الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بفتح الموحدة، والشين المعجمتين، وضم التاء (القلوبَ) : بالنصب على المفعولية، وفي رواية:(يخالط) بالمثناة تحت (بشاشةَ) بالنصب مفعول، و (القلوبِ) : بالجرِّ على الإضافة، والمراد بـ (بشاشة القلوب) : انشراح الصدور.
(وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر)؛ لأنَّها تطلب الآخرة، (وسألتك بما يأمركم؟) بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية، (فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان)؛ جمع (وثن) بالمثلثة؛ وهو الصنم، (ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف)؛ أي: بأداء الصلاة المعهودة، وعدم الكذب، وأن تكفُّوا عن المحارم، قال هرقل لأبي سفيان:(فإن كان ما تقول حقًّا)؛ لأنَّه خبر محتمل للصدق والكذب؛ (فسيملك) أي: النبي عليه السلام (موضع قدمي هاتين) أرض بيت المقدس، (وقد كنت أعلم أنه) أي: النبي عليه السلام (خارج)، وفي رواية:(فإن كان ما تقول حقًّا؛ فإنه نبي)، وفي رواية:(هذه صفة نبي)، وإنما علم ذلك هرقل؛ لأنَّ النبي منعوت في كتبهم، (لم) وفي رواية:(ولم)(أكن أظن أنَّه منكم) أي: من قريش، (فلو أنَّي أعلم أني) وفي رواية:(أنني)(أخلُص)؛ بضم اللام؛ أي: أصل (إليه؛ لتجشمت)؛ بالجيم والشين المعجمتين؛ أي: لتكلفت (لقاءه) على ما فيه من المشقة، والمراد بالتجشم: الهجرة، وكانت فرضًا قبل الفتح على كل مسلم، وفي رواية:(قال هرقل: ويحك! والله إنِّي لأعلم أنَّه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته)، (ولو كنت عنده) أي: النبي عليه السلام؛ (لغسلت عن قدميه)، وفي رواية: بإسقاط لفظ (عن)، وفي رواية:(لو علمت أنه هو؛ لمشيت إليه، حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه، ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة)، وفي رواية:(قدمه) بالإفراد، والمراد: المبالغة في الخدمة.
(ثم دعا) هرقل (بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: ثم دعا من أتى بكتابه عليه السلام، وجاز زيادة الباء؛ أي: دعا الكتاب على سبيل المجاز، وما قاله ابن حجر؛ ففيه نظر، (الذي بعث به دَِحيةُ)؛ بكسر الدال وفتحها ورفع التاء على الفاعلية: ابن خليفة الكلبي، وفي رواية:(مع دحية)، وهو مدفون في سطح المزة؛ قرية قرب دمشق، وكان البعث في آخر سنة ست بعد الرجوع من الحديبية، (إلى عظيم) أهل (بُصرى)؛ بضم الموحدة مقصورًا: مدينة حوران؛ أي: أميرها الحارث بن أبي شمر الغساني، (فدفعه إلى هرقل)، فيه مجاز؛ لأنَّه أرسل به إليه صحبة عدي بن حاتم، وكان وصوله إليه في سنة سبع، (فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره؛ وهو الثابت عند الواقدي، (فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) وتقديم سليمان اسمه على البسملة؛ حكاية الحال، أو خاف منها أن تسب فقدَّم اسمه فإذا سبَّت يقع على اسمه، وفيه دليل على استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا؛ كذا قيل، وقال بعض الفضلاء: إن السنة تصدير الاسم فيقول: من فلان إلى فلان؛ وهو قول الجمهور، مستدلين بما في «أبي داود» عن العلاء وكان عامل النبي على البحرين، وكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه؛ فليحفظ.
