الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيئًا، وفي رواية:(والذي أكرمك إنِّي لا أزيد على ما ذكرت ولا أنقص منه شيئًا)؛ أي: قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند الإبلاغ؛ لأنَّه كان وافد قومه؛ ليتعلم ويعلمهم، وقيل غير ذلك.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعه: (أفلح)؛ أي: الرجل؛ أي: فاز (إن صدق) في كلامه، وعند مسلم:«أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق» ، وإنَّما أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر له المنهيات، والمندوبات، والواجبات؛ لأنَّه جاء في رواية المؤلف في (الصيام) قال:(فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام)؛ فهي داخلة في عمومه، لكن يعكر عليه قوله في آخره:(فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئًا)؛ فيقتصر على الفرائض والمنهيات، وأما النوافل؛ فيحتمل أنه كان قبل شرعها، والفلاح راجع إلى الزيادة والنقصان؛ يعني: أنه إذا لم يزد ولم ينقص؛ كان مفلحًا؛ لأنَّه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه؛ كان مفلحًا، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك أنه لا يكون مفلحًا؛ لأنَّ هذا مما يعرف بالضرورة، فإنَّه إذا أفلح بالفرض؛ ففلاحه بالمندوب مع الفرض أولى، وفي الحديث دلالة على عدم فرض صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان، وهو بالإجماع.
واختلف في صوم يوم عاشوراء، هل كان فرضًا قبل رمضان؟ فعند إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: أنه كان فرضًا، والأظهر عند الشافعي: أنه لم يكن فرضًا، وأن السفر من بلد إلى أخرى لأجل تعلم العلم مندوب، وأن الحلف بالله من غير استحلاف ولا ضرورة يجوز؛ لأنَّه لم ينكر عليه النبي عليه السلام، وفيه استعمال الصدق في الخبر المستقبل، واستعمال (رمضان) من غير (شهر)، وفيه دلالة على جواز الحلف بالآباء مع ورود النهي عنه، ولعله كان قبل ورود النهي، أو بأنها جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم:(عَقرى حَلقى) و (تربت يمينك)، والنهي إنَّما ورد في القاصد بحقيقة الحلف؛ لما فيه من تعظيم المحلوف به، وهذا هو الراجح عند العلماء، والله أعلم.
(35)
[باب اتباع الجنائز من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (اتباع الجنائز من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعبه، مبتدأ وخبر، ويجوز في (باب) الإضافة للجملة بعده، و (اتِّباع)؛ بتشديد التاء مصدر (اتبع) من باب الافتعال، و (الجنائز) : جمع جَِنازة؛ بالجيم المفتوحة والمكسورة، والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش وعليه الميت، وقيل: عكسه، مشتقة من (جنز)؛ إذا ستر.
[حديث: من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا]
47 -
وبه قال: (حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المَنْجُوفي) نسبة لجدِّ أبيه مَنْجُوف؛ بفتح الميم، وسكون النون، وضم الجيم، آخره فاء، ومعناه: الموسع، وكنيته أبو بكر السدوسي البصري، المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومئتين (قال: حدثنا رَوح)؛ بفتح الراء وبالحاء المهملتين: ابن عبادة بن العلاء البصري، المتوفى سنة خمس ومئتين (قال: حدثنا عوف)؛ بالفاء: ابن أبي جميلة بَنْدُوْيَه؛ بفتح الموحدة، وبالنون الساكنة، والدال المهملة المضمومة، وواو ساكنة، ومثناة تحتية مفتوحة، العبدي الهجري البصري، المتوفى سنة ست وأربعين ومئة، ونسب إلى التشيع، (عن الحسن) هو البصري (ومحمدٍ) بالجر عطفًا على (الحسن)، وللأصيلي:(ومحمدٌ) بالرفع، هو ابن سيرين أبو بكر الأنصاري، مولاهم البصري التابعي الجليل، المتوفى سنة عشر ومئة، بعد الحسن بمئة وعشرين يومًا؛ كلاهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتَّبع)؛ بتشديد التاء المثناة فوق، وفي رواية:(تَبِع) بدون ألف وكسر الموحدة؛ أي: لحق، قال تعالى:{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90]؛ أي: لحقهم، وقال:{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175]؛ أي: لحقه، وفي «العباب» : تَبِعت القوم بالكسر: أتبَعهم تَبَعًا وتبَاعة؛ بالفتح؛ إذا مشيت خلفهم، أو مرُّوا بك فمضَيت معهم، واتَّبعت القوم؛ مثل تبعتهم؛ إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، انتهى.
