الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا صرَّح الطَّحاوي في روايته؛ حيث قالت: فإذا سجد؛ غمزني فرفعتهما فقبضتهما، فإذا قام؛ مددتهما، وللبخاري:(فإذا سجد؛ غمزني فقبضت رجليَّ، وإذا قام؛ بسطهما)، ولأبي داود:(فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجليَّ فضممتهما إليَّ ثم سجد)، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
ففيه أن الرجل المصلي إذا غمز امرأته وهي نائمة عند السُّجود لأجل أن يسجد مكان رجليها؛ لا يفسد الصلاة، وليس فيه كراهة، وجه عدم الفساد: أن الغمز حركة أو حركتان لا ثالث لهما، وهو غير مفسد للصلاة، ووجه عدم الكراهة: أنَّه عليه السلام قد فعله، وهو لا يوصف بالكراهة، ولو كان مكروهًا؛ لما فعله أو لنهى عنه.
وفي الحديث: دليل على أنَّ لمس المرأة غير ناقض للوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور سلفًا وخلفًا؛ لأنَّه عليه السلام قد لمس عائشة بيده الشريفة ومضى في صلاته.
وتأوَّل الشَّافعية أنَّه عليه السلام مس عائشة بيده مع الحائل ويحتمل الخصوصية.
قلت: إنَّما زعموا هذا؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم: أن المس ناقض، ولا دليل لهم في ذلك، فإن قولها في الحديث:(غمزني) يدل على أنَّه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، ولو كان ثمة حائل؛ لصرحت بذلك، ولا يخفى أن اليد والرجل عند أهل الصرف واللُّغة كانتا بغير حائل، بل المس: وَقْعُ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود:(ضرب رجليَّ)، ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدونه، كما هو التحقيق.
ودعوى الخصوصية باطلة؛ لأنَّه لا بدَّ لها من دليل ولم يوجد، بل هذا الحكم عام، ويدل عليه أنَّه قد تكرَّر منه عليه السلام هذا الفعل، وهو يدل على العموم، ومن ادعى الخصوصية؛ فعليه الدليل، وتمامه فيما قدمناه.
فظهر أن الصَّواب: ما قلناه والعناد بعد ذلك مكابرة.
وفي الحديث: جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته.
وفيه: استحباب صلاة الليل.
وفيه: استحباب إيقاظ النائم لحاجة.
وفيه: دليل على أنَّ المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول الجمهور سلفًا وخلفًا، وبه قال الإمام الأعظم، وتبعه مالك والشَّافعي، ولا يخفى أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.
وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود؛ لحديث أبي سعيد: (أن الكلب الأسود شيطان)، وذهب جماعة: إلى أن الصلاة يقطعها مرور الكلب، والحمار، والمرأة، وفي ذلك حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي ذر.
والجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالقطع النقص؛ أي: نقص الخشوع؛ لشغل القلب بمرورها، وليس المراد إبطالها؛ لأنَّ المرأة يتغير
(1)
الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة للقطع؛ أطلق عليها القطع مجازًا.
والثاني: أن الأحاديث الواردة في ذلك منسوخة بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم» ، أخرجه الطَّحاوي، وبوَّب عليه البخاري، وقد صلى الشَّارع عليه السلام وبينه وبين القبلة عائشة، وكانت الأتان ترتع بين يديه ولم ينكره أحد، كما أخرجه البخاري عن ابن عبَّاس، فدل هذا على النَّسخ، ولهذا أنكرت عائشة رضي الله عنها على الذي ذكر عندها القطع بهذه الأشياء، وإنما أنكرت؛ لعلمها أن هذا الحكم منسوخ، فالظَّاهر: أنهم لم يبلغهم النَّسخ إلا منها.
وذهب عطاء وغيره: إلى أنَّه يقطعها المرأة الحائض، ورُدَّ بأن قد جاء في روايات هذا الحديث قالت:(وأنا حائض)، وحديث:(يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير)، ضعيف لا يحتج به.
وفي الحديث: أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وهو حركة أو حركتان، والثلاث كثير.
وفيه: جواز الصلاة إلى النائم، وحديث ابن عبَّاس أنَّه عليه السلام قال:«لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث» ، نص الحفاظ على أنَّ طرقه واهية وهو ضعيف لا يحتج به، فهو لا يقاوم ما روي في «الصَّحيح» ، على أنَّ ما في «الصَّحيح» ناسخ له، وقد وَرَد أحاديث في النَّهي عن الصلاة خلف النائم أو المتحدث، ونص الحفاظ على أنَّها ضعيفة واهية؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز الصلاة على الفراش، ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: على أنَّه تجوز الصلاة على البساط والطنفسة والفراش إذا كان يجد الساجد عليه حجم الأرض عند السُّجود، وبه قال الشَّافعي.
