الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا يكون حجَّة بالاحتمال ولا خبرًا.
وقال الغزالي والرازي: خبر الواحد دليل على أنَّه كذب، وهو خطأ قطعًا، وهو لا يجوز العمل به، وردَّ بأن هذا خبر صحابي أو خبر عنه، وقول الصحابي حجة عنده، وأيُّ دليل قام على أنَّه خبر مقطوع بكذبه؛ فهو ممنوع؛ فليحفظ.
وقال عياض: (القراءة الشاذة لا يحتجُّ بها في حكم، ولا يقرأ بها في صلاة)، وكأنَّه مذهب مالك.
أقول: والقرآن الذي تجوز فيه الصلاة اتفاقًا: هو المضبوط في مصاحف
(1)
الأئمة التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، وهو الذي أجمع عليها الأئمة العشرة، وهو المتواتر جملة وتفصيلًا؛ فما فوق السبعة إلى العشرة غير شاذٍّ، وإنَّما الشاذُّ ما وراء العشرة، وهو الصحيح، كذا قاله زين الدين قاسم في فتاويه، فإن قرأ في الصلاة بالشاذِّ؛ فإن كان المقروء من مكان القصص، والأمر، والنهي؛ تفسد صلاته، وإن كان ذكرًا أو تنزيهًا؛ فلا تفسد ولا يجزئ لو اقتصر عليه، فإن قرأ بغيره؛ صحَّت وإلا فسدت، كذا حقَّقه في «البحر والنهر» ، وسيأتي في محله إن شاء سبحانه.
(48)
[باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس]
هذا (باب من) : موصولة بمعنى الذي (ترك بعض الاختيار)؛ أي: فعل الشيء المختار أو الإعلام به (مخافة)؛ بالنصب على التعليل بدون تنوين؛ أي: لأجل خوف (أن يقصر)، و (أن) : مصدرية في محل جر بالإضافة (فِهم)؛ بالرفع فاعل (يقصر)؛ بكسر الفاء، (بعض الناس عنه فيقعوا) : عطف على (يقصر)، فلذا سقط منه النون التي هي علامة للنصب، (في أشدِّ منه)؛ أي: من ترك الاختيار، وفي رواية:(في أشرِّ منه)، وفي أخرى:(في شرٍّ منه) بالراء فيهما، وبالهمزة في الأولى، وتركها في الثانية.
[حديث: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم لنقضت الكعبة]
126 -
وبه قال: (حدثنا عبيد الله)؛ بالتصغير (ابن موسى) العبسي مولاهم الكوفي، (عن إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي؛ بفتح المهملة، وكسر الموحدة، بعدها مثناة تحتية، الهمداني الكوفي منسوب إلى سبيع بن سبع، المتوفى سنة ستين ومئة عن ستين سنة، (عن أبي إسحاق) : جد إسرائيل المذكور.
(عن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، أدرك زمن النبي الأعظم عليه السلام ولم يره، وحجَّ ثمانين حجَّة، توفي بالكوفة سنة خمس وسبعين، وكذا ابنه عبد الرحمن حجَّ ثمانين حجَّة وعمرة، وكان يقول في تلبيته: أنا الحاجُّ بن الحاجِّ، وكان يصلي كلَّ يوم سبع مئة ركعة، وصار عظمًا وجلدًا، وكانوا يسمَّون آل الأسود أهل الجنة، مات سنة خمس وتسعين رحمهما الله تعالى أنَّه (قال: قال لي ابن الزُبير)؛ بضم الزاي: عبد الله الصحابي المشهور (كانت عائشة) رضي الله عنها ((تسرُّ)؛ من الأسرار خلاف الإعلان.
فإن قلت: قوله: (كانت) للماضي و (تسرُّ) للمضارع فكيف اجتمعا؟!
قلت: (تسرُّ) تفيد الاستمرار وذكر بلفظ المضارع؛ استحضارًا لصورة الأسرار، وهو جملة محلها النصب خبر (كانت) أفاده في «عمدة القاري» .