(من محمد عبد الله ورسوله)، وفي رواية:(من محمد بن عبد الله ورسول الله)، وإنما وصف نفسه بالعبودية؛ تعريضًا لبطلان قولهم في المسيح: إنه ابن الله؛ لأنَّ الرسل على السواء في أنهم عباده تعالى (إلى هرقل عظيم) أهل (الروم)؛ أي: المعظم عندهم، ويجوز في (عظيم) الجر بدل من سابقه، والرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، وإنما لم يصفه بالإمرة أو الملك؛ لكونه معزولًا بحكم الإسلام، وذكر المدائني: أن القارئ لما قرأ: (من محمد رسول الله)؛ غضب أخو هرقل فاجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: لأنَّه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله؛ إنَّه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم واللهُ مالكي ومالكه، (سلامٌ) بالتنكير، وفي رواية بالتعريف، (على من اتبع الهدى)؛ أي: الرشاد، ومعناه: سلم من عذاب الله من أسلم، فليس المراد به التحية وإن كان اللفظ يشعر به، (أما بعدُ) : بالبناء على الضم؛ لقطعه عن الإضافة المنوية لفظًا، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، واختلف في أول من تكلم بها؛ فقيل: داود، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: كعب، وقيل: يعقوب، والأرجح: أنه يعرب أو يعقوب، والأقوال كثيرة؛ (فإني أدعوك بدِعاية الإسلام)؛ بكسر الدال المهملة، وفي رواية: بداعية الإسلام؛ أي: بالكلمة الداعية إليه؛ وهي الشهادة والباء بمعنى (إلى)، (أسلِمْ)؛ بكسر اللام؛ (تسلَمْ) بفتحها (يؤتك الله أجرك مرتين) بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة جواب ثان له أيضًا، أو بدل منه، وإعطاء الأجر مرتين؛ لكونه مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد عليه السلام، وفي رواية:(أسلم؛ تسلم، أسلم؛ يؤتك) بتكرار (أسلم) مع زيادة الواو، (فإن توليت)؛ أي: أعرضت عن الإسلام؛ (فإن عليك) مع إثمك (إثم اليَرِيْسِين)؛ بمثناتين تحتيتين؛ الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بينهما راء مكسورة، ثم سين مكسورة، ثم مثناة تحتية ساكنة، ثم نون: جمع (يريس)، على وزن (كريم)، وفي رواية:(الأريسين) بقلب المثناة الأولى همزة، وفي أخرى:(اليريسيِّين) بتشديد الياء بعد السين جمع (يريسي)، وفي رواية:(الأريسيِّين)؛ بتشديد الياء بعد السين كذلك، إلَّا أنَّه بالهمزة في أوله موضع الياء، وأما قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ فمعناه: أنَّ وزر الإثم لا يتحمله غيره والفاعل يتحمل من جهتين؛ جهة فعله وجهة تسببه، والأريسيون: الأكارون؛ أي: الفلاحون، والمراد بهم هنا: أهل مملكته الشامل للفلاحين وغيرهم على الأظهر، وفيه أقوال، وكلها بعيدة؛ فليحفظ، وفي قوله:(فإن توليت) استعارة تبعية.
(و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ}) وفي رواية: بإسقاط الواو، والمراد: أهل الكتابين، والظاهر أنه عليه السلام أراد مخاطبتهم بذلك ولم يرد التلاوة؛ فهو من باب الالتفات؛ فافهم، ({تَعَالَوْا}) بفتح اللام ({إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ})؛ أي: مستوية ({بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}) لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل؛ وهي ({ألَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ})؛ أي: نوحده بالعبادة، ({وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا})؛ أي: لا نجعل له شريكًا كما جعلتم، ({وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}) فلا نقول: المسيح ابن الله، ولا: العزير ابن الله، ولا نطيع الأحبار، وروي: لمَّا نزلت: {اتَّخَذُواأَحْبَارَهُمْ} الآية [التوبة: 31]، قال عدي بن حاتم: ماكنا نعبدهم يارسول الله، قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم، قال: هو ذاك، ({فَإِن تَوَلَّوْا}) عن التوحيد ({فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران: 64]؛ أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون.
وكتب ذلك عليه السلام قبل نزول الآية؛ فوافق لفظه لفظها، ونزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان سنة ست، وقيل: نزلت في اليهود، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: إنَّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب؛ تعظيمًا، وإنهم يتوارثونه، وقيل: إن ملكهم زمن المنصور قلاوون أخرج لسيف الدين قلج صندوقًا مصفحًا بالذهب فيه الكتاب، فقال: هذا كتاب نبيكم الذي أرسله إلى جدي قيصر، وأوصانا آباؤنا: أنه مادام عندنا؛ لا يزال الملك فينا.