وزعم المالكية أن الصلاة على الطنفسة وشبهها مكروهة، ولا سَنَدَ لهم في ذلك، والحجة عليهم قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفعله؛ ففي «البخاري» من حديث ميمونة قالت:(وكان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي على الخُمرة)، وروى أبو نعيم عن ابن عبَّاس:(أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى على البساط)، فهذا دليل على أنَّ الصلاة على ذلك غير مكروهة، والأفضل الصلاة على الأرض وعلى ما تنبته الأرض، كما فعله الشَّارع وليس بعد النص إلا الرجوع إليه، والله تعالى أعلم، وهذا الحديث قد مضى مع ما يتعلق به في باب (الصلاة على الفراش)، والله تعالى أعلم.
(109)
[باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى]
هذا (بابٌ) بالتنوين (المرأة) مبتدأ (تطرح)؛ أي: ترمي، خبره (عن المصلي شيئًا من الأذى) وكلمة (من) بيانية؛ أي: النجس، كقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]؛ أي: نجس، واقتصر إمام الشَّارحين على تنوين (باب)، وزعم العجلوني أنَّه يجوز تركه، وعليه؛ فالجملة حال من المضاف إليه، أو مستأنفة، انتهى، قلت: الظَّاهر: أنَّه بالتنوين فقط؛ لأنَّه على عدمه يختل التركيب والمعنى؛ فافهم.
قال ابن بطال: (هذه التَّرجمة قريبة من التراجم التي قبلها؛ لأنَّ المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلي؛ فإنَّها تقصد إلى أخذ ذلك من أي جهة كانت، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه؛ فليس دونه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن هذه التَّرجمة مستقلة بنفسها لا تَعلُّق لها بالأبواب والتراجم التي قبلها، فإن أحكام السترة والمرور قد أتمها البخاري وأكملها، وقد ذكر في هذا الباب والذي قبله مسائل في أحكام الصلاة؛ لأنَّه من تتمة كتاب (الصلاة)، وليس في الحديث مرور غير أنها قد تناولت القذر من ظهر المصلي، وهو ليس بمرور أصلًا، ومراد البخاري بهذا الباب: أن المرأة إذا طرحت قذرًا عن ظهرالمصلي؛ هل تفسد صلاته أم لا؟ فالفساد ناشئ من وقوع الأذى على ظهره وهو يصلي، هل يمضي في صلاته أم يقطعها؟
وذكر حديث الباب في باب مستقل وترجم له: (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ لم تفسد عليه صلاته)، ذكره في (الطهارة)، وإنما أعاده هنا لبيان اختلاف العلماء في ذلك، ولأن عادته تكرار الأحاديث؛ لأخذ الأحكام منها مع تغيير السند والمتن؛ فافهم.
[حديث: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش]
520 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد بن إسحاق) هو ابن الحصين بن جابر السلمي (السُّرْماري)؛ بِضَمِّ المهملة وسكون الرَّاء؛ كذا في «التقريب» و «لب الألباب» ؛ نسبة إلى سرمار قرية من قرى بخارى، وهو الذي يضرب بشجاعته المثل، قتل ألفًا من الترك، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين، قاله الشَّارح، قلت: هو غير منسوب رواية الأكثرين، ولابن عساكر ما ذكرنا، ولأبي ذر والأصيلي:(السُّوْرَمارِي)؛ بِضَمِّ المهملة، وسكون الواو، مع فتح الرَّاء، بعدها ميم ثم راء مكسورة بينهما ألف، وقال الشَّارح: السَِّرْماري؛ بكسر المهملة وفتحها وسكون الرَّاء الأولى، ومثله في «الكرماني» و «ابن حجر» ، (قال: حدثنا عُبيد الله) بالتصغير (بن موسى) هو ابن باذام الكوفي (قال: حدثنا إسرائيل) هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، (عن أبي
(1)
في الأصل: (تغير).
