الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلام.
الفصل الرابع: فيما يتعلق بالبخاري.
اتفقت الأمة على أنَّه ليس بعد كتاب [الله] أصح من «صحيحي البخاري ومسلم» ، واختلف في أرجحية أحدهما على الآخر، فرجح البعض منهم المغاربة:«صحيح مسلم» على «صحيح البخاري» ، والجمهور: على ترجيح «البخاري» على «مسلم» ؛ لأنَّه أكثر فوائد منه، كما بسطه الإمام بدر الدين العيني قدس سره، قال:(وهو أول كتاب صنف في الحديث الصحيح، وصنفه في ستة عشر سنة ببخارى، وقيل: بمكة، وقيل: في المسجد الحرام، [قال] : وما أدخلتُ فيه حديثًا إلا بعد أن صليت ركعتين، وتيقنت صحته، قال: ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة، والمدينة، والبصرة، وبخارى) اهـ
الفصل الخامس:
في ذكر نسب البخاري
.
فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة- بضم الميم، وكسر المعجمة- ابن بَرْدِزْبَه- بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها دال مهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، فهاء؛ ومعناه بالفارسية: الزرَّاع- الجُعْفِيُّ؛ بضم الجيم، وسكون العين المهملة، بعدها فاء.
وكان بَرْدِزْبَه فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعفيِّ والي بخارى، فنسب إليه نسبة ولاء، ويمان هذا هو جد المؤلف، وأما إبراهيم بن المغيرة؛ فلم أر من ترجمه.
ولد البخاري يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة من شوال سنة أربع وتسعين ومئة ببُخارى- بضم الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الألف راء- وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، ألف هذا «الجامع» ، و «الأدب المفرد» ، و «بر الوالدين» ، و «التاريخ الكبير» ، و «الأوسط» ، و «الصغير» ، و «خلق أفعال العباد» ، وله تأليف آخر، وبالجملة ففضائله كثيرة مشهورة.
بيان شروح هذا الصحيح:
شرحه الإمام أبو سليمان حمد الخطابي، وشرحه أبو جعفر أحمد الداودي، وشرحه المهلب، وشرحه أبو الحسن علي بن خلف المالكي المشهور بابن بطال، قال القسطلاني:(وغالب هذا الشرح في فقه مالك من غير تعرض لموضوع الكتاب) اهـ.
قلت: هذا كلام واهٍ؛ لأنَّ ابن بطال مشهور بالعلوم، فكيف لا يتعرض لموضوع الكتاب.
وشرحه أبو حفص عمر الإشبيلي، وأبو القاسم أحمد التيمي، وعبد الواحد ابن التين السفاقسي، وابن المُنَيِّر، والإمام قطب الدين عبد الكريم الحلبي الحنفي بشرح لطيف فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة، وشرحه الإمام شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني بشرح مفيد، قال ابن حجر العسقلاني:(لكن فيه أوهام؛ لأنَّه لم يأخذه إلَّا من الصحف). اهـ
قلت: هذا كلام مردود، فالأوهام تحيط بقليل البضاعة والفهم، وأخذه من الصحف ليس مَعِيبًا؛ لأنَّه أتقن في التثبت خصوصًا في هذا الكتاب.
وشرحه البرماويُّ أخذه من شرح الكرماني، كما قال في أوله.
وشرحه الشيخ برهان الدين الحلبي، وسماه:«التلقيح» .
وشرحه ابن حجر العسقلاني، وسماه:«فتح الباري» ، أخذه من شرح الحلبي حين كان بحلب، وقد اعتنى به الشافعية، واشتهر عندهم، ومدحوه غاية المدح، ولا غرو، فإن التطويل فيه غاية موجب للسآمة، والأوهام التي فيه لا تحيط بحصر، وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا في ذلك سماه:«كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام» ، ومن جملة ما طُعن به عليه: أنَّ من عادة البخاري تكرار الأحاديث في مواضع متعددة، وعادة العسقلاني يشرح الحديث في موضع، ثم يتركه في آخر، ويحيل على الأول، وهذا غاية السآمة، ويعتمد في الإعراب على الأقوال الشاذة الضعيفة، ويعتمد على أقوال الشافعي في القول القديم، ويرجح قولًا في باب، ويعتمد غيره في باب آخر، مع ما فيه من التطويل الممل وكثرة الأقوال المخل، وفي ذلك ألف بعض الأفاضل كتابًا سماه:«منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل» .
