الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في أركان الهبة
[م-1823] اتفق العلماء على أن الإيجاب ركن من أركان الهبة، واختلفوا في غيره:
القول الأول:
أن الهبة لها ركن واحد، وهو الإيجاب، فتنعقد به وحده، ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، فالقبول والقبض لترتب الآثار كانتقال الملك، لا لقيام العقد. وهذا عليه كثير من الحنفية
(1)
.
قال الكاساني: «أما ركن الهبة فهو الإيجاب من الواهب، فأما القبول من الموهوب له فليس بركن استحسانًا ....
وجه الاستحسان: أن الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شريطة القبول، وإنما القبول والقبض لثبوت حكمها، لا لوجودها في نفسها، فإذا أوجب فقد أتى بالهبة فترتب عليها الأحكام»
(2)
.
وقال ابن الهمام: «أكثر الشراح هاهنا على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده»
(3)
.
(1)
. فتح القدير (9/ 20)، بدائع الصنائع (6/ 115).
(2)
. بدائع الصنائع (6/ 115).
(3)
. فتح القدير (9/ 20).
دليل من قال: ركن الهبة الإيجاب وحده:
الدليل الأول:
(ث-262) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقاً من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقاً، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث .... »
(1)
.
[إسناده صحيح].
فانعقدت الهبة بقوله: (كنت قد نحلتك)، إلا أن تمام الملك كان متوقفًا على قبضه، ولم يذكر القبول.
الدليل الثاني:
(ح-1106) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء، أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم
(2)
.
وجه الاستدلال:
فأطلق الراوي ا سم الإهداء، وهي نوع من أنواع الهبة مع أن القبول لم يحصل.
(1)
. الموطأ (2/ 752).
(2)
. صحيح البخاري (1825)، ومسلم (1193).
الدليل الثالث:
أن من حلف أن يهب لفلان، فوهب، ولم يقبل فقد بر في يمينه، وهذا بخلاف البيع.
الدليل الرابع:
أن الهبة نوعان إسقاط وتمليك، وإذا كان الإسقاط كالعتق لا يفتقر إلى قبول، فكذلك التمليك.
الدليل الخامس:
أن التبرع ليس عقدًا يفتقر إلى الإيجاب والقبول، بل هو من جنس التصرف، كالإبراء، فيتم بالإرادة المنفردة، ويكون ركنه الإيجاب فقط كالعتق.
الدليل السادس:
أن التصرفات قسمان: قسم يقوم على الإلزام والالتزام، فالقبول هنا يكون ركنًا في وجود العقد؛ لأن العقد ينشئ التزامات متبادلة، كالبائع والمشتري، وبدون القبول لا يمكن أن يطالب المشتري بأي شيء.
وأما التصرفات التي تقوم على التبرع، ومنها الهبة فلا يتصور فيها الإلزام، والقابل فيها لا يترتب عليه أي التزام، لهذا نقول: تنشأ بإرادة منفردة من المالك، والقبول من الطرف الآخر إنما لإتمام الملك، وليس ركنًا للانعقاد.
القول الثاني:
أركان الهبة: الإيجاب والقبول (الصيغة)، وهذا قول زفر وبعض الحنفية
(1)
.
(1)
. تحفة الفقهاء (3/ 160)، مجمع الإنهر (2/ 353)، اللباب في شرح الكتاب (2/ 171).
جاء في مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: «وركنها الإيجاب والقبول»
(1)
.
وجه القول بأن القبول ركن:
الوجه الأول:
أن الهبة عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كسائر العقود.
ويناقش:
بأن الهبة ليست عقدًا، وإنما هي تصرف منفرد، يصدر من المالك، كالإبراء، والإسقاط، والعتق، والوقف.
الوجه الثاني:
أن تمليك الغير إما أن يكون بسبب شرعي كالإرث، فهذا لا يفتقر إلى قبول، ويدخل الملك جبرًا، وإما أن يكون بفعل الآدمي، كالهبة، والوصية فهذا لا ينعقد بدون قبول الشخص، حتى لا يدخل الشيء في ملك الشخص جبرًا عليه.
ويناقش:
هناك فرق بين كون الملك في الهبة لا يتم إلا بالقبول، وبين كون القبول ركنًا للانعقاد، فكما أن تمام الملك في الهبة لا يحصل إلا بالقبض، والقبض ليس ركنًا فيه، فكذلك ثبوت الملك في الهبة يفتقر إلى القبول، وإن كان القبول ليس ركنًا فيه.
القول الثالث:
أركان الهبة أربعة: الصيغة (الإيجاب والقبول)، والواهب، والموهوب له،
(1)
. مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (2/ 353).
والموهوب. وهذا قول الجمهور
(1)
.
واستدل الجمهور على هذا:
أما الإيجاب فهو ركن بالاتفاق كما قلنا.
وأما القبول فسبق في القول السابق الاستدلال على أن القبول ركن في الهبة.
وأما الواهب والموهوب له، ومحل الهبة:
فاعتبر الجمهور هذه من الأركان؛ لأن الركن عندهم: هو ما توقف عليه وجود الشيء وتصوره عقلًا، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم لم يكن، ووجود الهبة يتوقف على الواهب والموهوب له، والشيء الموهوب، وإن لم يكن هؤلاء جزءًا من حقيقته.
وأما الحنفية فيرون أن الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا داخلًا في حقيقته، وهذا خاص في الصيغة: الإيجاب وحده، أو الإيجاب والقبول، أما الواهب والموهوب له، ومحل الهبة فهي من لوازم الهبة، وليست جزءًا من حقيقة الهبة، وإن كان يتوقف وجودها عليها.
ومذهب الحنفية أجود، وأدق، والجمهور لا يطَّردون في تحديد الأركان، فاللوازم تارة يعتبرونها من الأركان، وتارة لا يدخلونها، فهم يجعلون الفاعل ركنًا في مثل عقد البيع والنكاح، ولا يجعلونه ركنًا في العبادات كالصلاة والحج، وإن كان لا يتصور قيام الحج والصلاة بدون فاعل.
(1)
. جامع الأمهات (ص: 454)، القوانين الفقهية (ص: 241)، روضة الطالبين (5/ 365)، أسنى المطالب (2/ 478)، تحفة المحتاج (6/ 298)، الإنصاف (7/ 118).
قال في المصباح المنير: «والفرق عسر
…
»
(1)
.
القول الرابع:
اعتبر بعض الفقهاء أن القبض ركن أيضًا، وهو قول بعض الحنفية، وبعض الحنابلة
(2)
.
جاء في الإنصاف: «صرح ابن عقيل: أن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا»
(3)
.
وجه القول بأن القبض ركن:
أن الهبة تصرف لا يظهر أثره إلا بالقبض، لهذا كان القبض ركنًا في الهبة.
ويناقش:
إذا كان القبض في عقود المعاوضات الربوية لا يعتبر ركنًا في العقد، وإن كان القبض شرطًا في لزومها واستمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى ألا يكون القبض ركنًا فيها، وإن توقف ثبوت الملك على القبض.
الراجح:
أن الهبة تتم بإرادة منفردة، وهو الإيجاب وحده؛ لأنه لا يقابلها عوض، إلا أن الملك فيها لا يتم إلا بالقبول، فإذا حصل القبول فإن كل النماء الحاصل بعد الإيجاب يكون من حق الموهوب له، والله أعلم.
* * *
(1)
. المصباح المنير (ص: 237).
(2)
. فتح القدير لابن الهمام (9/ 20).
(3)
. الإنصاف (7/ 121)، وانظر شرح منتهى الإرادات (2/ 430)، كشاف القناع (4/ 300).