الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القليل من البول.
قلت: والمراد من رؤوس الإبر محل إدخال الخيط وإن امتلأ منه الثوب والبدن للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، لا سيما في مهبِّ الريح، فسقط اعتباره، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذا، فقال: إنا لنرجو من الله تعالى أوسع من هذا، كما في «السراج الوهاج» ، فهذا حجة ودليل ظاهر لإمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه في قوله: إنه معفوٌّ عنه، وسهل فيها كما سهل في يسير كل النجاسات، وقال مالك: يغسلها استحبابًا وتنزُّهًا، وهو قول الإمام أبي يوسف، وشدد الأمر الشافعي، وقال: يجب غسل ما يدركه الطرف من سائر النجاسات، وهذا الحديث حجة عليه؛ لأنَّ الاحتراز عنه غير ممكن ضرورة، وفيه حرج بيِّنٌ وهو مدفوع، وروي عن محمَّد بن علي زين العابدين: أنه تكلَّف لبيت الخلاء ثوبًا، ثم تركه، وقال: لم يتكلَّف لهذا من هو خير مني؛ يعني: رسول الله عليه السلام، والخلفاء رضي الله عنهم، ويدل لذلك: حديث أبي هريرة السابق، وفيه:«فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» ، فهو يشير إلى عدم اعتبار نجاسة الرشاش من النجاسات؛ لأنَّه لو اعتبرناه نجسًا؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولثبت معنى التعسير وهو خلاف المأمور به، والله تعالى أعلم، اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين، واكشف يا ربنا هذا الهم والغم عن أمة نبيك محمَّد عليه السلام.
وقال القسطلاني: (وفي الاستدلال على الرخصة المذكورة ببوله عليه السلام قائمًا نظر؛ لأنَّه عليه السلام في تلك الحالة لم يصل إليه منه شيء)، قال ابن حبَّان:(إنما بال قائمًا؛ لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود، فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا، فأمن من أن يرتد عليه شيء من بوله، أو كانت السباطة رخوة لا يرتد إلى البائل شيء من بوله) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع، فإن بوله عليه السلام قائمًا وكذا غيره لا بدَّ وأن يصل إليه الرشاش من البول غالبًا، والغالب كالمتحقق.
وقوله: (لم يصل إليه منه شيء) دعوة باطلة؛ لتضمنها النفي وهو غير مقبول، ودعوانا مثبتة، والمثبت مقدم على النافي، على أنه لا دليل يدل على عدم الوصول، بل الظاهر المتبادر من هذه الحالة إنَّما هو الوصول لا غير.
وقوله: (لأنَّه لم يجد مكانًا يصلح للقعود) ممنوع، فإن الأرض واسعة صالحة للقعود، وليس لأحد إنكار ذلك، وإنكاره كإنكار وجود الشمس في السماء في رابعة النهار.
وقوله: (لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا
…
) إلخ ممنوع؛ لأنَّ السباطة على وجه الأرض في العادة ليست عالية ولا متسفلة، وأي دليل على أنها عالية؟ وإذا كانت ليست بعالية؛ فالطرف منها غير عالٍ ضرورة، وفي هذه الحالة إذا بال أحد؛ فلا ريب أنه يصله الرشاش، فدعوى عدم الوصول باطلة لا دليل عليها.
وقوله: (فأمن من أن يرتد
…
) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل على ذلك، فإن السباطة ليس لها أطراف، وإنما هي مكان على وجه الأرض معد لرمي الأوساخ المجتمعة في البيوت، وهي تضمحل وتذهب بالريح أو يأخذها أرباب البساتين.
وقوله: (أو كانت السباطة رخوة
…
) إلخ ممنوع؛ فإن السباطة ليست ببناء ولا من غيره، وإنما هي أرض صلبة بدليل أنها في فناء البيوت، وفناؤها أرض صلبة غير رخوة، وتارة يكون محلها صخر أو جبل كما هو العادة في القرى والبلدان، فلا ريب أنه في الحالة المذكورة إذا بال؛ يرتد عليه شيء من الرشاش لما ذكرنا؛ لأنَّ الصخر والجبل لصلابته، وكذا الأرض المعهودة كذلك صلبة؛ لعدم ورود الماء عليها ودائمًا الشمس عليها صلبة، لا يستقر البول عليها، بل يتطاير على البائل غالبًا، والغالب كالمتحقق؛ فافهم.
