الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالسين؛ وهو ابن عساكر الدمشقي؛ فليحفظ.
(أن أَرجعه)؛ بفتح الهمزة من (رجع)، و (أنْ) مصدرية، والأصل: بأن أرجعه؛ أي: برجوعه إلى بلده، وفي رواية: بضم الهمزة (بما نال)؛ أي: بالذي أصابه من النيل وهو العطاء، (من أجر) فقط إن لم يغنموا، (أو) أجر مع (غنيمة) إن غنموا، أو أنَّ (أو) بمعنى الواو، وعبَّر بالماضي موضع المضارع؛ لتحقق وعده تعالى، (أو) أنْ (أدخله الجنة) مع المقربين بلا حساب ولا عقاب؛ لأنَّ الشهادة تكفرها، أو عند موته لقوله:{أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
(ولولا أن أشق) أي: لولا المشقة (على أمتي ما قعدت خلفَ) بالنصب على الظرفية؛ أي: ما قعدت بعد (سرية)؛ بل كنت أخرج معها بنفسي؛ لعظم أجرها، وسبب المشقة: صعوبة تخلفهم بعده، ولا قدرة لهم على المسير معه، وشفقة عليهم، و (لولا) امتناعية، و (أنْ) مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (ما) وقعت جواب (لولا)، وأصله (لما) فحُذِفت اللام، (ولوددت)؛ أي: والله لوددت؛ أي: أحببت (أني أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل)؛ بضم الهمزة في الكل، وفي رواية: بالفاء.
وإنما ختم بقوله: (ثم أُقتل) والقرار إنَّما هو على حالة الحياة؛ لأنَّ المراد الشهادة، فختم الحال عليها أو الإحياء للجزاء من المعلوم، و (ثم) للتراخي في الرتبة أو الزمان، وتمنِّيه عليه السلام المراد به: حصول ثواب الشهادة، لا تمني المعصية للقاتل، وفيه استحباب طلب القتل في سبيل الله، وفضل الجهاد، ويعارضه قوله عليه السلام:«لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية» ، إلا أن يُحمل الأول على طلب الثواب، والثاني على هجوم العدو مع عدم قدرة الدفع؛ فتأمل.
(27)
[بابٌ تطوع قيام رمضان من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (تطوُّعُ)(تفعُّل)، ومعناه: التكليف بالطاعة، والمراد به هنا: التنفل؛ وهو رفعٌ بالابتداء، وقوله:(قيامِ رمضان) مضاف إليه، و (رمضان) ممنوع من الصرف؛ للعلمية والألف والنون، وفي رواية: بدون التنوين في (باب) مضافًا لما بعده، وفي رواية: زيادة لفظ (شهر)، وفي رواية: سقوط لفظ (باب)(من الإيمان)؛ أي: من ثمراته.
[حديث: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
37 -
وبه قال: ([حدثنا] إسماعيل) بن أبي أويس المدني الأصبحي (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) : هو ابن أنس وهو خاله، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف، أبو إبراهيم، القرشي المدني الزهري، وأمه أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه، المتوفى بالمدينة سنة خمس ومئة، قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ وهو الصحيح، قاله ابن حجر العسقلاني، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن قام) بالطاعة صلاة التراويح وغيرها في ليالي (رمضان) حال كون قيامه (إيمانًا)؛ أي: مؤمنًا مصدقًا بالله، (و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: محتسبًا له تعالى لا للرياء؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) إلا حقوق العباد، فالمغفورة؛ الذنوب الصغائر، وأما الكبائر؛ فلا تسقط إلا بالتوبة أو الحد، وما ورد من الغفران في قيام رمضان، وفي صومه، وليلة القدر، وكفارة صوم يوم عاشوراء سنة، ويوم عرفة سنتين، وما بين الرمضانين للذنوب بواحد، فما الذي يكفره الآخر؟ فإن كل واحد يكفر الصغائر، فإن لم توجد؛ فإنَّه يرفع له درجات، ويكتب له حسنات، ويخفف عنه في الموقف، ويسهل عليه الصعود على الصراط، وفضل واسع.
