الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هي مخففة مركبة من همزة الاستفهام و (لا) النافية، وليست حرف تنبيه، ولا حرف تحضيض، كذا قاله إمام الشَّارحين، قلت: فهي للعرض، (أجعل لك شيئًا) أي: منبرًا (تقعد عليه) أي: حين الخطبة (فإن لي غلامًا نَجَّارًا)؛ بفتح النون، وتشديد الجيم: صانع النِّجارة، وفي «عمدة القاري» : أن في رواية الكشميهني: (فإن لي غلامٌ نجارٌ) انتهى؛ يعني: برفع (غلام) على أن اسم (أن) ضمير الشأن، وزعم العجلوني أن في بعض نسخ القسطلاني:(فإني لي غلام)، وهي ظاهرة، قلت: جميع نسخ القسطلاني: (فإن لي) بدون تحتية، فمن أين أتى بها شيخ عجلون؟! فافهم، والمراد به: المملوك (قال) أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لها: (إن شئتِ)؛ بكسر التاء الفوقية؛ خطاب المؤنث؛ يعني: إن شئت؛ فافعلي لي ذلك، وقال إمامنا الشَّارح: الجزاء محذوف؛ تقديره: إن شئت؛ عملت، ويروى:«إن شئت فعلت» ، فلا حذف؛ فافهم، (فعملت) أي: المرأة المذكورة (المنبر)؛ أي: النبوي، وإضافة العمل إلى المرأة مجاز؛ كإضافة الجعل إليها؛ لأنَّ العامل إنَّما هو الغلام، وهي الآمرة بذلك، فالإضافة باعتبار أنَّها آمرة العامل حقيقة، فهو كقولهم: كسا الخليفة الكعبة.
فإن قلت بين هذين الحديثين تخالف؛ لأنَّه عليه السلام في حديث سهل سأل المرأة، وفي حديث جابر: أنَّ المرأة سألته عليه السلام.
قلت: لا تخالف؛ لأنَّه عليه السلام أرسل إلى المرأة وأمرها بأن تأمر غلامها يعمل له أعوادًا يجلس عليهن، فظنت أنَّ المراد به لأجل القعود فقط، فسألته عليه السلام أنَّ الغلام يجعل له أعوادًا لأجل المنبر يخطب
(1)
عليه، فالسؤال منها كان بيانًا لسؤاله عليه السلام، ويحتمل تعدد القصة؛ لأنَّ الغلام اختُلف باسمه، فيحتمل أن كل واحد منهم عمل منبرًا، ويحتمل أنَّهم اشتركوا في عمله، وسأل مولاته أن تسأله عليه السلام عن صفته؛ فافهم.
وأجاب ابن بطال: (بأن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال، فلما أبطأ الغلام في عمله؛ أرسل إليها عليه السلام يستنجزها إتمامه؛ لعلمه بطيب نفسها بما بذلته من صنعة غلامها، ويمكن أن يكون إرساله عليه السلام إلى المرأة؛ ليُعرِّفها صفة ما يصنع الغلام في الأعواد) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المصنف أخرجه في (علامات النبوة) من هذا الوجه بلفظ: (ألا أجعل لك منبرًا)، فلعل التعريف وقع بصفة مخصوصة للمنبر، ويحتمل أنَّه لما فوَّض إليها بقوله لها:(إن شئت) كان ذلك سبب البطء، لا أنَّ الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنَّه جهل الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن التعريف إنَّما وقع لأجل بيان الشيء الذي يقعد عليه وهو المنبر؛ لأنَّ قولها:(أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟) يوهم أن يكون ذلك الشيء كرسي أو تخت، وهذه الرواية عرَّفت أنَّ المراد به: المنبر.
وقوله: (وقع بصفة مخصوصة
…
) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ المنبر ليس له أوصاف متعددة حتى يبين الصفة المخصوصة؛ بل هو معلوم بصفة واحدة؛ فافهم.
