الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو ودي ولم يتذكر احتلامًا فيهما، والمراد بالتيقُّن هنا: غلبة الظن؛ لأنَّ حقيقة اليقين متعذرة مع النوم) انتهى كلامه.
وقوله: (أقَيْس وقولهما استحسان وعليه الفتوى) احتياطًا، وقال في «الفتاوى» :(الخلاصة: ولسنا نوجب الغسل بالمذي، ولكن المني قد يرق بطول المدة فتصير صورته كصورة المذي) انتهى أي: لا حقيقته.
وقال في «شرح المنية» : وإن استيقظ فوجد في إحليله بللًا ولم يتذكر حلمًا إن كان ذكره منتشرًا قبل النوم؛ فلا غسل عليه وإن كان ساكنًا؛ فعليه الغسل، هذا إذا نام قائمًا أو قاعدًا، أما إذا نام مضطجعًا أو تيقن أنه مني؛ فعليه الغسل وهو مذكور في «المحيط» و «الذخيرة» .
وقال شمس الأئمَّة الحلواني: (هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون)، ومشى على هذا العلامة الشرنبلالي في «الإمداد» وغيره، وذكر مثله في «الجواهر» ، ودرج عليه شراح «الملتقى» ؛ فافهم.
قال في «الحلية» : (الفرق بين النوم قائمًا أو قاعدًا، وبين النوم مضطجعًا غير ظاهر، والوجه الإطلاق؛ إذ لا يظهر بينهما افتراق).
قال في «منهل الطلاب» : (والظاهر: أن الفرق بينهما من حيث إن النوم مضطجعًا سبب للاسترخاء والاستغراق وهو سبب للاحتلام بخلاف النوم قائمًا أو قاعدًا؛ لعدمهما فيه عادة؛ فتأمل، والمرأة مثل الرجل في ظاهر المذهب؛ فليحفظ) انتهى.
وقال في «البحر» : لو احتلمت المرأة ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها، فعن الإمام محمَّد: يجب الغسل، وفي «ظاهر الرواية» عن الإمام الأعظم: لا يجب؛ لأنَّ خروج منيها إلى فرجها الخارج شرط لوجوب الغسل عليها، وعليه الفتوى، كذا في «المعراج» ، وحرر ابن الهمام في «فتح القدير» وقال: إنه الحق الاتفاق على تعليق وجوب الغسل بوجود المني في احتلامها، والقائل بوجوبه في هذه الخلافية إنَّما يوجبه على وجوده وإن لم تره، فالمراد بعدم الخروج في قولهم: ولم يخرج منها لم تره خرج؛ فعلى هذا: لا وجه لوجوب الغسل بوجود المني في احتلامها في الخلافية.
ورده في «شرح المنية» بأن هذا لا يفيد وجوب الغسل في المسألة الخلافية، فإن ظاهر الرواية لا يجب عليها الغسل، وبه أخذ شمس الأئمَّة الحلواني، وقال في «الخلاصة» : (وهو الصحيح
…
) إلى آخر كلامه؛ فافهم.
وقال ابن عبد البر: (في الحديث: دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن، وإنما أنكرت عائشة ذلك إما لصغر سنها وكونها مع زوجها؛ لأنَّها لم تحض عنده ولم تفقده فقدًا طويلًا إلا بموته عليه السلام، فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام؛ لأنَّه لا تعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الرجال بعد المعرفة به، فإذا فقدت النساء أزواجهن؛ احتلمن، والوجه الأول عندي أصح وأولى؛ لأنَّ أم سَلَمَة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك، وأنكرت منه ما أنكرت عائشة، فدل على أن من النساء من لا ينزل الماء منها في غير الجماع الذي يكون في اليقظة) انتهى.
قال صاحب «عمدة القاري» : (ولقائل أن يقول: إن أم سَلَمَة أيضًا تزوجت أبا سَلَمَة شابة، ولما توفي عنها زوجها؛ تزوجها سيد المرسلين عليه السلام لا سيما مع شغلها بالعبادة وشبهها التي هي وجاء لغيرها، أو تكون قالته إنكارًا على أم سَلَمَة؛ لكونها واجهت به سيدنا رسول الله عليه السلام، ويوضحه: فقالت أم سَلَمَة: وغطت وجهها، ثم قال: وفي رواية أبي داود: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله؛ إن الله لا يستحي من الحق، أرأيت امرأة إذا رأت في النوم ما يرى الرجل أتغتسل أو لا؟ قالت عائشة: فأقبلت عليها فقلت: أف لك وهل ترى ذلك المرأة؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تربت يمينك يا عائشة، ومن أين يكون الشبه؟»)، وعند المؤلف في باب:(الحياء في العلم) بعد قوله: «إذا رأت الماء» فغطت أم سَلَمَة -تعني: وجهها- وقالت: (يا رسول الله؛ أوَ تحتلم المرأة؟) قال: «نعم؛ تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟» ، وفي لفظ له بعد قوله:(إذا رأت الماء) فضحكت أم سَلَمَة فقالت: (أوَ تحتلم المرأة؟) فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فبم شبه الولد؟» ، وفي لفظ: قالت أم سَلَمَة: (فقلت فضحكت النساء)، وعند مسلم من حديث أنس: أن أم سُليم حدثت أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه [وسلم]، وعائشة عنده:(يا رسول الله؛ المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام، ومن نفسها ما يرى الرجل من نفسه)، فقالت عائشة:(يا أم سُليم)؛ فضحكت النساء (تربت يمينك)، فقال لعائشة:«بل أنت تربت يمينك نعم؛ فلتغتسل يا أم سليم» .
