الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
منزلة القبض في عقد الهبة
القبض في الهبة شرط للزوم العقد لا لانعقاده.
هل القبض في الهبة، ركن، أو شرط للصحة، أو أنه شرط للزوم العقد، لا لانعقاده؟ في ذلك خلاف بين العلماء.
القول الأول:
القبض ركن من أركان العقد، وهو قول بعض الحنفية، وبعض الحنابلة
(1)
.
جاء في الإنصاف: «صرح ابن عقيل: أن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا»
(2)
.
وجه القول بأن القبض ركن:
أن الهبة تصرف لا يظهر أثرها إلا بالقبض، لهذا كان القبض ركنًا في الهبة.
ويناقش:
إذا كان القبض في عقود المعاوضات الربوية لا يعتبر ركنًا في العقد، وإن كان القبض شرطًا في لزومها واستمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى ألا يكون القبض ركنًا، وإن توقف ثبوت الملك على القبض.
(1)
. فتح القدير لابن الهمام (9/ 20)، الإنصاف (7/ 121).
(2)
. الإنصاف (7/ 121)، وانظر شرح منتهى الإرادات (2/ 430)، كشاف القناع (4/ 300).
القول الثاني:
أن القبض شرط لصحة العقد، اختاره بعض الحنابلة.
قال ابن رجب وهو يتكلم عن القبض في القعود: «ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطاً للصحة، وممن صرح بذلك صاحب المحرر فيه في الصرف، والسلم، والهبة»
(1)
.
القول الثالث:
الهبة تملك بالعقد، لا بالقبض، وهذا مذهب المالكية، وسوف يأتينا إن شاء الله تعالى بحث مستقل بما تملك به الهبة، وننقل نصوص المالكية في ذلك، وإنما الكلام هنا على منزلة القبض في عقد الهبة.
القول الرابع:
قال الحنفية: الهبة لا تملك إلا بالقبض، وقال الشافعية والحنابلة في المشهور: لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض
(2)
.
(1)
. القواعد لابن رجب، القاعدة التاسعة والأربعون (ص: 71).
(2)
. والفرق بين قول الحنفية وبين قول الشافعية والحنابلة أن الحنفية يرون أن الهبة وإن ملكت بالقبض، فإن لصاحبها أن يرجع فيها، لهذا لا يعبرون باللزوم، وإنما يقولون: لا تملك إلا بالقبض، وأما الشافعية والحنابلة فلا يرون أن لصاحبها حق الرجوع فيها إذا قبضت، لهذا يعبرون بقولهم: لا تلزم، ولا تملك إلا بالقبض. هذا هو الفرق فيما فهمته من النصوص، وسوف نكشف لك عن مذهب الحنفية في جواز الرجوع في الهبة بعد القبض في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى فانظره في مظانه من البحث. والله أعلم.
انظر تبيين الحقائق (5/ 91)، البحر الرائق (7/ 285)، حاشية ابن عابدين (8/ 424)، المبسوط (12/ 48)، بدائع الصنائع (6/ 115)، الحاوي الكبير (7/ 535)، البيان للعمراني (8/ 114)، روضة الطالبين (5/ 378)، نهاية المحتاج (5/ 409)، حاشية البجيرمي على الخطيب (3/ 263)، المحرر (1/ 374).
قال الزيلعي: «وأما القبض فلابد منه لثبوت الملك»
(1)
.
وجاء في البحر الرائق: «لابد من القبض فيها لثبوت الملك»
(2)
.
وفي حاشية ابن عابدين: «قوله: (أن يكون مقبوضًا) فلا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض كما قدمنا. وفي الزيلعي: وأما القبض فلا بد منه لثبوت الملك؛ إذ الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق»
(3)
.
وجاء في مغني المحتاج: «ولا يملك موهوب بالهبة الصحيحة
…
إلا بقبض، فلا يملك بالعقد»
(4)
.
وجاء في إعانة الطالبين: «ظاهره أن الهبة تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض، وليس كذلك، بل لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض»
(5)
.
وجاء في المحرر: «ولا تلزم الهبة ولا تملك إلا مقبوضة بإذن الواهب»
(6)
.
وفي الإنصاف: «قال في الكبرى: تلزم الهبة، وتملك بالقبض إن اعتبر. وهو المذهب عند ابن أبي موسى، وغيره»
(7)
.
(1)
. تبيين الحقائق (5/ 91).
(2)
. البحر الرائق (7/ 285).
(3)
. حاشية ابن عابدين (8/ 424).
(4)
. مغني المحتاج (2/ 400).
(5)
. إعانة الطالبين (3/ 174).
(6)
. المحرر (1/ 374).
(7)
. الإنصاف (7/ 120).
القول الخامس:
لا تصح الهبة إلا بالقبض إذا كان الموهوب مما يكال أو يوزن، أو يعد أو يذرع، وكما لو كان الموهوب غير معين، وهذا قول في مذهب الحنابلة
(1)
.
(2)
.
الراجح:
أن القبض مطلقًا ليس شرطًا في صحة العقد، لا في عقد الربا، ولا في عقد السلم، ولا غيره من العقود، ومنه الهبة.
