقد قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
…
}؛ الآية [العنكبوت: 46]، ولأن فيها الصور والتماثيل، وقد نهينا عن الصلاة عندها، ولهذا قالوا: إذا تكرَّر منه الدخول للبيع ونحوها؛ يعزَّر بما يليق به، كما صرَّح به صاحب «البحر» وقال الشافعي:(الصلاة في البيع ونحوها مكروهة بشرط وجود التماثيل، وهو مروي عن ابن عبَّاس) والله أعلم.
(وقال عمر) : هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، مما وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر بن الخطاب قال: لما قَدِم عمر الشام؛ صنع له رجل من النصارى طعامًا، وكان من عظمائهم، وقال: أحبُّ أن تجيبني وتكرمني، فقال له عمر:(إنَّا)؛ بكسر الهمزة، أصله: إننا، فحذفت النون الثانية تخفيفًا، وهي للتأكيد، والمحذوفة: اسمها (لا ندخل كنائسكم)؛ بكاف الخطاب، وميم الجمع، وللأصيلي:(كنائسهم) بضمير الجمع الغائب، والرجل المذكور اسمه قسطنطين، سمَّاه مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مسجعة بن ربعي عن عمر في قصة طويلة أخرجها، وقول عمر هذا في حكم المرفوع؛ لأنَّ معناه: نهينا أن
(1)
ندخل كنائسكم، والناهي هو النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لا غير، فقول الصحابي: إنَّا لا نفعل كذا، ونحوه في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يقال من قبل الرأي، لأنَّه لا مجال للرأي فيه، والنهي يقتضي الكراهة؛ فدل هذا على كراهة الصلاة في البيع، والكنائس، ونحوهما؛ فافهم.
وقوله: (من أجل التماثيل)؛ جمع (تِمثال) بكسر أوله؛ وهو الصورة (التي فيها الصور) بالجمع، قيل: وفي نسخة بالإفراد؛ تعليل لعدم دخوله كنائسهم.
قال إمام الشَّارحين: (الجملة اسمية؛ لأنَّ الصور بالرفع مبتدأ مؤخر، وقوله: «فيها» خبره مقدَّم؛ أي: في الكنائس، والجملة صلة الموصول، وقعت صفة للكنائس لا للتماثيل؛ لفساد المعنى، لأنَّ التماثيل هي الصور، ويروى: «الصورِ»؛ بالجر، فعلى هذا؛ يكون الموصول مع صلته صفة التماثيل، ويكون (الصورِ)؛ بالجر بدلًا من التماثيل، أو عطف بيان، ويجوز نصب الصور على الاختصاص، وفي رواية الأصيلي:«والصور» ؛ بواو العطف على التماثيل، والمعنى: ولأجل الصور التي فيها، والصورة أعم من التماثيل) انتهى كلامه
وقال العجلوني: (ويجوز جعل «التي» نعتًا للتماثيل، و «فيها الصور» من مبتدأ وخبر، أو الظرف المقدَّر بـ «استقرَّ»، وفاعله صلة الموصول، و «الصور»؛ بمعنى: المصورات، وبينها وبين التماثيل عموم وخصوص مطلق؛ فكل تمثال صورة، ولا عكس، وضمير «فيها» على هذا للتماثيل، وهو من ظرفية العام في الخاص، أو هو من باب التجريد) انتهى.
قلت: وظاهر كلام إمام الشَّارحين، وكذا الكرماني أن جعل (التي) نعتًالـ (كنائس) متعين؛ لأنَّه قد نفى جعلها صفة للتماثيل؛ لفساد المعنى، وهو كذلك؛ لأنَّ عدم دخوله الكنائس من أجل الصور لا التماثيل؛ لأنَّ التمثال قد يكون على خلاف الصورة، والمراد بالتماثيل: الصلبان المعلقة في الكنائس، فهي ليست بصورة ذي روح، فبين الصور والتماثيل عموم وخصوص وجهي يجتمع أحدهما في مادة، وينفرد أحدهما في مادة أخرى، فيجتمعان في الصورة مطلقًا، وتنفرد الصورة بذي الروح، وتنفرد التماثيل في غير ذي روح؛ مثل الصلبان ونحوها، إذا علمت هذا؛ لم يصح جعلها نعتًا لـ (التماثيل)؛ لفساد المعنى؛ فافهم.
