الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء؛ كما في حديث الباب، فبَطُلَ حكم (حيث شاء)، قاله ابن بطال،
قال: ويؤيده قوله: (ولا يتجسَّس)؛ بالجيم، أو بالحاء المهملة، وبالضم، أو بالجزم؛ أي: لا يتفحص مكانًا يصلي فيه.
وقال ابن المنير: (والظاهر الأول، وإنما استأذن عليه السلام؛ لأنَّه دعي إلى الصلاة؛ ليتبَّرك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله عليه السلام؛ ليُصلِّ في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك، وأمَّا من صلى لنفسه؛ فهو على عموم الإذن إلَّا أن يَخُص صاحب البيت ذلك العموم فيختص به) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن المؤلف عادته عدم القطع بالحكم، ولهذا أتى بالترجمة بكلمة (أو) التي لأحد الشيئين؛ إشعارًا بأنَّ الحديث يطابق إمَّا الحكم الأول، أو الثاني، والظاهر أن المراد: الحكم الثاني، والحكم الأول باطل، فكأن المؤلف قال:(باب: «إذا دخل بيتًا يصلي حيث أمر ولا يتجسس»)، وهذا هو المطابق للحديث، فإن الرجل الذي يدخل دار غيره يحتاج إلى الإذن العام في الدخول والقعود، وأمَّا الصلاة؛ فيحتاج إلى الإذن الخاص؛ لأنَّ المكان الذي دخله يحتمل أنَّه غير طاهر، ويحتمل أنَّ الرجل لا يعلم جهة القبلة، فيلزمه السؤال عن ذلك؛ لأنَّ الاجتهاد لا يصح هنا، وكذلك النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم إنَّما استأذن؛ ليعلم طهارة المكان مع تبرُّك صاحب البيت بصلاته، فسؤاله
(1)
إنَّما كان عن طهارة المكان، لا سيما وصاحب البيت إذا كان له أولاد صغارٌ
(2)
لا يميزون بين الطاهر والنجس يلزم السؤال ألبتة، وعلى هذا؛ فالدخول للبيت على عموم الإذن إلَّا أن يخص صاحبه بمكان فيختص.
وأمَّا الصلاة؛ فهي على الإذن الخاص، كما ذكرنا، وعليه فالمراد: أنَّ الحديث يطابق الشق الثاني من الترجمة، والشق الأول المراد به: الدخول فقط، ويدلُّ لما قلناه حديث عتبان في الباب الذي بعده، وفيه: «فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ثم قال: «أين تحب أن أصلي لك
…
؟»؛ الحديث، وعليه؛ فيتعين أن يكون استئذانه إنَّما هو في الدخول، وقوله:«أين تحب» استئذان في مكان الصلاة، وحديث الباب قطعة من حديث الباب الآتي؛ لأنَّهما واحد على أنَّ
(3)
الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، كما ستقف عليه، فما ذكره ابن المنير ليس بشيء؛ فافهم.
[حديث: أين تحب أن أصلي لك من بيتك]
424 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم واللام، بينهما مهملة ساكنة، هو ابن قعنب الحارثي البصري (قال: حدثنا إبراهيم بن سعْد)؛ بسكون العين المهملة، هو المدني، سبط عبد الرحمن بن عوف، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، وصرح أبو داود الطيالسي في «مسنده» بسماع إبراهيم بن سعد من ابن شهاب، (عن محمود بن الرَّبِيْع)؛ بفتح الراء وسكون التحتية، بينهما موحدة مكسورة، هو الخزرجي الأنصاري الصحابي، وعند المؤلف من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: أخبرني محمود (عن عتْبَان بن مالك)؛ بكسر العين المهملة وضمها، وسكون الفوقية، بعدها موحدة مفتوحة، هو الأنصاري السالمي المدني، كان إمام قومه على عهده عليه السلام، المتوفى بالمدينة زمن معاوية رضي الله عنه، وصرَّح المؤلف في رواية يعقوب بسماع محمود من عتبان.
قلت: ومع هذا، فقد صرَّح إمام الشَّارحين:(بأن عنعنة «الصحيحين» محمولة على السماع مقبولة)؛ فافهم.
(أنَّ النبيَّ) الأعظم، ولأبي ذر:(أنَّ رسول الله) صلى الله عليه وسلم أتاه في منزله)؛ أي: يوم السبت، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كما عند الطبراني، وفي لفظ: أن عتبان لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم جمعة، فقال: إنِّي أحبُّ أن تأتيني، وفي بعضها: أنَّ عتبان بعث إليه.
وعند ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تعال، فخُطَّ لي مسجدًا في داري أصلي فيه، وذلك بعدما عمي، فجاء، ففعل.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا كأنَّه عتبان) انتهى.
(فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أين تحب أن أصلي) يعني: أين تريد أن أخصَّ مكانًا لصلاتي (لك من بيتك) وفي رواية الكشميهني: (في بيتك)، والإضافة في (لك) باعتبار الموضع المخصوص، فالأداء فيه له، وإلا؛ فالصلاة لله عز وجل، أفاده إمام الشَّارحين.
(قال) أي: عتبان: (فأشرت له) عليه السلام (إلى مكان) من بيتي نظيف طاهر مقابل للكعبة، (فكبر النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: تكبيرة الإحرام، (وصففنا)؛ أي: جعلنا صفًّا (خلفه) ولأبي ذر: (فصففنا)؛ بالفاء، ولابن عساكر:(وصفَّنا)؛ بالواو مع الإدغام، لا يقال: إنَّ إقامة الصف بعد التكبير؛ لأنَّا نقول: الواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فصفَّهم عليه السلام صفًّا خلفه، ثم كبر، (فصلى ركعتين) قال ابن بطال:(ولا يقتضي لفظ الحديث أن يصلي حيث شاء، وإنَّما يقتضي الحديث أن يصلي حيث أُمِر؛ لقوله: «أين تحب أن أصلي لك؟»، فكأنَّه قال: باب: «إذا دخل بيتًا هل يصلي حيث شاء أو حيث أُمِر؟»؛ لأنَّه عليه السلام استأذنه في موضع الصلاة، ولم يصلِّ حيث شاء، فبطل الحكم الأول، وبقي الحكم الثاني، وهو وجه مطابقة الحديث للجزء الثاني من الترجمة) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث استحباب تعيين مصلًّى في البيت إذا عجز عن حضور الجماعة.