(جنازةَ مسلم)(من) موصولة مبتدأ، و (اتبع) جملة من الفعل والفاعل، و (جنازة مسلم) كلام إضافي مفعوله، والجملة صلة الموصول، وفيه حجة ظاهرة لإمامنا الإمام الأعظم في أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، وهو مذهب الأوزاعي وقول علي بن أبي طالب، وهو حجة على الشافعية في زعمهم أن المشي أمامها أفضل من خلفها، والركوب وراء الجنازة لا بأس به، لكن المشي أفضل عندنا، وقالت الشافعية: لا فرق بين الراكب والماشي، والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه بسياق المشي لا الركوب؛ فهو حجة لنا أيضًا، حال كون ذلك (إيمانًا واحتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا، لا مكافأة ولا مخافة، (وكان معه)؛ أي: مع المسلم، وفي رواية:(كان معها)؛ أي: مع الجنازة (حتى) أن (يُصلِّي عليها) على صيغة المعلوم؛ بكسر اللام، والضمير يرجع إلى (من)، وفي (عليها) إلى (الجنازة)، وفي رواية: بفتح اللام على صيغة المجهول، والجار والمجرور في (عليها) نائب عن الفاعل، و (حتى) للغاية، و (أن) الناصبة بعدها و (يصلى)(ويفرغ) منصوبان بها بالبناء للفاعل أو للمفعول، وقوله:(من دفنها) نائب عن الفاعل، وللأصيلي:(يصلِّ) بحذف الياء وكسر اللام، وخبر المبتدأ -أعني:(مَن) الموصولة- قولُه: (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين)، ودخلت الفاء؛ لتضمنه معنى الشرط، و (مِن) بيانية، ومجرورها حال، مثنى (قيراط)؛ اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير، بيَّنه بقوله:(كل قيراط مثل) جبل (أُحُد) مبتدأ وخبر؛ بضمتين: بالمدينة، سمِّي به؛ لتوحُّده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، وهو في جانب المدينة من جهة الشمال على نحو ميلين منها، وفي الحديث:«أُحد يحبُّنا ونحبُّه، وهو على باب الجنة، وغيره يبغضنا ونبغضه، وهو على باب النار» ، وفيه قبر هارون عليه السلام، وفيه قبض وواراه أخوه موسى عليهما السلام، وكانا قد مرَّا به حاجَّين أو معتمرَين؛ فليحفظ.
وأصل (قيراط) : قرَّاط؛ بتشديد الراء، بدليل جمعه على قراريط، فأبدل من إحدى الراءين؛ كما في الدينار؛ وهو في اللغة: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وهو يختلف باختلاف البلدان، فأهل الشام يجعلون القيراط جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا، وعند الفقهاء: القيراط جزء من عشرين جزءًا من الدينار، وكل قيراط ثلاث حبات، فيكون الدينار ستين حبة، وكل حبة أربع أرزات، فيكون مئتين وأربعين أرزة.
والحاصل: أن القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وهذا الحديث يدل على عظم مقداره هنا، ولا يلزم منه أن يكون هذا هو القيراط المذكور في «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراط» ، بل يجوز أن يكون أقل منه، بل الظاهر أن القيراط في الأجر أعظم من القيراط المذكور في نقص الأجر؛ لأنَّه من قبيل المطلوب تركه، والأول من قبيل المطلوب فعله، وعادة الشرع تعظيم الحسنات وتضعفها دون السيئات؛ كرمًا منه تعالى، ورحمة، ولطفًا، فحصول القيراطين مقيد بالصلاة، والاتباع، وحضور الدفن، فلو اتبع حتى دفنت ولم يصل عليها؛ لم يحصل القيراطان؛ جمعًا بين الروايتين، وحملًا للمطلق على المقيد، والظاهر أنه يكفي الاتباع في أكثر الطريق لا في جميعه مع ما يجده من المشقة من الازدحام، واختلاط النساء بالرجال، وصياحهن، وغيره من المنكرات، فلو تباعد عن الجنازة؛ هل يكون متبعًا أم لا؟ والظاهر أنه إن كان بحال لا تخفى الجنازة عن بصره؛ يكون متبعًا، أو إن يعدُّه العرف متبعًا؛ فيكون محصلًا لهذين القيراطين.