ثم قال العجلوني: (وقوله: «لأن التماثيل هي الصور»؛ فيه أنَّ الصور أعم) انتهى.
قلت: هذا أخذه من كلام إمام الشَّارحين حيث قال: والصورة
(1)
في الأصل: (ألا)، وليس بصحيح.
أعم من التماثيل، انتهى.
قلت: فإذا كان هذا كلامه؛ كيف يعترض عليه؟ وقد يقال هذا على المعنى الثاني الذي ذكرناه.
ورواية الرفع لأبي ذر، ورواية النصب صحح عليها في «الفرع» و «أصله» ، ويجوز نصبها بإضمار: أعني، فتكون مفعولة لفعل محذوف، وقال في «المصابيح» عن ابن مالك:(إنه يجوز في رواية الجر كونه معطوفًا بواو محذوفة).
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ حروف العطف كأحرف الجر لا تعمل محذوفة، فيتعيَّن كونه بدلًا أو عطف بيان، كما قاله إمام الشَّارحين، وقد صرح أن في رواية الأصيلي: بواو العطف على التماثيل، وعليه؛ فلا حاجة إلى هذا؛ فافهم.
وقد انتهت الجهالة لابن حجر، فزعم أنَّ (الصورُ)؛ بالرفع أي: أنَّ التماثيل مصورة، والضمير في (فيها) على هذا للتماثيل، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين بأنَّ هذا توجيه من لا يعرف من العربية شيئًا، انتهى.
وتبعه العجلوني فقال: (هو غير ظاهر، سواء كان بيان معنى أو إعراب، وقد يقال: إنَّما هو من قلم الناسخ، فأراد أن يقول: أي: أنَّ «الصور»؛ بمعنى: المصورة مظروفة في التماثيل، ولهذا جعل ضمير «فيها» راجعًا إلى التماثيل لا إلى الكنيسة مع أنه لا يستقيم المعنى؛ لأنَّه يلزم عليه أن تكون التماثيل مصورة في التماثيل) انتهى.
قلت: ولا يلزم أن يقال: (هو من قلم الناسخ)؛ لأنَّ كم مرة ظهر عدم معرفته في علم العربية، وهذا منها، فلا تغترَّ بما قاله؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنَّ عدم دخوله في كنائسهم لأجل الصور التي فيها، ولولا الصور؛ ما كان يمتنع من الدخول، وعند الدخول لا يمنع الصلاة، فحينئذ صحَّ فعل الصلاة في البيعة من غير كراهة إذا لم يكن فيها تماثيل، ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن سهل بن سعد، عن حميد، عن بكر قال: كتبت إلى عمر رضي الله عنه من نجران: إنَّهم لم يجدوا مكانًا أنظف ولا أجود من بيعة؛ فكتب إليه، انضحوها بماء وسدر، وصلوا فيها) انتهى.
قلت: يعني: لأنَّه يغلب عليها النجاسات، وهم لا يفرقون
(1)
الطهارة من النجاسة، فأفاد أنَّ الصلاة في البيع والكنائس إنَّما تكون صحيحة إذا كان المكان طاهرًا، والصلاة فيها حينئذ غير مكروهة، يدل عليه: أنَّ السنة وردت باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وقد يقال: إنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة؛ لأنَّها بقعة غضب وسخط، فإنَّها بقعة يُعصَى الله تعالى فيها، ويكفر به، وليس كذلك المقبرة؛ مع أنَّ الجمهور على أنَّ الصلاة في المقبرة مكروهة، وذهب أحمد وغيره: إلى أنها لا تصح، كما قدمناه، ولأنَّ في صلاته في البيع ونحوها يلزم منه استهزاء الكفار بعبادة الإسلام، وقد نُهينا عن مجادلتهم؛ لأنَّه يلزم منه المجادلة في الديانات، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
…
}؛ الآية [العنكبوت: 46]، فليكن الحق أنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة مطلقًا، سواء كان فيها تماثيل وصور أم لا؛ فافهم.