وفيه: جواز الجماعة في البيوت.
وفيه: جواز النوافل بالجماعة.
وفيه: إتيان الرئيس في موضع المرؤوس.
وفيه: تسوية الصف خلف الإمام.
وفيه: ما يدلُّ على حُسن خلقه عليه السلام وتواضعه مع جلالة قدره وعِظَم منزلته) انتهى.
(46)
[باب المساجد في البيوت]
هذا (باب) حكم اتخاذ (المساجد في البيوت)، وهذا الباب والذي قبله في الحقيقة باب واحد؛ لأنَّ المؤلف ليس له إلا حديث واحد من عتبان، وإنَّما أخرجه في عدة مواضع مفرقًا ومطولًا ومختصراَ؛ لأجل التراجم.
(وصلى البَرَاء)؛ بفتح الموحدة وتخفيف الراء (بن عاذب) بالذال المعجمة رضي الله عنه (في مسجد داره في جماعة) وفي رواية الأربعة: (جماعة)؛ بالنصب وإسقاط (في)، وفي رواية:(في مسجده في داره)، وهذا تعليق روى معناه ابن أبي شيبة، وأشار المؤلف به إلى أن صلاته بالجماعة في مسجد داره دليل على جواز اتخاذ المساجد في البيوت؛ لأنَّه لو كان غير جائز؛ لما صلى البراء، ولما تابعوه على ذلك، فهو كالإجماع على جواز الصلاة في البيوت جماعة وانفرادًا؛ لأنَّ الأرض كلها جُعِلت مسجدًا وطهورًا؛ كما في
(1)
في الأصل: (فسأله)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (أولادًا صغارًا)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (أنه).
«الصحيح» ، وهذا وجه مطابقته للترجمة؛ فافهم.
[حديث: أين تحب أن أصلي من بيتك
؟]
425 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سعِيد ابن عُفَيْر)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية، نسبه لجده؛ لشهرته به، وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وعين سعِيد مكسورة (قال: حدثني) بالإفراد (الليث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (عُقَيل)؛ بضمِّ العين المهملة وفتح القاف، هو ابن خالد الأيلي، (عن ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المدني، ونسبه لجده؛ لشهرته به (قال: أخبرني) بالإفراد (محمود بن الرَّبيع) بفتح الراء (الأنصاري) الخزرجي الصحابي: (أن عتْبان بن مالك)؛ بضمِّ العين المهملة وكسرها وسكون الفوقية، هو الأنصاري السالمي المدني الصحابي المتوفى بالمدينة زمن معاوية، والجملة في محل النصب على أنها مفعول ثان؛ لقوله:(أخبرني)، كذا في «عمدة القاري» .
وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: رواية الصحابي عن الصحابي، فإن قلت: من قوله: «أنَّ عُتْبان» إلى قوله: «قال عتبان» من رواية محمود بغير واسطة، فيكون مرسلًا، فلا يكون رواية الصحابي عن الصحابي.
ومن هذا قال الكرماني: «الظاهر أنَّه مرسل» ؛ لأنَّه لا جرم أنَّ محمودًا سمع من عتبان أنَّه رأى بعينه ذلك؛ لأنَّه كان صغيرًا عند وفاة النبيِّ عليه السلام.
قلت: قد وقع تصريحه بالسماع عند البخاري من طريق مَعْمَر، ومن طريق إبراهيم بن سعد، كما مر في الباب الماضي، ووقع التصريح بالتحديث أيضًا بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي، عن ابن شهاب عند أبي عوانة؛ فيكون رواية الصحابي عن الصحابي، فيُحمل قوله:«قال عتبان» على أن محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث) انتهى.
قلت: وهذا يردُّ على ما زعمه الكرماني، وكأنَّه لم يطلع
(1)
على هذه الروايات، فللَّه درُّ إمامنا الشَّارح!
واختلف فيما إذا قال: (حدثنا فلان بن فلان قال: كذا، أو فعل كذا)، فقال الجمهور: هو كـ (عن) محمول على السماع بشرط أن يكون الراوي غير مدلس، وبشرط ثبوت اللقاء على الأصح.
وقال أحمد وغيره: (يكون منقطعًا حتى يتبين السماع)، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: ومع هذا، فإنَّ عنعنة «الصحيحين» مقبولة محمولة على السماع؛ فافهم.
(وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إمام قومه على عهد النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم (ممَّن شهد بدرًا من الأنصار) رضي الله عنه، أشار بذلك؛ لإفادة تقوية الرواية، وتعظيمه، والافتخار، والتلذذ به، وإلا؛ كان هو مشهورًا بذلك، أو غرضه التعريف للجاهل به؛ فافهم.
(أنَّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بدل من قوله: (أنَّ عتبان)، وفي رواية ثابت عن أنس:(عن عتبان).
فإن قلت: جاء في رواية مسلم: أنَّه بعث إلى النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فما وجه الروايتين؟
قلت: يحتمل أن يكون جاء إلى النبيِّ عليه السلام بنفسه مرة، وبعث إليه رسوله مرة أخرى؛ لأجل التذكير، قاله إمام الشَّارحين.
