الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودع الفاسد.
وزعم ابن حجر أنَّ التشييد: من شيَّد يشيِّد؛ رفع البناء والإحكام، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] انتهى.
قلت: الحصر المذكور فاسد، فإنَّه يجوز أن يكون من شاد الحائط بالشيد؛ طينه، وقال في «القاموس» :(شاد الحائط يشيده: طلاه بالشيد؛ وهو ما طلي به حائط من جص ونحوه).
وقول الجوهري: (من طين أو بلاط بالموحَّدة غلط، والصواب بالميم؛ لأنَّ البلاط حجارة لا يطلى بها، وإنما يطلى بالملاط: وهو الطين، والمَشيْد: المعمول به، وكمؤيَّد
(1)
: المطول) انتهى؛ فافهم، ثم رأيت العجلوني اعترض بنحو ما ذكرته؛ فافهم.
[حديث: أن المسجد كان على عهد رسول الله مبنيًا باللبن]
446 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) : هو ابن جعفر بن نجيح أبو الحسن المشهور بالمديني المصري (قال: حدثنا) كذا للأصيلي، ولغيره (حدثني) بالإفراد (يعقوب بن إبراهيم)، زاد الأصيلي:(ابن سعْد)؛ بسكون العين المهملة (قال: حدثنا أبي) : هو إبراهيم المذكور، ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الأصل العراقي الدار (عن صالح بن كيسان)؛ بفتح الكاف: هو أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز الأموي (قال: حدثنا نافع) : هو مولى ابن عمر المدني، ففي السند رواية الأقران: وهي رواية صالح عن نافع؛ لأنَّهما من طبقة واحدة، وفيه رواية التابعي عن التابعي؛ لأنَّ صالحًا ونافعًا كلاهما تابعيان، قاله إمام الشَّارحين:(أنَّ) بفتح الهمزة (عبد الله) زاد الأصيلي (ابن عمر) : هو ابن الخطاب القرشي العدوي (أخبره) أي: أخبر نافعًا (أنَّ) بفتح الهمزة أيضًا (المسجد)؛ أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد (كان) أي: المسجد (على عهد) أي: أيام وزمان (رسول الله)، وللأصيلي:(النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم مَبْنيًّا)؛ بفتح الميم، وسكون الموحدة، وتشديد التحتية، من البناء؛ وهو وضع شيء على شيء بصفة يراد بها الثبوت والدوام (باللَّبِن)؛ بفتح اللام، وكسر الموحدة، ويجوز فيه تسكين الموحدة مع كسر اللام أيضًا: وهو الطوب النيء قبل أن يشوى، فإذا شوي؛ فهو الآجرُّ؛ بالمد، (وسقفه الجريد)؛ أي: جريد النخل؛ وهو الذي يجرد عنه الخوص، وإذا لم يجرد؛ يسمى: سعفًا، والجملة محلها نصب على الحال، ويحتمل عطف سقفه على اسم (كان) المستتر؛ لوجود الفاصل، فتنصب (الجريد) عطفًا على خبرها، وهذا الاحتمال ذكره العجلوني، ولكن فيه نظر، على أن الرواية لا تساعده؛ فافهم، وذكر مثله مع ما فيه من الركاكة وعدم مساعدة الرواية له في قوله:(وعُمُده خشب النخل) : الجملة حالية كالأولى على الأظهر و (العُمُد)؛ بضمَّتين، أو بفتحتين: كخشب، قال العجلوني:(ويجوز تسكين الثاني في المضمومتين منهما، فيجوز فيهما ستة أوجه؛ فتدبر) انتهى، قلت: يتأمل توجيهها، والظاهر أنَّها أربعة أوجه؛ فافهم، قال الجوهري:(العمود: عمود البيت، وجمع القلة: «أعمدة» وجمع الكثرة: «عُمُد» و «عَمد»، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9])، وقال الكرماني:(والخشب: مفردًا وجمعًا) وظاهره: في جميع وجوهه؛ فتأمل، (فلم يزد فيه) أي: المسجد (أبو بكر) : هو الصديق الأكبر رضي الله عنه (شيئًا)؛ المراد به: أنه لم يغير فيه شيئًا زمن خلافته لا بزيادة ولا نقصان، (وزاد فيه) أي: المسجد (عمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنه؛ أي: في زمن خلافته يعني: في الطول والعرض، وهذه الزيادة وكذا زيادة عثمان قد بيَّنها مفصلة السمهودي في «تاريخه» ، (وبناه) أي: عمر حين زاد فيه (على بنيانه) أي: الأصلي الذي كان (في عهد) أي: زمن (رسول الله صلى الله عليه وسلم والجار والمجرور: صفة للبنيان، أو حال منه.