(ح-1135) والأصل في مسألة القبض ما أخرجه الشيخان من طريق عبد الله بن دينار،
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه
(3)
.
(ح-1136) وما رواه الشيخان من طريق ابن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه. قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام
(4)
.
(1)
. المغني (5/ 379)، المبدع (5/ 363)، الإنصاف (7/ 120)، كشاف القناع (4/ 300).
(2)
. الإنصاف (7/ 120).
(3)
. صحيح البخاري (2133)، ومسلم (1526).
(4)
. صحيح البخاري (2135)، ومسلم (1525).
فدلت هذه النصوص أن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، بل الملك يحصل للمشتري قبل القبض وذلك بالإيجاب والقبول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه، فأثبت صحة البيع قبل القبض، ولكن منعه من التصرف فيه بالبيع قبل قبضه، والمنع من التصرف أخص من ثبوت الملك، فأثر القبض له تعلق في صحة التصرف في المبيع، وكذلك القبض له تعلق في الضمان إذا تلف قبل القبض وبعده.
(1)
.
والقبض بالعقد له حالان:
الحال الأول:
أن يكون القبض أثرًا من آثار العقد، وواحدًا من موجباته. كما هو الحال في البيع اللازم، والرهن اللازم، ولا يلزم من تأخر القبض الوقوع في أي محذور شرعي، فإذا تم انعقاد هذه العقود وأمثالها وجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري.
ويلحظ هنا أن العقد تم بإيجاب وقبول، تولد عنهما التزام يوجب الإقباض.
الحال الثاني:
أن يكون القبض من تمام العقد، كقبض الثمن في السلم، والتقابض يداً بيد
(1)
. مجموع الفتاوى (20/ 343).
في الأموال الربوية، فإذا تفرق العاقدان بدون القبض بطل العقد؛ لأن تأخير القبض يوقع في محذور شرعي لا يمكن دفعه إلا بالقبض.
ويثور جدل فقهي حول القبض هنا في البيوع الربوية، هل القبض فيها شرط لزوم العقد، واستمراره، أو أنه شرط انعقاد العقد، وإنشائه.
والمختار: أن القبض شرط لزوم العقد واستمراره، وهو ليس ركنًا فيه؛ لأن العقد ينعقد بالتراضي في نظر الشرع، وهو يتم بالإيجاب والقبول، لكنه عقد غير لازم يفتقر إلى القبض.
قال ابن رجب في القواعد «واعلم أن كثيرًا من الأصحاب يجعل القبض في هذه العقود معتبرًا للزومها، واستمرارها، لا لانعقادها وإنشائها، وممن صرح بذلك صاحب المغني، وأبو الخطاب في انتصاره، وصاحب التلخيص وغيرهم.
ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطاً للصحة
…
»
(1)
.
وجاء في شرح الزرقاني على الموطأ: «قال الأبي: المناجزة قبض العوضين عقب العقد، وهي شرط في تمام الصرف، لا في عقده، فليس لأحدهما أن يرجع، وصرح بأنها شرط المازري، وابن محرز، واختار شيخنا يعني ابن عرفة: أنهاركن، لتوقف حقيقته عليها، وليست بخارجة، وظاهر كلام ابن القصار أنها ليست بركن، ولا شرط، وإنما التأخير مانع من تمام العقد، فإن قيل: لا يصح أنها شرط؛ لأن الشرط عقلياً كالحياة للعلم، أو شرعياً كالوضوء للصلاة: شرطه أن يوجد دون المشروط، والمناجزة لا توجد دون عقد الصرف، فما صورة
(1)
. القواعد لابن رجب، القاعدة التاسعة والأربعون (ص: 71).
تأخيرها؟ أجيب: بأنها إنما هي شرط في الصرف الصحيح، وهو متأخر عنها»
(1)
.
و لأن المعنى الشرعي للعقد: هو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره الشرعي في محله، وهذا المعنى للعقد يتحقق بالإيجاب والقبول، فالقبض ليس ركنًا في العقد، وإلا لكان ركناً في العقد مطلقاً في كل بيع، وليس في بعض العقود خاصة، وإنما القبض أثر من آثار العقد، على اختلاف بين عقد وعقد، وحيث يكون تأخر القبض في بعض العقود محرماً؛ لأنه يوقع العاقد في محذور شرعي، فيحرم تأخيره لذلك، كما يوقع تأخير القبض في عقد السلم في الوقوع في بيع الدين بالدين، ويوقع تأخير القبض في الأموال الربوية إلى الوقوع في ربا النسيئة كما في عقد الصرف، فدفعاً لهذه المحاذير، نقول: إذا تفرق العاقدان قبل القبض يكون العقد لاغياً لافتقاره إلى شرط لزومه واستمراره، أو لافتقاره إلى شرط صحته، ولا يقال: إن العقد لم ينعقد أصلًا
(2)
.
وقد تكلمت عن الخلاف والراجح في منزلة القبض في عقد البيع، فارجع إليه غير مأمور.
* * *
(1)
. شرح الزرقاني (3/ 362).
(2)
. انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (6/ 1/ص: 499).