وزَعْمُ ابن حجر يحتمل أن يكون نسب إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (الأصل في الكلام الحقيقة، والدليل عليه: ما رواه الطبراني من طريق أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنَّه قال: قال للنبيِّ
(2)
صلى الله عليه وسلم يوم جمعة: «لو أتيتني يا رسول الله» ، وفيه: أنَّه أتاه يوم السبت) انتهى.
قلت: ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وههنا أمكن الحمل على الحقيقة، بل تعين الحمل عليها بدلالة ما رواه الطبراني، فكلام ابن حجر ليس بشيء؛ فافهم.
(فقال يا رسول الله: قد أنكرت بصري) يحتمل معنيين: ضعف البصر، أو العمى.
وفي رواية مسلم: (لما ساء بصري).
وفي رواية الإسماعيلي: (جعل بصري يكلُّ).
وفي رواية أخرى لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت: (أصابني في بصري بعض الشيء).
وكل ذلك يدلَّ على أنَّه لم يكن بلغ العمى.
وفي رواية للبخاري في باب: (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، فقال فيه:(إنَّ عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّها تكون الظلمة والسَّيل، وأنا رجل ضرير البصر).
فإن قلت: بين هذه الرواية والروايات التي تقدمت تعارض.
قلت: لا معارضة فيها؛ لأنَّه أطلق عليه العمى في هذه الرواية؛ لقربه منه، وكان قد قَرُبَ من العمى، والشيء إذا قرب إلى الشيء يأخذ حكمه، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(وأنا أصلي لقومي)؛ أي: لأجلهم، والمعنى: أنَّه كان يؤمهم، وصرَّح بذلك أبو داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد؛ كذا في «عمدة القاري» .
قلت: وصرَّح بذلك أيضًا المؤلف في باب (الرخصة في المطر) من طريق مالك عن ابن شهاب، ولم يبيِّن مَنْ قومه، والظَّاهر: أنَّهم جمع من الأنصار؛ فتفحَّص.
(فإذا كانت الأمطار)؛ أي: وجدت؛ فـ (كان) تامة، ولهذا ليس لها خبر، وهو جمع مطر؛ وهو ماء المزن؛ (سال الوادي)؛ أي: سال ماؤه، فهو من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال (الذي بيني وبينهم) وفي رواية الإسماعيلي:(يسيل الوادي الذي بيني وبين مسجد قومي، فيحول بيني وبين الصلاة معهم)، كذا في «عمدة القاري» .
(لم أستطع أن آتي مسجدهم) ولابن عساكر: (المسجد)(فأصلي بهم) بالموحدة، ونصب (أُصلِّيَ) عطفًا على قوله:(أن آتيَ) وللأصيلي: (فأصلِّي لهم)؛ باللام؛ أي: لأجلهم.
(وودِدْت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، ومعناه: تمنيت، قاله ثعلب.
وفي «الجامع» للقزاز، وحكى الفراء عن الكسائي:(ودَدت)؛ بالفتح، ولم يحكها غيره، والمصدر: وُدٌّ فيهما، ويقال في المصدر: الوَد، والوِد، والوُد والوَداد، والوِداد، والكسر أكثر، والوِدادة والوَدادة، وجاء: مودَّة، حكاه مكي في «شرحه» .
وقال اليزيدي في «نوادره» : (ليس في شيء من العربية ودَدَت مفتوحة)؛ كذا في «عمدة القاري» .
(يا رسول الله أنك تأتيني فتصليَْ)؛ بسكون التحتية وبنصبها، كما في «الفرع» ؛ جوابًا للتمني؛ لوقوع الفاء بعد التمني (في بيتي) يحتمل الإضافة أن تكون للملك، وأن تكون لغيره، وأضافه لنفسه؛ باعتبار سكناه
(1)
في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (النبي)، وليس بصحيح.
فيه، والظاهر الأول، (فأتخذه مُصلَّى)؛ بضمِّ الميم، موضع صلاة، (وأتخذَُه)؛ بالرفع على الاستئناف، أو بالنصب عطفًا على الفعل المنصوب، وكلاهما في «الفرع» ، كذا قرره الزركشي.
ومثله في «عمدة القاري» ، قال:(لأن الفاء وقعت بعد النهي المستفاد من الودادة) انتهى.
واعترض الدماميني ذلك فقال: (إن ثبتت الرواية بالنصب؛ فالفعل منصوب بـ «أن» مضمرة، وإضمارها هنا جائز لا لازم، و «أن» والفعل بتقدير مصدر معطوف على المصدر المسبوك من: أنَّك تأتيني؛ أي: وددت إتيانك فصلاتك، فاتخاذي مكان صلاتك مصلًّى، وهذا ليس في شيء من جواب التمني الذي يريدونه، وكيف ولو ظهرت «أن» هنا؛ لم يمتنع، وهناك يمتنع، ولو رفع «تصلي» وما بعده بالعطف على الفعل المرفوع المتقدم، وهو قولك: «تأتيني»؛ لصحَّ، والمعنى بحاله) انتهى.
قلت: واعتراضه وارد على ما قرره الزركشي؛ لأنَّه جعل النصب بالعطف على الفعل المنصوب، وأمَّا على ما ذكره إمام الشَّارحين؛ فلا يرد شيء؛ لأنَّه جعل النصب بـ (أن) المضمرة؛ حيث علله بقوله: (لأن الفاء وقعت بعد النهي
…
) إلى آخره؛ يعني: فهو منصوب بـ (أن) مضمرة، إلى آخر ما قاله الدماميني، والرواية بالنصب ثابتة في «الفرع» كالرفع، فالمعنى عليه صحيح، ولكنَّ إمامنا الشَّارح قد اختصر عبارته وأوضحها الدماميني؛ فافهم.
