الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وارد في الشك؛ وهو تساوي الأمرين، كما بينه الحديث الثاني.
واعترض النووي، فزعم أنَّ تفسير الشك هكذا اصطلاح طارئ للأصوليين، وأمَّا في اللغة؛ فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى: شكًّا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، فلا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح.
ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا غير جيد؛ لأنَّ المراد الحقيقة العرفية؛ وهي أن الشك في اللغة: ما استوى طرفاه، ولم يترجح أحد الطرفين على الآخر، ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي؛ فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأنَّ صاحب «الصحاح» وغيره فسر الشك في باب (الكاف)، فقال:(الشك خلاف اليقين)، ثم فسر اليقين في باب (النون)، فقال:(اليقين العلم)، فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يسمى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يسمى: شاكًّا، فعلم أنَّ قوله: (وأما في اللغة
…
) إلى آخره: هو الحقيقة العرفية لا اللغوية، انتهى.
قلت: وقد ذكر النووي في «شرح المهذب» الشك، فقال:(اعلم أنَّ الشك: تردد الذهن بين أمرين على حد سواء عند الأصوليين، وقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء؛ فهو الشك، وإلا؛ فالراجح الظن، والمرجوح وهم) انتهى.
فهذا يرد عليه؛ فافهم.
وفي «عمدة القاري» : (فإن قلت: المصير إلى التحري؛ لضرورة، ولا ضرورة هنا؛ لأنَّه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل، فلا حاجة إلى التحري، قلت: التحري يحتاج إليه هنا؛ لأنَّه قد يتعذر عليه الوصول إلى الذي اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع، كما في أمر القِبلة) انتهى.
قلت: على أنَّه لم يعلم اليقين ليبني عليه، فمتى شك؛ بقي على احتمال الطرفين، وترجيح أحدهما غلبة ظن، وأما اليقين؛ فهو وهم، كما لا يخفى.
فإن قلت: يستقبل الصلاة؟
قلت: لا حاجة لذلك؛ لأنَّه عساه أن يقع له مرة ثانيًا أو ثالثًا إلى ما لا نهاية له.
فإن قلت: يبنيه على الأقل؟
قلت: لا وجه لذلك أيضًا؛ لأنَّ ذلك لا يوصله إلى ما عليه، فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء، كما ذكرنا.
قلت: والبناء على الأقل عند الشك -الذي هو استواء الطرفين- لا فائدة فيه؛ لأنَّه لم يترجح عنده أحدهما حتى يبني عليه، فهذا اليقين هو الوهم نفسه، فغلبة الظن الأخذ بها صواب؛ فافهم.
وزعم الشافعية أنَّ في الحديث [حجة] على أنَّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة؛ لأنَّه عليه السلام في حكم الناسي أو الساهي؛ لأنَّه كان يظن أنَّه ليس فيها، وقال أبو عمر
(1)
(ذهب الشافعي: إلى أنَّ الكلام والسلام ساهيًا في الصلاة؛ لا يبطلها، وهو قول مالك وأصحابه)، وقال مالك: تعمُّد الكلام في الصلاة إذا كان لشأنها وإصلاحها؛ لا يفسدها، وهو قول ربيعة، وقال أحمد: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، وقال الشافعي: من تعمد الكلام، وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته، وأنَّه فيها؛ أفسدها، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا تبطل، وأجمعوا على أنَّ الكلام عامدًا إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاحها؛ أنَّها تفسد، وروي عن الأوزاعي: أنَّه من تكلم لإحياء نفس ونحوه؛ لم تفسد صلاته، وقال الشافعي: إذا تكلم لإحياء صبي [من] الوقوع في هلكة أو نحوها؛ تبطل صلاته، وذهب أحمد: أنَّها لا تبطل، وهو قول أصحاب الشافعي.
قلت: ولا دليل لهؤلاء على ما قالوه، بل إنَّه لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير، والتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم في الصلاة لأجل شيء حدث من الإمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة مطلقًا، سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فالكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وسفيان الثوري، وعبد الله بن وهب، وابن نافع من أصحاب مالك، وهو قول عطاء، والحسن البصري، وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، قال السدي:(يعني: ساكتين؛ لأنَّ الآية نزلت في منع الكلام من الصلاة، وكان ذلك مباحًا في صدر الإسلام)، وهذا هو الصحيح؛ لما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه؛ فلم يرد علينا السلام، فقلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السلام:«إن في الصلاة لشغلًا» ، وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تتكلموا في الصلاة» ، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي، أخرجه مسلم مطولًا، وفيه قال عليه السلام:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» ، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضًا، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو جاهلًا؛ لحاجة الصلاة أو غيرها، وسواء كان ناسيًا أو ساهيًا أو غير ذلك؛ لأنَّ اللفظ مطلق، فيعم الجميع، وأفاد أن الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ، وحرم في الصلاة، فلا دليل لهم في إباحته، كما لا يخفى، فإن احتاج المصلي إلى تنبيه إمام ونحوه؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة،
(1)
في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.
وذلك؛ لقوله عليه السلام: «من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال» ، رواه سهل بن سعد، أخرجه الحافظ الطحاوي عنه، وأخرجه البخاري مطولًا، ولفظه:«أيها الناس؛ ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟! إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله! فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت» ، وأخرجه مسلم وأبو داود أيضًا، وقوله:«من نابه» ؛ أي: من نزل به شيء من الأمور المهمة، والمراد من التصفيق: ضرب ظاهر إحدى يديه على باطن الأخرى، وقيل: بإصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى؛ للإنذار والتنبيه، وقال الحافظ الطحاوي:(دل هذا الحديث على أن كلام ذي اليدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كلمه به في حديث عمران وأبي هريرة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة) انتهى.