وقوله: (ويحتمل أنه لمَّا فوَّض
…
) إلخ: ممنوع أيضًا، فإنَّ قوله:(إن شئت) ذكره لأجل تطييب خاطرها تواضعًا منه ورحمة بها، مع علمه
(2)
بها أنها تريد خدمة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك، على أنها قالت له:(ألا أجعل؟) فكانت هي السائلة لذلك، وإذا كان الأمر هكذا؛ فلا يحصل منها ولا من غلامها بطء، غاية الأمر أن غلامها قد شرع في عمل المنبر، فاشتبه عليه أنَّ المراد بذلك الشيء هل هو شيء يقعد عليه كالتخت والسرير أو المنبر؟ فأبطأ حتى استفهم عنه؛ لأنَّه كان جاهلًا تلك الصفة؛ لأنَّها لم تكن معهودة عنده، بدلالة قرينة الحال والمقال من الحديثين المذكورين؛ فافهم.
فإن قلت: حديثي الباب لا يدلان على الترجمة بتمامها، بل على الشق الأول منها، وهو الاستعانة بالنَّجار في أعواد المنبر، ولا يدلان على الشق الثاني منها، وهو الاستعانة بالصُّنَّاع في المسجد.
قلت: أجاب الكرماني: (بأنَّه إمَّا اكتفى بالنَّجار والمنبر؛ لأنَّ الباقي يعلم منه، وإمَّا أنَّه أراد أن يُلحِق إليه ما يتعلق بذلك ولم يتفق له، أو لم يثبت عنده بشرطه حديثٌ يدل عليه)، قال إمام الشَّارحين:(الجواب الأول أوجه من الثاني) انتهى.
قلت: ويحتمل أنَّه أراد أنَّ عمل المنبر يحتاج إلى الصُّنَّاع؛ لأنَّه لا بد فيه من عمل الخشب، والرفوف، والمسامير، والنجار، وكل ذلك يعمله الصُّنَّاع المتفاوتون في الصناعة؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه أشار به إلى حديث طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين، فإنَّه أحسنكم له مسًّا، وأشدكم له سكبًا» ، رواه أحمد، وفي لفظ له: فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال:«دعوا الحنفي والطين، فإنَّه أضبطكم للطين» ، ورواه ابن حبان في «صحيحه» بلفظ: فقلت: يا رسول الله أنا أنقل كما ينقلون، فقال:«لا، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به» انتهى.
قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن المؤلف لم يتفق له ذكر ترجمة ويشير بها إلى حديث لم يذكره أصلًا وليس على شرطه، وهو كلام غير موجه وبعيد عن الأذهان؛ لأنَّه معيب في الصناعة، والبخاري دقيق النَّظر، وإنَّما هذا من فتور ذهن ابن حجر، فإنَّه من دأبه ذكر كلام لا طائل تحته، ولا معنى عنده، بل هو كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العلم؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يدل على الاستعانة؛ لأنَّ هذه المرأة قالت ذلك من تلقاء نفسها، وأجيب: بأنَّها استعانت بالغلام في نجارته المنبر، ومن فوائد هذا الحديث: قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، انتهى، والله أعلم.
(65)
[باب من بنى مسجدًا]
هذا (باب) بيان فضل (من بنى) أي: الذي عمَّر (مسجدًا) لله تعالى؛ أي: تقربًا إليه، وطلبًا لثوابه، وهربًا من عقابه.
[حديث: من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة]
450 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن سُلَيْمان)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية: هو ابن يحيى الجعفي المكي، المتوفى بمصر يوسف عليه السلام، سنة ثمان وثلاثين ومائتين (قال: حدثني) بالإفراد، ولابن عساكر:(حدثنا) بالجمع (ابن وهب)؛ مكبَّرًا: هو عبد الله المصري القرشي الثقة (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة: هو ابن الحارث
(1)
في الأصل: (تخطب).
(2)
في الأصل: (عمله)، وهو تحريف.
أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومئة، المعروف: بدرة الغواص: (أَنَّ) بفتح الهمزة (بُكَيْرًا)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الكاف، وسكون التحتية: هو ابن عبد الله الأشج المدني، خرج قديمًا إلى مصر فنزل بها (حدثه) وللأصيلي:(أخبره)؛ أي: حدَّث عمرًا: (أَنَّ) بفتح الهمزة (عاصم بن عُمر) بضمِّ العين المهملة (بن قَتادة)؛ بفتح القاف، الأوسي الأنصاري، المتوفى بالمدينة سنة عشرين ومئة (حدثه)؛ أي: حدَّث بكيرًا: (أَنَّه) بفتح الهمزة؛ أي: عاصمًا (سمع عُبيد الله)؛ بضمِّ العين المهملة، مصغَّرًا: هو ابن الأسود الخَوْلاني؛ بفتح المعجمة، وسكون الواو، وبالنون؛ نسبة إلى خولان قبيلة، وهو ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما:(أنه سمع عثمان بن عفان)؛ بمنع الأول، وصرف الثاني، وقال في «القاموس» :(«عفان» كشدَّاد، اسم ويصرف) انتهى، ولك أن تأخذه من العفِّ، فتمنعه من الصرف، فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم بكير وعاصم وعبيد الله، وفيه ثلاثة من أول الإسناد مصريون، وثلاثة في آخره مدنيون، وفي وسطه مدني سكن مصر؛ وهو بكير، انتهى.