(إليك كثيرًا)؛ بالنصب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أسرارًا كثيرًا، وفي رواية:(تسرُّ إليك حديثًا كثيرًا)، (فما) : استفهامية مبتدأ، (حدَّثتك) : جملة من الفعل، والفاعل، وهو الضمير فيه الراجع إلى عائشة، والمفعول؛ وهو الكاف محلها رفع خبر المبتدأ، (في) شأن (الكعبة)؛ مشتقة من الكعوب؛ وهو النشوز من الأرض؛ بمعنى: مرتفعة، أو لتربعها، قال الأسود:(قلت)، وفي رواية:(فقلت) : (قالت لي) مقول القول: (قال النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لولا)؛ لربط امتناع الثانية بوجود الأولى (قومكِ)؛ بكسر الكاف، كلام إضافيٌّ مبتدأ (حديثٌ)؛ بالتنوين خبر (عهدهم)؛ بالرفع على إسناد حديث إليه؛ لأنَّه صفة مشبهة، وهو أيضًا يعمل عمل فعله، وفي رواية:(لولا أنَّ قومك)؛ بزيادة (أنَّ)، وليس بمشهور، كما في «عمدة القاري» .
قال: فإن قلت: يجب كون خبر لولا كونًا مطلقًا محذوفًا، كما قاله النحاة، فما باله هنا لم يحذف؟!
قلت: إنَّما يجب الحذف إذا كان الخبر عامًا، وأمَّا إذا كان خاصًا؛ فلا يجب حذفه، قال الشاعر:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
…
لكنت اليوم أشعر من لبيد
(قال)، وفي رواية:(فقال) : (ابن الزبير بكفر) أراد أنَّه: ذكره ابن الزبير بقولها فكأنَّ الأسود نسي ذلك، وأمَّا وقوله: (لنقضت
…
) إلخ؛ فيحتمل ممَّا نسي أيضًا، أو ممَّا ذكر ورواه المؤلف في (الجهاد) والترمذي بتمامه إلا قوله:(بكفر)، فقال: بدَّله بجاهلية، فمقصود الأسود إنِّي لمَّا رويت أوَّل الحديث؛ بادر ابن الزبير إلى رواية آخره؛ إشعارًا بأنَّ الحديث معلوم عنده؛ لأنَّه رواه عن عائشة، فلا حاجة إلى ما قاله الكرماني، كما بسطه في «عمدة القاري» ، وقوله:(بكفر) يتعلق بقوله: (حديث عهدهم)، ولكنه من كلام ابن الزبير لا يقال: إنَّه موقوف؛ لأنا نقول: السياق يدلَّ على رفعه، ومن علم أنَّ ابن الزبير روى الحديث المذكور عن عائشة؛ لم يحتج
(2)
إلى السؤال والجواب؛ فافهم.
وقوله: (لنقضت الكعبة) : جواب لولا، ورددتها إلى قواعد إبراهيم عليه السلام، (فجعلت) : عطف على (نقضت)(لها بابين بابٌ)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أحدهما باب، وبالنصب بدله أو بيان لبابين (يدخل الناس) : جملة وقعت صفة لـ (باب)، وضمير المفعول محذوف تقديره: يدخله الناس، وفي رواية (يدخل الناس منه)، (وباب يخرجون) وفي رواية:(منه) وعليها لا يقدَّر وعلى الأولى يقدَّر، وفي رواية:(بابًا) في الموضعين؛ بالنصب على البدل أو البيان، كما تقدم.
(ففعله)؛ أي: فعل النقض والبابين (ابن الزبير)، وهذه المرة السادسة من بناء البيت؛ لأنَّه بَنَتْهُ أولًا الملائكة، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ العمالقة، ثمَّ جُرْهُم، ثمَّ قريش في الجاهلية، وحضر النبيُّ الأعظم عليه السلام هذا البناء وهو ابن خمس وثلاثين أو خمس وعشرين سنة، وفيه سقط على الأرض حين رفع إزاره، ثمَّ بناه ابن الزبير، ثمَّ بناه الحجاج بن يوسف واستمرَّ، وروي أن هارون سأل مالكًا عن هدمها وردُّها إلى بناء ابن الزبير، فقال: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت لعبة للملوك لا يشاء أحد إلا نقضه وبناءه، فتذهب هيبته من صدور الناس.
وفي الحديث دليل: على أنَّه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذَّر الجمع بينهما؛ تركت المصلحة؛ لأجل المفسدة؛ لأنَّه عليه السلام أخبر أنَّ ردَّ الكعبة إلى قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا؛ لما كانوا عليه من تعظيم البيت، فتركها عليه السلام لذلك.
وفيه: المطابقة للترجمة، كما لا يخفى.