(28)
[باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي كعادته:(صوم رمضان) حال كونه (احتسابًا) أي: محتسبًا (من الإيمان)؛ أي: من ثمراته، ولم يقل:(وإيمانًا)؛ اختصارًا أو لاستلزام الاحتساب الإيمان.
[حديث: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا]
38 -
وبه قال: (حدثنا ابن سلَام)؛ بتخفيف اللام، وفي رواية:(البيكندي)، وفي أخرى:(محمد بن سلام)(قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا)(محمد بن فُضَيل)؛ بضم الفاء وفتح المعجمة: ابن غزوان الضبي مولاهم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وخمسين ومئة (قال: حدثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري قاضي المدينة، (عن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن صام رمضان) كله عند قدرته عليه، أو بعضه عند مرضه ونيِّته إكماله حال كون صيامه (إيمانًا و) حال كونه (احتسابًا)؛ أي: مؤمنًا محتسبًا مصدقًا به مخلصًا به؛ (غُفِر له ما تقدم من ذنبه) الصغائر، والكبائر بالتوبة والحدِّ، ونصب (رمضان) على الظرفية، وأتى بـ (احتسابًا) بعد (إيمانًا)؛ للتوكيد.
(29)
[بابٌ الدين يسر]
هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط عند الأصيلي:(الدينُ) مبتدأ؛ أي: الإسلام، فـ (أل) للعهد، وقوله:(يسرٌ) خبر؛ أي: عينه ذو يسُْرة؛ بضم السين وسكونها؛ ضد العسر، ومعناه التخفيف، (وقولِ) بالجر معطوف على ما أضيف إليه الباب، وفي رواية: بالرفع (النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم: أحبُّ الدينِ) مبتدأ؛ بمعنى المحبوب؛ أي: أحب خصال دين الإسلام (إلى الله) تعالى الملةُ (الحنيفيةُ) خبر؛ أي: المائلة عن الباطل إلى الحق، والمراد بالحنيفية: الإبراهيمية (السمحةُ)؛ أي: السهلة المخالفة لأديان الأمم السالفة، بالرفع صفة (الحنيفية).
وهذا التعليق وصله المؤلف في «الأدب» ، وأحمد، والطبراني، وإنما ذكره ترجمة؛ لأنَّه ليس على شرطه.
[حديث: إنَّ الدين يسر]
39 -
وبه قال: (حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر)؛ بضم الميم وفتح الطاء المهملة، والهاء المشددة: ابن حسام الأزدي البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا عمر بن علي) بن عطاء المقدمي البصري المتوفى سنة تسعين ومئة، (عن مَعْن بن محمد)؛ بفتح الميم وسكون العين المهملة: ابن معن (الغِفاري)؛ بكسر الغين المعجمة؛ نسبة إلى غِفار الحجاز، فإن قيل: ما حكم حديث رواية عمر بن علي المدلِّس بالعنعنة عن معن؟ أجيب: بأنها محمولة على ثبوت سماعه من جهة أخرى كجميع ما في «الصحيحين» عن المدلسين؛ كما أوضحه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، (عن سعيد بن أبي سعيد) واسمه كيسان (المَقْبُري)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، وضم الموحدة؛ نسبة إلى مقبرة بالمدينة، المدني، أبي سعْد؛ بسكون العين، المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنينسنة خمس وعشرين ومئة، وكان سماع معن عن سعيد قبل اختلاطه، (عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه (قال: إن الدين يسر).
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: أي: ذو يسر، وذلك لأنَّ الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلَّا بالتأويل، أو الدين يسر؛ أي: عينه، على المبالغة، فكأنَّه لشدة اليسر وكثرته نفس اليسر؛ كما يقال الإمام الأعظم فقه
(1)
؛ لأنَّه صار عين الفقه، ومنه رجل عَدْل، و (اليسر)؛ بالضم والفتح؛ نقيض العسر، ومعناه: التخفيف، إما بالنسبة إلى ذاته، أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ وهو الظاهر؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة الأضر الذي كان على من قبلهم، كعدم جواز الصلاة إلَّا في المسجد، وعدم الطهارة بالتراب، وقطع الثوب الذي يصيبه النجاسة، وقبول التوبة بقتل أنفسهم، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، انتهى؛ فليحفظ.
