الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضعيف، وروى الترمذي في «الشمائل» والنسائي في «الكبرى» من طريق سالم بن عبيد الأشجعي عن أبي بكر الصديق أنه قيل له: وأين دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «في المكان الذي قبض الله روحه فيه، فإنَّه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب» ، وإسناده صحيح، ولكنَّه موقوف، وحديث ابن ماجه أكثر تصريحًا في المقصود، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وحديث ابن ماجه له طرق أخرى مرسلة، ذكرها البيهقي في «الدلائل» ؛ فافهم.
وقال ابن حجر: إذا حُمِل دفنه عليه السلام على الاختصاص؛ لم يَبْعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه، لأنَّ استمرار الدفن في البيوت ربما صيَّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله:«لا تجعلوا بيوتكم مقابر» ؛ فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: لا نسلِّم هذا الاقتضاء من ظاهر اللفظ، بل المعنى الذي يدلُّ عليه ظاهر اللفظ: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، فإنَّها ليست بمحلٍّ للعبادة، ولهذا احتجَّت به طائفة على كراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: فهو نظير حديث الباب بلا فرق، وقول ابن حجر: إذا حُمل دفنه
…
إلى آخره؛ ظاهره التبرُّؤ منه مع التردُّد فيه، والحال أنَّ هذا الحمل متعين؛ فإنَّ دليل الخصوصية موجود، كما صرَّح به في حديث ابن ماجه، والترمذي، والنسائي، فلا وجه للتردُّد، ونَهي غيره عن ذلك متعين أيضًا؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنَّها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث: ألَّا يكونوا في بيوتهم كالأموات في القبور؛ حيث انقطعت عنهم الأعمال، وارتفعت التكاليف، وهو غير متعرِّض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر، ولهذا قال:«لا تتخذوها قبورًا» ، ولم يقل: مقابر، انتهى.
وقال الخطابي: في الحديث دليل على أنَّ الصلاة لا تجوز في المقابر، وتبعه البغوي، ونقل ابن المنذر عن أهل العلم: أنَّهم استدلوا بهذا الحديث على أنَّ المقبرة ليست بموضع للصلاة، انتهى.
قال العجلوني: وعلى هذا حمله البخاري، فترجم بكراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ فإن الحديث لا يدل على ما ذكره؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، ولهذا اعترض على الخطابيِّ إمامُ الشَّارحين فقال: الحديث لا يدلُّ على هذا، بل الترجمة تساعده، انتهى.
يعني: لا كلام لنا في الترجمة بدون الحديث، بل لا بدَّ من بيان الاستدلال للترجمة، وما زعمه العجلوني من هذا الحمل ممنوع؛ لأنَّ بين عدم الجواز وبين الكراهة فرقًا، فإن الجوازَ يقال في الذي يحرم فعله، والكراهة فيما يجوز فعله، لكنَّه خلاف الأولى، على أنَّ ما ذكره ابن المنذر ليس بشيء؛ لأنَّه إذا كان استدلالهم بهذا الحديث؛ فالحديث لا يدلُّ لهم؛ لما علمت من معناه، وإن كان بغيره؛ فربما دل عليه أحاديث غيره.
وقال الإسماعيلي: هذا الحديث يدلُّ على النهي عن الصلاة في القبر لا في المقابر، واعترضه ابن حجر بأنَّه قد ورد بلفظ: المقابر، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر
(1)
» انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا عجيب! كيف يقال: حديث يرويه غيره بأنَّه مطابق لما يترجم به، انتهى.
قلت: فهو لا ينهض دليلًا؛ لأنَّه قد رواه مسلم، والبخاري لو كان معتمدًا عليه؛ لاحتج به، فعدم ذكره له دليل على أنه لم يستدلَّ به؛ فافهم.
وقال السفاقسي: إن البخاري تأوَّل هذا الحديث على منع الصلاة في المقابر، ولهذا ترجم به، وليس كذلك؛ لأنَّ منع الصلاة في المقابر أو جوازها لا يفهم من الحديث، واعترضه ابن حجر فقال: إن أراد أنَّه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق؛ فمُسلَّم، وإن ادعى نفي ذلك مطلقًا؛ فلا؛ فقد قدمنا وجه استنباطه، انتهى.
قلت: حيث قال: استنبط من الحديث أنَّ القبور ليست بمحل العبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وكأنه أشار إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد مرفوعًا:«الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» انتهى.
قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعواه بأنَّ البخاري استنبط كذا، وأنَّه أشار إلى حديث أبي سعيد أعجب وأغرب من الأول؛ لأنَّ معنى قوله عليه السلام:«لا تتخذوها قبورًا» : لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن؛ كالقبور؛ حيث لا يُصلَّى فيها ولا يقرأ القرآن عندها، ويدلُّ على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سابط عن أبيه يرفعه:«نوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبورًا، كما اتخذها اليهود والنصارى، فإنَّ البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، وتُدحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَضيق على أهله، ويقلُّ خيره، وتنفر منه الملائكة، وتحضر فيه الشياطين» انتهى.
وأيضًا، فإنَّ معنى هذا على التشبيه البليغ، فحذفت منه أداة التشبيه؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوها مثل القبور؛ حيث لا يصلى فيها، ولا دلالة بهذا أصلًا على أنَّها ليست بمحل للعبادة بنوع من أنواع الدلالات اللفظية، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وهو في غاية من الحسن، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم:«مَثَل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمَثَل الحي والميت» ؛ فافهم.
(1)
في الأصل: (مقابرًا)، وليس بصحيح.