(49)
[باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا]
هذا (باب من)؛ أي: الذي (خصَّ بالعلم قومًا دون قوم)؛ أي: غير قوم هذا هو الصواب (كراهية)؛ بتخفيف التحتية بالنصب على التعليل مضاف لقوله: (أن لا يفهموا)، و (أن) : مصدرية، والتقدير: لأجل كراهية عدم فهم القوم الذين هم غير القوم الذين خصَّهم بالعلم، وهذه الترجمة والتي سبقت متقاربتان غير أنَّ الأولى في الأفعال، وهذه في الأقوال قاله في «عمدة القاري» .
[حديث علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن
يكذب الله ورسوله]
127 -
(وقال علي) : الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه: (حدِّثوا)؛ بصيغة الأمر؛ أي: كلِّموا، (الناس بما يعرفون)؛ أي: يفهمون، والمراد: كلِّموهم على قدر عقولهم، وفي كتاب «العلم» لابن أبي إياس وفي آخره: ودعوا ما ينكرون؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه، وعند «مسلم» : قال ابن مسعود: (ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ففيه دليل: على أنَّ المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامَّة.
(أتحبون)؛ بالخطاب و (الهمزة) : للاستفهام، (أن يُكذب)؛ بضم أوله على صيغة المجهول (الله ورسوله)؛ لأنَّ الشخص إذا سمع ما لا يفهمه وما لا يتصوره؛ يعتقد استحالته؛ جهلًا، فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله ورسوله؛ يلزم تكذيبهما.
وبه قال: (حدثنا عبيد الله)؛ بالتصغير (ابن موسى) : العبسي مولاهم ابن باذام، وفي رواية:(حدثنا به)، (عن معروف بن خَرَّبُوذ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء، وضم الموحدة، آخره ذال معجمة، المكي مولى قريش، وسقط في رواية لفظ:(ابن خَرَّبوذ)، قال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، (عن أبي الطُّفيل)؛ بضم الطاء المهملة وفتح الفاء: عامر بن واثلة -بالمثلثة- بن
(1)
في الأصل: (المصاحف).
(2)
في الأصل (يحتاج).
عبد الله الكناني الليثي، ولد عام أحُد، وسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة وأقام بها إلى أن توفي بها سنة عشر ومئة أو سنة خمس وثلاثين ومئة، فقيل: صحابي، وقيل: تابعي، وهو آخر الصحابة موتًا إلا أنه كان فيه تشيع، (عن علي) : الصديق الأصغر (بذلك)؛ أي: بالأثر المذكور، وهذا الإسناد من عوالي المؤلف؛ لأنَّه يلحق بالثلاثيات، من حيث أن الراوي الثالث منه صحابي وهو أبو الطُّفيل المذكور، وعلى قول من يقول: إنه تابعي؛ ليس منها، وإنما أخر الإسناد عن ذكر المتن، إما لأنَّه لم يظفر بالإسناد إلا بعد وضع الأثر معلقًا، أو لضعف الإسناد بسبب ابن خَرَّبوذ، أو للتفنن وبيان الجواز، ولهذا وقع في بعض النسخ مقدمًا على المتن، وسقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني، كذا وضحه في «عمدة القاري» .
[حديث: ما مِن أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله]
128 -
وبه قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم) : المشهور بابن راهويه (قال: حدثنا) : وفي رواية: أخبرنا (مُعاذ)؛ بضم الميم (ابن هِشَام)؛ بكسر الهاء وفتح المعجمة المخففة: ابن أبي عبد الله الدَّستُوائي؛ بفتح الدال، وضم الفوقية، آخره همزة، المتوفى بالبصرة سنة مئتين (قال: حدثني)؛ بالإفراد (أبي) هشام المذكور، (عن قتادة) : هو ابن دعامة (قال: حدثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُعاذ)؛ بضم الميم؛ أي: ابن جبل الصحابي المشهور، وهو بالرفع مبتدأ.
وقوله: (رديفه)؛ أي: راكب خلفه، خبر المبتدأ (على الرَّحْل)؛ بفتح الراء وسكون الحاء المهملتين، وهو للبعير أصغر من القتب، وهو من مراكب الرجال دون النساء، والقتب -محرك-: رحل صغير على قدر السنام، وعند المؤلف في (الجهاد) : أن معاذًا كان رديفه عليه السلام على حمار، ولعل القصة متعددة، والمراد بالرحل هنا: ما يتخذ لدفع البرد من اللباد الصوف المسمَّى بالكوبان.