(قال) أي: الراوي: (فقال له) أي: لعُتبان (رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل)؛ بالهمز، يعني: أصلي لك في بيتك، (إن شاء الله) تعالى علقه بمشيئة الله تعالى؛ عملًا بقوله تعالى في الكهف:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا*إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23 - 24]، وأراد: التبرُّك؛ لأنَّ اطلَاعَه بالوحي على الجزم بأنَّه سيقع غير مستبعد في حقِّه عليه السلام، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر وغيره.
قلت: ويدل عليه عموم قوله تعالى: {وَمَا
(1)
يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، فجميع أفعاله وأقواله عليه السلام مقرونة بالوحي، ولمَّا قال لعتبان:«سأفعل» ؛ علم منه تحقق الفعل؛ لأنَّه عليه السلام لا يخبر بأمر يفعله ولم يفعله؛ لأنَّه لا يخبر بخلاف الواقع، وعقَّبه بالمشيئة؛ تبرُّكًا بقوله تعالى، وإشارة إلى أنَّ جميع الأفعال بيد الله تعالى؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّه ليس المراد به مجرد التبرك؛ إذ محل استعماله؛ إنَّما هو فيما كان مجزومًا به، وتبعه البرماوي.
قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ استعمال المشيئة للتبرك ههنا حيث إنَّه عليه السلام علم بالوحي أنَّه يفعل ذلك، ولولا علمه بذلك؛ لما وعده بالفعل؛ لأنَّه لو لم يعلم؛ لكان خلف بالوعد، وهو محال عليه قطعًا صلى الله عليه وسلم؛ فافهم.
(قال عتبان)؛ هو محمول على أنَّ محمودًا أعاد اسم شيخه؛ اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث، كما مر، (فغدا رسول الله) وللأصيلي والكشميهني:(فغدا على رسول الله) صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي: (بالغد)(وأبو بكر)؛ هو عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان رضي الله عنهما، وعند الطبراني من طريق أبي أويس أنَّ السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت، كما سبق (حين ارتفع النهار)؛ تفسير لقوله:(فغدا)؛ يعني: أنَّه توجه إليه يوم السبت وقت الغداة، (فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني: في الدخول، وهذا يعين ما قلناه في الحديث السابق؛ فافهم.
(فأذنت له) وفي رواية الأوزاعي: (فاستأذنا؛ فأذنت لهما)؛ أي: للنبيِّ الأعظم عليه السلام وأبي بكر.
وفي رواية أبي أويس: (ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفي رواية مسلم من طريق أنس عن عتبان: (فأتاني ومن شاء الله من أصحابه).
وفي رواية الطبراني من وجه آخر عن أنس: (فأتاني في نفر من أصحابه).
قال إمام الشَّارحين: (والتوفيق بين هذه الروايات هو أنَّ أبا بكر كان معه في ابتداء توجههم، ثمَّ عند الدخول أو قبله بقليل اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه) انتهى.
قلت
(2)
: (فلم يجلس) عليه السلام (حين دخل البيت) وفي رواية الكشميهني: (حتى دخل)؛ أي: لم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه.
قال النووي في «شرح مسلم» : زعم بعضهم أن «حتى» غلط، وليس بغلط؛ لأنَّ معناه: لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى قضاء حاجته التي طلبها منه، وجاء بسببها، وهي الصلاة في بيته، وفي رواية يعقوب عند الطيالسي والبخاري:(فلما دخل؛ لم يجلس حتى قال: «أين تحب؟»)، وكذلك للإسماعيلي.
قال إمام الشَّارحين: (إنما يتعيَّن كون رواية الكشميهني غلطًا؛ إذا لم يكن لعتبان دار فيها بيوت، وأمَّا إذا كانت له دار؛ فلا يتعين) انتهى.
قلت: ولا يخفى أنَّ دُور الصحابة ليس فيها بيوت، فإنَّ الدار بيت ومرتفق فقط، وليست دار أحدهم ذات بيوت، فإنَّه عليه السلام كانت حُجَره بيوتًا، والبيت: ما يبات فيه، وكأن النووي قاس البيت على بيت زمانه من اشتماله على عشرة أماكن أو أكثر أو أقل، وهو قياس مع الفارق، فإنَّ بين بيت الصحابة وبيت ما بعدهم فرقًا بيِّنًا، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين كون رواية الكشميهني غلطًا؛ لأنَّه ليس في البيت مكان يقف فيه، بل الباب على الطريق متصل بمكان البيتوتة؛ فافهم.
(ثم قال) عليه السلام لعتبان: (أين تحب أن أصلي من بيتك) وللكشميهني: (في بيتك)؛ يعني: في أي مكان تريد أن أخصَّ الصلاة فيه وتجعله مصلًّى؟
فإن قلت: أصل (من)؛ للابتداء، فما معنى:(من بيتك)؟
قلت: الحروف ينوب بعضها عن بعض، فـ (من) ههنا؛ بمعنى:(في)؛ كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا
(3)
خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: 40]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].
(قال) عتبان: (فأشرت له) عليه السلام (إلى ناحية من البيت)؛ ليصلي فيها، وهذا يعين ما قلناه من أنَّ دار عتبان لم تكن فيها بيوت؛ لأنَّه لو كان فيها بيوت؛ لقال: فأشرت إلى بيت منها، ولمَّا قال: إلى ناحية من البيت؛ علم منه البيت هو ما يبات فيه، وأنه ليس يوجد غيره، وهذا أكبر ردٍّ على ما زعمه
(1)
في الأصل: (ولا)، والمثبت موافق للتلاوة.
(2)
بياض في الأصل.
(3)
في الأصل: (ما)، والمثبت موافق للتلاوة.
النووي آنفًا؛ فافهم.
(فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر)؛ أي للصلاة.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا يدلُّ على أنه حين دخل؛ جلس، ثم قام، فكبر للصلاة، وبينه وبين ما قبله تعارض، ويمكن دفعه بأن يقال: لما دخل قبل أن يجلس؛ قال: أين تحب؟ ويحتمل أنَّه جلس بعده جلوسًا، ثم قام، فكبر) انتهى.