(يقول) : جملة محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا من عثمان رضي الله عنه (عند قول الناس فيه)؛ أي: في عثمان رضي الله عنه، وذلك أن بعضهم أنكروا عليه عند تغييره بناء المسجد، وجعله بالحجارة المنقوشة والقصة، وتسقيفه بالساج، ووقع بيان ذلك عند مسلم؛ حيث أخرجه من طريق محمود بن لبيد الأنصاري- وهو من صغار الصحابة- قال:(لمَّا أراد عثمان بناء المسجد؛ كره الناس ذلك، وأحبوا أن يَدَعوه على هيئته)؛ أي: في عهد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وكان ذلك سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في آخر سنة خلافته، ففي كتاب «السر» عن ابن وهب: أخبرني مالك: أنَّ كعب الأحبار كان يقول عند بناء عثمان المسجد: (لوددت أنَّ هذا المسجد لا ينجز، فإنَّه إذا فرغ من بنائه؛ قُتل عثمان)، قال مالك:(فكان كذلك) انتهى.
وجمع ابن حجر بين القولين: بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني كان تاريخ انتهائه. انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المدة بينهما كثيرة، فإن القول الثاني شاذ، وإن أول خلافته كانت سنة ثلاث وعشرين، ووفاته كانت سنة خمس وثلاثين؛ فافهم.
(حين بنى) أي: أمر ببنائه (مسجد الرسول)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحموي:(مسجد رسول الله)، وفي رواية:(مسجد النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: بنى جداره بحجارة منقوشة وبالقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، كما بينته رواية ابن عمر في باب (بنيان المسجد)، كما مر، وكذلك رواية مسلم السابقة.
قال إمام الشَّارحين: (ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسَّعه)، وقال البغوي:(لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسعته) انتهى، قلت: وهو كذلك؛ لأنَّه عليه السلام قال: (مسجدي هذا مسجد، ولو مد إلى صنعاء)، كما سيأتي في «الصحيح» ، ولأن زخرفة المساجد غير مطلوبة، وروى ابن خزيمة في «صحيحه» عن أنس مرفوعًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على النَّاس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا» ، وروى أبو داود عن أنس أنَّه عليه السلام قال:«لا تقوم الساعة حتى يتباهى النَّاس في المساجد» ، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وروى أبو داود عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُمرت بتشييد المساجد» ، قال ابن عبَّاس:(لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى)، كما قدمناه.
وزعم ابن حجر أنه يؤخذ منه: إطلاق البناء في حق من جدد، كما يطلق في حق من أنشأ، أو المراد بـ (المسجد) هنا: بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ذكر هذا القائل شيئين: الأول: مستغنًى عنه فلا حاجة إلى ذكره، والثاني: لا يصح؛ لأنَّه ذكر في «باب بنيان المسجد» حديث عبد الله بن عمر، وفيه: «ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج» انتهى، فهذا يدلُّ على أنَّه غيَّر الكل وزاد فيه؛ يعني: في الطول والعرض، وكان المسجد مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النَّخل، وبناه عثمان بالحجارة، وجعل عمده من الحجارة، وسقفه بالساج، فكيف يقول هذا القائل: «أو المراد بالمسجد هنا: بعضه»، فهذا كلام من لم يتأمل ويتصرف من غير وجه) انتهى كلام إمامنا الشَّارح.