(قال) عليه السلام: (يا معاذ بن جبل) : يجوز في (معاذ) : النصب على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب، والمنادى المضاف منصوب، أو الرفع على أنه منادى مفرد علم، وأما (ابن)؛ فهو منصوب بلا خلاف، وتمامه في «عمدة القاري» .
(قال)؛ أي: معاذ: (لَبيك يا رسول الله)؛ بفتح اللام، تثنية لَبَّ؛ ومعناه: الإجابة؛ أي: أجيبك إجابة بعد إجابة، فالتثنية للتأكيد، وتمامه في «عمدة القاري» َ، (وسعديك)؛ بفتح السين المهملة، تثنية سعد؛ والمعنى: إسعادًا بعد إسعاد لطاعتك، فثنى للتأكيد، وهما من المصادر التي يجب حذف فعلها ونصبها، وقال الفراء: نصبت على المصدر.
(ثلاثًا) : يتعلق بقول كل واحد من النبي الأعظم عليه السلام ومعاذ؛ أي: ثلاث مرات؛ يعني: النداء والإجابة، قيل: ثلاثًا، وصرح بذلك في رواية مسلم، وتمامه في «عمدة القاري» ، (قال) عليه السلام:(ما من أحد) : فـ (ما) للنفي، و (من) : زائدة للتأكيد، و (أحد) : اسم (ما).
وقوله: (يشهد) : خبرها (أن) مفسرة (لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله صدقًا)؛ بالنصب على الحال؛ أي: صادقًا، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: شهادة صدقًا (من قلبه) : متعلق بقوله: (صدقًا)، أو بقوله:(يشهد)، فعلى الأول الشهادة لفظية؛ أي: يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، وعلى الثاني قلبية؛ أي: يشهد بقلبه ويصدق بلسانه، واحترز به عن شهادة المنافقين.
(إلَّا حرمه الله على النار) : ومعنى التحريم: المنع؛ كما في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 95]، وهل في المعنى فرق بين (حرمه الله على النار) و (حرم الله عليه النار)؟
أجيب: بأنه لا اختلاف إلا في المفهومين، وأمَّا المعنيان؛ فمتلازمان، وهل تفاوت بين ما في الحديث وما ورد في القرآن:{حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ} [المائدة: 72]؟
أجيب: بأنه يحتمل أن يقال: النار منصرفة، والجنة منصرف عنها، والتحريم إنَّما هو على المنصرف أنسب، فَرُوْعيَ المناسبة.
فإن قيل: ظاهر الحديث يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار؛ لما فيه من التعميم والتأكيد مع أن الأدلة القطعية دلت على أن طائفة من عصاة الموحدين يعذبون في النار، ثم يخرجون منها بالشفاعة.
وأجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم مات على ذلك، أو أنَّه خرج مخرج الغالب، فإنَّ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية، أو أن المراد بتحريمه على النار: تحريم خلوده فيها لا أصل الدخول فيها، أو أنَّ المراد: تحريم جملته؛ لأنَّ النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، وتمامه في «عمدة القاري» .
(قال) معاذ: (يا رسول الله؛ أفلا) : بهمزة الاستفهام وفاء العطف المحذوف معطوفها؛ والتقدير: أقلتَ ذلك، فلا (أخبر به)؛ أي: بما قلتَ (الناسَ)؛ بالنصب، مفعول (أخبر)(فيستبشروا)؛ بالنصب، بحذف النون؛ لأنَّ الفعل ينصب بعد الفاء المجاب بها بعد النفي، والاستفهام، والعرض؛ والتقدير: فإن يستبشروا، وفي رواية:(فيستبشرون)؛ بإثبات النون؛ والتقدير: فهم يستبشرون.
(قال) عليه السلام: (إذا) : جواب وجزاء؛ أي: إن أخبرتهم (يتَّكلوا)؛ بمثناة فوقية مشددة؛ أي: يعتمدوا، كأنه قال: لا تخبرهم؛ لأنَّهم يتَّكلوا على الشهادة المجردة، فلا يشتغلون بالأعمال الصالحة، وفي رواية:(ينْكُلوا)؛ بنون ساكنة وضم الكاف، من النكول وهو الامتناع؛ أي: يمتنعوا عن العمل؛ اعتمادًا على الكلمة.
وروى البزار في هذه القصة: أنه عليه السلام أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر بن الخطاب فقال: لا تعجل، ثم دخل، فقال: يا نبي الله؛ أنت أفضل الناس رأيًا، إنَّ الناس إذا سمعوا ذلك؛ اتَّكلوا عليها، قال:«فرُدَّه» ، فرَدَّه، وهذا من موافقات عمر رضي الله عنه، واستنبط منه في «عمدة القاري» : جواز الاجتهاد بحضرته عليه السلام؛ فليحفظ.