وفي سنة ست وسبعين ومئتين وألف وجد أحد الفرنج كتابًا في أرض مصر، وذهب به إلى الفرنج، فقالوا: إنه كتاب محمد إلى المقوقس، فاشتروه منه بستين ألف قرش، وأهدوه إلى الملك الأعظم؛ السلطان عبد المجيد خان-نصره الله تعالى- العثماني، فتبارك فيه وعظمه، وجمع العلماء لقراءته، فما
(1)
أحد عرف قراءته؛ لأنَّه مكتوب بالكوفي، فرسم صفته وأرسله إلى والي ديارنا الشريفة الشامية، فأرسل الوالي إلى شيخ الحرم الأموي، وطلب منه مصحف عثمان رضي الله عنه، وأمر بعض عماله على ترجمته بالعربي، وأرسله إلى السلطان، والله تعالى أعلم.
(قال أبو سفيان: فلما قال) هرقل (ما قال)؛ أي: الذي قاله من السؤال والجواب، (وفرغ من قراءة الكتاب) النبوي؛ (كثر عنده الصَّخَب)؛ بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين؛ أي: اللغط، (وارتفعت الأصوات) المختلفة؛ وهذا معنى اللغط، (وأُخرِجنا)؛ بضم الهمزة وكسر الراء؛ أي: أمر بإخراجنا، (فقلت لأصحابي حين أخرجنا) : وفي رواية: (حين خلوت بهم) : والله (لقد أَمِرَ)؛ بفتح أوله مقصورًا وكسر ثانيه؛ أي: عظم (أمْر ابن أبي كَبْشة) بسكون الميم؛ أي: شأنه، و (كَبْشة)؛ بفتح الكاف وسكون الموحدة، اسم مرتجل، وأراد بذلك: النبي عليه السلام؛ لأنَّها كنية أبيه من الرضاعة؛ الحارث بن عبد العزى، وكانت له بنت تسمى كبشة، فكُنِّي بها، قيل: إنه أسلم، أو هو والد حليمة مرضعته، أو نسبه إلى جدِّ جدِّه وهب؛ لأنَّ أمه آمنة بنت وهب، وأم جد وهب: قيلة بنت أبي كبشة، والظاهر الأول؛ (أنه يخافه)؛ بفتح الهمزة: مفعول لأجله، وقيل: بكسر الهمزة على الاستئناف، والمعنى: عظم أمره عليه السلام لأجل أنه يخافه (ملك بني الأصفر)؛ وهم الروم؛ لأنَّ جدهم روم بن عيص بن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة؛ فجاء ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، قال أبو سفيان:(فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام) فأبرزت ذلك اليقين.
(وكان ابن الناطور) بالمهملة؛ أي: حافظ البستان، وفي رواية: بالمعجمة، وفي رواية: بزيادة ألف آخره، والواو عاطفة، والقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري، كذا قيل، وقوله:(صاحبَ) منصوب (إيلِياء)؛ بكسر الهمزة واللام، بينهما مثناة تحتية مع المد؛ وهي بيت المقدس؛ أي أميرها، ونصبه؛ إما على الاختصاص في رواية، أو على الحال، وفي رواية: أنَّه مرفوع صفة لابن الناطور؛ لأنَّ الإضافة معنوية؛ كذا قاله الإمام شهاب الدين الكرماني، واستظهره البرماوي، (وهرقلَ) بفتح اللام مجرور عطفًا على (إيلياء)؛ أي: صاحب هرقل أيضًا، وأطلق عليه الصحبة؛ إما بمعنى الاستقلال بالرأي، أو بمعنى التبع أو الصداقة، والظاهر الأول، (أُسقف)؛ بضم الهمزة: مبنيًّا للمفعول، وفي رواية:(أُسْقُفًا) بضم الهمزة، وسكون السين، وضم القاف، وتخفيف الفاء، وفي رواية:(أسقفًّا) بتشديد الفاء، وفيه روايات؛ أي: مقدمًا (على نصارى الشام)؛ لكونه رئيس دينهم، أو ملكهم، أو قيم شريعتهم؛ وهو البترك الكبير المسمى بالباب؛ بفتح الموحدتين بينهما ألف، وما قيل؛ فهو بعيد، (يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء) وغلبة جنوده جنود فارس وإخراجهم في سنة عمرته عليه السلام الحديبية؛ (أصبح خبيث النفس)؛ مما حل به من الهم، وفي رواية:(أصبح يومًا خبيث النفس)، (فقال) له (بعض بَطارقته)؛ بفتح الموحدة: جمع بطريق، بكسرها؛ وهو العالم بدينهم:(قد استنكرنا هيئتك)؛ لمخالفتها عادتك، (قال ابن الناطور) : بالمهملة وفي رواية بالمعجمة (وكان هرقل) عالمًا وكان (حَزَّاءً)؛ بالمهملة وتشديد الزاي، آخره همزة منونة، منصوب؛ لأنَّه خبر (كان)؛ أي: كاهنًا (ينظر في النجوم) خبر ثان لـ (كان)؛ إن قلنا: إنه ينظر في الأمرين، أو تفسير لـ (حزاء)؛ لأنَّ الكهانة تؤخذ تارة من ألفاظ الشياطين وتارة من أحكام النجوم،