وفي لفظ: فقالت أم سُليم: (واستحييت من ذلك وهل يكون هذا؟) قال: «نعم؛ ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، أيهما علا أوسبق يكون منه الشبه» .
وفي لفظ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان منها ما يكون من الرجل؛ فلتغتسل» .
وفي لفظ: قالت عائشة: (فقلت لها: أف لك، أترى المرأة ذلك؟)
وفي لفظ: (تربت يداك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعيها، تربت يمينك» ، قالت:(وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل؛ أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها؛ أشبه أعمامه).
وفي لفظ أبي داود: (أتغتسل أم لا؟) فقال: «فلتغتسل إذا وجدت الماء» .
وفي لفظ: (المرأة عليها غسل؟) قال: «نعم؛ إنَّما النساء شقائق الرجال» .
وفي لفظ النسائي: (فضحكت أم سَلَمَة).
وعند ابن أبي شيبة: (فقال: هل تجد شهوة؟) قالت: (لعله) قال: «هل تجد بللًا» قال: ولعله قال: «فلتغتسل» ، فلقيتها النسوة فقلن: فضحتينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:(والله ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حل أنا أم في حرام).
وعند الطبراني في «الأوسط» : (قلت: يا رسول الله؛ أنت تقربني إلى الله أحببت أن أسألك عنه، قال: «أصبت يا أم سُليم»؛ فقلت الحديث).
وعند البزار: (فقالت أم سَلَمَة: وهل للنساء من ماء؟ قال: «نعم؛ إنَّما هن شقائق الرجال»).
وعند ابن عمر: (إذا رأت ذلك فأنزلت؛ فعليها الغسل، فقالت: أم سُليم: أيكون هذا؟).
فإن قلت: قد جاء عن [أم] سَلَمَة: (فضحكت)، وجاء:(فغطت وجهها) فما التوفيق بينهما؟
قلت: معنى (فضحكت) : تبسمت تعجبًا، و (غطت وجهها) حياء، ومعنى (تربت يمينك) في الأصل: لا أصابت خيرًا غير أن في لسان العرب ذلك وأمثالها، ويراد به المدح، وفي «أدب الخواص» لأبي القاسم:(معنى «تربت يمينك»؛ أي: افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سُليم)، وفي «المحكم» : ترب الرجل صار في يده التراب، قال تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]؛ أي: لا يملك إلا التراب، وترب تربًا؛ لصق بالتراب من الفقر، وترب تربًا وتربة؛ خسر وافتقر، وحكى قطرب:(ترب وأترب)، كذا ذكره في «عمدة القاري» ، وفيه قوله:(وآلت) بعد قوله: (تربت يمينك)؛ معناه: صاحت؛ لما أصابها من شدة هذا الكلام، وروي:(أُلَّت)؛ بضمِّ الهمزة مع التشديد؛ أي: طعنت بالآلة؛ وهي الحربة العريضة النصل، انتهى.
قال ابن بطال: (وفيه: دليل على أن كل النساء يحتلمن)، وقد عكس غيره، فقال: فيه: دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن.
واعترضه صاحب «عمدة القاري» فقال: (وفيه: دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، وقد ذكرنا في أول الباب خلاف النخعي) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر فقال: (والظاهر: أن مراد ابن بطال الجواز لا الوقوع؛ يعني: فيهن قابلية ذلك، وفيه: دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، لكن تقدم الخلاف فيه عن النخعي) انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (ما تقدم عن النخعي في نفي وقوعه وما قاله ابن بطال في نفي الخلاف فإنما هو على المرأة في لزوم الغسل إذا أنزلت إلا أن يقال: إذا انتفى وقوع الموجب؛ لزم انتفاء الوجوب؛ فتأمل) انتهى.
وفي الحديث: جواز استفتاء المرأة بنفسها؛ لأنَّه غير مخل في الديانة، وكأن أم سُليم لم تسمع حديث:«إنما الماء من الماء» ، أو سمعته وقام عندها أنه منسوخ بدلائل أخر، أو ما يوهم خروج المرأة عنه وهو ندرة بروز الماء منها.