ولا داعي لهذا التشديد حتى يدخل في تشديد بني إسرائيل، فإن الله تعالى أمر باليسر ونبيُّه عليه السلام كذلك كما علمت، وقال تعالى:{[اجْتَبَاكُمْ] وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولا ريب أن اعتبار ذلك حرج بيِّنٌ، وقد أمرنا سبحانه وتعالى باجتنابه ورفعه عنا، فباعتباره إلزام الحرج علينا، والله تعالى أعلم.
(63)
[باب غسل الدم]
هذا (باب) حكم (غَسل) بفتح الغين المعجمة (الدم)؛ بتخفيف الميم، وقد تشدَّد؛ أي: دم الحيض، وكذا غيره من سائر الدماء وسائر النجاسات بطريق القياس عليه.
[حديث: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه]
227 -
وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن المثنى) بضمِّ الميم، وفتح المثلثة، وتشديد النون المفتوحة، المعروف بالزمن (قال: حدثنا)) وفي رواية بالإفراد (يحيى)؛ هو ابن سَعِيْد القطان، (عن هشام) بكسر الهاء: هو ابن عروة بن الزبير (قال: حدثتني فاطمة)؛ هي بنت المُنْذِر بن الزبير زوجة هشام المذكور، وابنة عمه، (عن أسماء)؛ بالمد؛ هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وجدة فاطمة، وزوجها لأبويهما، المعروفة بذات النطاقين أم عبد الله بن الزبير، وهي من المهاجرات، عارفة بتعبير الرؤيا؛ حتى قيل: إن ابن سيرين أخذ التعبير عن ابن المسيب، عن أسماء، وهي أخذته عن أبيها، وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام، بلغت مئة سنة لم يسقط لها سنٌّ، ولم ينكر لها عقل رضي الله عنها (قالت)؛ أي: أسماء: (جاءت امرأة للنبيِّ) الأعظم، وللأربعة:(إلى النبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم والمرأة السائلة: هي أسماء بنت يزيد التي يقال لها: خطيبة النساء، أو أسماء بنت شَكَل؛ بفتحتين، قال جماعة من المحدثين: والأولى
(1)
هي الصواب، واعتمده وقوَّاه النووي، وقيل: إنه يجوز أن تكون فاطمة بنت حبيش الآتية.
قلت: وهو ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على ذلك، وأي عذر كان في إبهامها هنا؟ فإن المخبرة فيما يأتي عائشة، وهنا أسماء، وكل قصة على حدة، فلو كانت هذه؛ لأخبرت أسماء بها أنها فاطمة، وعدم ذلك دليل على أنها غيرها، والصواب الأول، ووقع في رواية الشافعيِّ: أن السائلة هي أسماء بنت أبي بكر المذكورة، ولا يبعد أن يبهم الراوي نفسه، كما وقع لأبي سَعِيْد الخدري في الرقية بفاتحة الكتاب، وضعف هذا النووي.
قلت: ويدل لذلك أنها لو كانت هي السائلة؛ لم تُبْهِم نفسها، بل صرَّحت وقالت: قلت للنبيِّ عليه السلام، أو قالت: أتيت النبيَّ عليه السلام فقلت: يا رسول الله عليه السلام، على أنه لا عذر ولا غرض لها في هذا الإبهام، بل التصريح أشرف وأحسن لها، وإبهام أبي سَعِيْد نفسه لا يدل على هذا؛ لأنَّه لما رقي وأخبر النبيَّ عليه السلام؛ خشي من النبيِّ عليه السلام عدم الرضا؛ فأبهم نفسه، فلما علم الرضا؛ أظهر نفسه بأنه الراقي؛ فافهم.
وأما أسماء هذه؛ فلا عذر لها في الإبهام، لا يقال: إن الحياء منعها من التصريح؛ لأنا نقول: هذا حكم شرعي، والنبيُّ عليه السلام أمر بعدم الحياء في الأحكام الشرعية والسؤال عنها، ولذا فإن
(2)
أم سليم لما أتته تسأله؛ قالت: إن الله لا يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذموم، وأسماء هي أشد اتباعًا لسنة النبيِّ عليه السلام، فلا يمنعها ذلك؛ فافهم.