قلت: فحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم، فإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث من أدركه الفجر جنبًا، فلا صوم له، وكان كثير الإرسال؛ فافهم.
فإن قلت: قد جرى الكلام في الصلاة، وقد ورد في الحديث:«التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل سبحان الله!» ، فلمَ لم يسبحوا؟
قلت: لأنَّه عليه السلام في ذلك الوقت لم يأمرهم بالتسبيح؛ لأنَّ حديث التسبيح متأخر عن إباحة الكلام في الصلاة، ويحتمل أنَّهم توهموا أن الصلاة قصرت أو زادت، وقد جاء في الحديث قال:«وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟» ، فلم يكن بد من الكلام لأجل ذلك، ثم حرم الكلام في الصلاة بعد ذلك، واستقر الحال على تحريمه، وصار التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وما وراء ذلك تعصب وعناد؛ فافهم.
فإن قلت: حديث الباب لا يدل على تحريم الكلام في الصلاة؛ لأنَّه قال: «وما ذاك؟» .
قلت: لأنَّ الحديث كان في صدر الإسلام، وكان الكلام فيها مباحًا، وقد ثبت تحريم الكلام في حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم بعد ذلك، فالحديث منسوخ، كما قدمناه.
وزعم الكرماني (فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيًا عليها، وقد تكلم بقوله:«وما ذاك؟» ؟
قلت: لأنَّه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه خطاب للنبيِّ عليه السلام وجواب، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلًا وهو عليه السلام في حكم الساهي أو الناسي؛ لأنَّه كان يظن أنه ليس في الصلاة).
ورده إمام الشَّارحين فقال: مذهب إمامه: أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيًا أو ساهيًا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله:(إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة)، والجواب الثاني: لا يتمشى بعد النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، والجواب الثالث: غير موجه؛ لأنَّ قوله عليه السلام: «وما ذاك؟» غير قليل، على ما لا يخفى، انتهى.
قلت: وقد أباح إمامهم الكلام القليل دون الكثير، وقوله عليه السلام:«وما ذاك؟» كثير؛ لأنَّ الكثير عندهم ما زاد على ثلاثة أحرف، وما دونها أو هي؛ فقليل، فلا دليل لهم من الحديث؛ فافهم. ومطابقة الحديث للترجمة في قوله:(فثنى رجليه، واستقبل القبلة)؛ لأنَّه استقبلها بعد أن سلم سلام الخروج من الصلاة، وفيه دليل على جواز النسخ، وجواز توقع الصحابة في ذلك يدل عليه استفهامهم حيث قيل له عليه السلام:(أحدث في الصلاة شيء؟) والله تعالى أعلم.
(32)
[باب ما جاء في القبلة]
هذا (باب: ما جاء في) أمر (القبلة)، وهو خلاف ما تقدم قبل هذا الباب، فإن ذاك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة، وأشار إلى حكم هذا بقوله:(ومن لم ير)، هذه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي، وفي رواية المستملي:(ومن لا ير)، (الإعادة) وهو عطف على قوله:(في القبلة)؛ أي: وباب: ما جاء فيمن لم ير إعادة الصلاة (على من سها) عن التوجه إلى القبلة، (فصلى إلى غير القبلة) بأن شرق أو غرب أو نحوهما، وزعم الكرماني: أن الفاء في (فصلى) تفسير لقوله: (سها)، فهي تفسيرية.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه بعد، والأولى أن تكون الفاء للسببية؛ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، ولو قال: كـ «الواو» لكان أحسن، كما لا يخفى) انتهى.
ومقصود الإمام البخاري في هذا الباب: بيان أن الرجل إذا اجتهد في القبلة، فصلَّى إلى غيرها؛ هل يعيد أم لا؟
فذهب الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أنَّه لا يعيد صلاته؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، فصلاته صحيحة، وبه قال الثوري، والنخعي، والشعبي، وعطاء، وابن المسيب، وحماد، وهو مذهب المؤلف، وهو رواية عن مالك، وهو قول الحسن والزهري.
يدل لهذا ما رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عامر بن ربيعة أنَّه قال: كنَّا مع النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في سفر، فغيَّمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلمَّا
(1)
طلعت الشمس؛ إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]، وروى البيهقي في «المعرفة» ، من حديث جابر قال: إنَّهم صلوا في ليلة مظلمة؛ كلُّ رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقال:«مضت صلاتكم» ، ونزلت:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} .
وقول الترمذي: (ليس إسناده بذاك)، وقول البيهقي:(حديث جابر ضعيف) : ممنوع؛ لأنَّه رُوي حديث جابر من ثلاث طرق؛ أحدها: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، عن محمد بن سالم، عن عطاء بن أبي رباح عنه، ثم قال:(هذا حديث صحيح)؛ فافهم، وروي عن مالك فيمن صلى إلى غير القبلة، والحالة هذه: أنه يعيد في الوقت استحسانًا، وقال المغيرة:(يعيد أبدًا)، وعن حميد بن عبد الرحمن، وطاووس، والزهري:(يعيد في الوقت)، وزعم الشافعية: (إن فرغ
(1)
في الأصل: (فما)، وليس بصحيح.