الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما قدمناه، ويقال أيضًا: إنَّه عليه السلام في حديث الباب قرأهما بالتاء المتحركة؛ خروجًا عن وزن الشعر؛ لأنَّه لو قرئ البيت بوزن الشعر؛ ينبغي أن يوقف على قوله: (الآخرة) و (المهاجرة)، وقال الأخفش:(قوله: «أنا النبي لا كذب» ليس بشعر)، وقال الخليل:(إنَّ ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعرًا)، وروي عنه:(أنَّه من منهوك الرجز)، قيل: لا يكون منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: (لا كذب)، ومن قوله:(عبد المطلب)، ولم يعلم كيف قاله عليه السلام، قال ابن العربي:(والأظهر من حاله أنَّه قال: «لا كذب»؛ برفع الباء، وبخفض الباء من «عبد المطلب» على الإضافة)، قال النحاس:(إنَّما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب؛ لم يكن شعرًا؛ لأنَّه إذا فتح الباء من البيت الأول، أو ضمها، أو نونها، وكسر الباء في الثاني؛ خرج عن وزن الشعر)، وأمَّا قوله:«هل أنتِ إلا إصبع دميت» ؛ فهو من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من «دميت» ، فإن سكن؛ لم يكن شعرًا بحال؛ لأنَّ هاتين الكلمتين على هذه الصفة لا يكون فعولًا، ولا مدخل لفعول في بحر السريع، والظاهر: أنَّه عليه السلام قالها ساكنة التاء، أو متحركة التاء من غير إشباع، وهذا لا يكون شعرًا، ويقال أيضًا: إنَّ إصابة الوزن أحيانًا لا يوجب أنَّه يعلم الشعر، فقد يأتي ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعرًا ولا معناه؛ كقوله تعالى:{لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله تعالى:{نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، وقوله تعالى:{وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، وقد ذكر ابن العربي منها آيات أخر، وأخرجها عن الوزن، وقال الزجاج:(معنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}؛ أي: ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمتنع أن ينشد شيئًا من الشعر)، قال النحاس:(فإنَّما أخبر الله تعالى عنه أنَّه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنَّه لا ينشد الشعر)، قال القرطبي:(فإنشاد الشعر على وجه الندور وإضافة القافيتين من الرجز وغيره لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر باتفاق العلماء، كما أنَّ من خاط شيئًا لا يقال: إنَّه خياط)، وقال بعضهم:(أجمع أهل اللغة على من قال قولًا موزونًا ولا يقصد به الشعر؛ فليس بشعر، وإنَّما وافق الشعر، وإنَّما الذي نفاه الله عنه؛ فهو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتفاق)، قال الزجاج:(ومعنى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}؛ أي: ما يتسهل له قول الشعر، لا الإنشاد)، ورو ى ابن القاسم عن مالك:(أنَّه سئل عن إنشاد الشعر، فقال: لا تكثرن به، فمن عيبه أنَّ الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ})، وروي أنَّ المأمون قال لأبي علي المنقري:(بلغني أنَّك أُمِّي، وأنَّك لا تقيم الشعر، وأنَّك تلحن، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أمَّا اللحن؛ فربما سبق لساني منه شيء، وأمَّا الأمية وكسر الشعر؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقيم الشعر، فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك، فزدتني رابعًا، وهذا الجهل يا جاهل أنَّ ذلك كان للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فضيلة؛ لئلا تدخل الشبهة على من أُرْسِل إليه، فيظنَّ أنَّه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع منه عليه السلام؛ لنفي الظِنَّة، لا لعيب في الشعر والكتابة) انتهى.
وفي الحديث أحكام:
الأول: فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.
الثاني: فيه جواز الصلاة في مرابض الغنم، لكن مع الكراهة.
الثالث: فيه جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع إذا كانت داثرة.
الرابع: فيه ندب ملاقاة القادم من السفر والمشي معه؛ إكرامًا له.
الخامس: فيه جواز قطع الأشجار المثمرة؛ للضرورة والمصلحة، إمَّا لاستعمال خشبها، أو ليغرس مكانها غيرها، أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه، أو لاتخاذ موضعها مسجدًا، وكذلك قطعها في بلاد الكفار إذا لم يُرجَ فتحها؛ لأنَّ فيه نكاية وغيظًا لهم وإرغامًا.
السادس: فيه جواز الارتجال، وقول الأشعار، ونحوها؛ لتنشيط النفوس، وتسهيل الأعمال، والمشي عليها.
السابع: فيه أنَّ القبر إذا لم يكن فيه شيء من أثر الميت، ومن ترابه المختلط بالصديد؛ تجوز الصلاة فيه، لكن مع الكراهة، أمَّا إذا بسط عليه شيء حائل؛ فلا كراهة، بل خلاف الأولى.
