الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعمال صار كالاسم لذلك النوع من الحلل.
ووصف الحلة بثلاث صفات؛ الأولى: صفة الذات، وهي قوله:(حمراء)، والثانية: صفة الجنس، وهي قوله:(برود)، فبيَّن به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية، والثالثة: صفة النوع، وهي قوله:(قطري)؛ لأنَّ البرود اليمانية أنواع؛ نوع منها قطري بيَّنه بقوله: (قطري) انتهى.
وزعم ابن حجر أنه إنَّما لبس النبيُّ عليه السلام الحلة الحمراء في السفر؛ ليتأهب للعدو، ويجوز أن يلبس في الغزو بما لا يلبس في غيره.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (فيه نظر؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن في هذا السفر للغزو؛ لأنَّه كان عقيب حجة الوداع، ولم يبق له غزو إذ ذاك، وكأنَّ هذا القائل نقل عن بعض الأئمة الحنفية أنه ذهب إلى عدم جواز لبس الثوب الأحمر، ثم لما أوردوا عليه ما روي في هذا الحديث؛ أجاب بما ذكرنا).
قلت: لا النقل عنه صحيح، ولا هو مذهب الأئمة الحنفية، فلا يحتاج إلى الجواب المذكور؛ فافهم.
(مُشمِّرًا) ثوبه؛ بضم الميم الأولى، وكسر الثانية، وهو بالنصب على الحال من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يقال: شمَّر إزاره تشميرًا: رفعه، وشمَّر عن ساقه، وشمَّر في أمره: خف؛ والمعنى: رفعها إلى أنصاف ساقيه، كما جاء في رواية مسلم:(كأني أنظر إلى بياض ساقيه)، كذا في «عمدة القاري» .
(صلى إلى العنزة) أي: مقابل العصا (بالناس) صلاته هذه (ركعتين) : وهي صلاة الظهر، وفي رواية مسلم:(فتقدم فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة)(ورأيت الناس) أي: الأولاد ونحوهم (والدواب) أي: الخيل والحمير والإبل (يمرون بين يدي العنزة) وفي رواية أبي ذر: (من بين يدي العنزة)، وفي رواية:(يمر من ورائها الهراة)، وفي لفظ:(يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع)، ففيه استعمال المجاز، فإن العنزة لا يد لها، وفيه: جواز لبس الثوب الأحمر، وجواز الصلاة فيه، والباب معقود عليه، وفيه: جواز ضرب الخيام والقباب في الأسفار ونحوها، وفيه التبرك بآثار الصالحين، وفيه: استحباب نصب علامة بين يدي المصلي في الصحراء، وفيه: جواز قصر الصلاة في السفر وهو الأفضل عند إمامنا الأعظم، وأصحابه، والجمهور، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم، وهو حجة على من زعم أن الإتمام أفضل، وفيه: جواز المرور وراء سترة المصلي، وفيه: جواز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير، والزهد في الدنيا، والحمرة أشهر الملونات، وأجمل الزينة في الدنيا.
وزعم ابن بطال وفيه: طهارة الماء المستعمل، وهو حجة على الحنفية في قولهم: بنجاسته.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، فإن المذهب أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه والعجن به غير أنه ليس بطهور، فلا يجوز الوضوء ولا الاغتسال به، وكونه نجسًا رواية ضعيفة عن الإمام الأعظم، وليس العمل عليها على أن حكم النجاسة في هذه الرواية باعتبار إزالة الآثام النجسة عن البدن المذنب؛ فينجس حكمًا، بخلاف فضل وضوء النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه طاهر من بدن طاهر، وهو طهور أيضًا، أطهر من كل طاهر وأطيب) انتهى.