قلت: والظاهر: الأول، وهو أنه عليه السلام لما دخل؛ قال لعتبان:«أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشار له إلى ناحية من البيت، فجلس فيها إمَّا لأجل الاستراحة، وإما لانتظار مجيء بقية الصحابة، فلما أخذ الراحة أو حضر بقية القوم؛ قام، فكبر، وأمَّا الاحتمال الثاني؛ فبعيد؛ لأنَّه قال: فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال:(وقد يقال: إنَّ معناه: فلم يجلس جلوسًا طويلًا، بل خفيفًا)؛ فافهم
(فقمنا فصففنا)؛ بالفكِّ للأربعة، و (نا) فاعل، ولغيرهم:(فصفَّنا)؛ بالإدغام، و (نا) مفعول؛ أي: حوله أو جعلنا صفًّا حوله، (فصلى) عليه السلام (ركعتين، ثم سلم)؛ أي: من صلاته، ففيه دليل على مشروعية صلاة النافلة في جماعة بالنهار، وأنه لا كراهة فيه؛ حيث كان على سبيل التداعي، كما صرح به أئمتنا الأعلام.
وليس في الحديث دليل على أن السنة في نوافل النهار ركعتان؛ لأنَّ هذه الصلاة كانت خصوصية لعتبان بدليل أنه سأله أن يصلي في بيته؛ ليتخذه مصلًّى، وأوعده عليه السلام بأنَّه سيفعل ذلك، فلم يُخْلِف وعده، وصلى ركعتين؛ تطييبًا لخاطره، وخصوصية له، بل كانت عادته عليه السلام في صلاة النهار الأربع كالليل؛ ولهذا قال أئمتنا الأعلام: الأفضل في الليل والنهار الأربع، والدليل عليه: حديث عائشة المروي في «الصحيحين» قالت: «كان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل أربع ركعات لا تسأل عن حسنهن وطولهن» ، وفيهما عنها:«أنَّه عليه السلام كان يصلي الضحى أربعًا» ، وقد ثبتت مواظبته على الأربع نهارًا، وكلمة (كان) تدل على: الدوام والاستمرار، وهذا هو المذهب الصواب المختار، وهو حجة على الشافعي وغيره في أنَّ الأفضل في النهار والليل مثنى مثنى؛ فافهم.
(قال) أي: عتبان: (وحبسناه)
(1)
؛ أي: منعناه بعد الصلاة عن الرجوع (على خَزِيْرَة صنعناها له)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الزاي، وسكون التحتية، وفتح الراء، آخره هاء تأنيث، قال ابن سيده: (هي اللحم الغاث -بالمثلثة-؛ أي: المهزول يؤخذ، فيقطع صغارًا، ثم يطبخ بالماء، فإذا أميت طبخًا؛ ذرَّ عليه الدقيق، فعصد به
(2)
، ثم أدم بأي إدام شِيْءَ، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها اللحم، وقيل: هي بلالة النخالة تصفَّى، ثم تطبخ، وقيل: هي الحساء من الدسم والدقيق).
وعن أبي الهيثم: (إذا كان من دقيق؛ فهي خزيرة، وإذا كان من نخالة؛ فهي حريرة)؛ بالمهملات.
وفي «الجمهرة» لابن دريد: (الخزيرة: دقيق يلبك بشحم كانت العرب تعير بأكله، وفي موضع: يعيَّر به بنو مجاشع، قال: والخزيرة: السخينة
(3)
).
وقال الفارسي: (أكثر هذا الباب على فعيلة؛ لأنَّه في معنى مفعول).
وفي رواية الأوزاعي عند مسلم: (على جشيشة)؛ بجيم ومعجمتين.
قال أهل اللغة: (هي أن تطحن الحنطة قليلًا، ثم يلقى فيها شحم أو غيره).
وفي «المطالع» : (أنها رويت في «الصحيحين» بحاء وراءين مهملات).
وحكى البخاري في (الأطعمة) عن النضر: (أنها تصنع من اللبن)؛ كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والحريرة؛ بالحاء والراءين المهملات، هو المعروف، وهي دقيق يطبخ بالماء، ويوضع معها السمن، وهو الموافق؛ لما في «المطالع» ، فما ذكره إمام الشَّارحين اصطلاح في اللغة القديمة، وإنَّما المعروف ما ذكرناه، لكنَّ الفرق بين المهمل والمعجم، فاللغة بالمعجم، وتصحف الناس، فاستعملوها بالمهمل، وهو الموافق لرواية «الصحيحين» في غير هذا الموضع؛ فافهم.
(قال) أي: عتبان: (فثاب)؛ بالمثلثة والموحدة بينهما ألف؛ أي: جاء، يقال: ثاب الرجل: إذا رجع بعد ذهابه.
وقال ابن سيده: (ثاب الشيء ثوبًا وثؤبًا: رجع، وثاب جسمه ثوبانًا: أقبل).
وقال الخليل: (المثابة: مجتمع الناس بعد افتراقهم، ومنه قيل للميت: مثابة)، كذا في «عمدة القاري» .
(في البيت رجال)؛ أي: اجتمعوا وجاؤوا، وكلمة (في) بمعنى:(إلى)؛ لأنَّ الحروف ينوب بعضها عن بعض (من أهل الدار)؛ أي: من أهل المحلة؛ لقوله عليه السلام: «خير دور الأنصار دار بني النجار» ؛ أي: محلتهم، والمراد: أهلها، ويقال: الدار: القبيلة أيضًا (ذو عدد)؛ أي: أصحاب عدد، والمراد به: الكثرة، فجاء بعضهم إثر بعض، وإنَّما جاؤوا؛ لسماعهم بقدوم النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ فافهم.