(1)
في الأصل: (فلم).
فكان هرقل يعلم حساب النجوم أن المولد بقِرَانِ العلويين ببرج العقرب؛ وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل، وعند الثالثة فتح خيبر، وليس المراد بهذا تقوية قول الحساب؛ بل البشارة به عليه السلام، والجملة اعتراضية.
(فقال) هرقل (لهم)؛ أي: لبعض البطارقة (حين سألوه: إنِّي رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان)؛ بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: بالضم ثم الإسكان (قد ظهر)؛ أي: غلب؛ لأنَّ في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره؛ لأنَّه صالح الكفار بالحديبية عليه السلام، وأنزل الله سورة الفتح، (فمن) استفهامية (يختن من هذه الأمة؟)؛ أي: من أهل هذه الملل، وفي رواية:(الأمم)(قالوا: ليس يختن إلا اليهود)؛ لأنَّهم كانوا بإيلِياء (فلا يُهمنَّك) بضم المثناة تحت: من (أهم)؛ أي: لا يقلقنك (شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك؛ (فيقتلوا من فيهم من اليهود)، وفي رواية:(فليقتلوا)؛ باللام.
(فبينما هم) بالميم، وأصله (بين)، فأشبعت الفتحة فصار (بينا)، فزيدت الميم، وفي رواية: بغير ميم، ومعناهما واحد، و (هم)؛ مبتدأ خبره (على أمرهم) مشورتهم (أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسَّان)؛ بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، واسم الملك الحارث ابن أبي شمر، و (غسان) اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد؛ فنسبوا إليه، ولم يسم الرجل ولا من أرسل به (يخبره عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس؛ فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك، (فلما استخبره هرقل) وأخبره؛ (قال) لجماعته: (اذهبوا فانظروا) إلى الرجل (أمختَتِن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية (أم لا؟ فنظروا إليه)، وفي رواية:(فجردوه؛ فإذا هو مختتن)، (فحدثوه) أي: هرقل (أنه مختَتِن)؛ بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية، (وسأله عن العرب)؛ هل يختتنون؟ (فقال)؛ أي: الرجل: (هم يختتنون)، وفي رواية:(مختتنون)، والأول أشمل؛ كما قاله الإمامان العيني والعسقلاني، (فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم (مُلْك هذه الأمة)؛ أي: العرب (قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام، وفي رواية: بالفتح ثم الكسر، واسم الإشارة للنبي عليه السلام؛ وهو مبتدأ خبره (ملك)، و (قد ظهر) حال، وفي رواية:(وحده يملك) وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني» .
(ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف (بروميَة) بالتخفيف، وفي رواية:(بالرومية)؛ وهي مدينة رئاسة الروم، قيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلًا، (وكان نظيره)، وفي رواية:(وكان هرقل نظيره)(في العلم) الشامل للنجوم والكتب، لكن الأول أظهر.
(وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ وهي دار ملكه بالشام، وبها دفن خالد بن الوليد رضي الله عنه، (فلم يَرِم) هرقل؛ بفتح المثناة تحت وكسر الراء (حمص)؛ أي: لم يصل إليها، والظاهر أن يقال: وأراد هرقل المسير إلى حمص ولم يبرح (حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر (يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم أي: ظهوره (وأَنه نبي) بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنَّ هرقل وصاحبه أقرَّا بنبوته، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، بل رغب في الرئاسة، فأعرض عن الإسلام، وأما صاحبه؛ فأظهر الإسلام ودعاهم إليه فقتلوه.
(فأذن) بالقصر؛ من الإذن، وفي رواية:(فآذن) بالمد؛ أي: أعلم (هرقل لعظماء الروم) جمع عظيم (في دَسْكَرَة)؛ بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتح الكاف والراء، كائنة (له بحمص)؛ أي: فيها، والدسكرة: القصر حوله بيوت، (ثم أمر بأبوابها)؛ أي: الدسكرة (فغلِّقت) بتشديد اللام، وكان دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها، ثم أغلقها عليهم، (ثم اطلع) عليهم من مكانه العالي؛ خوفًا منهم أن يقتلوه فخاطبهم (فقال: يامعشر الروم؛ هل لكم) رغبة (في الفلاح والرَُّشَد)؛ بضم الراء ثم السكون أو بفتحتين: خلاف الغي، (وأن يثبت)؛ بفتح الهمزة: مصدرية (ملككم، فتُبَايعوا)؛ بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، بعدها ألف ومثناة تحتية: منصوب بحذف النون بـ (أن) مقدرة في جواب الاستفهام، وفي رواية:(فبايعوا) بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية:(نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى:(نتابع) بنون الجمع أيضًا، ثم مثناة فوقية، فألف، فموحدة، وفي رواية:(فتتابعوا) بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، وفي رواية:(فنتبع)(هذا النبي) وفي رواية: باللام، وفي أخرى: صلى الله عليه وسلم، وإنما قال هذا؛ لما علم من الكتب: أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك.
(فحاصوا) بمهملتين؛ أي: نفروا (حيصة حمر الوحش)؛ أي: كحيصتها (إلى الأبواب) المعهودة، (فوجدوها قد غُلِّقت)؛ بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وإنما شبه نفرتهم بنفرة حمر الوحش؛ لأنَّها أشد نفرة من سائر الحيوانات، وقول ابن حجر:(شبههم بالحمر لمناسبة الجهل)؛ فيه نظر ظاهر لا يخفى على من له أدنى نظر في علمي المعاني والبيان، (فلما رأى هرقل نفرتهم) وأنهم ربما قتلوه، (وأيس)؛ بهمزة ثم مثناة تحتية، جملة حالية بتقدير: قد، وفي رواية: بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنًى، والأول مقلوب من الثاني؛ أي: قنط (من الإيمان)؛ أي: من إيمانهم ومن إيمانه أيضًا؛ لكونه شح بملكه؛ (قال) هرقل لخدامه: (ردوهم عليَّ) بفتح المثناة تحت؛ أي: إلى محل الخطاب (وقال) لهم: (إنِّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر منصوب على الظرفية لا على الحال؛ كما توهم (أختبر)؛ أي: أمتحن (بها) الجملة حال (شدتكم)؛ أي: رسوخكم (على دينكم) إنَّما أضاف الدين إليهم؛ إشارة إلى أن له خاطرًا في الدخول في الإسلام ومنعه حب الرئاسة، (فقد رأيت) أي: شدتكم، فحذف المفعول؛ للعلم به، وفي رواية:(فقد رأيت منكم الذي أحببت)، (فسجدوا له)؛ حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبَّلوا الأرض بين يديه، (ورضوا عنه) بأن سكنت نفرتهم، (فكان ذلك آخرَ) بالنصب خبر (كان)(شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة أو فيما يتعلق في أمر الإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة سنة ثمان، وتبوك، ومحاربته للمسلمين؛ وهذا يدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي؛ مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتلوه؛ كما قتلوا ضغاطر، لكن في «مسند أحمد» : أنه كتب من تبوك إلى النبي عليه السلام: أنَّي مسلم، قال النبي عليه السلام:«كذب؛ بل هو على نصرانيته..» الحديث، {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4].