قلت: وإنما قال الإمام الأعظم في هذه الرواية بنجاسة المستعمل؛ لما قد شاهد من الناس أنه ينزل الماء من وجوه بعضهم أسود، وتارة ينزل من أيديهم أحمر، وتارة ينزل أصفر، فاستدل به على ارتكابهم شرب الخمر، وأكل الربا، وعدم بر الوالدين، وغير ذلك، وإن هذه الذنوب تذهب مع الماء المتوضأ به، والذنوب نجسة، فالماء المخلوط بها نجس، وهذا من بعض ولاية الإمام الأعظم رضي الله عنه؛ فإنه رئيس المجتهدين وسيدهم التابعي الجليل، ويكفيه شرفًا وولاية أن الحكام والسلاطين على مذهبه إلى يوم القيامة، وأن الأولياء العظام من أتباعه، لا سيما مالك بن أنس، والليث بن سعد، ومحمد بن الحسن؛ كلهم من أتباعه، ولا سيما محمد بن إدريس من أتباع محمد بن الحسن.
وهذا الفضل لم يجتمع في غيره من الأئمة، فحقيق بأن يلقب بالإمام الأعظم، فإذا أطلق؛ لا يراد به غيره، وأن يلقب بإمام الأئمة؛ لأنَّه إمامهم وشيخهم، فهم عياله، كما قال محمد بن إدريس، وكل ما جاء بعده؛ فهو متصرف في مذهبه؛ لأنَّ الروايات عنه كثيرة، فما قال قولًا إلا قال به مجتهد، فله الرئاسة العظمى في العلم والاجتهاد رضي الله تعالى عنه، وحشرنا من بعض خدمهِ تحت لواء سيد المرسلين النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(18)
[باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب]
هذا (باب) حكم (الصلاة في) : بمعنى (على)؛ كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ
(1)
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71](المنبر)؛ بكسر الميم، من نبرت الشيء؛ إذا رفعته، والقياس فيه فتح الميم؛ لأنَّ الكسر علامة الآلة، ولكنه سماعي (والسُّطوح)؛ بضم السين المهملة، جمع سطح البيت، (والخشب)؛ بفتحتين وبالضمتين أيضًا؛ يعني: يجوز، ولما كان فيه خلاف لبعض التابعين وللمالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا؛ لم يصرح المؤلف بالجواز وعدمه، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والترجمة شاملة لمن كان في المكان المرتفع، وهو إمام والناس خلفه في المكان المتسفل، ولمن كان في المكان المرتفع وهو مقتدٍ والناس خلفه في المكان المتسفل، وشاملة أيضًا لمن كان في المكان المرتفع وخلفه بعض والبعض أسفل منهم، ولمن كان مقتديًا وحده والإمام والناس وحدهم، وكل ذلك جائز، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب؛ حيث اختص الإمام وكذا المقتدي بمكان وحده، كما سيأتي بيانه.
(قال أبو عبد الله) : هو المؤلف نفسه: (ولم ير) أي: يعتقد (الحسن) : هو البصري التابعي (بأسًا) أي: حرجًا ومنعًا (أن يُصلَّى)؛ أي: الشخص؛ بضم التحتية، وفتح اللام المشددة (على الجَمْد)؛ بفتح الجيم، وسكون الميم، آخره دال مهملة، قال السفاقسي:(الجمد؛ بفتح الجيم وضمها: مكان صلب مرتفع).
وزعم ابن قرقول أن في رواية الأصيلي وأبي ذر: بفتح الميم، وقال ابن التين: بضمها، لكن قال القاضي عياض: الصواب سكونها؛ وهو الماء الجامد من شدة البرد، وفي «المحكم» :(الجمد: الثلج)، وفي «المثنى» لابن عديس:(الجَمد؛ بالفتح)، وقال أبو عبد الله موسى بن جعفر:(الجمَد؛ محرك الميم: الثلج الذي يسقط من السماء)، وقال غيره: الجَمد والجُمد؛ بالفتح والضم، والجُمُد بضمتين: ما ارتفع من الأرض، وفي «ديوان الأدب» للفارابي: (الجمد: ما جمد من الماء، وهو نقيض الذَّوب
(2)
، وهو مصدر في الأصل)، وفي «الصحاح» : (الجمد؛ بالتحريك، جمع جامد؛ مثل: خادم وخدم، والجمْد والجمُد؛ مثل: عسْر وعسُر؛ مكان صلب مرتفع، والجمع أجماد وجماد؛ مثل: رمح وأرماح
(1)
في الأصل: (لأصلبنكم).