(فاجتمعوا)؛ (الفاء) عاطفة، وهو يقتضي المغايرة، والمعنى هنا: أنَّهم اجتمعوا داخل البيت، وتفسير إمام الشَّارحين (ثاب) : باجتمعوا صحيح، والمعنى: أنَّهم اجتمعوا في الدار، وهذا الاجتماع هو غير ذاك الاجتماع؛ لأنَّه هنا كان اجتماعهم داخل البيت، وهناك كان اجتماعهم في الدار؛ بعضهم عند بابها، وبعضهم في دهليزها، وبعضهم على باب البيت، وبعضهم داخل البيت، وعلى هذا؛ قد حصل التغاير بين المعطوفين، وبهذا التقرير سقط ما زعمه القسطلاني تبعًا «للمصابيح» من أنه لا يَحْسُنُ تفسير (ثاب رجال) : باجتمعوا؛ لأنَّه يلزم منه عطف الشيء على مرادفه، وهو خلاف الأصل، فالأولى تفسيره: بجاء بعضهم إثر بعض) انتهى.
قلت: بل يَحْسُن تفسير (ثاب) بـ (اجتمعوا)، ولا يلزم منه عطف الشيء على مرادفه؛ لأنَّ معنى (ثاب رجال) : اجتمعوا في الدار متفرقين فيها، ومعنى (فاجتمعوا)؛ يعني: في داخل البيت غير متفرقين، كما قررناه؛ فافهم.
(فقال قائل منهم) لم يسم هذا القائل، قاله إمام الشَّارحين:(أين مالك بن الدُخَيْشِن)؛ بضمِّ الدال المهملة، وفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية، وكسر الشين المعجمة، آخره نون، (أو ابن الدُخْشُن)؛ بضمِّ الدال المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وضم الشين المعجمة، وحُكي كسر أوله، والشك فيه من الراوي هل هو مصغر أو مكبر؟ ووقع في رواية مسلم من طريق معمر: بالشك أيضًا، لكن عند المؤلف في (المحاربين) من رواية معمر:(الدخشن)؛ بالنون مكبرًا من غير شك.
وكذا في رواية مسلم من طريق يونس.
وفي رواية أبي داود الطيالسي: (الدخشم)؛ بالميم.
وكذا في
(1)
في الأصل: (وحسبناه)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (فعصيدة)، والمثبت موافق لما في «المحكم» .
(3)
في الأصل: (السنجينة)، وليس بصحيح.
رواية مسلم عن أنس عن عتبان.
وكذا في رواية الطبراني من طريق النضر بن أنس عن أبيه، قال أحمد بن صالح:(وهو الصواب)، أفاده إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(فقال بعضهم)؛ أي: بعض القوم، وهم الصحابة، قيل: هو عتبان راوي الحديث، ونسب بعضهم هذا القول إلى ابن عبد البر، وهو غير ظاهر؛ لأنَّه قال:(لا يصح عن مالك النفاق، وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه).
وقال أيضًا: (لم يختلف في شهود مالك بدرًا، وهو الذي أَسَرَ سهيل بن عمرو)، ثم ساق بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لمن تكلم فيه: «أليس قد شَهِدَ بدرًا؟» .
وذكر ابن إسحاق في (المغازي) : (أن النبيَّ عليه السلام بعث مالكًا هذا، ومعن بن عدي، فحرقا مسجد الضرار)، فدل ذلك كله على أنه بريء مما اتهم به من النفاق.
فإن قلت: إذا كان كذلك؛ فكيف قال هذا القائل: (إنَّا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين)؟
قلت: لعله
(1)
كان له عذر في ذلك، كما كان لحاطب بن أبي بلتعة، وهو أيضا ممن شهد بدرًا، ولعلَّ الذي قال ذلك بالنظر إلى الظاهر، ألا ترى أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم كيف قال عند قوله هذا:«فإنَّ الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» ، وهذا إنكار لقوله هذا.
ويجوز أن يكون اتهامه إياه بالنفاق غير نفاق الكفر، كذا قرره إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(ذلك) باللام؛ أي: ابن الدخشم، أو ابن الدخيشن، أو ابن الدخشن (منافق لا يحب الله ورسوله)؛ لأنَّه كان يَودُّ أهل النفاق، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رادًّا على هذا القائل مقالته هذه:(لا تقل ذلك)؛ باللام، وفي رواية:(ذاك)؛ بدونها؛ أي: القول: بأنَّه منافق، (أَلا تَراه)؛ بفتح همزة (ألا) الاستفتاحية، وفتح مثناة (تَراه) الفوقية (قد قال: لا إله إلا الله)، وفي رواية أبي داود الطيالسي:(أما يقول: لا إله إلا الله)، وفي رواية مسلم:(أليس يشهد أن لا إله إلا الله).
فإن قلت: لا بد من محمد رسول الله.
قلت: قال الكرماني: (هذا إشعار لكلمة الشهادة بتمامها).
قلت: هذا في حق المشرك، وأمَّا في حق غيره؛ فلا بد من ذلك، قاله إمام الشَّارحين؛ يعني: لا بد من ضميمة: محمد رسول الله عليه السلام، (يريد بذلك)؛ أي: بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله (وجه الله)؛ أي: ذات الله وحده، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان منه باطنًا، وبراءته من النفاق؛ كذا في «عمدة القاري» .
قلت: فإن من قال كلمة الإخلاص لا بد أن يقولها مخلصًا لله تعالى؛ لأنَّه ليس لأحد التعرُّض له في عدمها من حيث إنَّه مخالط لأهل الإسلام في عبادتهم وشرائعهم ونحوها، لا سيما في زماننا من ترك كل ملة على ملتها، وعدم التعرُّض لها بسوء، وعلى هذا؛ فمن أظهر الإسلام وشعائره وفعل العبادات؛ فإنَّه يحكم عليه بالإسلام باطنًا وظاهرًا؛ لأنَّه ليس له في ذلك سبب موجب لدخوله في الإسلام حتى يكون نفاقًا، بل السبب: مرضاة الله عز وجل.