قال في «البحر الرائق» : (وإن كان مع الجنازة نائحة أو صائحة؛ زجرت، فإن لم تنزجر؛ فلا بأس بأن تتبع الجنازة، ولا يمتنع لأجلها؛ لأنَّ الاتباع سنة فلا يترك ببدعة من غيره، فإن النبي عليه السلام استمع بواكي حمزة رضي الله عنه؛ كما في «المجتبى»)، فأفاد بقوله:(لا بأس) أن تركه أولى، لكن لا يُترك أصلًا، بل يتبع إما أكثر الطريق، كما قلنا، أو يتباعد، كما قلنا، والله تعالى أعلم.
(ومن صلى عليها)؛ أي: على الجنازة، مبتدأ، (ثم رجع) إلى منزله أو اشتغل بعمل ينافيها (قبلَ أن تدفن) بنصب (قبل) على الظرفية، و (أن) مصدرية؛ أي: قبل الدفن؛ (فإنه يرجع) خبر المبتدأ (بقيراط) واحد من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ثم حضر الدفن؛ لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصلِّ أو اتبعها ولم يصلِّ؛ فليس في الحديث حصول القيراط له، وإنما يحصل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، وعن أشهب: أنه كره اتباع الجنائز والرجوع قبل الصلاة، وإطلاق الحديث يخالفه، وفي رواية مسلم:«من صلى على جنازة ولم يتبعها؛ فله قيراط، ولو تبعها ولم يصل ولم يحضر الدفن؛ فلا شيء له» ، والله أعلم.
(تابعه)؛ أي: تابع رَوحًا في الرواية عن عوف (عثمانُ) بن الهيثم بن جهم البصري (المؤذن) بمسجدها، المتوفى لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة عشرين ومئتين، وفي رواية:(قال أبو عبد الله: تابعه عثمان المؤذن)(قال: حدثنا عوف) الأعرابي (عن محمد) بن سيرين ولم يروه عن الحسن، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم نحوَه) بالنصب؛ أي: بمعنى ما سيق، لا بلفظه.
وهذه المتابعة وصلها أبو نعيم في «مستخرجه» ، وإنما ذكر المؤلف رواية المنجوفي أولًا مع أنها أنزل من رواية عثمان؛ لأنَّ رواية المنجوفي موصولة وهي أشد اتفاقًا من رواية عثمان، وإنما ذكر المتابعة؛ للتنبيه بروايته على أن الاعتماد في هذا
السند على محمد بن سيرين؛ لأنَّ عوفًا ربما كان ذكره، وربما كان حذفه مرة فأثبت الحسن.
(36)
[باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر]
هذا (باب خوف المؤمن من أن يحْبَط) على صيغة المعلوم، من باب (عَلِم يعْلَم)؛ وهو البطلان، وقال النووي: المراد بالحبط: نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، فإن الإنسان لا يكفر إلا بما يعتقده أو يفعل عالمًا بأنه يوجب الكفر، قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: وفيه نظر؛ لأنَّ الجمهور على أن الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنه كفر، انتهى، قلت: وهو ظاهر؛ فليحفظ.
(عمله)؛ أي: مِن حبط عمله، فـ (أن) مصدرية، و (مِن) في رواية ساقطة، و (أن) توجد، لكنها مقدرة؛ لأنَّ المعنى عليها، المراد: ثواب عمله، فالمضاف محذوف (وهو لا يشْعُر) به، جملة اسمية وقعت حالًا من باب (نَصَر ينْصُر)؛ أي: لا يعلم ولا يفطن به.