إسحاق) هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي التَّابعي، تقدَّما في كتاب (العلم)، (عن عَمرو) بفتح العين (بن مَيْمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بينهما تحتية ساكنة: هو أبو عبد الله الأَوْدِي -بفتح الهمزة وبالدَّال المهملة- الكوفي، أدرك زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يَلْقَه، وحج مئة حجة وعمرة، وأدَّى صدقته إلى عمال رسول الله عليه السلام، وهو الذي رأى قردة زنت في الجاهلية فاجتمعت عليها القردة ورجموها، توفي سنة خمس وسبعين، أفاده شارحنا في باب (إذا ألقي على ظهر المصلي قذر)، قلت: وعلى هذا فهو تابعي مخضرم، وهو غير عمرو بن ميمون المخزومي؛ فافهم، (عن عبد الله) هو ابن مسعود، الصَّحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة، وكان قصيرًا دقيق الساقين، وكان الريح يأخذه حين يمشي، فرآه بعض الصَّحابة فتبسم، فقال له النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم:«لَسَاق عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من أحُد» ، وإنما أطلقه البخاري ولم ينسبه لأبيه؛ لأنَّه المراد عند الإطلاق، كما أنَّه إذا أُطلِق الإمام الأعظم؛ فالمراد به: أبو حنيفة النعمان الكوفي التَّابعي رأس المجتهدين وسيدهم؛ فافهم، (قال: بينما)؛ بالميم ظرف مضاف إلى الجملة بعده، والعامل فيه معنى المفاجأة التي في (إذ قال قائل)، ولا يجوز أن تعمل فيه (يصلي)؛ لأنَّه حال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المضاف إليه (بين)، فلا يعمل فيه.
وزعم العجلوني (بينما) بالميم الكافة لـ (بين) عن الإضافة، انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ (بينا) بالألف كـ (بينما) بالميم مكفوفان عن الإضافة إلى المفرد ومضافان إلى الجملة، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم إلى أن (ما) والألف كافتان عن الإضافة، والجملة بعدهما لا محل لها من الإعراب، وذهب آخرون إلى أن الألف لا تكف عن الإضافة إلى الجملة، بخلاف (ما)، والصَّحيح الأول، أفاده السيوطي في «همع الهوامع» ، إذا علمت هذا؛ ظهر لك فساد ما زعمه العجلوني من وجوه لا نطيل بذكرها؛ فافهم.
(رسول الله صلى الله عليه وسلم : مبتدأ خبره قوله: (قائم) حال كونه (يصلي)؛ أي: منفردًا ليس معه أحد من أصحابه، ويحتمل أنها الضُّحى، أو نفلًا محضًا، أو ركعتي الطواف، ويدل عليه قوله:(عند الكعبة)؛ أي: البيت الحرام؛ أي: مقابل الكعبة (وجمعُ قُرَيْش)، وفي (الفرع) :(وجمعٌ من قُرَيْش)؛ بِضَمِّ القاف، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، مصغر قرش، وتصغيره للتعظيم، المراد بهم الأربعة المذكورون قريبًا؛ يعني: المراد الكفار منهم، فهو عام أريد به الخصوص بقرينة القصة، لا يقال: كيف جاز الدعاء على كل قريش وكان فيهم مسلمون كالصديق الأكبر رضي الله عنه وغيره؛ لأنَّا نقول: اللَّفظ لا عموم له، ومراده بالكفار منهم، ففيه: أن لفظ (قريش) موضوع لهذه القبيلة على العموم؛ فتأمل، (في مجالسهم) : جمع مجلس، و (قريش) : مأخوذ من التقرش؛ وهو التجمع لاجتماعهم بعد افتراقهم، وقيل: من القرش؛ وهو الكسب؛ لأنَّهم كانوا تجارًا، وقد سأل سيدنا الإمام معاوية الكبير خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحقيق سيدنا عبد الله بن عبَّاس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن لم سميت قريش؟ فقال: سميت بدابة في البحر يقال لها: القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا يعلى عليها.
وأجمعوا على أنَّه إذا أريد به الحي؛ صرف، وإن أريد به القبيلة؛ منع من الصرف، كما في سائر أسماء القبائل، فقريش: هم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر؛ فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه، وربما قالوا: قرشي
(1)
، وقيل: قريش: بنو فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده؛ فهو ليسبقرشي، والأصح الأول، قال تبع:
وقريش هي التي تسكن البحر
…
بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك
(2)
…
فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش
…
يأكلون البلاد أكلًا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر
…
القتل فيهم والخموشا
(3)
وتمامه في شرحنا على «الأزهرية» عند إعراب قوله تعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
(إذ قال قائل منهم) هو أبو جهل كما صرح به مسلم في روايته، وقدمنا أن ما في (إذ) من معنى المفاجأة هو العامل في (بينما)، ولا يصح أن يعمل فيه (يصلي)؛ لأنَّه حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم المضاف إليه (بين)، فلا يعمل فيه، وهذا ما ذكره إمام الشَّارحين والكرماني، وتبعهما البرماوي.