(قال) أي: الرجل القائل: (الله ورسوله أعلم)؛ أي: بقوله ذلك، وكأنَّه فهم من الاستفهام عدم الجزم بذلك، ولهذا (قال: فإنَّا نرى وجهه) أي: توجهه (ونصيحته للمنافقين)، وفي رواية الأصيلي:(إلى المنافقين).
زعم الكرماني فإن قلت: يقال: نصحت له لا إليه، قلت: قد ضمن معنى الانتهاء.
وزعم ابن حجر الظاهر أنَّ قوله: (إلى المنافقين) متعلق بقوله: «وجهه» ، فهو الذي يتعدى بـ (إلى)، وأمَّا متعلق (ونصيحته)؛ فمحذوف للعِلم به.
وردَّ كلامهما إمام الشَّارحين حيث قال: (كل منهما لم يُمْعن على قانون العربية؛ لأنَّ قوله: «ونصيحته» عطف على قوله: «وجهه»، و «نصيحته» داخل في حكمه؛ لأنَّه تابع له، وكلمة «إلى» تتعلق بقوله: «وجهه»، ولا يحتاج إلى دعوى حذف متعلق المعطوف؛ لأنَّه يكتفى فيه بتعلق المعطوف عليه) انتهى؛ فافهم.
(قال) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (فقال)(رسول الله صلى الله عليه وسلم رادًّا على هذا القائل مقالته هذه: (فإن الله قد حرَّم) بتشديد الراء المهملة (على النار من قال: لا إله إلا الله) هذا في حق المشرك، أمَّا في حق غيره؛ فلا بدَّ من ضميمة: محمد رسول الله عليه السلام، كما مر (يبتغي) أي: يطلب (بذلك) أي: بما قاله (وجه الله) عز وجل؛ أي: ذاته.
وفيه ردٌّ على المرجئة القائلين: (بأنَّه يكفي في الإيمان النطق فقط من غير اعتقاد).
والمراد بالتحريم هنا: تحريم الخلود؛ جمعًا بينه وبين ما ورد من دخول أهل المعاصي في النار، وتوفيقًا بين الأدلة.
وعن الزهري: (أنه نزلت بعد هذا الحديث فرائض وأمور نرى أنَّ الأمر انتهى إليها).
وعند الطبراني: (أنه من كلام عتبان).
وقال ابن الجوزي: (الصلوات الخمس فرضت بمكة قبل هذه القضية بمدة)
وظاهر
(2)
الحديث يقتضي: أنَّ مجرد القول يدفع العذاب ولو ترك الصلاة.
والجواب: أنَّ من قالها مخلصًا؛ فإنَّه
(3)
لا يترك العمل بالفرائض؛ إذ إخلاص القول حامل على أداء اللازم، أو أنه يحرم عليه خلوده فيها.
وقال ابن التين: (معناه: إذا غفر له وتقبل منه، أو يكون أراد: نار الكافرين، فإنَّها محرمة على المؤمنين، فإنَّها كما قال الداودي: «سبعة أدراك والمنافقون في الدرك الأسفل من النار مع إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه»)؛ كذا في «عمدة القاري» .
وقوله: (قال ابن شهاب)؛ هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، أحد رواة هذا الحديث، تعليق من المؤلف.
وزعم ابن حجر أنه مسند بالإسناد السابق قال: ووهم من قال: إنه تعليق).
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (قلت: ظاهره التعليق، فإنَّه قال: «قال ابن شهاب» بدون العطف على ما قبله) انتهى.
قلت: وهذا هو الظاهر، فإنَّه لو كان مُسْنَدًا؛ لأتى بحرف العطف، ولأن المؤلف قد
(1)
في الأصل: (لعل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
تكرر في الأصل: (وظاهر).
(3)
في الأصل: (لأنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
أتى بهذا؛ لأجل التقوية ونحوها مما سيأتي، وهذا يدل على أنه تعليق؛ فافهم.
(ثم سألت الحُصَين) وفي رواية الكشميهني: (ثم سألت بعد ذلك الحُصَين)(بن محمد)؛ وهو بضمِّ الحاء المهملة، وبفتح الصاد المهملة، هكذا ضبطه جميع الرواة إلا القابسي، فإنَّه ضبطه بالضاد المعجمة، وغلطوه في ذلك (الأنصاري)، ثم المدني من ثقاة التابعين.
فإن قلت: محمود كان عدلًا، فلمَ سأل الزهري غيره؟
قلت: إمَّا للتقوية ولاطمئنان القلب، وإمِّا لأنَّه عرف أنه نقله مرسلًا، وإمَّا لأنَّه تحمَّله وهو صبي، واختُلِفَ في قبول المتحمل زمن الصبا؛ كذا في «عمدة القاري» .
قلت: والأظهر: أنَّ تَحَمُّل الصبي زمن صباه وتحديثه بعده مقبول، وعليه الجمهور، ويدل عليه: ما ذكره الفقهاء في أبواب (الشهادات) : أنَّ الصبي إذا تحمَّل الشهادة في حال صباه وأدَّاها حال بلوغه؛ فهي مقبولة معتبرة؛ فافهم.
(وهو أحد بني سالم) هي قبيلة من الأنصار (وهو)؛ أي: الحصين بن محمد، وإنما أعاد الضمير؛ لطول الكلام (من سَراتهم)؛ بفتح السين المهملة؛ أي: سراة بني سالم، جمع سُرى، قال أبو عبيد:(هو المرتفع القدر).