(2)
في الأصل: (يقبض الروب)، وهو تحريف.
ورماح)، كذا في «عمدة القاري» .
(والقناطر)؛ بفتح القاف، جمع قنطرة، وفي رواية الحمُّوي والمستملي:(والقناطير)، قال ابن سيده:(وهو ما ارتفع من البنيان)، وقال القزاز:(القنطرة معروفة عند العرب)، قال الجوهري:(وهي الجسر)، قال إمام الشَّارحين:(القنطرة: ما يبنى بالحجارة، والجسر يعمل من الخشب أو التراب) انتهى.
قلت: وقد يطلق على كل منهما جسر، لكن الفرق هو الأظهر.
(وإن) هذه تسمى وصلية؛ لأنَّها توصل حكم ما قبلها بما بعدها؛ فليحفظ (جرى تحتها بول) أو غيره من النجاسات، والضمير في قوله:(تحتها) يرجع إلى (القناطر) فقط، كذا زعمه الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: يجوز أن يرجع الضمير إلى (الجمد) أيضًا؛ لأنَّ الجمد في الأصل ماء، فبشدة البرد يجمد، وربما يكون ماء النهر يجمد فيصير كالحجر حتى تمشي عليه الناس، فلو صلى شخص عليه وكان تحته بول أو نحوه؛ لا يضر صلاته.
فإن قلت: على هذا كيف يرجع الضمير في (تحتها) إلى الجمد وهو غير مؤنث؟
قلت: قد سبق أن الجوهري في «الصحاح» قال: إن الجمد جمع جامد، فإذا كان جمعًا؛ يجوز إعادة الضمير المؤنث إليه، وكذلك الضمير في قوله:(أو فوقها أو أمامها)؛ بفتح الهمزة، يجوز أن يرجع إلى (القناطر) بحسب الظاهر، وإلى (الجمد) بالاعتبار المذكور، والمراد من (أمامها) : قدامها، انتهى.
وزعم ابن حجر الجمد: الماء إذا جمد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي:(أنه صلى على الثلج). ورده إمام الشَّارحين فقال: (إن لم يقيد الثلج بكونه متجمدًا متلبدًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، فلا يكون مناسبًا له، وقال في «المجتبى» : سجد على الثلج، أو الحشيش الكثير، أو القطن المحلوج؛ يجوز إن اعتمد حتى استقرت عليه جبهته، ووجد حجم الأرض، وإلا؛ فلا يجوز، وفي «فتاوى أبي حفص» : لا بأس أن يصلي على الجمد، والبر، والشعير، والتبن، والذرة، ولا يجوز على الأرز؛ لأنَّه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المتجافي والحشيش وما أشبهه حتى يلبده فيجد حجمه) انتهى.
(إذا كان بينهما)؛ أي: بين القناطر والبول، أو بين المصلي والبول، وهذا القيد مختص بلفظ (أمامها) دون أخواتها، كذا قاله الكرماني، واعترضه إمام الشَّارحين فقال:(المصلي غير مذكور، إلا أن يقال قوله: أن يصلي يدل على المصلى) انتهى.
(سترة) : والمراد بها: أن يكون المانع بينه وبين النجاسة إذا كانت قدامه ولم يعين حد ذلك، والظاهر أن المراد منه ألَّا يلاقي النجاسة سواء كانت قريبة منه أو بعيدة، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حبيب من أصحاب مالك إن تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه؛ أعاد الصلاة، إلا أن تكون بعيدة جدًّا، وفي «المدونة» :(من صلى وأمامه جدار أو مرحاض؛ أجزأه) انتهى.