وقوله: (إنكم أكثرتم) : مقول لقوله: (يقول) ومفعوله محذوف؛ للعلم به، والتقدير: إنكم أكثرتم الكلام في الإنكار على ما فعلته، (وإني سمعت النبي) الأعظم، ولأبوي ذر والوقت:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(يقول) جملة محلها نصب على الحال أو مفعول ثانٍلـ (سمعت) على القولين المشهورين: (من بنى مسجدًا) التنوين فيه للشيوع، فيتناول من بنى مسجدًا صغيرًا أو كبيرًا، يدل عليه حديث أنس بن مالك أخرجه الترمذي مرفوعًا:«من بنى لله مسجدًا صغيرًا كان أو كبيرًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» ، وروى ابن أبي شيبة حديث الباب عن عثمان من وجه آخر، وزاد فيه:(ولو كمفحص قطاة)، وروى مسلم عن ابن عبَّاس مثله، وزاد فيه:(ولو كمفحص قطاة)، وروى ابن خزيمة عن جابر مرفوعًا:«من حفر ماء لم يشرب منه كبد حي من جن ولا أنسولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدًا كمفحص قطاة أو أصغر؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» .
وللعلماء في توجيه هذا قولان؛ فقال أكثرهم: هذا محمول
على المبالغة؛ لأنَّ المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده حديث جابر الذي ذكرناه، وقال آخرون: هو على ظاهره، والمعنى على هذا: أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.
قيل: هذا كله بناءًا
(1)
على أنَّ المراد بالمسجد ما يتبادر إليه الذهن؛ وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد: موضع السجود؛ وهو ما يسع الجبهة؛ فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر.
قلت: قوله (من بنى) يقتضي وجود بناء على الحقيقة مشتمل على المسجد المعهود بين الناس، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة عند الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا:«من بنى لله بيتًا» ، وحديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا:«من بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» ، رواه الطبراني في «معجمه» ، وفي لفظ:«من بنى مسجدًا يذكر فيه اسم الله» ، وكل ذلك يدل على أنَّ المراد بالمسجد: هو المكان المتخذ لا موضع السجود فقط، وهو الذي ذهب إليه الفرقة الأولى، ولكن لا يمنع إرادة موضع السجود مجازًا، فيدخل فيه المواضع المحوطة إلى جهة القبلة، وفيها هيئة المحراب في طرقات المسافرين والحال أنها ليست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف، وربما يجعل منها موضع في غاية الصغر، يدل عليه حديث أبي قرصافة عند الطبراني في «الكبير» : أنه سمع النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: «ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» ، قال رجل: يا رسول الله؛ وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: «نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين» ، واسم أبي قرصافة: جندرة بن خيشنة، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» رحمه الباري.
قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: «من بنى مسجدًا يصلى فيه؛ بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه» ، رواه الطبراني في «معجمه الكبير» ، وهو يدل على أنَّ المراد بالمسجد: المسجد المعهود بين الناس؛ فافهم.
ويشترط أن يكون البناء من المال الحلال؛ لأنَّ المسجد قربة إلى الله تعالى، والمال الحرام لا يتقرب به، ولا يحصل له هذا الثواب المخصوص إلا إذا كان من الحلال، يدل عليه حديث أبي هريرة مرفوعًا:«من بنى بيتًا يعبد الله فيه حلالًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة من الدُّر والياقوت» ، رواه البيهقي في «الشعب» والطبراني في «الأوسط» ، وحديث أنس مرفوعًا:«كل بناء وَبَاله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإنَّ له به قصرًا في الجنَّة من لؤلؤ» ، رواه أبو نعيم، وهذا يدل على أنَّ المسجد الذي يكون عليه هذا الأجر هو من بُني من المال الحلال، أما الذي بُني من أموال الناس، كبعض المساجد والمدارس في ديارنا الشامية؛ بنتها الوزراء؛ فهي عليهم وزر، ولا يثابون عليها، ولهذا تراها مظلمة مأوى غير أهلها؛ فافهم.
و (المَفحَص) : بفتح الميم والحاء المهملة كـ (مقعَد)، هو مجثمها؛ لتضع فيه بيضها وترقد عليه، كأنها تفحص عنه التراب؛ أي: تكشفه، والفحص: البحث والكشف.
(قال بكير) هو ابن عبد الله الأشج المذكور: (وحسبت) أي: ظننت (أنَّه) أي: عاصمًا شيخه الذي روى عنه هذا الحديث (قال) في روايته: (يبتغي)؛ أي: يطلب (به)؛ أي: ببنائه المسجد (وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته.