والتأكيد بـ (إنَّ)؛ ردًّا على منكرِ يُسرِ هذا الدين على تقدير كون المخاطب منكِرًا، وإلَّا؛ فعلى تقديره تنزيله منزلة المنكِر، وإلَّا؛ فعلى تقدير: المنكرين غير المخاطب، وإلَّا؛ فلكون القضية ممَّا يهتم بها، انتهى.
(ولن يشادَّ هذا الدينَ أحد) وفي رواية: بإسقاط لفظ (هذا)؛ بالشين المعجمة وإدغام سابق المثلين في لاحقه؛ من المشاددة؛ وهي المغالبة؛ أي: لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق (إلا غلبه) الدينُ، وعجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، و (يشاد) منصوب بـ (لن)، و (الدين) نُصب بإضمار الفاعل؛ أي: لن يشادَّ الدينَ أحدٌ، وفي رواية: برفع (الدين) على أنَّ (يُشادَّ) مبني لما لم يسم فاعله، واعترض بأن أكثر الروايات بالنصب، وجمع بينهما بالنسبة إلى روايات المشارقة والمغاربة.
(فسددوا) بالمهملة من السَّداد؛ وهو التوسط بالعمل؛ أي: الزموا السداد من غير إفراط ولا تفريط، (وقاربوا) بالموحدة؛ أي: في العبادة، إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل؛ فاعملوا بما يقرب منه، (وأبشروا)؛ بقطع الهمزة من الإبشار، وفي لغة: بضم الشين من البشرى؛ بمعنى الإبشار؛ أي: أبشروا بالثواب على العمل، وأبهم المبشَّر به؛ للتنبيه على تعظيمه، وسقط (وأبشروا) في رواية، (واستعينوا)؛ أي: اطلبوا الإعانة (بالغدوة) : سير أول النهار إلى الزوال أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، كالغداة والغدية (والروحة) : اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وضبطهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ بفتح الراء في (الرَّوحة) وضم الغين المعجمة في (الغُدوة)، قال: وهو الصحيح، وتبعه على ذلك ابن الأثير في «النهاية» ، وضبطهما الشيخ ركن الدين الكرماني وتبعه ابن حجر؛ بفتح أولهما، قلت: والمشهور الأول، كما لا يخفى؛ فافهم، (وشيءٍ)؛ أي: واستعينوا بشيء (من الدُّلْجة)؛ بضم الدال المهملة وإسكان اللام: سير آخر الليل أو الليل كله، ومن ثَم عبر بـ (مِن) التبعيضية، وقد أوضحه في «عمدة القاري» ؛ ولأن عمل الليل أشرف من عمل النهار، وفي هذا استعارة الغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة؛ فافهم.
(30)
[باب الصلاة من الإيمان]
هذا (باب) بالتنوين وترْكِه بإضافته إلى الجملة بعده؛ لأنَّ قوله: (الصلاة) مرفوع بالابتداء، وخبره قوله:(من الإيمان)؛ أي: الصلاة شعبة من شعب الإيمان، ولفظ (باب) ساقط عند الأصيلي كعادته، (وقول الله تعالى) وفي رواية: عز وجل، ويجوز فيه الجر عطفًا على المضاف إليه، والرفع عطفًا على لفظ (الصلاة) :({وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]) بالخطاب؛ لأنَّ المقام يقتضي الغَيبة؛ لكنه قصد تعميم الحكم للأمة الأحياء والأموات،
(1)
في الأصل: (فقيه)، ولعل المثبت هو الصواب.