وشرحه الإمام الكبير علامة الدنيا والفاضل الهمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي في خمس مجلدات كبار، وسماه:«عمدة القاري» ، فإنه شرح نفيس ما سمع بمثاله ونظيره بما اشتمل عليه من الترتيب العجيب، والفوائد البديعة الغريبة، والأبحاث الرائقة العجيبة، شرع في تأليفه في رجب سنة إحدى وعشرين وثمان مئة، وفرغ منه في أواخر الثلث من ليلة السبت خامس شهر جماد الأولى سنة سبع وأربعين وثمان مئة بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر، وما قيل من أنه استمده من «فتح الباري» كان يستعيره ابن خضر؛ فباطل لا أصل له، بل هو كلام الحساد المتعصبين.
ونقل القسطلاني عن بعضهم: أنه ذكر لابن حجر ترجيح شرح البدر العيني بما اشتمل عليه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب، واللغات، والإعراب، والمعاني، والبيان، واستنباط الأحكام، والأسئلة، والأجوبة، فقال: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين. اهـ
قلت: هذا كلام لم يقله كابل فضلًا عن فاضل، وإذا كان يعلم أنه موجود شرح لركن الدين، فلما نقل عنه وحذا حذه لما رأى من البلاغة والتحقيق، فهو كلام باطل لا أصل له.
وما قيل: إن الإمام العيني بعد الجزء الأول لم يتكلم كما تكلم في أول كتابه؛ لأنَّه كان عنده قطعة من شرح ركن الدين؛ فهو كلام باطل؛ لأنَّ عادة البخاري تكرار الأحاديث، فإذا تكلم على حديث بما يتعلق به على عادته، وذكر في محل آخر، فإنه يقتصر الكلام عليه، ويبين المعاني، والمنطوق، والإعراب، وغيره بأخصر مما سبق، وهو لا عيب فيه.
وبالجملة: فإنَّ الشافعية طبعهم ودأبهم القدح في الأئمة الحنفية؛ إما في كتبهم، أو في كلامهم، أو غير ذلك، وذلك من عدم الحياء والأدب
(1)
، ولم أر أحدًا أطول لسانًا منهم أصلحهم الله تعالى، وأرضى عنهم أئمتنا الأعلام.
ومن حسن شرح البدر العيني أنه يبين في شرحه الخطأ الذي وقع فيه العسقلاني في «الفتح» ، ويرده، وألف محمد بن المنصور المعزاوي أجوبة عن الاعتراضات على ابن حجر، قال القسطلاني:(لكنه لم يجب عن أكثرها).
قلت: لما أنها في محل التحقيق والتدقيق.
وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا سماه: «السم القاتل العريني للطاعن على الإمام العيني» ، وألف بعض آخر كتابًا سماه:«الطوب الرديني في قلب الطاعن على العيني» ، وسبب ذلك أنه كان ابن حجر يدرس في الجامع المؤيدي، ففي شهر ربيع الأول سنة أحد وعشرين وثمان مئة ظهر بالمأذنة اعوجاج، فأمروا عليها بالهدم، فهدمت، فأنشأ يقول:
لجامع مولانا المؤيد رونق
…
منارة تزهو من الحسن والزين
تقول وقد مالت عليهم تمهلوا
…
فليس على جسمي أضر من العين
فتحدث الناس في ذلك، فبلغ الشيخ الإمام بدر الدين العيني، فعارضه ارتجالًا حيث قصد بالعين التورية إليه، وشبهه بالعين الصائبة، فقال:
منارة كعروس الحسن إذ جليت
…
وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا: أصيبت بعين قلت: ذا غلط
…
ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر
وبعد ذلك حصل بينهما الاعتراضات والجوابات، وكان السبب من ابن حجر؛ لأنَّه ابتدأ في ذلك، وتكفيه أنه غيبة من الكبائر المنهي عنها، وكان الإمام العيني حسن الخلق، ذي مهابة وجلالة، وقدر وعز، وله تأليف في كل فن؛ الأصول، والفقه، والحديث، والنحو، والشعر، وغيرها رضي الله عنه.
