الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما قال من رؤيته إياهم، ومن أنَّه كان يربطه لتنظروا إليه ويلعبوا به ولدان أهل المدينة) انتهى.
قلت: قوله: (وأنَّهم قد يراهم بعض المؤمنين) : المراد بهم: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وسليمان دون أمة
(1)
نبينا عليه السلام، وكذلك قوله: (وأمَّا الآية
…
) إلخ: خاصٌّ بالنَّبي الأعظم وسليمان دون أمة نبينا، وقوله: (ومن أنه
…
) إلخ: هذا يدل على أنَّه عليه السلام أحب أن تنظر إليه أصحابه، لكن منعه من ذلك دعوة سليمان مع أنَّ الجن مستورون عن الإنس، ولا يمكن رؤية البشر الجن على الصِّفة الأصلية، بل إذا تصوروا بصورة أخرى يمكن، وقوله: (ويلعبوا به
…
) إلخ: هذه دعوى لا دليل عليها فهي مردودة؛ فافهم.
وقال القاضي عياض: (وقيل: إنَّ رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة؛ لظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ
…
}؛ الآية، إلا للأنبياء ومن خرقت له العادة، وإنَّما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم كما جاء في الآثار) انتهى.
واعترضه النَّووي فقال: هذه دعوى مجردة، فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ قوله: (إن رؤيتهم
…
) إلخ: دليلها صريح الآية ظاهرًا، وقوله:(إلا للأنبياء) دليله حديث الباب فإنَّ رؤية العفريت مما اختص به عليه السلام دون أحد من أصحابه وكذلك سليمان، وقوله:(ومن خرقت له العادة)، هم الأبدال والنجباء؛ لما في الحديث أنَّه كل واحد منهم على قدم نبي من الأنبياء، وما كان معجزة لنبي؛ جاز أن يكون كرامة لولي، وفيه أحاديث يطول سردها، وقوله: (وإنما يراهم
…
) إلخ: دليلها الآثار التي ذكرها، فكيف قال النَّووي ما قال؟! فافهم.
وقد ذكر سيدي العارف الشيخ عبد الغني النابلسي أنَّه كان يجتمع بالقاضي شمهورش، ويقرأ عليه، ويدارسه، وهو كان قاضي الجن، وقيل: إنَّه صحابي؛ لأنَّه بلغ من العمر مدة طويلة، قيل: من جن نصيبين أو من غيرهم.
وقد اشتهر عند علماء الروحاني أنهم قالوا: إذا قرأ الإنسان كلمات وأسماء سريانية عددًا مخصوصًا بصفة مخصوصة؛ أنَّه يجتمع بالجن الخادم لهذه الكلمات، كما ذكر ذلك أحمد البوني في «شمس المعارف» ، والله أعلم أن الظَّاهر أن الممتنع رؤيتهم على صورتهم الأصلية من غير طلب وقصد، أمَّا على صورة أخرى بطلب من عزيمة ونحوها؛ فغير ممتنع؛ فليحفظ.
وقد حدثني شيخي عن شيخه الشيخ محمَّد الكزبري: أنَّه كان عنده مرة الشيخ عبد القادر القباني فأخبره: أنَّ له شيخًا من الجن، فاستأذنه بالاجتماع به، فأذن له، فاستأذن الشيخ الجني، فأذن له لكن بشرط أن يكون الوقت ليلًا وأن يكون بغير نور، فاجتمعوا في مكان، وسمع صوته ولم ير شخصه، وأنَّ صوته رقيقٌ
(2)
، هكذا قال، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث دليل على أنَّ أصحاب سليمان عليه السلام كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم؛ لم تكن تقوم الحجة له؛ لمكانته عليهم) انتهى، واعترضه العجلوني فزعم أنَّ في دلالته على ما ذكر خفاء، انتهى، قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّ الحديث فيه أنَّه عليه السلام أحبَّ أن يربط العفريت، وتنظر إليه أصحابه ويشاهدوه، فتذكَّر قول سليمان؛ حيث إنَّه كانت أصحابه تشاهد الجن؛ فلم يفعل وترك ذلك؛ حرصًا على إجابة دعوة سليمان؛ فافهم، وفي «تفسير القرطبي» :(قال علي: بينا سليمان على شاطئ البحر، وهو يعبث بخاتمه؛ إذ سقط منه في البحر، وكان ملكه في خاتمه، قال جابر: قال عليه السلام: «كان نقش خاتم سليمان: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله»، وحكى يحيى الشيباني عن ابن عبَّاس: أنَّ الذي أخذ خاتمه صخر من الشياطين، ثم إنَّه وجد الخاتم في عسقلان، قال علي رضي الله عنه: لما أخذ سليمان الخاتم؛ أقبلت إليه الشياطين، والجن، والإنس، والطير، والوحش، والريح، وهرب الشَّيطان، فاستشارهم حتى أرسل إليه، وأوثقه في جبل الدخان) انتهى، قلت: فهذا يدل على أنَّ أصحاب سليمان يشاهدون الجن والشياطين، ويدل عليه قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ
…
}؛ الآية [النمل: 17]، وبهذا كفاية، والله أعلم.