ونظر فيه العجلوني بأن (ما) كافة لها عن الإضافة إلى المفرد، وزعم ابن حجر أن الظَّاهر: أن المضاف إليه (بين) هو الجملة الاسمية، و (ما) زائدة على كل حال، انتهى.
قلت: قد نقلنا عن «الهمع» آنفًا أن (بينا) و (بينما) يضافان إلى الجملة عند الجمهور، وهو الأصح، فما زعمه العجلوني وابن حجر مبني على القول الشاذ، فلا يعول عليه؛ فافهم، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام» .
(أَلا تنظرون)؛ بفتح الهمزة، أداة استفتاح مراد بها التنبيه (إلى هذا المرائي) : اسم فاعل من الرياء؛ وهو التعبد في الملأ دون الخلوة؛ ليراه الناس، وهذه الجملة والتي بعدها مقول القول، والذي قال هذا هو أبو جهل، كما صرح به مسلم من رواية زكريا، وزاد فيه:(وقد نُحِرَت جزور بالأمس)(أيُّكم) بتشديد التحتية استفهامية (يقوم إلى جَزُور)؛ بفتح الجيم وضم الزاي، من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهي تؤنث، والجمع: الجزر، يقال: جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، قاله إمامنا الشَّارح هناك.
وزعم ابن حجر أن الجزور ما يجزر؛ أي: يقطع، وردَّه شارحنا في «عمدة القاري» ، فقال:(لا يدرى من أيِّ موضع نقله؟) واعترضه العجلوني فزعم أنَّه نقله من كتب اللُّغة، ففي «الصِّحاح» : جزرت الجزور أجزُرها؛ بالضم، واجتزرتها؛ إذا نحرتها، وفي «المحكم» : الجزور: الناقة المجزورة، والجمع: الجزائر، وفي «القاموس» : الجزور: البعير، أو خاص بالناقة المجزورة، انتهى.
قلت: هذا مبلغه من العلم، وما زعمه مردود عليه، فإنَّه لم يصرح أحد من أئمة اللُّغة أن معناه القطع، كما زعمه ابن حجر، فظهر أنَّه تفسير من عنده لا مستند له فيه ولا يعول عليه، بل ما ذكر من هذه النقول يشهد لما قاله إمامنا الشَّارح، فهذا دليل له لا عليه؛ فانظر التعصب البارد من ذي الذهن الشارد، وتمامه في «إيضاح المرام» ؛ فافهم.
(آل فلانٍ) بالتنوين، اسم مبهم لقبيلة من قبائل العرب لم تعرف أسماؤهم، قاله الشَّارح، وزعم ابن حجر يشبه أن يكونوا آل أبي معيط؛ لمبادرة عقبة بن أبي معيط إلى إحضار ما طلبوه منه، انتهى.
قلت: هذا رجم بالغيب؛ لأنَّه ليس له دليل، والدعوى بدون برهان لا تسمع، ومبادرة عقبة لذلك لا يدل على ما زعمه؛ لأنَّه لا يلزم من مبادرته أن يكون الجزور لآل أبي معيط، وإنما كان المبادر لأجل أن يفوز بهذه الشقاوة حتى يرضي أبا جهل، ويكون عنده مقدمًا مقربًا، على أنَّه قد اختلف في الذي بادر؛ فقيل: إنَّه أبو جهل نفسه؛ لقوله في الحديث: «فانبعث أشقاهم» ، ولا ريب أنَّه أشقاهم، كما سيأتي؛ فافهم.
(فيَعمِدُ) بالرفع عطف على (يقوم)، ويروى بالنصب؛ لأنَّه وقع بعد الاستفهام، قاله إمامنا الشَّارح، وهو بفتح التحتية وكسر الميم،
(1)
زيد في الأصل: (وهو العباس)، ولعل الصواب حذفه.
(2)
في الأصل: (تزل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (والحمق بشا)، ولعل المثبت هو الصواب.