وعلى كلٍّ: فهو شرح عظيم الشأن، كثير الفوائد والمعان، لم يسبق ولا يسبق بنظيره؛ لما حواه من الترتيب العجيب، وليس الخبر كالعيان.
وشرحه الشيخ أحمد القسطلاني، أخذه من شرح البدر العيني، كما يعلم ذلك من تتبع عبارتهما، وفي الحقيقة: كلهم عيال لشرح البدر العيني نفعنا الله به.
وشرحه الإمام العلامة الشهاب أحمد المنيني العثماني، لكنه لم يكمل، وشرحه العلامة الشيخ إسماعيل العجلوني، لكنه لم يكمل أيضًا، فرأيتهما وطالعتهما، فرأيت شرح العجلوني لا فائدة فيه؛ لما اشتمل عليه من الأبحاث التي في غير محلها مع التطويل الممل، والتعطيل المخل، وقد أخذه من شرح القسطلاني، وأما شرح المنيني، فلو كمل؛ لكان مفردًا؛ لما فيه من التحقيق، والتدقيق، والأبحاث المفيدة الرائقة.
وله شروح أخر أضربت عليها؛ خوف الإطالة، وفي هذا القدر كفاية.
أمَّا إسنادي في هذا الكتاب إلى مؤلفه؛ فأرويه من طرق عديدة:
فإني قرأته على الإمام العلامة والمحقق المدقق الفهامة رئيس العلماء الأعلام الملقب بالإمام الأعظم الصغير شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء والمحدثين الشيخ عبد الله أفندي بن المرحوم علامة الأقطار والأمصار الشيخ سعيد الحلبي الأصل، الدمشقي الموطن، الحنفي.
وقرأته على الإمام العلامة المحقق مفتي الشافعية السيد نور الدين عمر أفندي الغزي العامري.
وقرأته على الإمام العلامة حاوي المعقول والمنقول الشيخ حسن الشطي الحنبلي.
وقرأته على الإمام العلامة فقيه الزمان، ومحقق مذهب النعمان، الفاضل الكامل، ذي
(2)
التحارير الفائقة، والفوائد الرائقة، السيد أحمد أفندي بن المرحوم العلامة السيد عمر أفندي الإسلابولي الأصل، الدِّمشقي الموطن، الحنفي، شارح «الدرر والغرر» .
وقرأته على الإمام العلامة المدقق الفهامة الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الإمام العلامة الكبير محرر مذهب محمد بن إدريس الشيخ حامد العطار.
(1)
رحم الله المؤلف وعفا عنه، فقد وقع فيما رمى به الأئمة الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين.
(2)
في الأصل: (ذوي).
أما الأول؛ فيرويه عن والده المذكور، عن الإمام الشيخ محمد الكزبري، عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشهاب أحمد المنيني، والشيخ علي الكزبري، وهؤلاء الثلاثة يروون عن الإمام العارف الشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ محمد الكاملي، عن نجم الدين محمد الغزي، عن والده الشيخ بدر الدين محمد الغزي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الثاني؛ فيرويه عن الإمام الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا المتقدم.
وأما الثالث؛ فيرويه عن الإمام الشيخ مصطفى الأسيوطي المفتي الحنبلي، عن الشيخ أحمد البعلي الحنبلي، عن الشيخ أبي المواهب الحنبلي، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي، عن الشيخ محمد حجازي الواعظ، عن محمد بن أركماس، عن ابن حجر العسقلاني.
وأما الرابع؛ فيرويه عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، عن والده الشيخ محمد، عن والده الشيخ عبد الرحمن بالسند المتقدم.