فذكر الأحياء المخاطبين؛ تغليبًا لهم على غيرهم (يعني: صلاتكم) بمكة (عند البيت) المراد به: الكعبة؛ لأنَّها المرادة عند الإطلاق.
وقال ابن عباس: كان يصلي عليه السلام إلى بيت المقدس؛ لكنه لا يستدبر الكعبة؛ بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون: أنه كان إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة؛ استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنَّه يجمع بين القولين.
[حديث: أن النبي كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده]
40 -
وبه قال: (حدثنا عمرو بن خالد)؛ بفتح العين: ابن فروخ الحنظلي الحراني، المتوفى سنة تسع وعشرين ومئتين (قال: حدثنا زُهَير)؛ بضم أوله وفتح ثانيه مصغرًا: ابن معاوية بن حُديج بضم الحاء المهملة، وفتح الدال المهملة، آخره جيم، الجُعفي الكوفي، المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومئة (قال: حدثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي التابعي، المتوفى سنة ست وعشرين ومئة، (عن البرَاء)؛ بتخفيف الراء والمد على المشهور، وفي رواية:(عن البراء بن عازب) بن الحارث الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين:(أن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم كان أولَ ما قدِم)؛ بكسر الدال ونصب (أول) على الظرفية، لا خبر (كان)، كما وهم الزركشي؛ فإنَّ خبر (كان) قوله:(نزل) في أول قدومه (المدينة)؛ أي: مدينة النبي الأعظم عليه السلام، فـ (أل) للعهد، وتسمى طيبة؛ أي: في هجرته من مكة (نزل على أجداده أو قال)؛ أي: أبو إسحاق (أخواله من الأنصار) : (مِن) للبيان، وهذا شكٌّ من أبي إسحاق.
والمراد بالأجداد: هم من جهة الأمومية، وإطلاق الجد والخال هنا مجاز؛ لأنَّ هاشمًا جدَّ أب النبي الأعظم عليه السلام زوِّج من الأنصار، ونزوله عليه السلام كان في بيت جدِّي الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر، وبعث وهو عنده، وهذه فضيلة عظيمة؛ حيث اختار النبي النزول في بيت جدي رضي الله عنه.
(وأنه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (صلَّى قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة، والجملة رفع خبر (أنَّ)(بيت المقدس) مصدر ميمي كـ (المرجع)، منصوب على الحال؛ أي: حال كونه متوجهًا إليه (ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا) على الشك في رواية زهير هنا، وجزم مسلم بالأولى، فيتعيَّن اعتمادها؛ وهي الصحيحة، قبل بدر بشهرين، وجزم القاضي ومالك بن أنس بصحة الثانية، والجمع بينهما: أنَّ من جزم بالأولى؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، والمعنى: الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بالثانية؛ عدَّهما معًا، ومن شكَّ؛ تردد في ذلك وكان القدوم في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، وسقط في روايةٍ قوله:(شهرًا) الأول.
(وكان) النبي الأعظم عليه السلام (يعجبه) خبر (كان)(أن تكون قبلتُه قِبَل)؛ بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: كون قبلته جهةَ (البيت) الحرام؛ أي: كان يحب ذلك فـ (أن تكون) في محل رفع فاعل (يعجبه)، و (أنْ) مصدرية، والتقدير كما علمته، (وأنَّه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، عطفًا على (أنه) السابقة (صلى أول صلاة صلاها)؛ متوجِّهًا إلى الكعبة، وجملة (صلى) من الفعل والفاعل محلُّها رفع خبر (أنَّ)، وبنصب (أولَ) مفعول (صلى)(صلاة العصر) بدل منه، وأعربه ابن مالك: بالرفع، وسقط لفظ (صلى) في رواية.