قال الكرماني: (فإن قلت: إذا بنى على ذلك البنيان؛ فكيف زاد فيه؟ قلت: لعلَّ المراد بالبنيان: بعضها أو الآلات، أو بزيادة رفع سمكها، أو المراد على هيئة بنيانه ووصفها) انتهى.
قلت: والذي يظهر من السياق أن الصواب هو المعنى الأخير؛ لأنَّ بنيان بعضها غير ظاهر، وكذلك الآلات غير ظاهر أيضًا، وكذلك زيادة رفع سمكها؛ لأنَّه في هذه الأوجه لا يقال: إنَّه بناه على بنيانه، فالمراد: أنه بناه على هيئة بنيانه ووصفها الأصلية مع زيادة طوله وعرضه، ويدل لهذا قوله:(باللبن والجريد) : متعلق بقوله: (وبناه)؛ يعني: في حيطانه وسقفه؛ كما كان على عهده عليه السلام بهما (وأعاد) أي: عمر رضي الله عنه (عمده خشبًا)؛ أي: كما كانت؛ لأنَّها تَلِفَت وبَلِيَت، فلم يغير فيه شيئًا من هيئته إلا توسعته وبناه بجنس آلاته الأصلية، قال السهيلي:(نخرت عمده في خلافة عمر، فجددها) انتهى.
(ثم غَيَّره)؛ بفتح العين المعجمة، وتشديد التحتية (عثمان بن عفان) : أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ أي: زمن خلافته فوسعه وغير آلاته، (فزاد) أي: عثمان (فيه) أي: في المسجد النبوي (زيادة) : كثيرة؛ أي: من جهة التوسيع، (وبنى جداره)؛ بالإفراد، والظاهر: أنَّ المراد: جدرانه الأربع، وقد يقال: إنه بنى جداره الذي زاده (بالحجارة المنقوشة)؛ بالتعريف فيهما، هكذا رواية غير الحموي والمستملي، وفي روايتهما:(بحجارة منقوشة)؛ بالتنكير؛ أي: بدلًا عن اللبن كذا في «عمدة القاري» ، (والقَصَّةِ)؛ بالجر، بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، وهو الجص بلغة أهل الحجاز، يقال: قصَّص جداره؛ أي: جصَّصَه، وزعم الخطابي: القصَّة: تشبه الجص، وليست هي، وقال إمام الشَّارحين:(القصة: الجص، لغة فارسية معربة، وأصلها: كج، وفيه لغتان: فتح الجيم وكسرها، وهو الذي تسميه أهل مصر: جيرًا، وأهل البلاد الشامية يسمونه: كِلْسًا) انتهى، قلت: هو بكسر الكاف وسكون اللام آخره مهملة، وهو الحجارة الكدانة تحرق فتصير كلسًا، وقوله:(وجعل عمده) : عطف على قوله: (وبنى جداره)(من حجارة منقوشة)، وقوله (وسَقَفَه)؛ بلفظ الماضي: من التسقيف، من باب التفعيل عطفًا على (جعل)، وفي رواية «فرع اليونينية» :(وسقْفَه) : بلفظ الاسم عطف على (عمده)، أفاده إمام الشَّارحين، قلت: فهو بإسكان القاف، وفتح الفاء، وضبطه البرماوي:(وسقَّفه) : بتشديد القاف، انتهى، قلت: التشديد؛ للمبالغة ولا مبالغة في السقف، على أن
(2)
الرواية لا تساعده؛ لأنَّها إما بلفظ الماضي مخففًا أو الاسم؛ فافهم، وقوله:(بالساج) : متعلق بقوله: (وسَقَفَه)، وزعم العجلوني أنَّه متعلق بقوله:(وجعل)، قلت: والظاهر: ما ذكرناه؛ فافهم، و (الساج)؛ بالسين المهملة، والجيم؛ وهو ضرب من الخشب معروف يؤتى به من الهند، وله قيمة، قاله إمام الشَّارحين، أي: عظيمة، الواحدة: ساجة.