وأما الخامس
(1)
؛ فيرويه عن جده الشيخ حامد العطار، عن والده الشيخ أحمد العطار، عن الشيخ إسماعيل العجلوني والشهاب أحمد المنيني والشيخ محمد الغزي؛ وهم يروون عن الشيخ محمد أبي المواهب الحنبلي، عن النجم الغزي، عن البدر الغزي، عن القاضي زكريا، عن ابن حجر العسقلاني.
وسند ابن حجر معلوم من «شرحه» ؛ قال: (أرويه عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد الصالحي، عن سراج الدين الزبيدي، عن أبي الوقت، عن الشيخ عبد الرحمن الداودي، عن عبد الله بن حمويه، عن الفربري، عن البخاري).
ولي طريق آخر لشيخي الرابع؛ أرويه عن شيخي أحمد أفندي، عن شيخه السيد محمد عابدين محشي «الدر المختار» ، عن شيخه الشيخ شاكر مقدم سعد، عن الشيخ محمد الكزبري بالسند إلى القاضي زكريا، عن كمال الدين بن الهمام السيواسي، عن الإمام بدر الدين العيني، وسنده مذكور في خطبته، ولولا الإطالة؛ لفصَّلنا الإسنادات، وفي هذا القدر كفاية.
({بسم الله الرحمن الرحيم})
ولما كان من الواجب صناعةً على كلِّ مصنِّف ثلاثة أشياء: البسملة، والحمدلة، والصلاة، ومن الجائز أربعة أشياء: مدح الفن، وذكر الباعث، وتسمية الكتاب، وبيان كيفيَّته من التبويب وغيرها؛ فبدأ المصنَّفُ بالبسملة لذلك، ولأنَّها مفتتحة في كتاب الله تعالى، ولقوله عليه السلام:«كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم فهو أقطع» ، وفي رواية:«بذكر الله» ، وفي رواية:«أجذم» ، وفي رواية:«أبتر» ، والمراد بـ «الأمر» : أمر مقصود لم يجعل له الشارع مبدأً مخصوصًا، فإن جُعِلَ؛ فهي بحسب ما جعلها الشارع، والمراد بـ «الأقطع» : مقطوع اليد، والأجذم: مقطوع الأنف، والأبتر: مقطوع الذنب، فالكتاب ليس له يد ولا أنف ولا ذنب، فإذا لم يبدأ بالبسملة؛ يكون ناقص البركة؛ وهي عدم الانتفاع به، وورد:«كلُّ أمرٍ ذي بال لا يبدأُ فيه بالحمد لله؛ فهو أجذم» ، وفي رواية:«أقطع» ، وفي رواية:«بحمد الله» ، روى ذلك أبو داود، وابن حبان، وأبو عَوانة، والنسائي، وابن ماجه.
فـ (الحمدلة) : مأمور بها كلُّ مصنِّف صناعةً وشرعًا؛ لهذه الأحاديث، فإذا لم يأت بها؛ يكون كتابه ناقص البركة، وكذا الصلاة عليه عليه السلام، أجيب في ذلك أجوبة، وكلَّها واهية لا يُعتَدُّ بها، والأحسن ما أجاب به الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه:(أنَّ المؤلف أتى بالحمدلة بعد البسملة في «مسودته»، كما ذكره في بقية مصنفاته، وسقطت من بعض المبيِّضين، واستمر على ذلك) انتهى؛ فليحفظ.
وما قيل: إن المؤلِّف تلفَّظ بذلك، وإنَّه ليس في الحديث ما يدل على أنَّه لا يكون إلَّا بالكتابة ممنوع؛ لأنَّ المقصود من البسملة والحمدلة التبرُّك باسمه تعالى، ولا يحصل ذلك إلَّا بالكتابة؛ فافهم.
ولا معارضة بين حديث البسملة والحمدلة؛ لحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي، وحمل حديث الحمدلة على الابتداء العوني؛ وهو ما قُدِّم أمام المقصود كما بيَّنت ذلك في شرحي على «الأزهرية» .