وجاء في «الترمذي» ، و «النسائي» ، و «الشيخين» في (الصلاة) : عن ابن عمر قال: (بينا الناس في صلاة الصبح)، وفي «مسلم» عن أنس:(أنها الصبح)، والجمع بين الروايتين: أنَّ التي صلاها مع النبي العصر، مر على قوم من الأنصار في تلك الصلاة؛ وهي العصر، فهذا رواية البراء، وأما رواية ابن عمر وأنس: أنَّها الصبح؛ فهي صلاة أهل قباء ثاني يوم، ومال بعض المتأخِّرين إلى ترجيح رواية الصبح؛ لأنَّها جاءت عن صحابيَّين، لكن الصواب أنَّها العصر؛ كما أوضحه في «عمدة القاري» .
(وصلى معه)؛ أي: مع النبي الأعظم عليه السلام (قومٌ) مرفوع فاعل؛ وهو موضوع للرجال دون النساء، ولا واحد له من لفظه، وقد تدخلن النساءُ فيه على سبيل التبَع، (فخرج رجل ممن صلى معه)؛ وهو عبَّاد بن بشر بن قيظي، أو عباد بن نَهِيك-بفتح النون وكسر الهاء- ابن أساف الخطمي، أو عباد بن وهب؛ وهي أقوالٌ ثلاثةٌ، أصحها أوسطها، (فمر على أهل مسجد) من بني سلمة، ويعرف الآن بمسجد القبلتين في صلاة العصر (وهم راكعون) يَحتمل أن يراد حقيقة الركوع، وأن يراد به الصلاة؛ من إطلاق الجزء وإرادة الكل، قلت: والظاهر الأول، (فقال) لهم:(أشهد) أي: أحلف (بالله؛ لقد صليت مع رسول الله) وفي رواية: (مع النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليها، واللام: للتأكيد، و (قد) للتحقيق، وجملة (أشهد) اعتراض بين القول ومقوله، (فداروا)؛ أي: سمعوا كلامه فداروا، فالفاء فصيحة (كما هم) عليه (قِبَل البيت) الحرام، ولم يقطعوا الصلاة؛ بل أتموها إلى جهة الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين.
وهذه الكاف تحتمل وجهين؛ الأول: أن تكون للاستعلاء؛ كما في نحو: كن كما أنت، والتقدير هنا: فداروا على ما هم عليه، وفي إعرابه أوجه؛ الأول: أن تكون (ما) موصولة، و (هم) مبتدأ، وخبره محذوف؛ وهو (عليه)، الثاني: أن تكون (ما) زائدة ملغاة، والكاف زائدة، و (هم) ضمير مرفوع أنيب عن المجرور؛ كما [في] قولك: ما أنا كأنت، والمعنى: فداروا في الحال مماثلين لأنفسهم في الماضي، الثالث: أن تكون (ما) كافة، و (هم) مبتدأ، وحذف خبره؛ وهو (عليه) أو (كائنون)، الرابع: أن تكون (ما) كافة أيضًا، و (هم) فاعل، والأصل: كما كانوا، ثم حذفت (كان)؛ فانفصل الضمير، الوجه الثاني: أن تكون الكاف كاف المبادرة، والمعنى: فداروا مبادرين في حالهم التي هم عليها، والوجه الأول هو الأحسن، أفاده في «عمدة القاري» ؛ وهو في غاية التحقيق،
وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب؛ أي: القرآن، وبه قال إمامنا الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور، وللشافعي فيه قولان، وكذا أحمد، وأجازه مالك.
وفيه دليل على جواز الاجتهاد بالقبلة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وجواز الاجتهاد بحضرة الرسول، وفيه خلاف.
وفيه دليل على أنَّ من صلَّى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ بعدما فرغ؛ لا يلزمه الإعادة؛ لأنَّه فعل ما عليه؛ لأنَّ أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنِّهم بقاء الأمر؛ فلم يؤمروا بالإعادة؛ وهو مذهب الإمام الأعظم.
وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين؛ بل إلى أربع جهات، كمن صلى إلى جهة باجتهاد ثم تبدل اجتهاده إلى أخرى؛ يستدير
…
وهكذا حتى لو صلى أربع ركعات كل ركعة إلى جهة؛ فإنه جائز؛ وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال الشافعي.