ونص علمائنا الأعلام أن الصلاة في قرب النجاسة تجوز وتكره؛ لاحتمال أن يعود عليه منها شيء، كما تكره الصلاة في الحمام، والكنيف، والمقبرة، والمغتسل، والمزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، ونحوها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وصلى أبو هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (على ظهر المسجد) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي:(على سقف المسجد)، والمراد به: السطوح، ففيه المطابقة للترجمة (بصلاة الإمام) يعني: مقتديًا بالإمام، فيكون الإمام أسفل من المقتدي، وهو جائز، إلا أنه مكروه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة قال:(صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل)، وصالح تكلم فيه غير واحد، ولكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة، فتقوَّى بذلك، فلأجل هذا ذكره البخاري بصيغة الجزم، وروى ابن أبي شيبة عن أبي عامر، عن سعيد بن مسلم قال:(رأيت سالم بن عبد الله يصلي فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر-يعني: ويأتم بالإمام في رمضان- فقال: لا أعلم به بأسًا إلا أن يكون بين يدي الإمام).
قلت: وهذا يدل على أن الإمام والمقتدين معه وهو في ظهر المسجد يقتدي بالإمامولا كراهة فيه، وإنما المكروه قيام الإمام على مكان مرتفع والمقتدون أسفل منه، أو قيامه على مكان متسفل والمقتدون خلفه مرتفعون عنه، فهذا مكروه في الصورتين إلا إذا كان مع الإمام واحد يقتدي به، فتنتفي الكراهة، وقد وَرَدَ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:(أنه عليه السلام نهى أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه؛ يعني: أسفل منه)، كذا في «إمداد الفتاح» ، فيكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر إلا إذا أراد التعليم لأفعال الصلاة، أو أراد المأموم التبليغ للقوم؛ فلا كراهة عندنا، وبه قال محمد بن إدريس، وإذا كره أن يعلو الإمام؛ فالمأموم أولى، وهو مذهبنا والشافعيِّ، وزعم ابن حزم أنه لا يجوز ذلك عند الإمام الأعظم ومالك، ورده إمام الشَّارحين، فقال:(ليس مذهب الإمام الأعظم هذا، وإنما مذهبه أنه يجوز، ولكنه يكره) انتهى.
قلت: ولا عجب من ابن حزم، فإنه ينقل الأقوال التي لا أصل لها في المذهب، ويعتمد عليها في كتبه، وهو لا يدل إلا على عدم اطلاعه في المذاهب، وقال إمامنا شيخ الإسلام: إنَّما يكره إذا لم يكن عذر، أما إذا كان عذر؛ فلا كراهة، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرفِّ وبعضهم على الأرض، والرفُّ؛ بتشديد الفاء شبه الطاق، وقال الحافظ الطحاوي: أنه لا يكره، وعليه أكثر مشايخنا الأعلام رحمهم الملك العلام.
(وصلى ابن عمر) : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (على الثلج)؛ بالمثلثة والجيم؛ يعني: وكان الثلج متلبدًا؛ لأنَّه إذا كان متجافيًا؛ لا تجوز الصلاة عليه، وليس لهذا الأثر مطابقة للترجمة إلا إذا شرطنا التلبد؛ لأنَّه حينئذٍ يكون مُتحجرًا، فيشبه السطح أو الخشب، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
قلت: ووجهه ظاهر، فإن الثلج إذا لم يكن متلبدًا؛ يتسفل شيئًا فشيئًا، فلا تستقرُّ عليه الجبهة عند السجود، فاشتراط التلبد لا بد منه، فهذا الأثر فيه اختصار، ومع التلبد يكون متحجرًا، فيشبه السطح؛ لأنَّه عالٍ
(1)
على الأرض، فبهذا تحصل المطابقة.