وروى عبد في هذه القصة: «إذا رأت إحداكن كما يراه الرجل» .
وروى أحمد من حديث خولة بنت حكيم في نحو هذه القصة «ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل» ، فإن هذا صريح على أنه يدل على كونه في حال الاحتلام.
ففيه: رد على من زعم أن
ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها كما قدمناه؛ لأنَّ الشهوة حقيقة أو حكمًا، وذلك إذا احتلم ورأى بللًا ولم يدرك اللذة فإنه يمكن أنه أدركها، ثم ذهل عنها بوجود النوم فجعلت اللذة حاصلة حكمًا وهو ظاهر، فيمكن أن أم سَلَمَة قام عندها أن الاحتلام لم يوجد فيه شهوة وحديث:(الماء من الماء) مطلق غير مقيد بالشهوة فتركته؛ لأنَّه منسوخ بأحاديث؛ منها: ما قدمناه من حديث أم سَلَمَة عند ابن أبي شيبة، فقال عليه السلام: «هل تجد شهوة
…
»؛ الحديث، ولقوله تعالى:{مِن مَّاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7] والدفق لا يكون إلا عن شهوة على أنه حديث (الماء من الماء) مطلق، فهو محمول على المقيد بالشهوة، ولأن (اللام) فيه للعهد الذهني؛ أي: الماء المعهود، والذي به عهدهم هو الخارج عن شهوة؛ لأنَّه كثيرًا يأتي على أكثر الناس جميع عمره، ولا يرى هذا الماء مجردًا عن الشهوة، بل هي مصاحبة له ضرورة، ويدل لهذا: تفسير عائشة رضي الله عنها الحديث، كما قد رواه ابن المُنْذِر أن المني: هو الماء الأعظم الذي منه الشهوة وفيه الغسل؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
(23)
[باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس]
هذا (باب) حكم (عرق) الآدمي (الجنب) والطاهر، والمحدث، والحائض، والنفساء، والصغير، والكبير، والمسلم، والكافر، والذكر، والأنثى؛ يعني: أن عرق هؤلاء طاهر، (وأن المسلم لا ينجس) عطف على المضاف إليه، والتقدير: وباب أن المسلم لا ينجس، بل هو طاهر وإن كان متصفًا بما ذكرناه، فإذا كان هو طاهرًا؛ فعرقه طاهر ضرورة؛ للزومه له.
قال صاحب «عمدة القاري» : (ولم يبين البخاري ما حكم عرق الجنب، ولا ذكر في هذا الباب شيئًا يطابق هذه الترجمة).
وقال بعضهم: كأن المصنف يشير بذلك إلى الخلاف في عرق الكافر، وقال قوم: إنه نجس بناء على القول بنجاسة عينه.
قلت: (ما أبعد هذا الكلام عن الذوق! فكيف يتوجه ما قاله والمصنف قال: باب عرق الجنب، وسكت عليه، ولم يشر إلى حكمه لا في الترجمة ولا في الذي ذكره في هذا الباب؟
وفائدة ذكر الباب المعقود بالترجمة ذكر ما عقدت له الترجمة وإلا؛ فلا فائدة في ذكرها، ويمكن أن يقال ذكر ترجمتين؛ فالترجمة الثانية تدل على أن المسلم طاهر، ومن لوازم طهارته طهارة عرقه، ولكن هذا مخصوص بعرق المسلم، والحال أن عرق الكافر أيضًا طاهر) انتهى.
قلت: (وقد حاول العجلوني عبارته ورمم عبارة ابن حجر بكلام أخذه من «عمدة القاري» الذي علمته، وزعم أن صنيع المؤلف وابن حجر حسن، وأن في كلام «عمدة القاري» تناقضًا
(1)
في قوله: (ويمكن
…
) إلخ وقال: ولم يتعرض ابن حجر في «الانتقاض» لرد الاعتراض؛ لظهوره) انتهى كلامه
قلت: ولا يخفى تعصب هذا القائل، فقد زاد في الطنبور نغمة، فإن كلامه لا فائدة فيه ولا معنى يأويه؛ لخلوه من التحقيق، ولا يخفى أن صنيع المؤلف وابن حجر ليس بحسن أصلًا؛ لأنَّ الترجمة قاصرة؛ حيث إنه لم يبين حكم العرق من الجنب لا في الترجمة ولا في أحاديث الباب، فكيف يقال: إن صنيعه حسن على أن قوله: (وإن المسلم لا ينجس) التي هي الترجمة الثانية، كذلك لا تدل على حكم عرق الجنب؛ لأنَّ المراد بالمسلم: الطاهر لأنَّه المسلم الكامل، ولا ريب أن عرقه طاهر لطهارة بدنه، والجنب خارج عن هذا، فلا بد من بيان حكم عرقه.