(فقالت: أرأيت)؛ أي: أخبرني يا رسول الله؛ قال الفاضل الزمخشري: فيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري» (إحدانا)؛ بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، واستظهر بعضهم أنه على حذف مضاف؛ أي: أخبرني خبر زيد أو حاله؛ لأنَّ النصب بإسقاط الخافض غير مقَيْس، ولا يجوز رفعه كما نص عليه سيبويه، قال: لأنك لو قلت: أرأيت أبو من زيد؛ لم يحسن؛ لأنَّ فيه معنى أخبرني عن زيد، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، و (تحيض) خبره.
قلت: والمعنى عليه صحيح حسن؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنه قال: أخبرني حكم الله تعالى وهو (إحدانا تحيض)؛ فتأمل.
وقوله: (تَحِيض)؛ بفتح الفوقية، وكسر المهملة، جملة محلها النصب حال من (إحدانا)، أو الرفع خبر (إحدانا) كما علمت (في الثوب) إما حال، أو متعلق بـ (تحيض)؛ والمعنى: تحيض حال كونها في الثوب، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب، كذا قاله في «عمدة القاري» ، ويدل لذلك ما عند المؤلف عن عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم؛ قالت
(1)
في الأصل: (الأول)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (إن)، ولعل المثبت هو الصواب.
بريقها، فمصعته بظفرها)، وما عند أحمد عن أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال:«فإذا طهرت؛ فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه» ، قالت: يا رسول الله؛ أرى لم يخرج أثره، قال:«يكفيك الماء ولا يضرك أثره» ، وقال الكرماني، وتبعه ابن حجر: أن معنى (تحيض في الثوب) أن دم الحيض يصل إليه، ويدل له ما رواه المؤلف من طريق مالك عن هشام:(إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة)، وما رواه مسلم:(أرأيت المرأة يصيب ثوبها من دم الحيضة).
قلت: وما قاله في «عمدة القاري» أظهر وأحسن للمعنى؛ فليحفظ.
وجملة (كيف تصنع) إما في محل نصب على أنه مفعول ثان لـ (أرأيت) المذكورة إن قلنا: بأنها تعلق، أو بدل من الأول، وإما لا محل لها، وإن قلنا: بأنها تعلق؛ لأنَّها مستأنفة؛ لبيان الحال المستخبر عنها، كما قاله الرضي، وكذا إن قلنا بعدم تعليق (أرأيت) المذكورة بناء على أحد قولي الإمام الزمخشري: إن شرط التعليق أن يذكر بعد العامل ما يسد مسد منصوبيه معًا، وكذا لا محل لها إن قلنا لا تتعدى (أرأيت) إلى اثنين، والكلام على (أرأيت) المذكورة، ومتعلقاتها مستوفًى في «التسهيل» وشروحه، والله أعلم.
(قال) وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (تحُتُّه)؛ أي: الثوب، بضمِّ الحاء المهملة، وبالفوقية المشددة؛ من حتَّ الشيء عن الثوب وغيره تحتُّه حتًّا، وفي «المنتهى» :(الحت: حتك الورق من الشجر، والمني، والدم، ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النحت)، وعند ابن طريف: (حت الشيء نفضه
(1)
، وقيل: معناه: تحكه)، كما وقع في رواية ابن خزيمة، والمراد من ذلك: إزالة عينه المتجسدة، (ثم تَقرُضه)؛ أي: الثوب، وهو بضمِّ الراء، والضاد المعجمة مع فتح أوله، وسكون ثانيه، وفي رواية:(قرِّضيه)؛ بالتشديد، قال أبو عبيد:(أي: قطِّعيه)، وقال عياض:(رُوِّيناه: بفتح المثناة فوق، وإسكان القاف، وضم الراء، وبضمِّ المثناة، وفتح القاف، وكسر الراء المشددة)، قال:(وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره)، وفي «المغرب» :(الحت: القرض باليد، والقرض بأطراف الأصابع)، وفي «المحكم» :(القرض: التخميش والغمز بالإصبع، والمقرض: المقطوع المأخوذ من شيئين)، وفي «الجامع» :(كل مقطوع مقرض)، وفي «الصحاح» :(اقرضيه بماء)؛ أي: اغسليه بأطراف أصابعك، والمراد من ذلك: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء)؛ أي: مع صبِّ الماء عليه؛ ليتخلل بذلك ويخرج ما تشرَّبه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثر شق زواله حتى يتكلف إلى إزالته بنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، فإن ذلك غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص.