[حديث: ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة]
377 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) : هو ابن المديني (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عُيَيْنة؛ بضم المهملة، وفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية (قال: حدثنا أبو حازم) بالحاء المهملة، وبالزاي: هو مسلمة بن دينار (قال) أي: أبو حازم: (سألوا) أي: التابعون؛ لأنَّه حين السؤال لم يكن بالمدينة صحابة غير سهل المذكور؛ لقوله الآتي: (ما بقي بالناس أعلم مني)؛ بسكون العين المهملة: هو الساعدي، آخر من مات من الصحابة بالمدينة:(من أي شيء) أي: من أي عود (المِنْبر؟)؛ بكسر الميم، وسكون النون؛ أي: النبوي، فـ (اللام) فيه للعهد عن منبر النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أبي داود:(أن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد أمتروا في المنبر، ممِّ عوده؟)؛ أي: وقد شكوا، واختلفوا في منبر النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم من أي شيء كان عوده؟ كذا قاله إمام الشَّارحين، فليحفظ.
(فقال) أي: سهل للسائلين:
(1)
في الأصل: (عالي)، والمثبت هو الصواب.
(ما بقي بالناس) وفي رواية الكشميهني: (في الناس)، وفي رواية:(من الناس)(أعلم مني) أي: بذلك المنبر من أي شيء، وهذا لا ينافي وجود أحد من الصحابة في غير المدينة؛ كالكوفة والبصرة؛ لأنَّ مراده الناس التي بالمدينة، وقد يكون الذي في غيرها غير عالم بذلك؛ لكونه صغيرًا؛ فتأمل.
(هو) : مبتدأ؛ أي: المنبر (من أَثْل الغابة) خبره، وفي رواية أبي داود:(من طرفاء الغابة)، و (الأَثْل)؛ بفتح الهمزة، وسكون المثلثة: شجر شبه الطَّرْفاء إلا أنه أعظم منه، قاله ابن سيده، وقال أبو زياد: الأثل: شجر طوال ليس له ورق يثبت، مستقيم الخشب، وخشبه جيد يحمل إلى القرى فيبنى عليه بيوت المدر، وورقه هدب دقاق، وليس له شوك، يصنع منه القصاع، والأواني الصغار والكبار، والمكاتب، والأبواب، وهو النضار، وقال أبو عمرو: هو أجود الخشب للآنية، وأجود النضار الورس؛ لصفرته، ومنبره عليه السلام نضار، وفي «الواعي» : الأثل: حمصة؛ مثل الأشنان، ولها حب؛ مثل حب التنوم، ولا ورق له، وإنما هي أشنانه، يغسل بها القصارون غير أنها ألين من الأشنان.
وقال القزاز: هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء، وليس به شوك وهو أجود منه عودًا، ومنه يصنع قداح الميسر والتَّنُّوْم -بفتح المثناة الفوقية، وضم النون المشددة، وبعد الواو الساكنة ميم-؛ وهو نوع من نبات الأرض، فيه وفي ثمره سواد قليل.
و (الغابة)؛ بالغين المعجمة والموحدة: أرض على تسعة أميال من المدينة، كانت إبل النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم مقيمة بها للمرعى، وبها وقعت قصة العرنيين الذين أغاروا على سرحه عليه السلام، وقال ياقوت:(بينها وبين المدينة أربعة أميال)، وقال البكري:(هما غابتان عليا وسفلى)، وقال الإمام الزمخشري:(الغابة: بريد من المدينة من طريق الشام)، وقال الواقدي:(ومنها صنع المنبر)، وفي «الجامع» :(كل شجر ملتف؛ فهو غابة)، وفي «المحكم» :(الغابة: الأجمة التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة)، وقال الإمام: هي أجمة القصب، وقد جعلت جماعة الشجر غابًا، مأخوذ من الغيابة، والجمع: غابات وغاب.