الثامن: فيه جواز نبش قبور المشركين؛ لأنَّه لا حرمة لهم.
قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: كيف يجوز إخراجهم من قبورهم، والقبر مختص بمن دفن فيه، قد حازه، فلا يجوز بيعه، ولا نقله؟ قلت: تلك القبور التي أمر عليه السلام بنبشها لم يكن ملكًا لمن دفن فيها، بل لعلها كانت مغصوبة، ولهذا باعها مُلاكها، وعلى تقدير التسليم أنَّها حبست، فهو ليس بلازم، وإنَّما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار، ولهذا قالت الفقهاء: إذا دفن المسلم في أرض مغصوبة، ولم يرض صاحبها؛ يجوز إخراجه فضلًا عن المشركين، وقد يجاب: بأنَّه دعت الضرورة والحاجة إلى نبشهم، فجاز ذلك، فإن قلت: هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار؛ ليتخذ مكانها مساجد؟ قلت: أجاز ذلك قوم محتجين بهذا الحديث، وبما رواه أبو داود: أنَّه عليه السلام قال: «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بالحرم يدفع عنه، فلما خرج؛ أصابته النقمة، فدفن بهذا المكان، وأنَّه دفن معه غصن من ذهب، فابتدر الناس، فنبشوه، فاستخرجوا الغصن» ، قالوا: فإذا جاز نبشها لطلب المال؛ فنبشها للانتفاع بمواضعها أولى، وليست حرمتهم موتى بأعظم منها وهم أحياء، بل هو مأجور في ذلك، وإلى جواز نبش قبورهم للمال ذهب الإمام الأعظم والكوفيون والشافعي وأشهب؛ لحديث الباب، وقال الأوزاعي:«لا يفعل؛ لأنَّه عليه السلام لما مر بالحِجْر؛ قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين» ، فنهى أن يُدخل عليهم بيوتهم، فكيف قبورهم؟»، وقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي:«قد أباح دخولها على وجه البكاء» ، فإن قلت: هل يجوز أن يُبنى المساجد على قبور المسلمين؟ قلت: إذا دثرت المقبرة، ولم يكن شيء من أجزاء الموتى يجوز أن تبني مسجدًا، قال ابن القاسم: «لو أنَّ مقبرة من مقابر المسلمين عفت، فبنى قوم عليها مسجدًا؛ لم أرَ بذلك بأسًا؛ لأنَّ المقابر كلها وقف من أوقاف المسلمين؛
لدفن موتاهم، لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا دَرَست، واستغني عن الدفن فيها؛ جاز صرفها إلى المسجد؛ لأنَّ المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تمليكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد»
(1)
، وذكر أصحابنا: أنَّ المسجد إذا خرب ودثر، ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت ودثرت؛ تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا؛ يجوز أن يبني موضع المسجد دارًا، وموضع المقبرة مسجدًا، وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب؛ تكون لبيت المال) انتهى.
قلت: والظاهر أنَّ هذا مذهب مالك، وفيه نظر؛ لأنَّ المسجد، ولو خرب؛ يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة؛ لأنَّ الواقف وقفه على جهة برٍّ لا تنقطع أبدًا، فلا يجوز بيعه ولو خرب؛ لأنَّ الوقف إذا حكم به الحاكم؛ خرج عن مِلك صاحبه، ولا يعود إليه أبدًا.
فإذا خرب المسجد ودثر؛ قال الإمام الناطفي: (يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه) كذا في «الظهيرية» الفتاوى المشهورة، وقال في «جواهر الفتاوى» :(إذا خرب المسجد، وتفرق أهله، وبعض المتغلبة قد يستولوا على خشبه؛ فإنَّه يجوز أن يباع الخشب بإذن القاضي، ويمسك الثمن، ويصرفه إلى بعض المساجد، أو إلى هذا المسجد)، وقال السيد أبو شجاع:(رباط خَرِب، وهو في بعض الطرق، ولا تنتفع به المارة، وله أوقاف، قال: يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع به المارة) انتهى.
وعلى هذا المقبرة؛ فإنَّه يؤاجر منها قطعة، ويصرف عليها؛ لأنَّ الوقف يبقى أبدًا مدى الدهر؛ فافهم، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه.