(وأخبر) : وفي رواية: (فأخبر) بالفاء، وفي أخرى:(أخبر) بدون واو، (بها)؛ أي: بهذه المقالة، وهذا مدرج من أنس رضي الله عنه، (معاذ عند موته)؛ أي: موت معاذ رضي الله عنه أو عند موت النبي عليه السلام، فالضمير يحتمل رجوعه لكلٍّ منهما، بأنْ أخبر به جماعة عند موت النبي الأعظم عليه السلام، ولآخرين عند موت نفسه، ولا منافاة بينهما خلافًا لمن زعمها.
(تَأَثُّمًا)؛ بفتح الفوقية والهمزة، وتشديد المثلثة، نصب على أنَّه مفعول له؛ أي: مخافة التأثم إن كتم ما أمر الله به من التبليغ؛ حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
…
}؛ الآية [البقرة: 159].
فإذا تأثم من الكتمان؛ فكيف لا يتأثم من مخالفة النبي الأعظم عليه السلام في التبشير.
قلنا: النهي كان مقيدًا بالاتَّكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وصنيع معاذ أن النهي كان للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلًا، أو أن المنع لم يكن إلا من العوام؛ لأنَّه من الأسرار الإلهية لا يجوز كشفها إلا للخواص؛ خوفًا من أن يسمع ذلك من لا علم له، فيتَّكل عليه، فسلك معاذ هذا المسلك، فأخبر به الخواص دون العوام، وتمامه في «عمدة القاري» .
وفي الحديث: بشارة عظيمة للموحدين؛ وجواز ركوب الاثنين على الدابة، والإجابة بـ (لبيك وسعديك)، والتخصيص لقوم بالعلم؛ حيث فيهم الضبط والفهم، ومنع قوم بعدمه؛ حيث عدم فيهم الفهم ووجد فيهم التقصير والاتِّكال، وهو محل المطابقة للترجمة.
[حديث: من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة]
129 -
وبه قال: (حدثنا مسدد)؛ بضم الميم: ابن مسرهد، (قال: حدثنا مُعْتمر)؛ بضم الميم وسكون العين: ابن سليمان بن طرخان البصري، نزيل بني تميم، وهو مولى بني مرة، المتوفى سنة سبع وثمانين ومئة، عن إحدى وثمانين سنة، (قال: سمعت أبي) سليمان بن طرخان البصري، نزيل بني مرة، ثم بني تميم؛ بسبب ادِّعائه بالقدر، ثم تاب وصار من العبَّاد، يصلي الليل كلَّه بوضوء العشاء، وكان هو وابنه مُعْتمر يدوران بالليل في المساجد، فيصليان في هذا مرة وفي ذاك أخرى، المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومئة.
(قال: سمعت أنسًا) وفي رواية: (أنس بن مالك)، (قال)؛ أي: أنس: (ذُكِر لي) على صيغة المجهول، ولم يسمِّ أنس من ذكر له ذلك، وسيأتي في (الجهاد) : أن الذي حضر ذلك من معاذ: عمرو بن ميمون الأودي، أحد المخضرمين، ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن سمرة الصحابي: أنَّه سمع ذلك من معاذ أيضًا، فيحتمل أن يكون الذاكر لأنس إما عمرو بن ميمون وإما عبد الرحمن بن سمرة، فالذاكر لأنس معلوم عنده غير أنه أبهمه عند روايته، وليس ذلك قادحًا في رواية الصحابي، وليس بتعليق أصلًا كما زعم، كما أوضحه في «عمدة القاري» .
(أن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ) زاد في رواية: (ابن جبل) : (مَن) استفهامية مبتدأ (لقي الله) : مقول القول، والمعنى: من لقي الأجل الذي قدَّره الله؛ يعني: الموت، (لا يشرك به شيئًا) : جملة وقعت حالًا، والمعنى: مات حال كونه موحدًا حين الموت، وقوله:(دخل الجنة) : خبر المبتدأ، وإن لم يعمل صالحًا، إمَّا قبل دخوله النار وإمَّا بعده بمشيئة الله تعالى، إن شاء؛ عفا عنه بفضله، وإن شاء؛ عذَّبه بعدله، ثم أدخله الجنة.
فإن قلت: التوحيد بدون