الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويناقش:
الخلاف في كون الدراهم لا تتعين بالتعيين، إنما يجري في باب المعاوضات؛ لأن الوجوب متعلق بالذمة، أما في باب الوديعة، فإن الرد متعلق بعين الوديعة، وليس في ذمة المودَع؛ لأن الحق ليس فيه ثمن ومثمن، فالدراهم هنا تتعين بالتعيين، ولا يجري فيها الخلاف الذي يجري في المعاوضات، ولذلك لو تلفت الوديعة بدون تعد ولا تفريط لم يضمن المودَع، ولو كانت الوديعة متعلقة بذمة المودَع لضمن.
الشرط الثالث:
[م-1783] أن يكون المقرض مختارًا، فلا يصح إقراض مكره بغير حق، بل إن جميع العقود تفسد بالإكراه.
فالحنفية يرون أن جميع عقود التمليك تفسد بالإكراه الملجئ، والقرض من عقود التمليك
(1)
.
وقال في الحاوي: «وأما المكره
…
كرها غير مختار، لم يقع طلاقه، ولا عتقه ولم تصح عقوده»
(2)
.
وجاء في شرح المنهج: وشرط مقرض بكسر الراء اختيار، فلا يصح إقراض مكره كسائر عقوده»
(3)
.
(1)
. انظر البحر الرائق (6/ 268)، بدائع الصنائع (6/ 16).
(2)
. الحاوي الكبير (10/ 227).
(3)
. شرح المنهج ومعه حاشية الجمل (3/ 257).
وقال ابن تيمية: «عقود المكره، وأقواله، مثل: بيعه، وقرضه، ورهنه، ونكاحه، وطلاقه، ورجعته، ويمينه، ونذره، وشهادته، وحكمه، وإقراره، وردته، وغير ذلك من أقواله، فإن هذه الأقوال كلها منه ملغاة مهدرة، وأكثر ذلك مجمع عليه، وقد دل على بعضه القرآن مثل قوله:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106].
وقوله سبحانه: {إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]»
(1)
.
ويستثنى من ذلك لو كان المكره بحق، فإنه يصح قرضه،
جاء في تحفة المحتاج: «فلا يصح إقراض مكروه، ومحله إذا كان بغير حق، فلو أكره بحق، وذلك بأن يجب عليه لنحو اضطرار صح»
(2)
.
وقد تكلمت في عقد البيع عن حقيقة الإكراه:
وينفرد الحنفية بتقسيم الإكراه إلى نوعين:
الأول: إكراه ملجئ، وهو الإكراه الكامل: وهو أن يكرهه بما يخاف على نفسه، أو على تلف عضو من أعضائه.
وهذا الإكراه ينافي الرضا، كما ينافي الاختيار، والعقد في هذه الحالة يكون باطلًا؛ لأن الاختيار الذي هو شرط لانعقاد القرض لم يوجد، فضلاً أن يوجد الرضا الذي هو شرط للصحة.
الثاني: إكراه غير ملجئ، وهو الإكراه القاصر، وهو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه، ولا على تلف عضو من أعضائه، كالإكراه بالضرب الشديد، أو
(1)
. الفتاوى الكبرى (6/ 61).
(2)
. تحفة المحتاج (5/ 41)
القيد، أو الحبس، فإنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار
(1)
.
والفرق بين الرضا والاختيار:
أن الاختيار: هو قصد الشيء وإرادته، أو ترجيح شيء على آخر.
والرضا: إيثاره واستحسانه.
ولا تلازم بين الاختيار والرضا، فقد يختار الإنسان أمرًا لا يرضاه، ولا يحبه، ولكنه لا يرضى شيئًا إلا وهو يحبه.
فإذا كان الإكراه على القرض إكراهًا ملجئًا فالقرض لم ينعقد؛ لأن الاختيار والرضا غير موجود.
وإذا كان الإكراه غير ملجئ، فإن القرض ينعقد فاسدًا عند الحنفية، وليس باطلًا، ويملكه المقترض بالقبض.
ولماذا قالوا بانعقاد القرض؟ لأن الاختيار عندهم شرط لانعقاد القرض، وقد وجد، فالمقرض قد خير بين أمرين: بين الإقراض، وبين أن يقع تحت الإكراه غير الملجي، فاختار أن يدفع ذلك بالإقراض.
ولماذا كان القرض فاسدًا؛ لأن الرضا الذي هو شرط للصحة لم يوجد.
والكلام فيه كالكلام في بيع المكره، باعتبار أن البيع والقرض من عقود التمليك، وقد تكلمنا على هذه المسألة في عقد البيع، فلا يحتاج أن نطيل الكلام عليها، وعلى أدلتها هنا.
(1)
. تبيين الحقائق (5/ 181)، كشف الأسرار (4/ 383)، الفروق لأبي هلال العسكري (ص: 118)، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء. د نزيه حماد (ص: 43).
ولم يقسم الجمهور الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ.
فما سماه الحنفية إكراهاً ملجئاً هو إكراه عندهم بالاتفاق.
وما سماه الحنفية إكراهاً غير ملجئ، مختلفون في تَحَقِّق الإكراه فيه على قولين، قيل: يعتبر إكراهاً، وقيل لا يعتبر إكراها
(1)
.
كم لم يفرق الجمهور بين الرضا والاختيار، فهما لفظان مترادفان في الاصطلاح، فإذا قلنا: أن يكون العاقد مختاراً، بمنزلة أن أقول: أن يكون العاقد راضياً بالعقد، وأن الاختيار لا يجتمع مع الإكراه. فمن أكره على فعل شيء لم يكن مختاراً البتة.
قال السيوطي: «فالمراد بالاختيار قصده ذلك الفعل وميله ورضاه، وأنه لم يفعله على وجه الإكراه»
(2)
.
والخلاف فيما أرى ليس في وجود فرق بين الرضا والاختيار، فإن اللغة تدل على وجود فرق بينهما، وإنما الخلاف ما هو المشروط في العقد؟
هل المشروط الرضا أو الاختيار؟
فإذا رجعنا إلى كتاب الله وجدنا أن المشروط في القرآن هو الرضا، وإذا وجد الرضا وجد الاختيار من باب أولى
قال تعالى عن عقود المعاوضات: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29].
(1)
. انظر المجلد الثاني من هذا الكتاب (ص: 53).
(2)
. فتاوى السيوطي: مخطوطة الأزهر برقم (131) فقه شافعي ورقة 143، نقلاً من حاشية كتاب مبدأ الرضا في العقود للدكتور القره داغي (1/ 208).
وقال تعالى عن عقود التبرع: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4].
وإذا لم يوجد الرضا، فإن كان عائدًا على أصل العقد كالإكراه على البيع أو على القرض لم ينعقد، وإن كان فقد الرضا لا يعود إلى أصل العقد، وإنما يعود على صفة في العقد، صح العقد، وثبت الخيار للعاقد، كما في العقد إذا انطوى على تدليس، أو كان في المبيع عيب، فإن العاقد قد رضي بالعقد، ولم يرض بالعيب أو بالتدليس.
وإذا لم يوجد الرضا بأصل العقد حتى ولو لم يكن هناك أكراه مادي، وإنما كان الباعث عليه الحياء، فمن العلماء من يرى أن ذلك حرام، ولا يجوز لفقد الرضا.
(1)
.
(2)
.
* * *
(1)
. مرقاة المفاتيح (4/ 1270).
(2)
. الشرح الممتع (8/ 108).