من باب (ضرب)، لكنه يتعدى باللَّام، كما ذكره في «الصِّحاح»؛ حيث قال: عمدت للشيء أعمد عمدًا: قصدت له؛ أي: تعمدت، انتهى، (إلى فرثها)؛ أي: لفرثها على ما في «الصِّحاح» (ودمها)، والفرث: التفل الذي في الكرش، وقال ابن عبَّاس: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كونها؛ كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا؛ يعني: أن أوسطه يكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن؛ لأنَّهما لا يكونان في الكرش، بل الكبد يجذب صفارة الطعام المهضم في الكرش، وكل حيوان له كرش إلا بني آدم، فإنَّه ليس له كرش، بل معدة وبها يجتمع المأكول وينهضم ويتولد دمًا وبلغمًا وسودًا وصفرًا، ويجري كل واحد إلى مكانه، فالدم مقره القلب، وسلطانه الدماغ، وتمامه في كتب الطب، وقد أغفل هذا المعنى العجلوني ولم يتعرض له ولم يصب في ذلك؛ لأنَّه مهم؛ فافهم، (وسَلَاها)؛ بفتح السين المهملة واللَّام، وبالقصر؛ وهي الجلدة التي يكونفيها الولد، والجمع: أسلاء، وخص الأصمعي السلى بالماشية، وفي الناس بالمشيمة، وفي «المحكم» : السلى: يكون للناس والخيل، وفي «الصِّحاح» : السلى؛ مقصور: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، إن نزعت عن وجه الفصيل بساعة؛ يولد، وإلا؛ قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن، وألف (السلى) منقلبة عن ياء تحتية، ويقويه ما حكاه أبو عبيد عن بعضهم أنَّه يقول: سليت الشاة؛ إذا نزعت سلاها، أفاده شارحنا الهمام هناك، وتخصيص الكرماني (السلى) بما يكون فيه ولد الناقة؛ تفسير وتخصيص من عنده مردود عليه؛ لأنَّه مخالف لأئمة اللُّغة؛ فليحفظ، (فيجيء به) أي: بما ذكر، (ثم يمهلُه)؛ بالرفع أو النصب تبعًا لـ (يعمد)، وهو من الإمهال؛ وهو الانتظار؛ يعني: ينتظره (حتى إذا سجد)؛ أي: إلى أن يسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهو غاية للإمهال
(1)
؛ (وضعه)؛ أي: ما ذكر، وهو جواب (إذا)، زاد المؤلف سابقًا:(على ظهره)(بين كتفيه)؛ بالتثنية على الإضافة، كما قدمناه، وكأنَّه أمره أن يقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وقد وضعه عليه، (فانبعث أشقاهم)؛ أي: انتهض وأشرع، وهو مطاوع (بعث)، يقال: بعثه وانبعثه بمعنًى؛ فانبعث؛ أي: أشقى القوم؛ وهو عقبة بن أبي مُعَيط؛ بضم أوله، وفتح ثانيه، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ:(فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الدَّاودي: أشقى القوم: هو أبو جهل، قلت: وعليه فكونه أشقاهم ظاهر في نفس الأمر، لكن الذي تولى ذلك هو عقبة؛ فافهم، والصَّحيح الأول، وعليه الشَّارحون وإمامهم، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا منه؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وهو قُتِلَ صبرًا، كما سيأتي.
(فلمَّا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: في صلاته؛ (وضعه) أي: ما ذكر على ظهره (بين كتفيه)؛ بالتثنية والإضافة.
فإن قلت: لم لم يره النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حين وضعه، وقد وَرَد أنَّه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه؟
قلت: يحتمل أنَّه لم يره؛ لأنَّه مشغول بالعبادة ومستغرق فيها، ويحتمل أنَّه رآه وتركه حتى فعل ما فعل؛ لينفذ قضاء الله تعالى فيهم، أو لأنَّه كان الإسلام وقتئذ ضعيفًا فخشي وقوع الفتنة فتركه، والله أعلم.
(وثبت) أي: استقام أو استمر (النَّبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: في صلاته (ساجدًا)؛ أي: لا يرفع رأسه، كما [في] رواية المؤلف هناك؛ أي: من السُّجود بل أبطأ فيه، (فضحكوا)؛ أي: الجمع من قريش؛ أي: استهزاءً، قاتلهم الله تعالى (حتى مال بعضهم إلى)؛ بمعنى: على، كما في رواية الأربعة، أو بالعكس (بعض من الضحك)؛ أي: من كثرته، وكأنَّه وصل إلى حد القهقهة، عليهم الغضب.
وزعم العجلوني أن في رواية غير هذا الموضع: (حتى مال بعضهم إلى بعض من كثرة الضحك).
قلت: فيه خفاء؛ لأنَّه لم يبين أن هذه في «البخاري» أم في غيره؟ وفي أي بحث هي؟ ومن رواها؟ والجهل في ذلك غير مقبول؛ فافهم.