(وكان) عبد الله (ابن عبَّاس) حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما (يصلي) أي: الفرض وغيره (في البِيْعة)؛ بكسر الموحدة، وسكون التحتية: معبد النصارى (إلا بيعة فيها تماثيل) جمع (تِمثال)؛ بكسر الفوقية.
وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات» ، وزاد فيه:(فإن كان فيها تماثيل؛ خرج فصلَّى في المطر)، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند فيه خصيف-وفيه كلام- عن مقسم عن ابن عبَّاس أنه: كره الصلاة في الكنيسة؛ إذا كان فيها تصاوير، ولم يَرَ عطاء والشعبي وابن سيرين بالصلاة في الكنائس والبيع بأسًا، وهو قول مالك، وروي عنه: أنه كره الصلاة فيها؛ لما يصيب أهلها فيها من الخنازير والخمر، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: ومطابقته للترجمة ظاهرة، وقد يقال: الصلاة في الكنائس والبيع مكروهة؛ لأنَّها مأوى الشياطين، وبقعة غضب الله عليها؛ لأنَّها محل يكفر بالله فيه، وهو مذهب الحسن البصري.
ويدل للكراهة: أنَّ الكنائس والبيع مأوًى لكلٍّ من الخنازير، والكلاب، والخمر، ونحوها من النجاساتالتي يجتنبها المصلي إذا أراد الصلاة، وقد نصَّ أئمتنا الأعلام على أنَّ الصلاة تكره في قرب النجاسات؛ كالمزبلة وحائط نجس.
[حديث: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا]
434 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد) : غير منسوب، وفي رواية ابن عساكر:(محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام: هو البيكندي، وعزاها صاحب «عمدة القاري» لابن السكن؛ فإنَّه صرَّح به في روايته (قال أخبرنا)؛ بالجمع، وللأصيلي بالإفراد (عَبْدة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة آخره هاء، هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وضم العين المهملة في الثاني، (عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) : هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن أم سَلَمة)؛ بفتح الهمزة في «أن» ، وفتح المهملات في «سلمة» ؛ أم المؤمنين، واسمها: هند -على الأصح- بنت أبي أمية المخزومية، هاجر بها زوجها إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة؛ مات زوجها، فتزوجها النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(ذكرتْ) بتاء التأنيث (لرسول الله صلى الله عليه وسلم كَنيسة)؛ بفتح الكاف: معبد اليهود، ويقال لها: صِلاة؛ بكسر الصاد المهملة، ويقال: إنَّها معبد النصارى (رأتها)؛ أي: أم سلمة، (بأرض الحبشة) حين كانت مع زوجها الأول أبو سلمة هناك (يقال لها)؛ أي: لتلك الكنيسة، و «يُقال»؛ بضمِّ أوله مبني للمجهول:(مارِيةُ)؛ بتخفيف الراء والتحتية: النقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء، قاله إمام الشارحين، وهي بالرفع نائب فاعل «يقال» .
(فذكرتْ) أي: أم سلمة (له) أي: للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (ما رأت فيها) أي: في الكنيسة (من الصور)؛ أي: التماثيل المصورة، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لها: (أولئكِ) بكسر الكاف خطابًا للمؤنث، ويجوز فتحها (قوم)؛ أي: من النصارى، (إذا مات فيهم العبد الصالح)؛ أي: من نبي أو غيره، (أو الرجل الصالح) : كذلك، وكلمة «أو» للشك من الراوي، والظاهر: أنَّه من هشام؛ (بنوا على قبره مسجدًا) هذا جواب كلمة «إذا» ، (وصوروا فيه) أي: في المسجد (تلكِ الصور)؛ باللام، وفي رواية:«تيكِ» ؛ بفوقية ثم تحتية، بدل اللام، والكاف فيهما مكسورة، ويجوز فتحها؛ أي: لأجل
(1)
في الأصل: (لا يوقرون)، ولعل المثبت هو الصواب.