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث دليل على أنَّ الجن ليسوا باقين على عنصرهم النَّاري، ولأنَّه عليه السلام قال:«إنَّ عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهتي» ، وقوله عليه السلام:«رأيت ليلة أسري بي عفريتًا من الجن يطلبني بشعلة من نار، كلما التفت إليه رأيته» ، ولو كانوا باقين على عنصرهم النَّاري، وأنهم نار محرقة؛ لما احتاجوا إلى أن يأتي الشَّيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشَّيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما يحرق الآدميَّ النَّارُ الحقيقية بمجرد اللمس، فدل هذا على أنَّ تلك النَّارية انغمرت
(3)
في سائر العناصر حتى صار البرد، ويؤيده قوله عليه السلام:«حتى وجدت برد لسانه على يدي» ، وفي رواية:«برد لعابه» ) انتهى، قلت: وهذا كلام في غاية من التحقيق.
وقال البغوي: (وفي الجن مسلمون وكافرون، ويحيون ويموتون، وأمَّا الشياطين؛ فليس فيهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس)، وذكر وهب: أنَّ من الجن من يولد لهم، ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، من نار السموم: ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله، ويقال: السموم بالنهار، والحرور بالليل، وعن الكلبي: السموم: نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها، وهي نار بين السَّماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمرًا خرقت الحجب فهوت إلى ما أمرت، فالهدة التي تسمع هي خرق
(4)
ذلك الحجاب، وقيل: نار السموم: لهب النَّار، وقيل: من نار السموم؛ أي: من نار جهنم.
وعن الضحاك عن ابن عبَّاس: (كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم: الجن، خُلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وأما الملائكة؛ فخلقوا من النور) انتهى، قلت: وهذا يؤيد ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
قلت: وما يزعمه الناس من أنَّ الجن تصرع بعض الإنس بكلمات يقرؤها المشايخ؛ فباطل، ولهذا قال الإمام الجبائي: الناس يقولون: المصروع إنَّما حصلت له تلك الحالة؛ لأنَّ الشَّيطان يمسه ويصرعه؛ وهو باطل؛ لأنَّ الشَّيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس، ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشَّيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، وهذا صريح في أنَّه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء.
وثانيها: أنَّ الشَّيطان ليس كثيف الجسم، وإلا لوجب أن نشاهده؛ إذ لو كان كثيفًا ويحضر ثم لا يرى؛ لجاز أن يكون بحضرتنا شموس، ورعود، وبروق، وجبال، ونحن لا نراها، وذلك جهالة؛ لأنَّه لو كان جسمًا كثيفًا؛ كيف يمكن أن يدخل الشَّيطان في باطن بدن الإنسان؟ ولو لم يكن جسمًا كثيفًا؛ لكان جسمًا لطيفًا كالهواء، ومثل ذلك يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادرًا على الصرع للإنسان وقتله.
ثالثها: لو كان الشَّيطان يقدر على أنْ يصرع ويقتل؛ لصحَّ أن يفعل مثل معجزات الأنبياء، وذلك يجر إلى الطعن في النُّبوة.
رابعها: أنَّ الشَّيطان لو قدر على ذلك فلمَ لا يصرع جميع المؤمنين؟ ولمَ لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان؟ ولم لا ينصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويزيل عقولهم؟ وكل هذا ظاهر الفساد.
وزعم قوم أنَّ الشَّيطان يقدر على ذلك لما روي: (أنَّ الشياطين في زمان سليمان كانوا يعملون له ما شاء من محاريب وتماثيل)، ولقوله تعالى {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} [البقرة: 275]، وهذا صريح في ذلك.
وأجيب عن الأول: بأنَّه تعالى كثَّف
(5)
أجسامهم في زمان سليمان، فلما صارت كثيفة؛ قدرت على الأعمال الشاقة، وهو من معجزاته.
وعن الثاني: أنَّ الشَّيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو قول أيِّوب:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وإنَّما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة؛ لأنَّ الله خلقه عند ضعف الطبع وغلبة السوداء عليه، فلا جرم يخاف ويفزع عند تلك الوسوسة، ولهذا لا يوجد في الفضلاء.