(فانطلق منطلق) : لم يعرف اسمه، وزعم ابن حجر يحتمل أنَّه ابن مسعود الراوي، انتهى، قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه لو كان هو؛ لقال: فانطلقتُ، وإنما مراده أن المنطلق غيره، ويدل عليه رواية المؤلف في (الطهارة)، ولفظه هناك: قال -أي: ابن مسعود-: (فانبعث أشقى القوم به فنظر حتى إذا سجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة)، فهذا يدل على أنَّ ابن مسعود قد كان حاضرًا وقتئذٍ، واستمر حضوره حتى جاءت فاطمة ونظر ما فعلته، وأن المنطلق غيره؛ لقوله:(وأنا أنظر)؛ أي: إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأنه قد ثبت ساجدًا وهو على ظهره إلى أن جاءت فاطمة، فهذا يدلُّ على أنَّه لم يفارقه، وأنَّه لم ينطلق، بل كان غيره؛ فليحفظ، (إلى فاطمة) هي ابنة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (وهي جويرية
(2)
)؛ أي: صغيرة، وهو تصغير جارية، قاله الشَّارح، والظَّاهر: أنَّها كانت دون عشر أو دون البلوغ، وتزوجها علي بن أبي طالب وكان سنُّها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، بعد وقعة أحد، توفيت بعد أبيها بستة أشهر بالمدينة يوم الثُّلاث، لثلاث خلون من رمضان، ودفنت ليلًا، وفضائلها كثيرة، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، أفاده الشَّارح هناك، (فأقبلت) أي: على أبيها عليه السلام (تسعى) أي: تمشي إليه بلين ورفق، وزعم العجلوني؛ أي: تسرع، قلت: هو تفسير من عنده؛ لأنَّ السعي ليس بمعنى: الإسراع، بل معناه: المشي عادة، كما ذكرنا، ويدلُّ عليه قوله عليه السلام:«إذا أتيتم الصلاة؛ فائتوها وأنتم تسعون، ولا تأتوها هرولة» ، ولا يخفى أن الإتيان إلى الصلاة بالإسراع مكروه، وهو الهرولة، أما السعي؛ فهو بلين ورفق، وهو مراد الحديث وحديث الباب؛ لأنَّ الصلاة المطلوب فيها التذلل والخضوع في المشي إليها، والإسراع ينافيه؛ فافهم، (وثبت النَّبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم ساجدًا)؛ أي: استقام أو استمر في صلاته حالة كونه ساجدًا لا يرفع رأسه من السُّجود، بل أبطأ فيه، (حتى ألقته)؛ أي: رمت ما وضعوه عن ظهره عليه السلام، وعند المؤلِّف سابقًا:(فطرحته عن ظهره)، وإنَّما لم يطرحه ابن مسعود رضي الله عنه مع أنَّه كان حاضرًا وقتئذٍ؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هذليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، فخاف من أذاهم له، ويدلُّ عليه ما عند المؤلف قال:(وأنا أنظر لو كان لي منعة) -أي: عزٌّ وجاه-؛ (لطرحته)، كما صرح به مسلم، وعند البزار:(وأنا أرهب منهم)؛ فافهم.
(وأقبلت) أي: فاطمة (عليهم) أي: على الجمع من قريش (تسُبهم)؛ بِضَمِّ السين المهملة؛ أي: تشتمهم، زاد البزار في روايته:(فلم يردُّوا عليها شيئًا)، ففيه: دليل على قوة نفس فاطمة الزهراء مع صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها؛ خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح، قاتلهم الله تعالى، وهذا بعض أفعال الكلب المملوءة بالمكر والحسد والفجور، كما بيَّنتُ ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المحزون
(3)
»؛ فافهم، (فلما قضى رسول الله) وللأصيلي:(النَّبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم الصلاة)؛ أي: فرغ من صلاته وأتمَّها، وعند البزار:(فلما قضى صلاته)، وكذا للمؤلف في (الطهارة)، ونحوه لمسلم والنسائي؛ (قال اللهم) أي: يا الله (عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، أو ألصق عذابك بكفار قريش، أو عليك بقريش الكفار، فهو على حذف مضاف أو صفة، وزاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق:(فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد)(اللهم عليك بقريش) والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، لا يقال: كيف جاز الدعاء على كل قريش وفيهم مسلمون؟ لأنا نقول: لا عموم للَّفظ؛ فافهم، (اللهم عليك بقريش) وعند أبي داود عن شعبة في هذا الحديث قال ابن مسعود:(لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ)، وإنما استحقُّوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم والإيذاء حال عبادة
(1)
في الأصل: (للإمهار)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (جويرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (المخزون)، ولعل المثبت هو الصواب.