قال إمامنا الشَّارح: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
وقال ابن بطال: (ما ذكره البخاري في هذا الباب يدل على أنَّ السنة في بنيان المساجد القصد، وترك الغلو في تشييدها وتحسينها؛ خشية الفتنة والمباهاة ببنائها، وكان عمر مع الفتوحات التي كانت في أيامه وتمكنه
(1)
في الأصل: (كمريد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
من سعة المال لم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإنَّما احتاج إلى تجديده؛ لأنَّ جريد النخل قد كان نخر في أيامه وبلي، ثم جاء الأمر إلى عثمان والمال في زمانه أكثر؛ فحسنه بما يقتضي الزخرفة، فلم يزد فيه على أن جعل مكان اللبن حجارة وقصة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصر هو وعمر رضي الله عنهماعن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علمهما بكراهة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من المقاصد بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة منها، ولهذا فقد أنكر على عثمان بعض الصحابة) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ صونًا من الفتنة) انتهى.
قلت: وذكر النووي وغيره أن أول من وسَّع المسجد واتخذ له جدارًا دون القامة عمر بن الخطاب، وذلك؛ لأنَّه اشترى دورًا وضمَّها إليه، ثم وسَّعه عثمان واتَّخذ له الأروقة وبناه بالأحجار المنقوشة، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي، ثم المأمون، وعليه استقرَّ بناؤه إلى الآن على الصحيح، انتهى، قلت: وقد وسَّعه أيضًا السلطان عبد المجيد العثماني في زمن خلافته سنة نيف وسبعين ومئتين وألف.
وقال ابن المُنيِّر: (لما شيَّد الناس بيوتهم وزخرفوها؛ ناسب أن يُصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، وقد حدث عند الناس مؤمنهم وكافرهم تشييد بيوتهم وتزيينها ولم يمكن أن يمنعوا من ذلك؛ فكان بيت الله أولى، وذلك لو أنا بنينا مساجدنا باللبن النيء وسقفناها بالسعف، وجعلناها متطامنة بين الدور الشاهقة، وفعلها أهل الذمة؛ لكانت مستهانة، فحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، ولو أنَّ المسجد الشريف أعيد بالطين والسعف، وشيدت دور المدينة إلى جنبه؛ لكان ذلك إهمالًا من المسلمين؛ فالذي اختاره الله تعالى الآن للمسلمين خيرًا إن شاء الله تعالى، ولو كان الزمان كما كان؛ لما عدل منه عن إعادة المسجد إلى ما يناسب حال القوم من التواضع والتقنع) انتهى.
واعترضه بعضهم -على ما نقله ابن حجر- بأن المنع إن كان للحثِّ على اتِّباع السلف وترك الرفاهية؛ فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة؛ فلا؛ لبقاء العلة، انتهى.
واعترضه العجلوني فقال: (المقرر في مذهبهم التفصيل بين كونه في القبلة؛ فيكره، وإلا؛ فلا)، قال الشيخ خليل في «مختصره» :(وكره تزويق قبلة المسجد) انتهى؛ فاعرفه، انتهى.
وزعم ابن حجر: ورخَّص في ذلك بعضهم وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (مذهب أصحابنا: أنَّ ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد؛ معناه: تركه أولى، وقدمرَّ الكلام فيه عن قريب) انتهى.
قلت: وعبارته فيما تقدم، وبهذا استدل أصحابنا على أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وقول بعض أصحابنا: لا بأس بنقشه؛ معناه: أنَّ تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يصرفه سواء كان ناظرًا أو غيره، انتهى.
واعترضه العجلوني بعبارة «النهر» منتصرًا لابن حجر؛ فإنَّها يعلم منها أنَّه قيل: بندبه، لا كما يُفهمه كلامه، وعبارة «النهر» :(ولا يُكره أيضًا نقشه بالجِصِّ -بالكسر والفتح، معرَّب كج- وبالذهب ونحوه)، قيل: هذه العبارة مساوية لقول «الجامع» : (لا بأس بذلك)؛ بناءً على أنَّ المنفي كراهة التحريم، وأنَّ لفظ:(لا بأس) لا يلزم استعماله فيما تركه أولى.
وقال السرخسي: (إن ما في «الجامع» فيه إشارة إلى أنه لا يأثم، ولا يؤجر، وقيل: يندب، والكلام في غير المحراب: أمَّا هو؛ فيكره نقشه، وفي داخل المسجد، أما خارجه؛ فيكره) انتهى.