ولا دلالة في الترجمة أن المؤلف أشار بالتقييد بـ (المسلم) إلى الخلاف في عرق الكافر كما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ مراد المؤلف بالتقييد بـ (المسلم) موافقة لحديث الباب، لا للخلاف في عرقه؛ لأنَّ هذا ظاهر حيث إنا لم ننهَ عن نكاح أهل الكتاب، فدل على طهارته من دليل آخر، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن في كلام «عمدة القاري»
…
) إلخ ممنوع؛ فإنه لما ذكر ما هو التحقيق من عدم بيان حكم عرق الجنب، ورد كلام ابن حجر؛ ظهر له أن الترجمة يمكن حملها على ما قاله، فهذا ليس يتناقض ما زعمه هذا القائل، ولا يسع أحدًا أن يقوله من ذوي الأفهام كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (ولم يتعرض
…
) إلخ؛ هذا ظاهر في أن الاعتراض في غاية التحقيق ولو كان غير ذلك؛ لما سكت عليه ابن حجر، فسكوته دليل على أن كلام نفسه غير مرض له؛ لما أنه غير ظاهر، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
[حديث: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس]
283 -
وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله)؛ هو المديني (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سَعِيْد القطان (قال: حدثنا حُميد) بضمِّ الحاء المهملة مصغرًا؛ هو المعروف بالطويل، التابعي، مات وهو قائم يصلي (قال: حدثنا بَكر) بفتح الموحدة مكبرًا؛ هو ابن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني البصري التابعي المتوفى سنة بضع ومئة، (عن أبي رافع) واسمه: نُفيع -بضمِّ النون، وفتح الفاء- مصغرًا الصائغ -بالصاد المهملة، وبالغين المعجمة- البصري ارتحل إليها من المدينة، أدرك الجاهلية ولم يرَ النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه، قال صاحب «عمدة القاري» : (ومن أجلِّ لطائف هذا الحديث أنه متصل، ورواه مسلم مقطوعًا عن حميد، عن أبي رافع، كذا في طريق الجُلُودي، والجياني، والصواب ما رواه البخاري وغيره عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، وذكر أبو مسعود وخلف أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك.
وقال صاحب «التلويح» : قد رأينا من قاله غيرهما، فدل على أن في «مسلم» روايتين).
قلت: ذكر البغوي في «شرح السنة» : (أن مسلمًا أخرجه بإثبات بكر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
(أن النبيَّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم لقيه)؛ أي: اجتمع به من اللقاء؛ وهو الاجتماع؛ أي: لقي أبا هريرة وهو يمشي (في بعض طريق المدينة) المنورة، كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية كريمة، والأَصيلي:(طرق)؛ بالجمع، وفي رواية أبي داود، والنسائي:(لقيه في بعض طريق من طرق المدينة)، كذا في «عمدة القاري» .
وزعم العجلوني أن رواية أبي داود موافقة لرواية الأَصيلي.
قلت: وهو مردود فأين التوافق؟ بل فيه تخالف؛ لأنَّ الأولى: (في بعض طريق المدينة)، وللأَصيلي:(في بعض طرق المدينة)، ولأبي داود:(في بعض طريق من طرق المدينة)؛ فليحفظ.
(وهو جنب) جملة اسمية محلها النصب على الحال من الضمير المنصوب في (لقيه)، يقال: أجنب الرجل وهو جنب، وكذا الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال ابن دريد:(وهو أعلى اللغات، وقد قالوا: جنبان وأجناب، ولم يقولوا: جنبه)، وفي «المنتهى» :(رجل جنب، وامرأة جنب، وقوم جنب، وجنبون، وأجناب)، وفي «الصحاح» :(أجنب الرجل وجنُب أيضًا؛ بضمِّ النون)، وفي «الموعب» عن الفراء وقطرب:(جنِب الرجل وجنُب؛ بكسر النون وضمها لغتان)، وقال في «المغرب» :(يقال من الجنابة: أجنَب الرجل وجنَِب؛ بفتح النون وكسرها، وجنب ويجنب، لا يقال عن العرب غيرها، وحكى بعضهم: جنُب؛ بضمِّ النون، وليس بالمشهور)، وفي «الاشتقاق» :(أجنب الرجل؛ لأنَّه يجانب الصَّلاة)، وقال أبو منصور:(لأنَّه نهي أن يقرب مواضع الصَّلاة)، وقال القتبي:(سمي بذلك لمجانبته الناس، وبعده منهم حتى يغتسل)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» ، وأراد أبو هريرة نفسه لرواية أبي داود:(وأنا جنب)، (فانْخَنست)؛ بالنون الساكنة، ثم خاء معجمة مفتوحة، ثم نون، ثم سين مهملة، وهي رواية الكشميهني، والحمُّوي، وكريمة؛ ومعناه: تأخرت، وانقبضت، ورجعت، واستخفيت، وهو لازم ومتعد؛ ومنه: خنس الشيطان.