قال إمام الشَّارحين: وهذه الجملة مدرجة معترضة، وقعت في البين ولم يجزم بها بكير، فلذلك ذكرها بالحسبان، وليست هذه الجملة في رواية جميع من روى هذا الحديث، فإن لفظهم فيه:«من بنى لله مسجدًا، بنى الله له مثله في الجنة» ، فكأن بكيرًا نسي لفظة «لله» فذكرها بالمعنى، فإن معنى قوله «لله» : يبتغي به وجه الله؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود؛ وهو الإخلاص، ثم إن لفظة «يبتغي به» على تقدير ثبوتها في كلامه عليه السلام؛ تكون حالًا من فاعل «من بنى» ، والمراد بـ «وجه الله» : ذاته تعالى، وابتغاء وجه الله: هو الإخلاص؛ وهو أن يكون بنيَّةٍ مخلصةٍ في ذلك طلبًا لمرضات الله تعالى من دون رياء وسمعة، حتى قال ابن الجوزي:«من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه؛ كان بعيدًا من الإخلاص» .
فإن قلت: فعلى هذا لا يحصل الوعد المخصوص لمن يبنيه بالأجرة؛ لعدم الإخلاص؟
قلت: الظاهر هذا، ولكنَّه يؤجر في الجملة، يدل عليه ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا:«إنَّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة؛ صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به» ، فقوله:«المحتسب في صنعته» : هو من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يكون إلا من المتطوع.
فإن قلت: قوله: «من بنى» حقيقته أن يباشر البناء بنفسه؛ ليحصل له الوعد المخصوص فلا يدخل فيه الأَمْرُ بذلك.
قلت: يتناول الأمرَ أيضًا بنيَّتِه، والأعمال بالنيات، لا يقال: يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممتنع؛ لأنَّا نقول لا امتناع
(2)
فيه عند الشافعي، وأمَّا عند الأئمة الحنفية؛ فهو من باب عموم المجاز، وهو أن يحمل الكلام على معنًى مجازيٍّ يتناول الحقيقة، وهذا يسمى عموم المجاز، ولا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنًى مجازيٍّ يكون المعنى الحقيقي من أفراده، كاستعمال (الدابة) عرفًا فيما يدب على الأرض، ومثال ذلك: فيمن أوصى لأبناء زيد مثلًا، وله أبناء أبناء أبناء يستحق الجميع عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ عملًا بعموم المجاز؛ حيث يطلق الأبناء على الفريقين) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وزعم الكرماني أن من كتب اسمه على المسجد الذي بناه؛ يريد به: التذكير بالدعاء له؛ فإنَّه لا يكون بعيدًا من الإخلاص.
قلت: وكأنه مراده الاعتراض على ابن الجوزي فيما ذكره قريبًا، ولا ريب أنَّه بعيد عن الإخلاص؛ لأنَّه وإن كان مراده التذكير بالدعاء له، لكنه مشوب بالرياء والسمعة، والإخلاص: هو الخالي عن الرياء والسمعة، وليس هذا منه؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه يدخل في بناء المسجد من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، أو وقف بناء كان يملكه مسجدًا، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وهو مشتمل على شيئين؛ الأول: أنه من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، وهذا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ التحويط لا يقال له: بناء، ولأن المراد من المسجد: هو الذي يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة، أما هذا؛ فهو قريب التغيير، ولا يعلم أنه مسجد؛ لأنَّ الذي يعلم أنه مسجد هو ما يبنى مسجدًا ويجعل له محراب وغيره من صفة المساجد، والثاني: أنَّه من وَقف بناء كان يملكه مسجدًا، وهذا أيضًا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ المراد بالبناء مسجدًا: البناء قصدًا لجعله مسجدًا، أما هذا؛ فهو ليس مراده ببنائه مسجدًا؛ بل إنَّما عرض له أن يجعله مسجدًا، وهو وإن كان له ثواب في الجملة، لكن ليس كالثواب الموعود به المخصوص، فإن الأحاديث تدل على أنَّ المراد به: البناء قصدًا، ودلت أيضًا على أنَّ المراد بـ (المسجد) :
(1)
في الأصل: (بناء)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (لامتناع)، وليس بصحيح.