و (الطَّرْفاء)؛ بفتح الطاء المهملة، وسكون الراء المهملة، ممدودة؛ شجر من شجر البادية، واحدها طَرفة؛ بفتح الطاء؛ مثل: قصبة وقصبًا، وقال سيبويه:(الطرفاء واحد وجمع)، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والطرفاء: شجر له ساق وورق صغير ناعم؛ مثل الصنوبر، قد رأيته في أرض المرج؛ الغوطة عند البحرة، والله أعلم.
(عمله) أي: المنبر؛ يعني: صنعه ونجره (فلانٌ)؛ بالتنوين؛ لأنَّه منصرف؛ لأنَّه كناية عن علم المذكر، بخلاف فلانة؛ فإنها كناية عن علم المؤنث، والمانع من صرفه وجود العلتين؛ وهما العلمية والتأنيث، كذا في «عمدة القاري» .
قال إمام الشَّارحين: (واختلفوا في اسم فلان الذي نجر منبره عليه السلام؛ ففي كتاب «الصحابة» لابن الأمين الطليطلي: أن اسم هذا النجار قبيصة المخزومي، ويقال: ميمون، وقيل: صلاح غلام العباس بن عبد المطلب، وقال ابن بشكوال: وقيل: هو ميناء، وقيل: إبراهيم، وقيل: باقوم؛ بالميم في آخره، وقال ابن الأثير: (عمله باقوم، وكان روميًّا غلامًا لسعيد بن العاص، مات في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد في «شرف المصطفى» من طريق ابن لهيعة عن سهل قال: (كان في المدينة نجار واحد يقال له: ميمون)؛ وذكر قصة المنبر، وقال ابن التين:(عمله غلام لسعد بن عبادة، وقيل: لامرأة من الأنصار)، وروى أبو داود عن نافع، عن ابن عمر:(أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لما بدن؛ قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله تجمع أو تحمل عظامك؟ قال: «بلى»، فاتخذ له منبرًا مرقاتين).
وفي «طبقات ابن سعد» من حديث أبي هريرة قالوا: (كان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع قائمًا، فقال: «إن القيام شق علي»، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت بالشام؟ فشاور النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب [مِنْ] أعمل الناس، فقال النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: «مره أن يعمله»، فعمله درجتين ومقعدًا، ثم جاء به فوضعه في موضعه) انتهى.
قلت: وروى عبد الرزاق: أن اسم هذا النجار: باقول؛ باللام، والظاهر: أن الأقرب من هذه الأقوال أن اسم هذا النجار كلاب غلام للعباس بن عبد المطلب، كما يدل عليه حديث أبي هريرة، وكذا حديث ابن عمر، والظاهر: أنه هو اختيار إمام الشَّارحين، ويحتمل أن الأقرب أنه باقوم -بالميم- الرومي غلام سعيد بن العاص، كما قاله ابن الأثير، وكذا الغافقي، وزعم ابن حجر أن الأقرب أنه ميمون، كما قاله الصغاني.
قلت: وهو ممنوع، فإنه لا دليل على أنه هو، وما روى ابن سعد من طريق ابن لهيعة لا يعتمد عليه؛ لشهرة ابن لهيعة بالضعف؛ لأنَّه كذوب، فلا يعول عليه، والأقرب أنه كلاب، كما دل عليه حديث أبي هريرة وابن عمر المروي؛ الأولى: عند ابن سعد، والثاني: عند أبي داود من طريق صحيح؛ فليحفظ.
(مولى فلانةَ) : ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ لأنَّه كناية عن علم المؤنث؛ وهي عائشة الأنصارية، كما قاله إمام الشَّارحين، وسيأتي بيانه، فيحتمل أنها زوجة العباس بن عبد المطلب، ويحتمل أنها زوجة سعيد بن العاص، فأطلق على النجار أنه مولًى لها، إما على الحقيقة، وإما على المجاز؛ فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي «الدلائل»
(1)
لأبي موسى المديني نقلًا عن جعفر المستغفري أنه قال في أسماء الرجال في الصحابة: علاثة؛ بالعين المهملة، وبالثاء المثلثة، ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، وقال فيه: أرسل إلى علاثة امرأة قد سماها سهل، قال أبو موسى:(صحف فيه جعفر أو شيخه، وإنما هي فلانة)، وقال الذهبي:(علاثة في حديث سهل: «أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا»، وإنما هي فلانة) انتهى.