ثمَّ إنَّ الباء حرف جرٍّ أصليّ، ولا بدَّ له من متعلَّق ومعنى، فمعناها: المصاحبة أو الاستعانة، ومتعلَّقها: إمَّا اسم أو فعل، وكلِّ منهما إمَّا خاص أو عام، وكلٌّ منهما إما مقدَّم أو مؤخَّر، فهذه احتمالات ثمانية، فاختير منها الفعل؛ لأنَّ الأصل في العمل له، وأن يكون مؤخَّرًا؛ لإفادة الحصر، وأن يكون خاصًّا؛ لأنَّ كلَّ شارعٍ في فنِّ يضمر ما جعل التسمية مبدأً له؛ وأمَّا ظهور المتعلَّق في قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]؛ فلأنَّ الأهم ثَمَّة القراءة، بخلاف البسملة؛ فإنَّ الأهم فيها الابتداء.
ولفظ الجلالة: عَلَم على واجب الوجود المستحِقِّ لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم عند المحققين؛ منهم إمامنا الأعظم وأصحابه، وسيدي عبد القادر الكيلاني، وليس بمشتق، وعربيٌّ على الصحيح عندهم.
و (الرحمن) و (الرحيم) : اسمان مشتقان من الرحمة؛ وهي رقة القلب؛ وهي مستحيلة عليه تعالى، والمراد لازمها؛ وهو الإنعام، وقدَّم الرَّحمن؛ لأنَّه أبلغ من حيث إنَّه عام في الدنيا والآخرة، وأمَّا الرَّحيم؛ فمختص بالآخرة، وهل الاسم عين المسمَّى أو غيره فيه خلاف، وأما أسماؤه تعالى؛ فتوقيفية على الصحيح، وتمامه في شرحنا على «القدوري» .
(1) (بَابُ
كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
:
كذا لأبي الوقت وابن عساكر والباقي، ولأبي ذرٍّ والأصيلي إسقاط لفظ (باب)، وهو بالرفع خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، ويجوز فيه التنوين وعدمه، ويجوز في (باب) النصب بفعل محذوف؛ أي: اقرأ، والجر بحرف مقدر؛ أي: انظر إلى باب، ويجوز فيه الوقف بالسكون، ومعنى (الباب) : النوع، وأصله:(بوَب)، وجمعه: أبواب.
و (البدء)؛ بالهمز مع سكون الدال: من الابتداء؛ بمعنى: الظهور.
و (الوحي) : الإعلام، وفي الشرع: إعلام الله الأنبياء الشيء إمَّا بكتاب، أو برسالة ملك، أو منام، أو إلهام، ويجيء بمعنى الأمر؛ نحو:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ} الآية [المائدة: 11]، وبمعنى التسخير؛ نحو:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، ويعبر عن ذلك بالإلهام والإشارة؛ نحو:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11]، وقد يطلق على الموحى؛ كالقرآن والسنة، من إطلاق المصدر على المفعول.
والتصلية جملة خبرية، ولما كانت دعاء؛ صارت إنشاء، ومعناها: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد، اهـ
(وَقَوْل اللهِ عز وجل : كذا لأبوي ذر [والوقت] والأصيلي، ولابن عساكر: وقول الله سبحانه، ولغيرهم: وقول الله جلَّ ذكره، و (قول) : مجرور، عطف على محل الجملة التي أضيف إليها الباب؛ أي: باب كيف كان ابتداء الوحي ومعنى قوله تعالى، ويجوز رفعه مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: وقوله كذا.
({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}) وحي إرسال فقط ({كَمَا أَوْحَيْنَا})؛ أي: كوحينا، فالكاف للتشبيه، ({إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}) [النساء: 163]، زاد أبو ذر: الآية، وإنَّما خَصَّ نوحًا؛ لأنَّه أول مشرِّع، ورُدَّ بأنَّ أوَّلَ مشرِّعٍ آدمُ، ثم شيث، ثم إدريس، وقيل: إنَّما خصَّه؛ لأنَّه أول رسول أُوذيَ من قومه، وقيل: لأنَّه أول أولي العزم، ورُدَّ: بأن آدم من أولي العزم، أجيب بقوله تعالى:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، والأحسن في الجواب كما قاله البدر العيني:(إنما خصَّه؛ لأنَّه هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من ولده الثلاثة؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} [الصافات: 77]، وهم سام وحام ويافث، فإن الناس هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة، قيل: كانوا ثمانية بالنساء، وقيل: أكثر، وكلهم ماتوا خلا نوحًا وبنيه وأزواجهم) انتهى؛ فليحفظ.