لا يقال: إن ما قاله المؤلف يقوِّي مذهب الإحباطية؛ لأنَّ مذهبهم إحباط الأعمال بالسيئات وإذهابُها جملةً، فحكموا على العاصي بحكم الكافر؛ لأنَّ مراد المؤلف: إحباط ثواب ذلك العمل فقط؛ لأنَّه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، قاله القسطلاني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ إحباط ثواب العمل يكون غالبًا بسبب الرياء، وقد نص أئمتنا الأعلام على أن الرياء لا يدخل في الفرائض والواجبات؛ بمعنى: أنه لا يحبط ثوابها، وإنما يحبط الثواب في النوافل والطاعات المندوبة، فإن أخلص فيها؛ يبقى ثوابه الموعود به، وإن لم يخلص؛ حبط ثوابه، والمراد: أنه ينقص عن قدره المعلوم، لا يذهب بالكلية؛ لأنَّه تعالى وعد بعدم إضاعة ثواب الأعمال، والله أعلم.
ومراد المصنف هنا: الرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط المطلقين الإيمان الكامل مع وجود المعصية.
(وقال إبراهيم) بن يزيد بن شريك (التيمي)؛ تيم الرِّباب؛ بكسر الراء، الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وتسعين شهيدًا، قتله الحجاج بن يوسف، وقيل: مات في سجنه: (ما عرضت قولي على
(1)
عملي إلا خشيت أن أكون مكذَّبًا)؛ بفتح الذال المعجمة؛ أي: أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي، وإنما قال ذلك؛ لأنَّه كان يعظ الناس، وفي رواية: بكسر الذال؛ وهي رواية الأكثر؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، ومعناه: أنه لم يبلغ غاية العمل مع وعظه للناس، وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقصَّر في العمل، فقال:{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، فخشي أن يكون مكذِّبًا؛ أي: مشابهًا لهم، وقال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ [البقرة: 44].
وهذا التعليق وصله المؤلف في «تاريخه» عن أبي نعيم، وأحمد ابن حنبل في «الزهد» ، عن ابن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم المذكور.
(وقال ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: عبد الله-بفتح العين- ابن عبيد الله؛ بضمها، واسم أبي مليكة: زهير القرشي التيمي، المكي، الأحول، المؤذن، القاضي لابن الزبير، المتوفى سنة سبع عشرة ومئة:(أدركت ثلاثين) صحابيًّا (من أصحاب النبي) الأعظم، وفي رواية:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم أجلَّهم السيدة عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وعقبة بن الحارث، والمِسور بن مَخرمة (كلهم يخاف) أي: يخشى (النفاق) في الأعمال (على نفسه)؛ لأنَّ أعمارهم طالت حتى رأَوا من التغيير ما لم يعهدوه، مع عجزهم عن إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت، أو لأنَّه قد يَعرِض للمؤمن في عمله ما يشق به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم ذلك وقوعه منهم، وإنما ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوىرضي الله عنهم (ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل) عليهما السلام؛ لأنَّهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر، وقد روى الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد ضعيف:«من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ كان مؤمنًا كإيمان جبريل عليه السلام» ، ونقل هذا عن إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل أنه قال:(إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: إيماني مثل إيمان جبريل)؛ لأنَّ المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضي ذلك، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعض الصفات، لا يقال: إن الحديث ضعيف؛ لأنا نقول: اتصافه بالضعف حين وصوله إلينا، وحين وصوله للإمام الأعظم لا شك أنه صحيح يُعتمد عليه؛ لأنَّ الضعف لا يكون إلا بعد التابعين؛ لأنَّ النبي عليه السلام قد أثبت لهم الخيرية بقوله:«خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ؛ وهم التابعون رضي الله عنهم أجمعين.
وما قيل: إن في هذا الأثر إشارة إلى أنهم كانوا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من حالهم، وإنما المفهوم من حالهم: أنهم كانوا خائفين سوء الخاتمة؛ لعدم العصمة، ويؤيده ما روي عن عائشة: أنها سألت النبي الأعظم عليه السلام عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، فقال:«هم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويخافون ألَّا يُتقبل منهم» ، وقول بعض السلف في قوله تعالى:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] : أعمال كانوا يحتسبونها حسنات بُدِّلت سيئات، والله أعلم.