وقال الكرماني وتبعه البرماوي: قيل في فلانة: اسمها عائشة الأنصارية، وزعم ابن حجر أنَّه أظنُّه صحَّف المصحَّف.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: هذا الطبراني روى في «معجمه الأوسط» من حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سارية المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة فصنعت له منبره هذا، وبه يستدل على أن فلانة هي عائشة المذكورة، ولا سيما قال قائله: (الأنصارية)، ولا يستبعد
(1)
في الأصل: (الدئل)، وليس بصحيح.
هذا وإن كان إسناد الحديث ضعيفًا؛ فحينئذٍ أن المصحِّف من قال: علاثة، لا من قال: عائشة الأنصارية؛ فليحفظ.
ثم قال: وجاء في رواية في «الصحيح» : (أرسل؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى فلانة -سماها سهل-: «مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهنَّ إذا كلمت الناس»، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت ههنا).
وعن جابر: أن امرأة قالت: (يا رسول الله؛ ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا
…
)؛ الحديث، وفي «الإكليل» للحاكم عن يزيد بن رومان:(كان المنبر ثلاث درجات، فزاد فيه معاوية لعله قال: جعله ستَّ درجات، وحوَّله عن مكانه، فكسفت الشمس يومئذٍ، قال الحاكم: وقد أحرق المنبر الذي عمله معاوية، ورد منبر النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي وضعه فيه، وفي «الطبقات» : (كان بينه وبين الحائط ممرَّ الشاة)، وفي «الإكليل» أيضًا من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه:(لما كثر الناس؛ قال النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: «ابنوا لي منبرًا»، فبنوا له عتبتين، وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر: (مرقاتين)؛ وهي تثنية مرقاة؛ وهي الدرجة.
فإن قلت: في الصحيح ثلاث دَرَجٍ، فما التوفيق بينهما؟
قلت: الذي قال: (مرقاتين) : كأنه لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها، والذي روى ثلاثًا؛ اعتبرها، انتهى كلامه.
قلت: وهو توفيق حسن بين الروايتين، والله أعلم.
(لرسول الله) أي: لأجله صلى الله عليه وسلم : ويحتمل أن القصة متعددة، وأن كل واحد من المذكورين قد عمل منبرًا وأنه عليه السلام قد اختار لنفسه منهم واحدًا، ويحتمل أن الجميع اشتركوا في عمله، ويحتمل أن كل واحد عمل منبرًا على التعاقب، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.
(فقام) بالفاء، وفي رواية:(وقام)؛ بالواو، وفي رواية:(فرقى)(عليه) أي: على المنبر (رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه أعجبه (حين عُمِل)؛ بضم العين المهملة مبني للمجهول؛ أي: بعد أن فرغ من عمله وجيء به بين يديه (ووُضع)؛ بضم أوله مبني للمجهول أيضًا، في المكان الذي أراده عليه السلام، فبعد الوضع قام عليه (فاستقبل) عليه السلام (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: توجه إليها، (كبر) بدون الواو؛ لأنَّه جواب عن سؤال، كأنه قيل: ما عمل بعد الاستقبال؟ قال: كبر، وفي بعض الأصول:(فكبر) بالفاء، وفي بعض النسخ:(وكبر) بالواو، كذا في «عمدة القاري» .
(وقام الناس) أي: الصحابة (خلفه)؛ أي: خلف النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: وراءه صفوفًا، فكبروا مقتدين به، (فقرأ) عليه السلام ما تيسر له من القرآن، (وركع وركع الناس خلفه)؛ أي: متابعين له، (ثم رفع رأسه) أي: من الركوع، (ثم رجع القهقرى)؛ أي: رجع إلى ورائه.