(وكانت اليهود قد أعجبهم) أي: النبي الأعظم عليه السلام و (هم) منصوب على المفعولية؛ (إذ كان) عليه السلام (يصلي قِبَل بيت المقدس)؛ أي: حال كونه متوجِّهًا إليه، و (إذ) ظرف بمعنى: حين)، والمعنى: أعجب اليهود حين كان يصلي عليه السلام قِبَل بيت المقدس، و (إذ) إنَّما تقع بدلًا عن المفعول؛ كما في قوله:{إذ انتبذت} [مريم: 16]، وهنا المفعول هو الضمير المنصوب؛ فلا يصح أن يكون بدلًا منه؛ لفساد المعنى، والضمير المستتر في (أَعجب)؛ ضمير الفاعل؛ فافهم، والإضافة في (بيت المقدس)؛ من إضافة الموصوف إلى صفته كـ (صلاة الأولى)، والمشهور فيه الإضافة، وقد جاء على الصفة:(البيت المقدس)، قال أبو علي: تقديره: بيت مكان الطهارة، (وأهلُ الكتاب) بالرفع عطفًا على اليهود؛ وهو من عطف العام على الخاص، وقال ركن الدين الكرماني: أو المراد بهم النصارى فقط، خاص عطف على خاص، قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأنَّ النصارى لا يصلُّون لبيت المقدس، فكيف يعجبهم؟ واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن الكرماني لما قال: المراد به: النصارى فقط؛ قال: وجعلوا تابعة؛ لأنَّهم لم يكن قبلتهم، بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود، على أن نفس الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضًا؛ لأنَّ قوله:(وأهل الكتاب) إذا كان عطفًا على (اليهود)؛ يكونون داخلين فيما وصف به اليهود، فالنصارى من جملة أهل الكتاب، فهم أيضًا داخلون فيه، والأظهر أن يكون (وأهلَ الكتاب)؛ بالنصب على أن الواو فيه بمعنى (مع)؛ أي: كان يصلي قِبَل بيت المقدس مع أهل الكتاب، وهذا وجه صحيح، ولكن يحتاج إلى تصحيح الرواية بالنصب، وفي هذا الوجه أيضًا يدخل فيه النصارى؛ لأنَّهم من أهل الكتاب، انتهى؛ وهو في غاية التحقيق؛ فليحفظ.
(فلما ولَّى) عليه السلام (وجهَه قِبَل البيت)؛ أي: أقبل عليه السلام وجهَه نحو الكعبة؛ (أنكروا ذلك)؛ أي: أنكر أهل الكتاب توجيهه إليها، فعند ذلك نزلت:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}
…
الآية [البقرة: 142]؛ كما صرح به المؤلف في رواية من طريق إسرائيل.
(قال زهير) بالتصغير؛ يعني: ابن معاوية: (حدثنا أبو إسحاق) يعني: الهمداني السبيعي، (عن البراء) بن عازب (في حديثه هذا) وفي رواية:(أبو إسحاق في حديثه عن البراء) : (أنه مات على القبلة) أي: المنسوخة (قبل أن تحوَّل) أي: قبل التحويل إلى الكعبة (رجالٌ) عشرة؛ منهم: عبد الله بن شهاب الزهري القرشي مات بمكة، والبراء بن معرور الأنصاري بالمدينة (وقُتِلوا)؛ بضم أوله وكسر ثانيه.
وفائدة ذِكر القتل: بيان كيفية موتهم؛ إشعارًا بشرفهم، واستبعادًا لضياع طاعتهم، أو أن الواو بمعنى (أو)؛ فيكون شكًّا؛ لكن القتل فيه نظر؛ فإن تحويل القبلة كان قبل نزول القتال، على أنَّ هذه اللفظة لا توجد في غير رواية زهير بن معاوية، وإنما يوجد في باقي الروايات ذكر الموت فقط، أفاده القسطلاني، قلت: احتمال الشك بعيد، ومراده أنه مات رجال وسبب موتهم كان القتل.