(ويُذكَر) على صيغة المجهول، لا يقال: إن هذه الصيغة تدل على الضعف؛ لأنَّها بصيغة التمريض؛ لأنَّ عادة المؤلف أن صيغة التمريض لا تدل على الضعف، بل يأتي بها إذا وقع تغيير من حيث النقل بالمعنى أو من حيث الاختصار، على أن هذا الأثر صحيح، (عن الحسن) البصري، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب «صفة المنافق» له من طرق متعددة:(ما خافه)؛ أي: النفاق، وفي رواية:(عن الحسن أنه قال)، وفي أخرى:(وما خافه)(إلا مؤمن ولا أَمِنه)؛ بفتح الهمزة وكسر الميم (إلا منافق)، وجعل النووي الضمير في (خافه) و (أَمِنه) لله تعالى، وتبعه الكرماني، قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ سياق الحسن البصري المروي عند الفريابي؛ حيث قال: (حدثنا قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان، عن المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن)، وهو عند أحمد بلفظ:(والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمنه إلا منافق)؛ يعيِّنُ إرادة المؤلف الأول؛ أعني: النفاق، وإليه أشار الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني؛ فليحفظ.
(وما يُحذَر) على صيغة المجهول؛ بتخفيف الذال المعجمة وتشديدها؛ كذا في «عمدة القاري» ، و (ما) مصدرية، والجملة محلها الجرُّ عطفًا على حذف المؤمن؛ أي: وباب ما يحذر (من الإصرار على القتال والعصيان من غير توبة)، وفي رواية:(على النفاق) بدل (القتال)، وعليها شرح الإمام البدر العيني؛ وهي المناسِبة لما قدَّمه المؤلف، وفي الأولى مناسبة للحديث الآتي، وما قاله في «الفتح» من (الرواية الثانية لم تثبت)، فقد رده القسطلاني بأنها ثبتت عن أبي ذر والسميساطي؛ كما رقم له بـ «فرع اليونينية» ، وما بين الترجمتين من الأثار اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفصل بها بينهما؛ لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان الآتيان؛ فالأول للثانية، والثاني للأولى؛ فهو لف ونشر مشوش؛ أي: غير مرتب، ومراد المؤلف: الرد على المرجئة؛ حيث قال: (لقول الله تعالى) وفي رواية: عز وجل، وفي أخرى:(لقوله عز وجل : ({وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين؛ لقوله عليه السلام فيما رواه الترمذي من حديث الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ({وَهُمْ يَعْلَمُونَ})[آل عمران: 135] حال مِن {يُصِرُّوا} ؛ أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به، وروى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا:«ويل للمصرين؛ الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون» ؛ أي: يعلمون أن من تاب؛ تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره.
[حديث: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر]
48 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن عرعرة)؛ بالعينين والراءين المهملات، غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، ابن البَرِنْد؛ بكسر الموحدة والراء وبفتحهما وبسكون النون، البصري، المتوفى سنة ثلاث عشرة ومئتين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن زُبَيد)؛ بضم الزاي، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة: ابن الحارث بن عبد الكريم اليامِي؛ بالمثناة تحت، وميم مخففة مكسورة، الكوفي، المتوفى سنة اثنين وعشرين ومئة (قال: سألت أبا وائل)؛ بالهمزة بعد الألف: شقيق بن سلمة الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي، التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين أو اثنين وثمانين (عن) قول (المُرجِئة)؛ بضم الميم، وكسر الجيم، ثم همزة؛ نسبة إلى الإرجاء؛ وهو التأخير؛ لأنَّهم أخروا الأعمال عن الإيمان؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، هل هم مصيبون فيه أم مخطئون؟ (فقال) أبو وائل في جوابه لزُبَيد:(حدثني) بالإفراد (عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه: (أن) أي: بأن (النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: سِبَاب)؛ بكسر السين المهملة وتخفيف الموحدة، مصدر مضاف للمفعول؛ أي: شتم (المسلم) والتكلم في عِرضه بما يَعيبه ويؤلمه (فسوق)؛ أي: فجور وخروج عن الحق، ويَحتمل أن يكون على بابه من المفاعلة؛ أي: تشاتمهما فسوق، قلت: وهذا هو الظاهر لما في «المطالع» : (السباب: المشاتمة؛ وهي من السب؛ وهو القطع، وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب؛ وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه) انتهى، وهذا صريح بأن السباب ليس بمصدر؛ فافهم.
(وقتاله) أي: مقاتلته
(1)
ضرب على (على) في الأصل، ولعل الصواب ثبوتها.