الرواية الثانية: (فاختنست)؛ مثل الرواية الأولى في المعنى، غير أن اللفظ في الرواية الأولى من باب (الانفعال)، وفي هذه الرواية من باب (الافتعال).
الثالثة: (فانبجست)؛ بالموحدة، والجيم، وكذا هي في رواية الترمذي؛ ومعناه: اندفعت، وانفجرت؛ ومنه قوله تعالى:{فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: 160]؛ أي: جرت واندفعت، وهي رواية ابن السكن أيضًا.
الرابعة: (فانْتَجست)؛ بفوقية مفتوحة بعد النون الساكنة، فجيم؛ من النجاسة من باب (الافتعال)؛ والمعنى: اعتقدت نفسي نجسًا، وهي رواية الأَصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر.
الخامسة: (فانتجشت)؛ بالشين المعجمة، من النجش؛ وهو الإسراع.
السادسة: (فانبخست)؛ بالموحدة، والخاء المعجمة، والسين
(1)
في الأصل: (تناقض)، ولعل المثبت هو الصواب.
المهملة، من البخس
(1)
؛ وهو النقص، فكأنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رواية المستملي؛ لِمَا اعتقده في نفسه من النجاسة.
السابعة: (فاحتبست)؛ بحاء مهملة، ثم مثناة فوقية، ثم موحدة، ثم سين مهملة، من الاحتباس؛ والمعنى: حبست نفسي عن اللحاق بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
الثامنة: (فانسللت)؛ بنون، ثم سين مهملة، بعدها لامين؛ والمعنى: مضيت عنه مستخفيًا، وهو رواية مسلم والنسائي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» ولم يسبقه أحد به من الشراح، وزعم ابن حجر أنه لم يثبت له من طريق الرواية غير ما تقدم، وأراد به رواية الكشميهني، وأبي الوقت، والمستملي، ونسب بعضها إلى التصحيف.
ورده صاحب «عمدة القاري» : (بأنه لا يلزم من عدم ثبوته غير الروايات الثلاث عنده عدم ثبوتها عند غيره، وليس بأدب أن ينسب لبعض غير ما وقف عليه إلى التصحيف؛ لأنَّ الجاهل بالشيء ليس له أن يدعي عدم علم غيره به) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» فزعم بقوله الملازمة ثابتة هنا؛ لأنَّ القصة واحدة، والمخرج واحد، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة واحد، فما يبقى إلا الترجيح والمرجوح أن يثبت في الرواية حمله على أن الراوي ذكر تلك اللفظة بالمعنى، فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه، وحمل رواية الحافظ المتقن على الصواب أولى من حمل رواية غيره عليه، وليس هنا ما يثبت الجهل ولا ما يزيل الأدب، ولكن رمتني برأيها، وانسلت) انتهى.
قلت: وهذا كلام من ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، فإن قوله: (الملازمة هنا ثابتة
…
) إلخ لا يخفى فساده؛ لأنَّ القصة متعددة مختلفة، والمخرج أيضًا مختلف، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة مختلف، يدل لذلك أن أبا هريرة كان يمر في الطريق ويقعد من أجل الجوع، وكذلك كان يفعل من أجل الجنابة، فما المانع أنه رآه عليه السلام مرارًا مختلفة، وكان يتلفظ بألفاظ مختلفة؟ ويدل لهذا أيضًا ما سيأتي في الباب بعده، فإن ما ذكر فيه قصة أخرى غير هذه كما لا يخفى، فأين الملازمة؟ ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون لفظ أبي هريرة لفظة واحدة ولا يخفى فساده؛ لما ثبت في الروايات من اختلاف ألفاظه باختلاف القصة وغيره.
وقوله: (والمرجوح
…
) إلخ ممنوع؛ لأنَّ الراوي لا يمكن أن يذكر تلك اللفظة بالمعنى، بل يذكرها كما سمعها من غير تعرض للمعنى كما هو وظيفة الرواة.
وقوله: (فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه) ممنوع أيضًا؛ فإن هذا الحمل باطل؛ لأنَّ الراوي يحتاط في كلامه مهما أمكن، ولا يجوز حمله على التصحيف؛ لأنَّه مخل في حفظه وإتقانه، وإذا حمل على أنه صحفه؛ لم يبق لحفظه وإتقانه فائدة، ويلزم الخلل في ألفاظ الأحاديث، وهو ممنوع، كما لا يخفى.
وقوله: (وحمل رواية الحافظ
…
) إلخ هذا تعرض لنفسه بأنه حافظ متقن وليس كما ظن؛ لأنَّه لو كان كما ظن؛ لما كان جهل بقية الروايات وحملها على التصحيف، فإن هذا ينافي الحفظ والإتقان، فإن جميع الروايات تحمل على الصواب سواء كانت من حافظ أو غيره؛ لأنَّ الرواة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، كما لا يخفى.