فإذا قلت: رجعت القهقرى؛ فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ القهقرى ضرب من الرجوع، فيكون انتصابه على أنه مفعول مطلق، لكنه من غير لفظ؛ كما تقول: قعدت جلوسًا، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: وإنما فعل عليه السلام ذلك حتى يكون مستمرًّا على الاستقبال، ولئلَّا يولي ظهره القبلة؛ لأنَّه لو استدبر القبلة؛ لفسدت صلاته، فالاستدامة على استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إن لم يكن خائفًا، كما هو مقرر في الفروع.
(فسجد على الأرض) وسجد الناس خلفه، (ثم عاد إلى المنبر) قائمًا، (ثم قرأ) ما تيسر له من القرآن، (ثم ركع) وركع الناس خلفه، وإنما لم يذكر ذلك؛ للعلم به مما قدمه، وهو معلوم أيضًا من المقام، (ثم رفع رأسه) من الركوع، (ثم رجع القهقرى) أي: رجع إلى ورائه (حتى سجد بالأرض) : والفرق بين قوله السابق: (على الأرض) وبين ما هنا من حيث إن في الأول لوحظ معنى الاستعلاء، وهنا لوحظ معنى الإلصاق، أفاده إمام الشَّارحين.
(فهذا شأنه) عليه السلام؛ أي: في هذه الصلاة، أو معناه من حيث صلاته إمامًا واقتداء الناس به، أو نحو ذلك، قال إمام الشَّارحين: (ففي الحديث الدلالة على ما ترجم له؛ وهو جواز الصلاة على المنبر، وقد علل عليه السلام صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم؛ جاز، ولكنه مكروه إلا لحاجة كمثل هذا؛ فمستحب، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والليث بن سعد، وبه قال محمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل، وعن مالك بن أنس: المنع، وبه قال الأوزاعي، وعندنا: جوازه إذا كان الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك: يجوز في الارتفاع اليسير، وهذا الحديث حجة عليه؛ فافهم.
وزعم ابن حزم أن مذهبنا المنع، وهو باطل لا أصل له في المذهب، وما هو إلا من تعصُّبه وعدم اطلاعه.
وفي الحديث: أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقال صاحب «المحيط» : المشي في الصلاة خطوة؛ لا يبطلها، وخطوتين أو أكثر؛ يبطلها، وعلى هذا؛ كان ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية، ولكنا نقول: إذا كان لمصلحة؛ ينبغي ألَّا تفسد صلاته، ولا تكره أيضًا، كما في مسألة: من انفرد خلف الصف وحده؛ فإن له أن يجذب واحدًا من الصف الأول إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين، قاله إمام الشَّارحين.
وزعم الخطابي فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراق
(1)
، ولعله إنَّما قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان، انتهى.
قلت: وهذه الكيفية التي فعلها عليه السلام في صلاته لا تفسدها؛ لأنَّ العمل الكثير المفسد للصلاة إنَّما يكون مفسدًا إذا كان في ركن واحد، أما إذا كان متفرقًا في أركانه؛ فلا يفسد، ولا يجمع، بل يعتبر كل فعل بمفرده، فقول صاحب «المحيط» السابق هذا الحديث يشهد له؛ لأنَّه عليه السلام صعد في الركعة الثانية، ونزل في الركعة الأولى، ونزوله خطوة واحدة وهو ركن واحد، وصعوده خطوة واحدة وهو ركن واحد، وعلى كل حال؛ فلا فساد؛ فليحفظ.
وما زعمه الخطابي يرده رواية أبي داود عن ابن عمر قال: (مرقاتين)، وفي «الإكليل» من حديث المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال:(فبنوا له عتبتين)، وعلى هذا؛ فيكون قيامه
(1)
في الأصل: (مراقي)، ولعل المثبت هو الصواب.