المسجد المعهود عند الناس، فالأرض المحوطة ليست مسجدًا داخلة في بناء المسجد؛ لأنَّها تقبل التغيير، كما لا يخفى؛ فافهم.
وقوله: (بنى الله له مثلَه في الجنة) : جواب الشرط، وإسناد البناء إلى الله مجاز اتفاقًا قطعًا، وإنما أظهر الفاعل فيه؛ لأنَّ في تكرار اسمه تعظيم له، وتلذُّذ للذاكر كقوله:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره
…
هو المسك ما كرَّرته يتضرَّع
قاله إمام الشَّارحين.
وزعم ابن حجر: لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهَّم عوده على باني المسجد.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال:(كلا الوجهين غير صحيح، أمَّا الأول؛ فلأنَّ التنافر إنَّما يكون إذا كانت الضمائر كثيرة، وليس هنا كذلك، وأمَّا الثاني؛ فممنوع قطعًا؛ للقرينة الحالية والمقالية) انتهى.
و (مثلَه) : منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: بناءً مثلَه في الجنة، متعلِّق بمحذوف وقع صفة لـ (مثله)، والتقدير: بنى الله له مثله كائنًا في الجنة.
وزعم ابن حجر أنَّه متعلق بـ (بنى) أو هو حال من مثله.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، وكيف يكون حالًا من مثله، وشرط الحال أن يكون من معرفة، كما عرف في موضعه، ولفظة «مثل» لا تتعرف وإن أضيفت
(1)
) انتهى.
واعترضه العجلوني، فزعم أنَّ (مثل) يتخصص، وهو كافٍ في مجيء الحال منه.
قلت: وهو فاسد؛ لأنَّ النحاة نصُّوا على أن (مثل) لا يتعرف، وإن أضيف فهو على التنكير أبدًا، ولم ينصَّ أحد على أنَّه يتخصَّص، ولا على أنَّه كافٍ، فهو قول لا دليل عليه؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (و «المثل» في اللغة: الشبه، يقال: هذا الشيء على مثل هذا؛ أي: شبهه، وقال الجوهري:«مثل» : كلمة تسوية، يقال: هذا مِثله؛ بكسر الميم، ومَثله؛ بفتحها، كما يقال: شِبهه؛ بالكسر، وشَبهه؛ بالفتح، وعند أهل المعقول المماثلة بين الشيئين: هو الاتحاد في النوع، كاتحاد زيد وعمرو في الإنسانية، وإذا كان في الجنس يسمى مجانسة، كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية.
وقد اختلفوا في المراد بالمثلية ههنا؛ فقال قوم- منهم ابن العربي-: يعني مثله في القدر والمساحة، قلت: يردُّ هذا حديث عبد الله بن عمرو عند أبي نعيم الأصبهاني بلفظ: «بنى الله له بيتًا أوسع منه» ، ورواه الإمام أحمد أيضًا، وكذلك في حديث أسماء وأبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم، وقال قوم: يعني مثله في الجودة، والحصانة، وطول البقاء، قلت: هذا ليس بشيء على ما لا يخفى، مع أنَّه قد ورد في حديث واثلة بن الأسقع عند أحمد والطبراني:«بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه» ) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وقال صاحب «المفهم» : (هذه المثلية ليست على ظاهرها، وإنَّما يعني أنَّه يبني له بثوابه بيتًا أشرف وأعظم وأرفع منه).
وقال النووي: (يحتمل قوله: «مثله» أمرين؛ أحدهما: أن يكون معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأمَّا صفته في السعة وغيرها، فمعلوم فضلها؛ فإنَّها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، والثاني: أنَّ معناه: أنَّ فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا) انتهى.
واعترضه إمام الشَّارحين، فقال:(الوجه الثاني لا يخلوعن بُعد) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ الوجه الأول له وجه، وأما الثاني؛ فليس له وجه صحيح؛ لأنَّ البيوت في الجنة تشمل بيوت الأنبياء، والأصحاب، والأولياء، والمجتهدين، والصديقين، فمن بنى مسجدًا لله تعالى؛ لا يسع أحدًا أن يقول: بنى الله له بيتًا مثل بيوت الأنبياء أو أفضل منها، وما هذا إلا قول صادر من غير تأمل، ولا تصرف كما لا يخفى، فقد ورد في «الصحيح» : أنَّ من أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ فضل أصحابه عليه السلام؛ فكيف يبلغ ببنائه المسجد بيتًا أفضل من بيته عليه السلام في الجنة، فهذا قول غير صحيح أصلًا، كما لا يخفى.