وقد أفرد بيان الجن وأحكامها الإمام العلامة بدر الدين الشبلي الحنفي في كتاب سماه «آكام المرجان في أحكام الجان» ، فعليك به؛ لأنَّه لم يُسبق بمثله، وقد أودع فيه من التحقيقات الرَّائقة والتدقيقات الفائقة بما لم يسمع بمثله، فلله دره ما أعلمه، وفيه من أحكامهم: ولا خلاف في أنَّهم مكلفون، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النَّار، واختلفوا في ثواب الطائعين؛ ففي «الفتاوى البزازية»
(1)
في الأصل: (أمتي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (رقيقًا)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (انغمزت)، وهو تصحيف.
(4)
في الأصل: (حرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
في الأصل: (كشف)، ولعل المثبت هو الصواب.
معزوًّا
(1)
لـ «الأجناس» عن الإمام الأعظم أنَّه قال: (ليس للجن ثواب) انتهى، وذلك؛ لأنَّه جاء في القرآن فيهم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 11] والمغفرة لا تستلزم الإثابة؛ لأنَّه ستر؛ منه: المغفر للبيضة
(2)
، والإثابة بالوعد فضل، فثوابهم النَّجاة من النَّار، وإليه ذهب جماعة، وبه قال اللَّيث وأبو الزناد، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن:(لهم ثواب كما عليهم عقاب)، وبه قال مالك وابن أبي ليلى.
قال في «الفتاوى السراجية» : (ولا تجوز المناكحة بين بني آدم والجن وإنسان الماء؛ لاختلاف الجنس) انتهى، وتبعه في «منية المفتي» ، و «الفيض»؛ لقول الله تعالى:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] أي: من جنسكم، ونوعكم، وعلى خلقكم، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] أي: من الآدميين، ولما رواه حرب الكرماني في «مسائله» عن الزهري قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن) وهو مرسل، لكنَّه حجة عند الجمهور لا سيما وقد اعتضد بأقوال العلماء؛ فروي المنع عن الحسن البصري، وقتادة، والحاكم، وابن
(3)
قتيبة، وإسحاق بن راهويه، وعقبة [بن] الأصم، وغيرهم، فإذا تقرر المنع من نكاح الأنسي الجنية، فالمنع من نكاح الجني الأنسية أولى.
وسئل مالك عن نكاح الجن، فقال:(ما أرى بذلك بأسًا في الدين، ولكن أكره إذا وجد امرأة حامل، قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام) انتهى.
قال الإمام الجليل قاضيخان في «فتاواه» : (امرأة قالت: معي جني يأتيني في النَّوم مرارًا، وأجد منه في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، قال: لا غسل عليها) انتهى، وقيده المحقق الكمال بن الهمام بما إذا لم تُنزل، أمَّا إذا أَنزلت؛ وجب الغسل؛ لأنَّه احتلام.
ويصح الصلاة خلف الجني؛ لأنَّه مكلف بلا خلاف، وتنعقد الجماعة بهم؛ لما رواه أحمد في «مسنده» عن ابن مسعود في قصة الجن وفيه:(لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي؛ أدركه شخصان منهم فقالا: يا رسول الله؛ إنَّا نحب أن تؤمنا في صلاتنا، فقال: فصفهما خلفه، ثم صلى بنا، ثم انصرف).
ورواية الجني مقبولة، وقال السيوطي: لا شك في جواز روايتهم عن الإنس ما سمعوه سواء علم الإنسي بهم أولا، وأمَّا رواية الإنسي عنهم؛ فالظَّاهر منعها؛ لعدم حصول الثِّقة بعدالتهم.
وذبيحة الجني لا تؤكل؛ لأنَّه عليه السلام نهى عن أكل ذبائح الجن كما في «الملتقط» .
والجمهور على أنَّه لم يكن من الجن نبي، وذهب الضحاك وابن حزم على أنَّه كان منهم نبي، وتمامه في «آكام المرجان» .
ولم يعرف العجلوني مذهب إمامه، فلم يتعرض لأحكامهم مع أنَّه لازم؛ تتميمًا للفائدة حتى لا تشتاق النفس إلى ذلك؛ فليحفظ والله أعلم.
(76)
[باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد]
(باب الاغتسال إذا أسلم)؛ أي: هذا باب في بيان حكم اغتسال الكافر إذا أسلم؛ أي: في المسجد (و) بيان حكم (ربط الأسير)(فعيل) بمعنى (مفعول) قال في «الصِّحاح» : أسره؛ أي: شده بالأساري، وهو القد، ومنه سمي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدونه بالقد، كما مر، (أيضًا) مصدر (أضَّ) بمعنى: رجع، وقوله:(في المسجد) اللَّام فيه للجنس، والجار والمجرور متعلق بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم، وفي رواية أبي ذر:(ويربط الأسير أيضًا في المسجد) وعليها؛ فالجار والمجرور متعلق بـ (يربط)، ويجوز تنوين (باب) خبرًا لمبتدأ محذوف، وجعل (الاغتسال) مرفوعًا مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: مندوب، فيقال: بابٌ -بالتنوين- الاغتسال على الكافر إذا أسلم مندوب، وقوله:(وربط الأسير) بالرفع معطوف على الاغتسال، وقوله:(في المسجد) متعلق أيضًا: بـ (الاغتسال)، وبـ (يربط)، أو حال منهما أو صفة لهما.