قلت: وكلام العجلوني فاسد الاعتبار؛ فإن المصرَّح به في كتب المذهب المعظم كـ «التنوير» و «شروحه» : أنه لا بأس بنقش المسجد -خلا محرابه- بجص وماء ذهب لو بماله لا من مال الوقف، وضمن متولِّيه لو فعل، قال صاحب «النهاية» :(أفاد أنَّ المستحب غيره؛ لأنَّ البأس الشدَّة؛ فلفظ: «لا بأس» : دليل على أنَّ المستحب غيره)، انتهى، وقال في «المضمرات» :(الصرف إلى الفقراء أفضل، وعليه الفتوى)، ومثله في:«الهندية» ، وقيل: إنه مكروه؛ للحديث الصحيح: «إن من أشراط الساعة أن تزيَّن المساجد
…
» الحديث؛ فإن العلة في الكراهة: هو إلهاء
(1)
المصلين، وقد صرَّح صاحب «البدائع» وغيره أن الخشوع في الصلاة مستحب، ومثله في «الأشباه» فأفاد أن الكراهة للتنزيه، وهي أمارة قولهم:(لا بأس)، فإنَّها تدل على أن تركه أولى؛ وهي مفادة كراهة التنزيه، ولا فرق في جدرانه؛ لأنَّ المحراب يلهي الإمام، وجدار القبلة بتمامه يلهي المصلين خلفه، وكذا حائط الميمنة والميسرة يلهي القريب منه، بخلاف السقف والمؤخر؛ لأنَّه لا يلهي، وإذا كان الإلهاء موجودًا في حائط القبلة والميمنة والميسرة؛ للمصلين؛ فات الخشوع، وتكون الصلاة مكروهة تنزيهًا، ففعل النقش في هذه الحيطان مكروهة تنزيهًا؛ كما لا يخفى، وهذا معنى عبارة «النهر» وهو الموافق لعبارة إمام الشَّارحين، فما فهمه العجلوني غير صحيح؛ فافهم.
(63)
[باب التعاون في بناء المسجد]
هذا (باب) حكم (التعاون)؛ أي: تعاون الناس بعضهم بعضًا (في بناء المسجد)؛ بالإفراد، والألف واللام فيه للجنس، وهي رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والحموي:(في بناء المساجد)؛ بالجمع.
و (التعاوُن)؛ بضمِّ الواو: مصدر تعاون القوم؛ تساعدوا، وتقدير الحكم في الترجمة أولى من تقدير الجواز؛ كما فعله العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم والثاني أخص، ومراد المؤلف: العموم كما هي عادته في جميع التراجم، وأشار المؤلف بهذه الترجمة إلى أنَّ التعاون في فعل الخير بين الناس مطلوب مرغوب فيه؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فتعاون الناس بعضهم بعضًا مندوب كبناء المساجد، وتعمير السُّبُلات وغير ذلك، فمن زاد في معاونته؛ زاد أجره، وهو شامل للمعاونة بالمال أو البدن، أما الصلاة والصوم؛ فليس فيهما معاونة؛ لأنَّهما عبادة قاصرة على صاحبها، فلا يجوز التعاون فيها؛ كما لا يخفى؛ فافهم.
(1)
في الأصل: (الإلهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.