ربِّه سبحانه وتعالى (ثلاثًا)؛ أي: قال هذه الجملة وكررها ثلاث مرات، وزاد مسلم في رواية زكريا:(وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا)، وعند المؤلف في (الطهارة) :(فيشق ذلك -أي: الدعاء- عليهم؛ إذ دعا عليهم، قال -أي: ابن مسعود-: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة)؛ يعني: كان اعتقادهم إجابة الدعوة لا من جهة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السلام، وعند مسلم من رواية زكريا:(فلما سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي؛ حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السلام.
وفيه: جواز الدعاء على الظالم، وفصَّل بعضهم فقال: محلُّه ما إذا كان كافرًا، أمَّا المسلم؛ فيستحب الاستغفار له والدعاء له بالتوبة، قاله الشَّارح هناك.
وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر؛ لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أنَّه عليه السلام اطَّلع عليهم أنَّهم لا يؤمنون، والأَولى أن يُدْعَى لكلِّ حيٍّ بالهداية، انتهى.
قلت: وفيه نظر، بل الحديث دالٌّ على جواز الدعاء على الكافر والظالم، ويدلُّ عليه عموم قوله تعالى حكاية عن نوح:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وقوله تعالى:{أَلا لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، لأنَّ في الدعاء بالهلاك لهم تخليص الناس من شرِّهم وأذاهم لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدعاء عليهم جائز، بل لو قيل بوجوبه؛ لم يبعد لا سيما جماعة الكلب العقور المحشوَّة بالمكر والحسد والشرور، اللهم أحسن عاقبتنا.
(ثم سمَّى) أي: عيَّن أفرادَ الجمع من قريش النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في دعائه ما كان أجمله أولًا، ودعاؤه عليه السلام عليهم المجمل والمفصل إنَّما كان خارج الصلاة بعد الفراغ منها؛ لقوله فيما تقدم:(فلما قضى الصلاة)، ولمسلم:(فلما قضى صلاته)، وكذلك عند البزار وأبي داود، لكن في «مسلم» : أنَّه كان مستقبل القبلة، وذلك من عادته عليه السلام في الدعاء أنَّه يدعو دبر الصلاة مستقبل القبلة، ووقع عند المؤلف في (الطهارة) : (فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: اللهم
…
)؛ الحديث، ففيه: أنَّه قد يُتوَّهم أن الدعاء وقع في الصلاة؛ وهو ممنوع، فإنَّ تصريح المؤلف هنا ومسلم وغيرهما بقوله:(فلما قضى الصلاة) يدلُّ على أنَّه وقع بعد الفراغ من الصلاة، على أنَّ
(1)
كلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وقد وقع بهذه المهلة بقية أفعال الصلاة، ويحتمل أن الراوي اختصر ذلك، والصَّواب: أن الرواية هناك مختصرة من الرواية هنا، ويدلُّ لها ما في «مسلم» وغيره، والروايات تفسِّر بعضها بعضًا؛ فليحفظ.
فقال: (اللهم عليك بعَمرو بن هشام)؛ بفتح العين: المخزومي، وعند المؤلف في (الطهارة) :(اللهم عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وهو كنية عمرو بن هشام، فلعله عليه السلام سمَّاه وكنَّاه معًا.
قلت: بل سمَّاه تارة، وكنَّاه أخرى؛ لأنَّه عليه السلام من عادته إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، كما في «مسلم» ، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عتبة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، وكان يكنَّى في الجاهلية: بأبي الحكم، فكنَّاه عليه السلام بأبي جهل، وفيه يقول الشاعر:
الناس كنَّوه أبا حكم
…
والله كنَّاه أبا جهل
وقيل: يكنَّى أبا الوليد، ولمَّا رآه عليه السلام؛ قال:«هذا فرعون هذه الأمة» .