قال إمام الشَّارحين: (وهذه التَّرجمة وقعت هكذا في أكثر الروايات، وليس في رواية كريمة والأصيلي قوله: «وربط الأسير أيضًا في المسجد») انتهى، وقال القسطلاني: (إنَّ قوله: «وربط الأسير
…
» إلى أول السند ساقط عند ابن عساكر، وأبوي ذر والوقت).
وقال إمام الشَّارحين: (ووقع عند البعض لفظ «باب» بلا ترجمة، وهو الصَّواب لأنَّ حديث الباب من جنس حديث الباب الذي قبله، ولكن لما كانت بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهو أنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم همَّ بربط العفريت بنفسه ولكنه لم يربطه؛ لمانع ذكرناه، وههنا ربطه غيره، فلذلك فصل البخاري بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهذا أصوب من النُّسختين المذكورتين؛ لأنَّ في نسخة الجمهور، ذكر الاغتسال إذا أسلم، وليس في حديث الباب ذكر لذلك ولا إشارة إليه، وفي نسخة الأصيلي: «ربط الأسير» غير مذكور، وحديث الباب يصرح بذلك) انتهى.
واعترضه العجلوني بأنَّ ما أوردَه على نسخة الجمهور غير وارد إن لم نجعل (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) أيضًا، وحديث الباب مصرح فيه بالاغتسال، لكنه خارج المسجد، وظاهره وإن كان قبل الإسلام، لكنَّ المراد: بعد الإسلام؛ لما في حديث ابني خزيمة وحبان من التصريح بأنه بعد الإسلام، ويمكن حمل ما هنا على أنَّه أظهر الإسلام بين الصَّحابة وإن كان أسلم قبلُ عند خروج النَّبي عليه السلام إليه في المرة الثالثة؛ فتأمَّل) انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وقول صادر من غير اعتبار؛ لأنَّ كون (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) متعين كما أوضحناه قريبًا، وذلك لصحة المعنى، وحديث الباب غير مصرح بالاغتسال في المسجد، بل صرح بالاغتسال خارج المسجد وهو غير مراد، وصريح الحديث أنَّ الاغتسال منه وقع قبل الإسلام، وكونه بعد الإسلام يحتاج لدليل، وما ذكره عن ابن حبان وابن خزيمة، لا ينهض دليلًا؛ لأنَّ فيه (فمرَّ عليه النَّبي عليه السلام يومًا فأسلم فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل
…
)؛ الحديث، ويأتي بتمامه قريبًا، وهو يقتضي أنَّ القصة متعددة، ويحتمل أنَّ معنى:(أسلم) انقاد للإسلام؛ لأنَّ في أول الحديث أنَّه عليه السلام كان يهدده، ويقول ثمامة:(إن تقتل تقتل)، وفي آخر الحديث قال عليه السلام لأصحابه:«لقد حسن إسلام أخيكم» ، وهذا يدل على أنَّ إسلامه الحقيقي كان بعد الاغتسال، وعلى كل حال؛ فالاغتسال إنَّما كان خارج المسجد، وإمكان كونه أظهر الإسلام بين الصَّحابة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كما ذكر؛ لكانت الصَّحابة أخبرت النَّبي عليه السلام بإسلامه ولما قالوا له:(ما تصنع بقتل هذا؟) كما عند ابني خزيمة وحبان، وهو كان يهدده وهم شاهدون، وهذا ظاهر في مرات متعددة، ولم يكن إسلامه قبل خروجه عليه السلام، بل إنَّما كان بعد حله وبعثه لأجل الاغتسال، كما هو صريح حديث الباب، وحديث ابني خزيمة وحبان.
والحاصل: أنَّ ما قاله إمام الشَّارحين هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وما زعمه العجلوني باطل صادر من فكر عاطل؛ فافهم، والله أعلم.
وقال ابن المُنَيِّر: (ولم يورد المؤلف قصة ثمامة في باب «الأسير يربط في المسجد» مع أنَّها أليق بحسب الظَّاهر؛ لاحتمال أنَّ المؤلف آثر الاستدلال بقصة
(1)
في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (المغفرة لأبيضة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (والحاكم بن)، ولعل المثبت هو الصواب.