وعلى كل حال؛ فلا دلالة في الحديث لما ترجم له المؤلف، وقد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة تدل على كراهة الصلاة في المقبرة، واستدلت بها جماعة على كراهة الصلاة فيها، لكن المؤلف لم يشر إليها ولم يحتج بها؛ لكونها ليست على شرطه، وهي ما روي عن أبي سعيد الخدري، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عبَّاس، وحذيفة، وأنس بن مالك، وأبي أمامة، وأبي ذر.
فروى الترمذي حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» ، ثم قال الترمذي:(وفي الباب: عن علي)، وذكر من ذكرناهم، ففيه كراهة الصلاة في المقبرة والحمام، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وتبعهم مالك والشافعي، يدل عليه عموم قوله عليه السلام:«جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ، وبه قال الأوزاعي والثوري، وزعم أبو ثور أنَّه لا يُصلى في المقبرة والحمام، وزعم أهل الظاهر أنَّه تحرم الصلاة في المقبرة مطلقًا، وقال أحمد: لا تصح الصلاة في المقبرة والحمام، وقد صلى الحسن البصري في المقبرة، وقد سبق بيانه.
وفي حديث الباب دليل على أنَّ من صلى في بيته جماعة؛ فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها، وقال إبراهيم النخعي: إذا صلى الرجل مع الرجل؛ فهما جماعة، ولهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة، وقال أئمتنا الأعلام: الأفضل في غير الفرائض المنزل، وروي عن جماعة: أنَّهم كانوا لا يتطوعون في المسجد؛ منهم: حذيفة، والسائب بن يزيد، والربيع بن خيثم، وسويد بن غفلة، وروي: أنَّ أحمد، وإسحاق، وابن المديني اجتمعوا في دار أحمد، فسمعوا النداء، فقال أحدهم: اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنَّما هو للجماعة، ونحن جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت، وروى ابن أبي شيبة بسند جيد عن زيد بن خالد الجهني مرفوعًا:«صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا» ، وروى أيضًا عن علي يرفعه:«لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا» .
قلت: وهذا يؤيد القول بأنَّ الحديث ورد في صلاة الفريضة؛ ليقتدي به من لا يستطيع الخروج إلى المسجد؛ فافهم.
وروى الطحاوي من حديث سعد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده: أنه عليه السلام صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ؛ رأى الناس يسبحون، فقال:«يا أيها الناس؛ إنَّما هذه الصلاة في البيوت» ، وأخرجه أبو داود وابن ماجه أيضًا.
قلت: ومعنى (يسبحون)؛ أي: يصلون النافلة؛ بدليل قوله: (إنَّما هذه الصلاة).
وروى الحافظ الطحاوي أيضًا من حديث عبد الله من حديث عبد الله بن سعد قال: سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد، فقال:«قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة» ، وأخرجه الطبراني أيضًا.
وقال الإمام المرغيناني في «الهداية» : (ويستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء، فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، والسنة فيها الجماعة على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل مسجد عن إقامتها؛ كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض؛ فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة؛ لأنَّ أفراد الصحابة يُروى عنهم التخلف) انتهى.
وقد ترجم الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي (باب القيام في شهر رمضان) : هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام؟ وروى حديث أبي ذر قال: صُمت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
؛ الحديث، وفيه:(أنَّ القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة)، وذهب جماعة من أصحاب الإمام الأعظم-وهم: عيسى بن أبان، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبي عمران، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك-: إلى أنَّ القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، استدلالًا بهذه الأحاديث، وتبعهم أحمد، وإسحاق، والمزني، وابن الحكم من أصحاب الشافعي، وهو المروي عن جابر، وعلي، وعبد الله، وابن سيرين، وطاووس، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخالفهم في ذلك مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وربيعة، وإبراهيم، والحسن، وعلقمة، فقالوا: صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام، وبه قال سالم والقاسم، وروي عن ابن عمر، ولكن الأحاديث تدل للأول، وهي حجة عليهم؛ فافهم، وتمامه في «عمدة القاري» اللهم؛ فرج عني ما أهمني برحمتك يا باري.
(53)
[باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب]
هذا (باب) حكم (الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (في مواضع)؛ بالجمع، وللأصيلي:(في موضع)؛ بالإفراد (الخَسف)؛ بفتح الخاء المعجمة؛ أي: في الأمكنة التي خسفت بأهلها من الأمم السابقة (والعذابِ)؛ بالجر عطفًا على ما قبله، من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الخسف من أفراد العذاب، والخسف للمكان: ذهابه في الأرض؛ والمعنى: وباب حكم الصلاة في مواضع نزل عليها العذاب.
يقال: خَسَف المكان يَخْسف خسفًا: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفًا؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81]، وخُسُوف العين: ذهابها في الرأس، وخُسُوف القمر: كسوفه، وخسف هو في الأرض، وخسف به.
وتقديرنا لفظ (حكم) تبعًا لإمام الشَّارحين أولى من تقدير (جواز) كما فعل العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم، وعادة المؤلف إطلاق الترجمة حتى تشمل الجواز وعدمه وإن كان المراد منها جواز الصلاة في هذه الأمكنة على خلاف فيه، سيأتي، ولكن بقي الإبهام في الكراهة وعدمها؛ لأنَّ المؤلف كعادته لم يبين ذلك، ولكن تصديره بأَثَرِ عَليٍّ يدل أنَّ الصلاة في هذه الأمكنة مكروهة، كما سيأتي.
والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأنَّ كلًّا منهما في بيان كراهة الصلاة، والأول في المقابر، وهذا في موضع العذاب؛ فافهم.
(ويُذكر) : بضمِّ التحتية أوله، تعليق بصيغة التمريض، ومطابقته للترجمة ظاهرة، وهو يدل على أنَّ مراده من عقد الباب