(وقول الله عز وجل كذا في رواية الكشميهني على ما قاله القسطلاني، لكن قال إمام الشَّارحين: (إنها رواية الأكثرين)، وزاد فيه:(إلى قوله: {المهتدين})، وتبعه ابن حجر في «الفتح» و «العمدة» ، وقال إمام الشَّارحين أيضًا:(وفي رواية أبي ذر: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} إلى قوله: {المُهْتَدِينَ} [التوبة: 17 - 18]، ولم يقع في روايته لفظ: «وقول الله عز وجل») انتهى، وفي رواية ابن عساكر:(قوله تعالى)، كذا ذكرها القسطلاني بدون عطف، وفي رواية بالعطف، والله تعالى أعلم:({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ})؛ أي: بالله؛ أي: ما ينبغي لهم وما استقام لهم ({أَن يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ})؛ بالإفراد في رواية الأكثرين، وهي قراءة يعقوب، وأبي عمرو، وابن كثير، وأراد به: المسجد الحرام، يدل عليه قوله تعالى:{وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [التوبة: 19]، وقوله تعالى:{فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة: 28]، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر:({مساجد})؛ بالجمع على ما في القسطلاني، وقد اشتبه عليه العجلوني عبارته؛ فزعم أن رواية أبي ذر:({مسجد})؛ بالإفراد وليس كذلك، وهذه الرواية هي قراءة الآخرين، والمراد بقراءة الجمع: المسجد الحرام أيضًا، ولهذا قال الحسن البصري:(إنما قال: {مساجد}؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها)، وقال القزاز:(إنما ذهبت العرب بالواحد إلى الجميع، وبالجميع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون، فيقول: أخذت في ركوب البراذين، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، ويريد: الدراهم والدنانير)، وقال صاحب «الكشاف» :(والمراد بـ «المسجد»؛ بالإفراد: المسجد الحرام، يدل عليه أن سبب نزول الآية: أنَّ المهاجرين والأنصار أقبلوا على أسارى بدر، فعيَّروهم بالشرك، وطفق علي بن أبي طالب يوبِّخ العبَّاس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ عليه في القول، فقال العبَّاس: تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا، فقالوا: أوَلكم محاسن؟ فقالوا: نعم، ونحن أفضل منكم جدًّا، إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني؛ فنزلت)، ولا يرد على هذا قراءة:(المساجد)؛ بالجمع التي هي قراءة الأكثرين؛ لأنَّهم جوزوا أنَّ المراد بها: المسجد الحرام، وإنَّما جمع؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر سائر المساجد، أو لأنَّ كل بقعة منه مسجد، أو أنَّ المراد به الجنس؛ أي: جنس المساجد، فإذا لم يصلحوا أن يعمروا جنسها؛ دخل تحت ذلك ألَّا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد؛ لأنَّ طريقه طريق الكناية؛ كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله؛ أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك، انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف ذكر هذه الآية لمصيره إلى ترجيح أحد الاحتمالين من الآية؛ لأنَّ قوله: {مساجد الله} : يحتمل أن يراد بها: موضع السجود، وأن يراد بها: المساجد، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها: بنيانها، وأن يراد بها: الإقامة فيها لذكر الله تعالى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ما قاله هذا القائل لا يناسب معنى هذه الآية أصلًا، وإنَّما يناسب معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
…
} الآية [التوبة: 18]، على أن أحدًا من المفسِّرين لم يذكر هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل، وإنما هذا تصرُّف منه بالرأي في القرآن؛ فلا يجوز ذلك، ويجب الإعراض عنه، قال المفسرون: معنى هذه الآية؛ ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده [لا شريك له، ومن قرأ {مسجد الله} أراد به: المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض]
(1)
الذي
(2)
بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسَّسه خليل الرحمن عليه السلام، ثم ساق عبارة الزمخشري
…
) إلى آخر كلامه رضي الله عنه.
واعترضه العجلوني؛ فقال: (دعواه عدم مناسبة ما قاله ابن حجر لمعنى هذه الآية وحصره المناسبة لمعنى الثانية؛ غير ظاهر، وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد من المفسرين؛ لأنَّه قد ذكر هذا المعنى البغوي في «تفسيره» وعبارته:«أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد إنَّما تعمر لعبادة الله تعالى وحده، فمن كان كافرًا بالله؛ فليس من شأنه أن يعمرها؛ فذهب جماعة إلى أنَّ المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب؛ فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل، وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه» انتهى، فانظر إلى قوله: «فذهب جماعة
…
» إلخ؛ تجده دافعًا لاعتراضه، وما نقله عن الزمخشري لا ينافي ما ذكره ابن حجر، على أنَّ الكرماني وغيره قال في كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، وفيه إرشاد إلى أن للعالم الفَهِم أن يستخرج من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين بشرط موافقته للأصول الشرعية، انتهت؛ فأعجب من قوله وتشنيعه) انتهى.