(رواه)؛ أي: حديث هرقل، وفي رواية بالواو، وفي رواية:(قال محمد -أي: البخاري- رواه)(صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: أبو محمد أو أبو الحارث الغِفَاري؛ بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء، المدني، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، عن مئة ونيف وستين سنة؛ كذا قيل، (و) رواه أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي (و) رواه (مَعمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: ابن راشد؛ الثلاثة عن الزهري، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومناسبة الحديث هنا من حيث أوصاف من يوحى إليه، ومن قصة هرقل؛ لتضمنها حال النبي عليه السلام في ابتداء الأمر، ولا يخفى مناسبة القصة؛ لما يذكره من
كتاب الإيمان
؛ وهو أول فرض على المكلف، فقال:
((2)) [كتاب الإيمان]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
واختلفت الروايات في تقديمها هنا على (كتاب) أو تأخيرها عنه ولكل وجه.
(كتاب الإيمان) وإنما لم يقل في الأول: (كتاب بدء الوحي)؛ لأنَّه كالمقدمة، فـ (الكتاب) مصدر بمعنى: الكتب؛ وهو الجمع والضم، فاستعمل جامعًا للأبواب والفصول، وجمعه (كُتُب) بضمتين، و (كُتْب)؛ بسكون المثناة الفوقية، والضمُّ فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز
(1)
، وسميت الكتابة كتابة؛ لأنها جمع الحروف والكلمات.
و (الإيمان) بكسر الهمزة لغةً: التصديق؛ أي: إذعان حكم المخبِر، وقبوله، وجعله صادقًا؛ (إفعال) من الأمن؛ فإن حقيقة (آمن به)؛ آمنه من التكذيب والمخالفة، وتعدَّى بـ (اللام) في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17]؛ أي: بمصدق، وبـ (الباء) كما في قوله عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله
…
» الحديث؛ أي: تصدق، وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر عن غير إذعان وقبول؛ بل هو إذعان وقبول لذلك؛ بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الغزالي، كذا قرره العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني.
(1)[بابُ الإِيمَانِ، وقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»]
هذا (باب قول النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي موصولًا: (بني الإسلام على خمس) وفي رواية: بإسقاط لفظ (باب)، وفي رواية: (باب الإيمان وقول النبي
…
) إلى آخره.
و (الإسلام) لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق إلَّا بقبول الأحكام والإذعان؛ وذلك حقيقة التصديق، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم؛ فمفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام إعمال الجوارح، وبالجملة: لا يصح أن يحكم على أحد أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن؛ وهذا معنى الوحدة.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في تحقق الإسلام بدون الإيمان.
قلنا: المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد في الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفظ بالشهادة من غير تصديق في باب الإيمان؛ فافهم.
(وهو)؛ أي: الإيمان عند المؤلف ومالك والثوري: (قول) باللسان؛ وهو النطق بالشهادتين (وفعل) وفي رواية: (وعمل) بدل (فعل)؛ وهو أعم من عمل القلب والجوارح؛ لتدخل الاعتقادات والعبادات؛ فهو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، والمراد أنَّ الأعمال شرط لكماله، وقالت الأئمة الماتريدية: الإيمان في الشرع هو التصديق بما جاء [به] النبي الأعظم عليه السلام من عند الله تعالى والإقرار به؛ أي: بما جاء من عند الله باللسان، إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله؛ كما في حالة الإكراه.
فإن قيل: قد لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة.
قلنا: التصديق باق في القلب، والذهول إنَّما هو عن حصوله، ولو سلم، فالشارع جعل المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي، حتى كان المؤمن اسمًا لمن آمن في الحال أو المضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وهذا مذهب بعض العلماء منهم، وهو اختيار الإمامين فخر الإسلام وشمس الأئمة.
وذهب جمهور المحققين منهم إلى أنَّه هو
(1)
في الأصل: (مجازًا)، وليس بصحيح.