وفي «المُحْكم» : (السرو
(1)
: المروءة والشرف، سروسراوة، وسروًا الأخيرة عن سيبويه واللحياني، وسرا سروًا، وسرى يسري سراء، ولم يحك اللحياني مصدر سرا إلا ممدودًا، ورجل سري من قوم أسرياء: شرفاء؛ كلاهما عن اللحياني، والسراة: اسم للجمع، وليس يجمع عند سيبويه، ودليل ذلك قولهم: سروات).
وفي «الصحاح» : (وجمع السرى: سراة، وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة، ولا يعرف غيره).
وفي «الجامع» : (وقولهم: فلان سري، إنَّما معناه في كلام العرب: الرفيع، وهو من سرو الرجل يسرو: صار رفيعًا، وأصله: من السراة، وهو من أرفع المواضع من ظهر الدابة، وقيل: بل السراة: الرأس، وهو أرفع الجسم)، كذا في «عمدة القاري»؛ يعني: من أشرف بني سالم.
وقوله: (عن حديث محمود بن الربيع) زاد ابن عساكر: (الأنصاري) متعلق بقوله: (سألت)(فصدقه بذلك)؛ أي: بالحديث المذكور، وهذا يحتمل أن يكون الحصين سمعه أيضًا من عتبان، ويحتمل أن يكون حمله من صحابي آخر، وليس للحصين ولا لعتبان في «الصحيحين» سوى هذا الحديث، كذا قاله إمامنا الشَّارح، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
وفي الحديث أحكام:
الأول: جواز إمامة الأعمى مع وجود مثله بصيرًا، ولكنَّه يكون مكروهًا، فإن لم يوجد غيره؛ فلا كراهة، وصرَّح الإمام الشيخ علاء الدين المفتي بديارنا الشريفة الشامية في «شرحه» على «ملتقى الأبحر» : بكراهة إمامة الأعمى كراهة تنزيه؛ لأنَّه لا يتحفظ من النجاسات، فإن لم يوجد غيره؛ فلا كراهة.
الثاني: جواز التخلف عن الجماعة؛ لعذر؛ كمطر، وظلمة، وخوف على نفسه، وغيرها، وقد ورد في الحديث: أنَّ من كان نيَّته حضور الجماعة لولا العذر؛ يحصل له
(2)
ثوابها، وإن لم يحضرها؛ فإن الأعمال بالنيات، كما صرَّح به في «إمداد الفتاح» .
الثالث: فيه جواز إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، وليس ذلك من الشكوى.
الرابع: جواز اتخاذ موضع معيَّن للصلاة.
فإن قلت: روى أبو داود في «سننه» من النهي عن إيطان موضع معين من المسجد.
قلت: هو محمول على ما إذا استلزم رياء وسمعة ونحوهما.
قلت: ووجه النهي عن ذلك: أنه في صلاته في مواضع من المسجد يكون فيه تكثير الشهود له في الصلاة؛ لما ورد في الحديث: «أن الأرض تشهد لمن يسجد عليها» ، ومثله: حلق الشعر، وقص الأظفار يوم الجمعة، ورد: أنَّه يفعل ذلك بعد الصلاة؛ لأجل أن يشهد معه يوم القيامة، لكن لما كان الغالب في اتخاذ موضع للصلاة حصول الرياء، والسمعة، والإشارة إليه بأنَّه مصلى فلان؛ ورد النهي عنه؛ كما في حديث أبي داود، أمَّا إذا أمن من ذلك؛ فلا كراهة، كما دل عليه حديث الباب؛ فافهم.
الخامس: استحباب تسوية الصفوف، يدل عليه حديث أنس قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة: «أقيموا صفوفكم وتراصوا
(3)
، فإني أراكم من وراء ظهري
…
؛») الحديث؟، كما سبق في (عِظَة الإمام)، والأمر فيه للندب بالإجماع، ويحتمل أنه عليه السلام قاله حيث كان المسجد ضيقًا حتى يسع الناس، بدليل: أنه رآهم يوم الجمعة؛ لأنَّه بعد الصلاة رقي المنبر، أمَّا إذا كان المسجد واسعًا كمسجد بني أمية؛ فالظاهر: أنه لا يندب التراص
(4)
، وهذا بخلاف ما يفعله بعض المتعصبين من الشافعية من التزاق بعضهم ببعض لزقًا شديدًا بحيث يكون الرجل على الرجل، فمكروه أو حرام؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى إيذاء الجار، وربَّما يكون جاره مريضًا أو شيخًا فانيًا، فإنَّه يتضرر بذلك، وضرر المسلم أو إيذاؤه حرام، فيظنُّ أنه قد فعل مستحبًّا يثاب على فعله، والحال أنه فعل معصية يعاقب على فعلها؛ فافهم.
السادس: جواز اتخاذ مسجد في البيت، وأنه لا يخرج عن ملك صاحبه، بخلاف المتخذ في المحلة.
قلت: يعني: فإنَّه يخرج عن ملك صاحبه، ومثله المتخذ في البيت مع الإذن العام لكل أحد من الناس، فإنَّه حينئذ يخرج عن مِلكه، فما ذكر في الباب محمول على أنه لم يأذن لكل أحد، بل الإذن فيه خاص؛ فافهم.
السابع: استحباب التبرُّك بمصلى الصالحين، ومساجد الفاضلين.
الثامن: استحباب الدعوة لغير وليمة عرس، أمَّا هي؛ فواجبة، وأنه من دعي من الصالحين إلى شيء يتبرك به منه؛ فله أن يجيب إليه إذا أَمِنَ العُجْب.
التاسع: وجوب الوفاء بالوعد؛ لما في «الصحيح» في (علامات المنافق)؛ منها: «إذا وعد؛ أخلف» ، فمن وعد في شيء؛ يجب الوفاء به، وهذا إذا ذكره على الجزم، أمَّا إذا وعده وألحق به
(1)
في الأصل: (السرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (لها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: (وتراضوا)، وهو تصحيف.
(4)
في الأصل: (التراض)، وهو تصحيف.