(وعُتْبةَ) بِضَمِّ العين، وسكون الفوقية، والجر بالفتحة، (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، بالجر بالفتحة، ابن عبد شمس، (وشيبة بن ربيعة) هو أخو عتبة، (والوَلِيد بن عُتْبة)؛ بِضَمِّ العين وسكون المثناة الفوقية، وواو الوَلِيد مفتوحة ولامه مكسورة، وهو المذكور آنفًا، ووقع عند مسلم من رواية زكريا:(والوليد بن عقبة)؛ بالقاف، وهو وهَمٌ نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصَّواب، أفاده إمامنا الشَّارح هناك، (وأُمَيَّةَ)؛ بالجر بالفتحة عطفًا على المجرور، وهو بِضَمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف) هو ابن صفوان بن أمية، وعند المؤلف في (الطهارة) :(أو أُبَي بن خلف) بالشك من شعبة، والصَّحيح: أميَّة؛ لأنَّ المقتول ببدر أميَّة بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبَي بن خلف قُتِلَ بأُحُد، قاله الشَّارح، (وعُقْبة) بِضَمِّ العين وسكون القاف (بن أبي مُعَيْط)؛ بِضَمِّ الميم، وفتح المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة، واسمه أبان بن أبي عمرو لعنه الله، (وعُمَارة) بِضَمِّ العين المهملة، وتخفيف الميم (بن الوَلِيد)؛ بفتح الواو مع كسر اللَّام، ابن المغيرة، وعند المؤلف في (الطهارة) :(وعد السَّابع فلم يحفظه)، قال إمامنا الشَّارح: ولم يذكره الراوي هناك، وههنا ذكره؛ لأنَّه هناك نسيه وهنا تذكره، انتهى، وقد خبط الكرماني هنا وخلط؛ فاجتنبه، ونقله العجلوني عنه؛ فافهم.
(قال عبد الله) أي: ابن مسعود رضي الله عنه: (فوالله) وعند المؤلف: (فوالذي نفسي بيده)، وعند مسلم:(والذي بعث محمَّدًا بالحق) وعند النسائي: (والذي أنزل عليه الكتاب)، والمراد باليد: القدرة؛ أي: بقدرته، ولعلَّ ابن مسعود قال ذلك كله تأكيدًا وتأسيسًا لكلامه، ففيه: جواز الحلف من غير استحلاف، وإنما صدَّر كلامه باليمين؛ لشدَّة تثبُّته فيما يقوله فيهم لعنهم الله، (لقد رأيتهم)؛ أي: الجمع من قريش، زاد المؤلف:(لقد رأيت الذين عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (صرعى) : جمع صريع، كجرحى جمع جريح، مفعول ثانٍ لـ (رأيت)، قاله إمامنا الشَّارح وتبعه القسطلاني؛ أي: مقتولين.
وزعم العجلوني أنَّه ينبغي أن يكون حالًا؛ فإنَّ (رأيت) بصرية، وإن أمكن توجيه الأول بمعنى: مقتول، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّ الصَّواب: كونه مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ (رأيت) علمية؛ بمعنى: اعتقدت؛ أي: صِدْقه عليه السلام في الدعاء عليهم حيث إنَّه نفذ فيهم قريبًا، ولهذا أكَّده بالأيمان؛ فافهم.
(يوم بدر) : هي اسم موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهي ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة مذكرًا ومؤنثًا، وقيل: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، انتهى، (ثم سُحِبوا)؛ بِضَمِّ أوله على البناء للمفعول؛ أي: جُرُّوا كما يُجرُّ الكلب المنتن (إلى القَلِيب)؛ بفتح القاف وكسر اللَّام، وهو البئر قبل أن تطوى، يذكَّر ويؤنَّث، وقال أبو عبيد: هي العادية القديمة من لدن عاد لا يعرف صاحبها، وقال ابن سيده: هي البئر مطلقًا، وجمع القلة: أقلبة
(2)
، والكثرة: قُلُب، أفاده إمامنا الشَّارح، (قَلِيبِ بدر)؛ بالجر بدل من سابقه؛ على حد قوله تعالى:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 16 - 17]، ويجوز فيه الرفع والنصب من جهة العربية، أمَّا الرفع؛ فعلى أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو قليب بدر، وأمَّا النصب؛ فعلى تقدير: أعني قليبَ بدر، قاله إمام الشَّارحين، فأفاد أن الرواية بالجر فقط، وبهذا ظهر فساد تعميم العجلوني الأوجه الثلاثة مع عدم بيان الرواية منها؛ فافهم.
زاد شعبة في روايته: (إلا أميَّة فإنَّه تقطَّعت أوصاله؛ لأنَّه كان بادنًا؛ أي: سمينًا، وإلا عمَارة فإنَّه مات في خلافة عمر رضي الله عنه في أرض الحبشة)، فعلى هذا يحمل قوله:(لقد رأيتهم)؛ أي: رأيت أكثرهم؛ فتأمل، وقد يقال: إنَّه رآهم جميعًا صرعى؛ أي: مطرحين في القَلِيب ولا يدري هل قتلوا جميعًا أم أكثرهم؟ فأخبر عمَّا رآه منهم؛ فهو على إطلاقه؛ فتدبَّر.
واعلم أن أبا جهل قتله معاذ بن عمرو بن
(1)
في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (أقبلة)، وهو تحريف.