وقوله: (وليس هنا
…
) إلخ ممنوع؛ فإن كلامه يدل على الجهل وثبوت عدم الأدب حيث إنه نفى بقية الروايات وهي ثابتة؛ وحيث نسبها إلى التصحيف وهو ينافي الأدب، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ وقد أنصف العجلوني هنا حيث قال: والحق أنه حيث أمكن التوجيه لا ينبغي المصير إلى القول بالتصحيف) انتهى.
قلت: وقد وأمكن التوجيه في الروايات كلها كما علمت مما قدمناه، فلا يجوز القول بالتصحيف؛ لأنَّه يثبت الجهل وينافي الأدب؛ فافهم، والله أعلم.
(منه)؛ أي: من النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم إما حياء منه، أو لما اعتقده في نفسه من النجاسة، كما قدمناه، (فذهبتُ)؛ فالتاء للمتكلم؛ أي: قال أبو هريرة: (ذهبت)(فاغتسلت)؛ أي: من الجنابة وهو بصيغة المتكلم أيضًا، قال الكرماني: وفي بعض النسخ: (فذهب فاغتسل)، قال صاحب «عمدة القاري» :(قلت: على تقدير صحة الرواية بها يجوز فيه الأمران: الغيبة بالنظر إلى فعل كلام أبي هريرة بالمعنى، والتكلم بالنظر إلى نقله بلفظه بعينه على سبيل الحكاية عنه، وإما جواز لفظه بالغيبة، فمن باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصًا وأخبر عنه) انتهى كلامه
قلت: والرواية الأولى هي المناسبة لقوله: (فانخنست).
قال في «عمدة القاري» : (وإنما فعل أبو هريرة هذا؛ لأنَّه عليه السلام كان إذا لقي أحدًا من أصحابه ماسحه ودعا له، كما ورد في النسائي، وابن حبان من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقيني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فأهوى إليَّ فقلت: إني جنب
…
)؛ الحديث، فلما ظن أبو هريرة أن الجنب ينجس خشي أن يماسحه النبيُّ عليه السلام كعادته، فتأخر لما رآه وبادر إلى الاغتسال من الجنابة، (ثم جاء)؛ أي: أبو هريرة وبعد اغتساله من الجنابة إلى مجلس النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة («أين كنت يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، كذا قاله في «عمدة القاري» ، ومثله في «الكرماني» ، وهذا ظاهر في أن الرواية بالحذف لا غير؛ فليحفظ.
وزعم العجلوني أن الموجود في كثير من النسخ الصحيحة إثبات الألف، ولم يذكروا هنا ترخيمه مع أنهم ذكروه في الباب الآتي.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه وإن ثبتت الألف؛ فهي تحريف من النساخ والكُتَّاب، فكم رأينا نسخ مضبوطة ومع مراجعتها مع الشراح يظهر خطأ ضبطها وتحريفها من الناسخين.
وقوله: (في كثير
…
) إلخ لا يخفى فساده، بل أكثر النسخ الصحيحة بحذف الألف، كما يعلم ذلك من مراجعة النسخ.
وقوله: (ولم يذكروا هنا
…
) إلخ، وإنما لم يذكروه هنا وذكروه في الباب الآتي؛ لأنَّ هذه القصة غير القصة الذي ذكرت في الباب الآتي، ولاختلاف القصة اختلفت ألفاظ الرواة؛ فليحفظ.
(قال)؛ أي: أبو هريرة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (كنت جنبًا)؛ أي: ذا جنابة، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ أي: لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر وهو الإجناب، قاله القسطلاني، وإنما أجابه بهذا مع أن السؤال إنَّما كان عن المكان؛ لما فهمه أبو هريرة من أنه عليه السلام إنَّما سأله عن سبب غيبته لا عن المكان، وإلا؛ فكان حق الجواب أن يقول: كنت في مكان كذا اغتسل؛ لأني كنت جنبًا، ويحتمل أنه عبر بالسبب وأراد المسبب، ويحتمل أن قوله:(كنت جنبًا) متضمن: لأني كنت في المكان الفلاني أغتسل فيه من الجنابة؛ لأنَّ من لازم الجنابة الاغتسال منها؛ فليحفظ (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير المرفوع في (أجالسك)، و (أجالسك) في قوة المصدر بـ:(أن) المصدرية، (فقال)؛ بالفاء قبل القاف، وسقطت في كلام أبي هريرة على الأفصح في الجمل المفتتحة بالقول، كما قيل في قوله تعالى: {أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ*قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ*قَالَ
…
} [الشعراء: 10 - 12] وما بعدها، وأما القول مع ضمير النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فالفاء سببية رابطة فاجتلبت لذلك، ولأبي ذر، وابن عساكر، والأَصيلي قال: أي النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله!)(سبحان) علم للتسبيح؛ كعثمان علم للرجل، وقال الفراء:(منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، واستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا: أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم، ثم قال: وقال ابن الأنباري: (معناه: سبحتك؛ تنزيهًا لك يا ربنا من الأولاد، والصاحبة، والشركاء؛ أي: نزهناك من ذلك)، وقال القزاز:(معناه: براءة الله تعالى من السوء)، وقال أبو عبيد:(نسبح لك: نحمدك ونصلي لك)، وقال الزمخشري:(سبحت الله وسبحت له وكثرة تسبيحاته وتسابيحه)، وفي «المغيث» :(سبحان الله: قائم مقام الفعل؛ أي: أسبحه وسبحت؛ أي: لَفظتَ بسبحان الله، وقيل: معنى (سبحان الله) : أسرع إليه، وألحقه في طاعته من قولهم: فرس سابح، وذكر النضر بن شميل أن معناه: السرعة إلى هذه اللفظة؛ لأنَّ الإنسان يبدأ فيقول: سبحان الله) انتهى كلام «عمدة القاري» رضي الله عنه.