(49)
[باب الصلاة في مرابض الغنم]
هذا (باب) حكم (الصلاة في مرابض الغنم) جمع مَربِض؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ لأنَّه من ربض يربِض؛ مثل ضرب يضرِب، يقال: ربض في الأرض: إذا ألصق بها وأقام ملازمًا لها، واسم المكان: مربض؛ وهو مأوى الغنم، وربوض الغنم مثل بروك الإبل، وفي «الصحاح» :(ربوض الغنم، والبقر، والفرس، والكلب مثل بروك الإبل، وجثوم الطير).
والغنم: اسم جنس جمعي؛ كالإبل، يقع على الذكر والأنثى، وإذا صغرتها؛ قلت: غنيمة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وزعم العجلوني أنَّ في بعض الأصول: (في مواضع) بدل (مرابض).
قلت: والمشهور: الأول، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنَّه لم يَعْزُه لأحد من الرواة، فيحتمل أنَّه تحريف من النساخ، وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فزعم أنَّ (مِربض)؛ بكسر الميم، قال إمام الشَّارحين:(وهو غلط منه) انتهى.
وانتصر العجلوني لابن حجر تعصبًا، فزعم أنَّه يتكلف له بجعله اسم آلة تجوزًا؛ كالمنبر، فلا غلط، انتهى.
قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ مرابض الغنم: مأواها ومواضعها، وليس آلة للصلاة فيها، كما زعمه، فإنَّ اسم الآلة ما يعمل باليد؛ كالملقط والقدوم، وهذا ليس كذلك، ولا حاجة إلى هذا التكليف الغير الموافق للأصول الصرفية، وقوله:(تجوُّزًا) ممنوع، فإنَّه إذا أمكن العمل بالحقيقة؛ لا يجوز العمل بالمجاز عند المحققين، وقوله:(كالمنبر) ممنوع أيضًا، فإنَّه آلة لرُقيِّ الخطيب عليه، وليس هو مثل المربض، وبينهما فرق بيِّن
(2)
، وعلى كل حال؛ فما قالاه غلط وفاسد، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ المذكور في هذا الباب بعينه طرفٌ من الحديث المذكور في الباب السابق، لكنَّ المذكور هناك أنَّه عليه السلام كان يحب الصلاة حيث أدركته إذا دخل وقتها، سواء كان في مرابض الغنم أو غيرها، والمذكور ههنا أنَّه كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد) انتهى.
[حديث: كان النبي يصلي في مرابض الغنم]
429 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالحاء المهملة والراء المهملة، ضد الصلح، هو الأزدي، الواشحي، البصري، قاضي مكة (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج البصري، (عن أبي التيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره مهملة، هو يزيد بن حميد الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي:(ابن مالك)، هو الأنصاري أنه (قال: كان) هي للدوام والاستمرار (النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي) أي: الفرائض، والواجبات، والسنن، وجملة (يصلي) محلها نصب خبر كان، و (النبيُّ)؛ بالرفع اسمها (في مرابض الغنم)؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ أي: مأواها، وهو متناول لما كان بعد بناء مسجده أو قبله، ويدل عليه التعبير بـ (كان) الدالة على الدوام والاستمرار، ففيه دليل على طهارة بول مأكول اللحم وروثه؛ لأنَّ المرابض لا تخلو عن ذلك، فدلَّ على أنَّهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسة، وهذا قول الإمام محمد بن الحسن، ومالك، والشعبي، والنخعي، وعطاء، والزهري، والثوري، وابن سيرين، وابن المنذر، وابن حبان، وابن خزيمة، والرُّوياني، والإصطخري من الشافعية، ويدلُّ لهم ما في قصة رعل وذكوان: أنَّهم شربوا أبوال الإبل بأمره عليه السلام لهم.
وذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف رضي الله عنهما إلى أنَّ أبوال مأكول اللحم وروثه نجس نجاسة مخففة؛ حيث يعفى عن ربع الثوب المصاب منها، والدليل عليه: أنَّه عليه السلام صلى في مرابضها، ولا ريب أنَّ من صلى فيه يتلوث منها بشيء
(3)
، وهو قدر ربع الثوب، فهو معفوٌّ عنه، وما زاد على ذلك يؤاخذ به.
وذهب الشافعي إلى أنَّ الأبوال كلها نجسة.
قال ابن المنذر: (أجمع كل من يُحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنَّه قال: «لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبعارها وأبوالها»).
ورُدَّ بأنَّه عليه السلام قد صلى في مرابضها وهي لا تخلو عن أبعارها وأبوالها.
وقد صلى فيها ابن عمر، وجابر وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سيرين وغيرهم، وأجازوا الصلاة فيها، فدلَّ ذلك على طهارة أبعارها وأبوالها.
واعترض بأنَّه عليه السلام كان يصلي فيها على
(1)
في الأصل: (واحدًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (فرقًا بينًا)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (شيء)، ولعل المثبت هو الصواب.