وقال بعض شرَّاح «الترمذي» : ويحتمل أنَّه أراد أن ينبِّه بقوله: (مثله) على الحض على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا، في كونه ينفع المصلين ويكنُّهم عن الحر والبرد، ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به؛ ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة.
وقال صاحب «المفهم» : (هذا البيت -والله أعلم- مثل بيت خديجة رضي الله عنها الذي بُشرت به «ببيت في الجنة من قصب»؛ يريد: من قصب الزمرد والياقوت).
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرنا حديث أبي هريرة عند الطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «شعب الإيمان» : «بنى الله له بيتًا في الجنة من در وياقوت») انتهى، قلت: يعني: فلا خصوصية لبيت خديجة، بل هو عام لكل من بنى لله مسجدًا، ويدل على العموم حديث أنس عند أبي نعيم:«كل بناء وباله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإن له به قصرًا في الجنة من لؤلؤ» ، ومثله حديث ابن عبَّاس عند أبي مسلم الكجي، فهو يدل على أن ذلك عام، وإفادة هذه الرواية أنَّ المثل المراد به: القصر؛ لأنَّه ينتفع به أكثر؛ لأنَّه يطلُّ على أنهار الجنة وثمارها، وغير ذلك من أنواع النعيم.
وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فما معنى التقييد بـ «مثله» ؟
قلت: أجابوا عن هذا بوجوه؛ الأول: ما قاله بعضهم أنه عليه السلام قاله قبل نزول هذه الآية، قلت: وهذا بعيد ولا يعلم ذلك إلا بالتأريخ، الثاني: أنَّ المثليَّة إنَّما هي بحسب الكميَّة، والزيادة تحصل بحسب الكيفية، قلت: المثلية بحسب الكمية تسمى مساواة؛ كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، وفي الكيفية تسمى مشابهة، الثالث: أن التقييد به لا ينفي الزيادة، واستبعده بعضهم، وليس ببعيد، الرابع: أن المقصود منه بيان المماثلة في أن أجزاء هذه الحسنة من جنس العمل لا من غيره، وعندي جواب آخر فتح لي به من الأنوار الإلهية؛ وهو أنَّ المجازاة بالمثل عدلٌ منه، والزيادة عليه بحسب الكيفية والكمية فضلٌ منه) انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر العسقلاني، فإنَّه قد ذكر هذا الجواب في «شرحه» ، وهو غير صحيح؛ لأنَّه إنَّما يعلم ذلك بثبوت التاريخ، ولم يوجد، فهو قول بالرأي، والجواب الثالث: قاله الكرماني أيضًا، وهو صحيح؛ لأنَّ القاعدة أنَّ التنصيص على عدد لا ينفي الزيادة عليه، وهو قول المحققين، فكيف يقول ابن حجر:(وهو بعيد)، والظاهر أنَّ معناه بعيد عن فهمه لا عن فهم غيره؛ فافهم، والذي أجاب به إمامنا الشَّارح هو الصواب، ويكون المعنى فيه: بنى الله له عشرة أبنية مثله بحكم الفضل وأوسع بما «لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ، وإن كان الأصل أن يكون واحدًا بحكم العدل، وفضل الله أوسع.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّ الباب معقود في بيان فضل من بنى المسجد؛ ففيه دليل على استحباب بناء المساجد؛ لأنَّها بيوت الله تعالى وقد أضافها تعالى لنفسه بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ
…
} الآية [التوبة: 18]، وحسبك بهذا شرفًا لها، وقد تفضَّل الله على بانيها بأن له بيتًا في الجنة، وثواب المسجد جارٍ مستمرٌّ لمن بناه في حياته وبعد مماته ما دامت السماوات والأرض؛ لأنَّه مسجد إلى يوم القيامة ولو خرب ودثر؛ لأنَّ مراد الواقف الدوام والاستمرار، وزعم ابن بطال أنه إذا خرب ولم يذكر الله فيه؛ لا يكون له ثوابه، وهو ممنوع، فإن الثواب حاصل له مطلقًا؛ لأنَّه مسجد ولو صار
(1)
في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.