(إن) بكسر الهمزة (المؤمن) وفي رواية: (المسلم)(لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم هو الرواية لا غير، قال ابن سيده: النجَس، والنجُس، والنجس القذر من كل شيء، ورجل
(1)
في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.
نجس، والجمع أنجاس، وقيل: النجس يكون للواحد والجمع والمؤنث بلفظ واحد، فإذا كسروا؛ ثنوا، وجمعوا، وأنثوا، ورجل رجس: نجِس يقولونها؛ بالكسر: لمكان رجس، فإذا أفردوه؛ قالوا: نجس، وفي «الجامع» : أحسب المصدر من قولهم: نجس ينجس نجسًا، والاسم النجاسة، وذكر ابن طريف وغيره:(نجس الشيء ونجس نجاسة ونجسًا، ضد طهر)، وفي «الصحاح» :(نجِس الشيء -بالكسر- ينجس نجسًا؛ فهو نجس ونجس)، وقال ابن عديس: نجِس الرجل ونجس نجاسة ونجوسة؛ بكسر الجيم وضمها؛ إذا تقذر، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: وحاصله: أنه يجوز فيه ضم الجيم وفتحها، وفي ماضيه: كسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي؛ فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي؛ ضمها في المضارع، وذكره الكرماني أيضًا، وهذا ظاهر في أنه يجوز لغة، ولا يجري في الحديث.
وزعم العجلوني: أن قول ابن الملقن: (بفتح الجيم وضمها) بناء على أن ماضيه (نجس) بالفتح أو الضم يقتضي جواز الوجهين في الحديث، انتهى.
قلت: وهو مردود، فإن كلام ابن الملقن مبني على المعنى اللغوي لا على رواية الحديث؛ فهو تفسير له من حيث اللغة، فكيف يقتضي جواز الوجهين في الحديث؟ وما هذا إلا اقتضاء باطل مع أن العجلوني نقل عبارة الكرماني، وقال عقبها: والظاهر عدم جريانه في الحديث، فهذا مناقضة في كلامه ظاهرة، وكأنه جنح له اقتصار ابن الملقن على الوجهين، فظن أنه جائز في الحديث أيضًا، وهو باطل، فأي فرق بين كلام الكرماني وبين كلام ابن الملقن حتى يمنع الأول ويجيز الثاني؟ مع أن الجواز ممنوع في الحديث على أنه لو كان في الحديث رواية أخرى؛ لذكرها أحد شراح «الصحيح» ؛ لأنَّ مثل هذا لا يمكن السكوت عنه، وقد راجعت الشراح التي عندي، فلم أرَ من تعرض لذلك، فدل هذا على أن الرواية بضمِّ الجيم فقط؛ فافهم، والله أعلم.
قال صاحب «عمدة القاري» : مطابقة هذا الحديث لإحدى ترجمتي الباب ظاهرة، وهي الترجمة الثانية، وقد عقد الباب له أن المؤمن لا ينجس، وأنه طاهر سواء كان جنبًا أو محدثًا، حيًّا أو ميتًا، وكذا سؤره، وعرقه، ولعابه، ودمعه، وكذا الكافر في هذه الأحكام سواء كان كتابيًّا أو حربيًّا، وسواء كان الشخص حائضًا أو نفساء، وذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس تعليقًا:«المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا» ، ووصله الحاكم في «المستدرك» عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا» ، قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرِّجاه، وهو أصل في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، أما الحي؛ فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها؛ فإنها طاهرة؛ لهذا الحديث، وهو حجة على من زعم نجاستها، وأما الكافر؛ فحكمه كذلك على ما يأتي، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن القاسم بن محمَّد قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن الرجل يأتي أهله، ثم يلبس الثوب فيعرق فيه أينجس ذلك؟ فقالت: قد كانت المرأة تعد الخرقة أو خرقًا، فإذا كان ذلك؛ مسح بها الرجل الأذى عنه ولم تر أن ذلك ينجسه، وفي لفظ:(ثم صليا في ثوبهما)، وروى الدارقطني من حديث المتوكل بن فضيل، عن أم القلوص الناصرية، عن عائشة قالت:(كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يرى على البدن جنابة، ولا على الأرض جنابة، ولا يجنب الرجلُ الرجل)، وقال البغوي:(معنى قول ابن عباس: «أربع لا يجنبن؛ الإنسان، والثوب، والماء، والأرض»؛ يريد الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب، ولا الثوب إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أفضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب يده فيه)، وقال ابن المُنْذِر:(أجمع أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وثبت ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما) انتهى.