[حديث: إنما الأعمال بالنيات]
1 -
(حدثنا الحميدي) : بضم المهملة وفتح الميم؛ نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى حميدات قبيلةٌ، المتوفى سنة تسع عشرة ومئتين، وليس هو صاحب «الجمع بين الصحيحين» ، ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر:(حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير).
(قال: حدثنا سفيان) بن عيينة التابعي المكي المتوفى سنة ثمان وتسعين ومئة، ولأبي ذر عن الحموي:(عن سفيان).
(قال: حدثنا يحيى بن سعيد) : وهو ابن قيس (الأنصاري) المدني التابعي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، ولأبي ذر:(عن يحيى).
(قال: أخبرني) : بالإفراد؛ لأنَّه قرأ على الشيخ وحده (محمد بن إبراهيم) بن الحارث (التيمي)؛ نسبة إلى تيم قريش، المتوفى سنة عشرين ومئة:(أنه سمع علقمة) أبا واقد؛ بالقاف (ابن وقَّاص) بتشديد القاف (الليثي) بالمثلثة؛ نسبة إلى ليث بن بكر، قيل: صحابي، وقيل: تابعي، المتوفى بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان، (يقول: سمعت) أمير المؤمنين ثاني خلفاء سيد المرسلين (عمر بن الخطاب) بن نُفَيل؛ بضم النون، وفتح الفاء، المتوفى سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (على المنبر) النبوي المدني؛ وهو بكسر الميم من النبرة؛ وهي الارتفاع؛ أي: سمعته حال كونه (قال)، ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر:(يقول) : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: سمعت كلامه حال كونه (يقول)، فـ (يقول) : في موضع نصب حالًا من (رسول الله عليه السلام؛ لأنَّ (سمعت) لا يتعدَّى إلى مفعولين؛ فهي حال مبيِّنة للمحذوف المقدَّر بكلام؛ لأنَّ الذات لا تسمع، وأتى بالمضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي؛ إما بحكاية الحال وقت السماع، أو لإحضار ذلك في الذهن.
(إنَّما الأعمال) الصادرة من المكلفين كاملة ومثاب عليها، (بالنيات) بالجمع، وفي بعض الروايات بالإفراد، وتقدير الكمال أو الثواب هو المطرد؛ لأنَّ كثيرًا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعًا بدون النية، ولأنَّ إضمار الثواب متفق عليه على إرادته، ولأنَّه يلزم بها من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان أقل إضمارًا، فهو أولى، ولأنَّ إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممنوع، ولأن العامل في قوله:(بالنيات) مقدر بإجماع النحاة، فلا يجوز أن يتعلَّق بـ (الأعمال)؛ لأنَّها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر، فلا يجوز، فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة، فالمثيبة أولى لوجهين:
أحدهما: أنَّ عدم النية لا يُبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل.
الثاني: أنَّ قوله: (لكلِّ امرئ ما نوى) يدُلُّ على الثواب والأجر، وعلى كلٍّ فالحديث متروك الظاهر بالإجماع، والذوات لا تنتفي بلا خلاف، فيحتاج إلى الإضمار، وإنما يكون الإضمار على خلاف الأصل، فالمراد بـ (الأعمال) حكمها، والحكم نوعان: نوع يتعلق بالآخرة؛ وهو الثواب أو العقاب، ونوع يتعلق بالدنيا؛ وهو الصحة أو الفساد، والنوعان مختلفان المبنى؛ فالأول: على صدق العزيمة، والثاني: على وجود الأركان والشرائط، ولما اختلف الحكمان؛ صار الإثم بعد كونه مجازًا مشتركًا، ولا يكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه
(1)
في الأصل: (أما الرابع)، والمثبت هو الصواب.