فإن قلت: وقع في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: (واغسليه بالماء والسدر وحكيه ولو بضلع)، وعند أبي أحمد العسكري:(حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر)، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله عليه السلام لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب من الدم، ثم عودي لركبك»
قلت: ذكر السدر والحك بالضلع بالملح إن صح؛ فهو أمر محمول على الندب لا الوجوب، وقد قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، وعاب على أبي أحمد [قوله]، ويدل لذلك ما رواه أحمد في «مسنده» من حديث أبي هريرة قال:«يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» كما تقدم قريبًا، وعند الدارمي عن أم سَلَمَة: (إن إحداهن تسبقها القطرة
(2)
خفيةً من الدم، فقال عليه السلام:«إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها» )، وعند ابن خزيمة:(وقيل لها: كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، ويدل لذلك أحاديث يطول سردها، وعلى كل؛ فهو محمول على الندب والإرشاد لا الوجوب؛ فليحفظ.
(وتنضَحُه) وفي رواية: (ثم تنضحه) وهو بفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة من باب (فتَح يفتَح)؛ بفتح عين الفعل فيهما، كذا في «عمدة القاري» ، وتبعه في «فتح الباري» ، وقال الكرماني، وتبعه مغلطاي:(إنه بكسر الضاد المعجمة)، قال في «عمدة القاري» :(وهو غلط).
قلت: ووجه الغلط، إما أنه من حيث الرواية؛ فإن الرواية بالفتح، وإما من حيث اللغة، وفي «المصابيح» :(أن أبا حيَّان قرأ في بعض المجالس: وانضَح فرجك؛ بفتح الضاد المعجمة، فرد عليه الدمنهوري وقال: نص النوويُّ على أنه بالكسر، فقال أبوحيان: حق النووي أن يستفيد هذا مني، والذي قلته هو القياس) انتهى.
فهذا دليل على أنه بالفتح لا غير، لكن نقل صاحب «الجامع» أن الفتح أفصح والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعيَّن الفتح فقط؛ فافهم.
والضمير في (تنضحه) يرجع إلى الماء لا غير، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، قاله الخطابي، وقدمنا ذلك مفصلًا، ويدل له قوله في الحديث الآتي بعد هذا:«فاغسلي عنك الدم» فهو يعيِّن أن المراد بالنضح في كلامهم الغسل لا غير؛ فليحفظ.
واستدل الإمام محمَّد والشافعي بهذا الحديث على أن النجاسات إنَّما تُزَال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا، وهو مردود؛ فإن الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط؛ والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الغالب أو الكثرة، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها فمصعته
(3)
بظفرها)، وعند أبي داود:(بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهر؛ لزادت النجاسة، واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك، ورُدَّ بأن هذا احتمال بعيد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، ولئن سلَّمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فمضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فهذا مجرد دعوى بلا دليل، وهي باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات، وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود؛ فلا خصوصية بالماء، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور رضي الله تعالى عنهم.
(وتصلي فيه) وفي رواية: (ثم تصلي فيه)، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (تحته) وفي (تقرضه) يرجع إلى الثوب، وفي قوله:(وتنضحه) يرجع إلى الماء، وقد ذكرنا عن قريب أن الخطابي قال:(تنضحه)؛ أي: تغسله؛ لأنَّ المراد بالنضح في كلام العرب: الغسل)، وقال القرطبي:(المراد به: الرش؛ لأنَّ غسل الدم استفيد من قوله: «تقرضه بالماء»، وأما النضح؛ فهو لما شكَّت فيه من الثوب)، وقال ابن حجر:(فعلى هذا؛ الضمير في قوله: (تنضحه) يعود إلى الثوب بخلاف (تحته)، فإنه يعود إلى الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا نسلم ذلك؛ لأنَّ لفظ الدم غير مذكور صريحًا، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء مذكور صريح، والمذكور هنا صريحًا الثوب والماء، فالضميران الأوَّلان يرجعان إلى الثوب؛ لأنَّه المذكور قبلهما، والضمير الثالث يرجع إلى الماء؛ لأنَّه المذكور قبله، وهذا هو الأصل؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أيضًا
(1)
في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
(3)
في الأصل: (فمصغته)، وهو تصحيف.