قلت: ولا يلزم من عدم حفظه عدم وجود قول يخالفهما على أنه قال القرطبي في «شرح مسلم» : (الكافر نجس عند الشافعي)، قال العجلوني:(وهو غريب).
قلت: لا غرابة فيه، فقد قال ابن الملقن والنووي:(وأما الميت؛ فالأصح طهارته في أحد قولي الشافعي).
قلت: ومعلوم أن خلاف الأصح الصحيح، فثبت أن للشافعي قولين مصححين؛ فافهم.
ووجه نجاسته أنه حيوان دموي ينجس بالموت؛ فافهم.
وزعم العجلوني في بيان قول ابن المُنْذِر: (ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولها)، قال:(يعني: فيكون عرق الجنب طاهرًا أيضًا عند غيرهما؛ كمالك، وأحمد، والثوري).
قلت: وقد قال القاضي عياض: (وأما الميت؛ ففيه قولان، والأصح الطهارة، ونقل ابن التين عن «المدونة» : أن المريض إذا صلى لا يستند لحائض ولا جنب، وأجازه أشهب)، وقال أبو محمَّد: لا تكاد تسلم من النجاسة، وقال غيره: لأجل أعيانهما لا لثيابهما) انتهى.
قلت: فهذا صريح في أن مذهب مالك فيه خلاف في طهارة عرق الجنب والحائض، وزعم العجلوني أن ما قاله في «المدونة» مبني على الاحتياط.
قلت: وهو ممنوع، فإن قوله:(لا يستند إلى حائض ولا لجنب)، وقول الشارح:(لأجل أعيانهما لا لثيابهما) دليل على النجاسة، كما هو ظاهر، فالحق وجود الخلاف، فمن أين للعجلوني أن ينفي الخلاف، وما هو إلا قول باطل؟! فليحفظ.
وقال ابن المُنْذِر: عرق اليهودي، والنصراني، والمجوسي طاهر عندي، وقال ابن حزم وغيره من الظاهرية: أن عرق المشركين نجس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وبمفهوم حديث الباب، وادَّعوا أن الكافر نجس العين، وهذا مردود، وأجاب الجمهور عنه: أنهم نجسو الأفعالِ لا الأعضاء، أو أنهم نجسو الاعتقادِ؛ لأنَّهم لا يتحفظون من النجاسة غالبًا، وأن المراد بالمؤمن أنه طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عنها، ويوضح هذا أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك لا يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلِمَة، فدل هذا على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين؛ إذ لا فرق بين الرجال والنساء، وهذا يردُّ ما تقدم عن «المدونة» وغيرها، وإذا ثبت طهارة الآدمي مسلمًا كان أو كافرًا؛ فعرقه ولعابه طاهران سواء كان جنبًا، أو محدثًا، أو حائضًا، أو نفساء، وإنما خص المؤمن بالذكر في الحديث؛ لشرفه ولمطابقة السؤال في الحديث.
وقال صاحب «عمدة القاري» : (فإن قلت: على ما ذكرت أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنَّه طاهر؟
قلت: اختلف العلماء من أصحابنا في وجوب غسل الميت، فقيل: إنَّما وجب بحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته، فإن الآدمي لا ينجس بالموت؛ لكرامته، إذ لو تنجس؛ لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات، وكان الواجب الاقتصار على أعضاء الوضوء، كما في حال الحياة، لكن ذلك إنَّما كان نفيًا للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة، بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج، فكذا هنا.
وقال العراقيون: يجب غسله؛ لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأنَّ للآدمي دمًا سائلًا، فيتنجس بالموت قياسًا على غيره من الحيوانات، ألا ترى أنه لو مات في البئر؛ نجسها، ولو حمله المصلي؛ لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسًا؛ لجازت، كما لو حمل محدثًا) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: (أن الفرعين مبني على مذهبهم؛ أي: الأئمَّة الحنفية وإنه لا يقول بنجس البئر إذا مات فيها؛ لطهارته، وأما في حمل المصلي له؛ فنقول به؛ لما في جوفه من النجاسة مع أنه ميت، بخلاف