قلت: وما ذكره العجلوني فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قوله (دعواه عدم مناسبة ما قاله
…
) إلى آخره،؛ ممنوع؛ فقد ذكر ذلك القاضي البيضاوي، وعبارة البيضاوي: ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
…
} الآية؛ أي: إنَّما يستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم فيها، وصيانتها عما لم تُبنَ له: كحديث الدنيا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوَّاري فيها عُمَّارها؛ فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني في بيتي؛ فحقعلى المَزُور أن يكرم زائره» ) انتهى، فهذا دليل ظاهر على أن ما ذكره مناسب لمعنى الآية الثانية؛ كما قاله إمام الشَّارحين، لكن فيه أن ما زعمه ابن حجر تلفيق وخلط؛ لأنَّ بعضه يوافق معنى ما ذكره البيضاوي، وبعضه لا يوافق أصلًا؛ بل ولا يوافق أحدًا، فهو خبط في الكلام؛ فكأنَّه قال ولا يدري ما يقول؛ فافهم.
وقوله: (وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد
…
) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ فإن عبارة البغوي لا تدل على ما قاله؛ لأنَّه لم يقل: إنَّ المراد من الآية: أن يراد بها موضع السجود، فهو قول بالرأي بعينه، وكذا لم يقل البغوي: وأن يراد بها المساجد.
وقوله: (فانظر إلى قوله: فذهب جماعة
…
) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه وإن كان ظاهره أنَّه موافق لما قاله ابن حجر، لكنه في الحقيقة مخالف له ومباين؛ لأنَّ عبارة البغوي مبنية على مرمة المساجد؛ لأنَّه قال:(من مرمته عند الخراب)، وما زعمه ابن حجر أنَّه يراد بعمارتها: بنيانها؛ لأنَّ منطوق الآية ومفهومها أنه يجب على المسلمين منعهم من بناء المساجد؛ كما قاله البغوي وغيره؛ فلا شك أن ما قاله ابن حجر تصرُّف من عنده وهو القول بالرأي
(1)
ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري» .
(2)
في الأصل: (التي)، ولعل المثبت هو الصواب.
بعينه، وإنَّما اقتصرنا على عبارة البغوي؛ لأنَّ العجلوني جعلها سندًا ومستندًا له، والحال أن ابن حجر قد تصرَّف في عبارة البغوي، وخبط وخلط، ونسبها لنفسه، وليس في ذلك دفع لما قاله إمام الشَّارحين، بل الصواب هو ما قاله إمام الشَّارحين.
وقول العجلوني: (وما نقله عن الزمخشري لا ينافي ما قاله ابن حجر)؛ ممنوع، فإن المنافاة بينهما ظاهرة لمن كان عنده شيء من العلم، كما علمت من عبارته، وما قاله إمام الشَّارحين من معنى الآية هو ما قاله الإمام مفتي الثقلين العلامة أبو السعود ونجم الدين النسفي والبيضاوي وغيرهم، وهو خلاف ما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ قوله:(وأن يراد بها الإقامة فيها لذكر الله) : هذا توجيه معنًى بالرأي بعينه أيضًا؛ فإن الكافر المشرك لا يوحِّد الله، ولا يصلي في مسجد، ولم يقل أحد من المفسرين ذلك، وعلى كلٍّ فما ذكره العجلوني لا ينهض دليلًا لصحة كلام ابن حجر؛ فليحفظ.
وما نقله عن الكرماني
…
إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّ ما ذكره خاص بالمجتهد المطلق كإمامنا الإمام الأعظم رئيس المجتهدين ومن جرى مجراه، وابن حجر لم يبلغ رتبة الاجتهاد، بل ولا رتبة المؤلفين المتقنين، وإنما هو من المؤلفين الغير المتقنين، على أنَّ ما ذكره مقيَّد بأن يكون موافقًا للأصول الشرعية، وما ذكره ليس كذلك، بل هو قولٌ بالرأي بعينه؛ لأنَّه لم يذكره أحد من المفسِّرين؛ فيجب الإعراض عنه.
وقوله: (فأعجب من قوله وتشنيعه)، لا عجب ولا تشنيع، بل ما ذكره إمام الشَّارحين هو الصواب الموافق لقول العلماء الراسخين، وليس له في ذلك حظ نفس ولا هوًى، وإنما هو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يخل ذلك بمعنى القرآن العظيم، وأعجب من قول العجلوني حيث درج على هذا الكلام الذي يرده أهل العلم العظام.
({شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ}) الظرفان متعلقان بـ {شاهدين} وهو حال من فاعل {يعمروا} ؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين؛ عمارة بيت الله وكفرهم بالله بعبادة غيره، وقال الحسن:(لم يقولوا: نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر)، وقال الضحاك، عن ابن عبَّاس:(شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك لأنَّ كفار قريش كانوا ينصبون أصنامهم على البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكلما طافوا شوطًا؛ سجدوا لأصنامهم ولم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدًا)، وقال السُّدي:(شهادتهم على أنفسهم بالكفر: هو أنَّ النصراني يُسأل من أنت؟ فيقول: نصراني، واليهودي يقول: يهودي، والمشرك يقول: مشرك)، وقال النسفي:(هو قولهم: لبيك لا شريك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك؛ أي: ليس لهم أن يحجوها وهم قائلون ذلك في الحج).
({أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ})؛ أي: بطل ثوابها لشركهم، والمراد بالأعمال: ما ذكروه من محاسنهم، كذا قاله نجم الدين النسفي، وقال جار الله الزمخشري: هي العمارة والحجابة، وفك العاني، والسقاية ونحوها، انتهى، قلت: وهي بمعنى ما تقدم.
واعترضه العجلوني فزعم أنَّ الأولى العموم؛ لأنَّ أعمال الكفار كلها مردودة لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، انتهى.
قلت: العموم موجود في كلام الزمخشري؛ لأنَّه بيَّن أعمالهم التي يفتخرون بها، وعمم بقوله: وغيرها، وما ذكره من الآية فيه نظر؛ لأنَّ الآية مخصوصة بالدار الآخرة، فلا يجازون عليها في الآخرة وإنما المجازاة تكون في الدنيا، فإن الكفار إذا عملوا خيرًا؛ يجازون عليه في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد، أو دفع الضرر والشدة وغير ذلك، فإذا وصلوا للدار الآخرة؛ لم يجدوا من أعمالهم شيئًا؛ فافهم.
({وَفِي النَّارِ})؛ أي: الجهنمية؛ أي: لا في غيرها ({هُمْ خَالِدُونَ})؛ أي: لكفرهم لا غيرهم من المسلمين؛ فافهم، وإن عُذِّب منهم من يعذب، فإنَّهم إلى الجنة صائرون، ومهما طالت مدتهم لا بد من دخولهم الجنة، وقول المتصوفة:(إن الكفار يعتادون عذاب النار فلم يحصل لهم بعد ذلك ألم العذاب) مردود بنصوص القرآن؛ لأنَّ الله وصف العذاب بكونه مؤلمًا، وإذا كان كما زعمه؛ يلزم في ذلك ألَّا يكونوا معذبين، وهو خلاف إخبار الله عنهم، وهو لا يخلف الميعاد.
({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ}) في قراءة {مسجد الله} بالإفراد كما في «الكشاف» ({مَنْ آمَنَ بِاللهِ}) وحده، والإيمان بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإنما لم يذكره؛ لأنَّه إذا جرى ذكر الله تعالى؛ يكون ذكره عليه السلام مقارنًا لذكره تعالى، كما في كلمة الشهادة، والأذان، والإقامة وغيرها، فلما كانا مزدوجين صارا كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن الآخر، فكان الإيمان به عليه السلام مندرجًا تحت ذكر الإيمان بالله تعالى، ويحتمل أنه لم يذكره لدلالة قوله:{وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ؛ لأنَّهما ذكرتا بلام العهد والمعهود من الصلاة والزكاة عند المسلمين ليس إلا الأعمال التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإتيان تلك الأعمال يستلزم الإيمان به عليه السلام؛ فافهم، ({وَالْيَوْمِ الآخِرِ}){من} الموصولة أو النكرة الموصوفة فاعل {يعمر} المقدم عليه المفعول؛ اعتناءً بالمساجد، ({وَأَقَامَ الصَّلاةَ})؛ أي: أداها وحافظ عليها في أوقاتها، وهو معطوف على قوله:{آمن} ({وَآتَى الزَّكَاةَ})؛ أي: أداها لأربابها، والمعنى: إنَّما يستحق القيام بعمارة المساجد من كان متصفًا بهذه الأوصاف المذكورة ({وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ})؛ أي: لم يخف في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، قاله البغوي، وقال صاحب «الكشاف» : (فإن قلت: المؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك ألَّا يخشاها، قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وألَّا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه حق الله وحق نفسه؛ قدم حق الله على حق نفسه، وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم، وهذه الآية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كالمؤكدة